أهل القبلة

للاستماع للمحاضرة

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فهذه صفحةٌ من تاريخِ الغربِ في العصرِ الحديث، صفحةٌ مِن تاريخِ الإجرام، وإراقةِ الدماءِ وإزهاقِ الأرواح، وتعميمِ الخراب، وهي من تاريخِ الحربَيْنِ العالميتين.

فقد بلغَ عددُ القتلى في الحربِ العالميةِ الأولى في أوروبا أكثرَ من عشرةِ ملايين كانوا زهرةَ شبابِ دُولِهم وأكثرُ مِن ضِعْفِهم كان قد سقطَ جريحًا وكُتِبَ عليه أنْ يعيش مُقْعَدًا أو عاجزًا حتى آخرِ حياتِهِ.

وبلغَ عددُ القتلى في الحربِ العالمية الثانية سبعةَ عشر مليونًا من العسكريين، وثمانيةَ عشر مليونًا من المدنيين قد قُتِلوا خلال خمسةِ أعوامٍ ونصف.

ويقولُ الخبراء: إنَّ النفقاتِ العسكرية وحدَها قد بلغت ألفًا ومائة مليار دولار بحسابِ ذلك الزمان، وأمَّا الخسائرُ التي سبَّبتها الحرب فقد بلغت ألفين ومائة مليار دولار بحسابِ ذلك الزمان.

يُضَافُ إلى ذلك المُدُن المُخَرَّبة، والأرضُ المحروقة، والحقولُ المغمورةُ بالمياه، يضافُ إلى ذلك المصانعُ والمناجمُ التي توقفَ العملُ فيها، ثم قُطعانُ الماشية التي تمزَّقت وتبدَّدت.

قال مؤلفُ كتابِ الحربِ العالميةِ الثانية: ((وقد يكونُ من المناسبِ أنْ نتحدثَ قليلًا عن هذه القنبلةِ الذريةِ الأولى، فنُرَدِّدُ ما وردَ على لسانِ أحدِ اليابانيين في حديثِهِ عن ماهيةِ هذا الانفجارِ الرهيب.

 قال: وفجأة ظَهَرَ في السماءِ ضياءٌ ورديٌّ باهتُ اللونِ شديدٌ جدًّا، يرافقُهُ اهتزازٌ غيرُ طبيعي ثم لَحِقَت به مباشرةً مَوْجَةٌ من الحرارةِ الخانقة، ورياحٌ عاصفة كانت تجتاحُ كلَّ ما تجدُهُ أمامَها.

وفي ثوانٍ قليلة احترقَ الآلافُ مِن الناسِ الذين كانوا يسيرونَ في الشوارعِ أو يجلسونَ في الشوارعِ العامة القائمةِ في وسطِ المدينة، كثيرون قُتِلوا بالحرارةِ الهائلة التي انتشرت في كلِّ مكان، وآخرون كانوا يبقونَ فوق الأرضِ صارخينَ مِن الألمِ، وقد انتشرت في أجسادِهم حروقٌ مُميتة، كلُّ ما كان قائمًا فوق منطقةِ الانفجارِ -جدرانٌ، ومنازلُ، ومصانعُ وأبنيةٌ أخرى- أُبيدَ إبادةً تامة، واندفعَ فُتاتُ هذه الأشياء نحو الفضاء في دَوَّامةٍ رهيبة.

الحافلاتُ الكهربائيةُ اُنتزعت من خطوطِها الحديدية، وانقذفَت كما لو أنَّها فَقَدَت وَزْنَها وتماسُكَها، القطاراتُ ارتفعت بدورِها وكأنها مجموعةٌ من لُعَبِ الأطفال، الخيولُ والكلابُ والماشيةُ أصابها ما أصاب البشر، كلُّ ما كان من الأحياءِ قد فَقَدَ حياتَهُ في وَضْعِ مُؤلمٍ يَعِزُّ على الوصف، واختفت الأشجارُ في اللهيب، وفَقَدَت شَتْلاتُ الأرزِ خُضْرَتَها واحترقَ العُشْبُ الأخضر كما يحترقُ القَشُّ اليابس .

أمَّا ما وراء منطقةِ الموتِ؛ فقد انهارت المنازلُ وأصبحت أكوامًا من الألواحِ الخشبيةِ والقِرميدِ والأعمدةِ الحجرية، لقد انهارَ كلُّ شيء كما تنهارُ بيوتُ الكرتون في دائرةٍ قُطْرِها عَشْرة كيلو مترات، أمَّا الذين كُتِبَت لهم النجاة من الموتِ؛ فَقَدْ وجدوا أَنْفَسَهم مُحاطين بسِتارٍ مِن اللهب، أمَّا الأفرادُ القليلون الذين استطاعوا اللجوءَ إلى مَخْبأٍ مِن المخابئ فقد ماتوا بعد عشرين أو ثلاثين يومًا مِن الألمِ بتأثيرِ الإشعاعاتِ المُميتة، وفي المساءِ بدأت النيرانُ تنخفضُ ثم ماتت، إذ لم يَعُد هناك شيءٌ تأكلُهُ تِلك النيران، لقد انتقلت هيروشيما إلى العَدَم)).

فيُقال للغربِ: هذه بَعْضُ مَعالمِ حضارتِكم التي تتغنونَ وتتباهونَ بها وتتطاولونَ بها على الإسلامِ وعلى نبيِّ الإسلامِ –صلى الله عليه وسلم-، وما تزالونَ في الازديادِ مِن كلِّ ألوانِ الظُّلمِ والإفسادِ، وما تزالون في ازديادٍ مِن اختراعِ وسائلِ الدمارِ والهلاكِ والإهلاكِ والبَوارِ، وتِلك واللهِ هي مُنتهى الوحشيةِ والحيوانيةِ.

قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44].

وأمَّا مَنْ سَبَرَ أحوالَ الأنبياءِ -عليهم الصلاةُ والسلام-؛ فإنه يعرفُ أنَّ الرحمةَ وَصْفٌ مُشتركٌ بينهم ﷺ، ومَن سَبَرَ أحوالَهم؛ وَجَدَ الرحمةَ مِن أَخَصِّ أوصافِ نبيِّنا مُحَمَّد ﷺ التي كانت تَغْلبُ غَضَبَهُ، وله منها الحَظُّ الأَوْفَى، فإنَّ اللهَ أرسلَهُ لذلك وفي ذلك كما قال -جلَّ وعلا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]

وقد تواترت النصوصُ من سيرتِهِ وسُنَّتِهِ بما كان عليه من الرحمةِ والشفقةِ، وما جاء عنه مِن الأمرِ بها، والحَثُّ على امتثالِها شيء كثير يَعْسُرُ حَصْرُهُ واستقصائُهُ؛ لذلك اجتمعت عليه القلوبُ والأبدانُ، قال ربُّنا -جلَّ وعلا- {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]

وقد شَهِدَ له ﷺ عُلماءُ أهلِ الكتابِ شَهِدَوا له بأنهُ رحمةٌ للعالمين.

فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: ((خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ -يعني: في صباه- فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ.

قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟،

فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ حَجَرٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ)) الحديثَ.

أخرجه الترمذيُّ وحَسَّنَهُ، والحاكمُ وصَحَّحَهُ على شرطِ الشيخين وصححهُ الألبانيُّ في ((صحيح السيرة)).

فقد بيَّنَ النبي ﷺ أنَّ سبب رحمةِ اللهِ -تبارك وتعالى- أنْ يرحم الإنسانُ خَلْقَ اللهِ -جَلَّ وعلا-.

فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ ((من لا يَرحَم الناس لا يَرحَمهُ الله)). متفق عليه.

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم مَن في السماء)).

أخرجه أحمد وأبو داوود والترمذي وغيرهم.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: أَبْصَرَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الحسن.

فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قبلت أحدا مِنْهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)). متفق عليه.

وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بإصبعيه يعني السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى)). أخرجه البخاري.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: ((لا تُنزعُ الرحمةُ إلَّا مِن شَقِيٍّ)).

رواه أحمد والبخاريُّ في ((الأدب المفرد)).

فكلُّ هذه النصوص القوليةِ والفعليةِ تدلُّ على استقرارِ الرحمةِ في نفسهِ ﷺ، حتى كانت ديدنه في الوعظِ والتذكير، ولكمالِ رحمتِهِ ولينِهِ ورِفقهِ؛ اجتمعت عليه قلوبُ العباد والتفت حولَهُ أبدانُهم، وقد كان يحتمل من أذى الناس الشيء العظيم ومع ذلك لا ينتقم، بل ولا يضجر، فرحمتُه تسبق غضبه ﷺ.

فهو نبيُّ الرحمة ﷺ، ودينُهُ دين الرحمة، وهو داعٍ إلى الرحمة، وقد أرسلهُ اللهُ تعالى رحمةً للعالمين.

يا مَن لَهُ مِنَ الأَخلاقِ ما تَهوى العُلا               مِنهـا وَمـا يَتَعَشَّقُ الكـُبَراءُ

فَإِذا سَخَوتَ بَلَغتَ بِالجودِ المَدى                     وَفَعَلـتَ ما لا تَـفعَلُ البُـذلَاءُ

وَإِذا عَفَوتَ فَقادِرًا وَمُقَــدَّرًا                            لا يَستَهــينُ بِعَفوِكَ الجُهَــلاءُ

وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ                                هَذانِ في الدُنيا هُما الرُحَماءُ

وَإِذا غَضِبتَ فَإِنَّما هِيَ غَضبَةٌ                             في الحَقِّ لا ضِغنٌ وَلا بَغضاءُ

وَإِذا رَضيتَ فَذاكَ في مَرضاتِهِ                             وَرِضا الكَثيرِ تَحَلُّمٌ وَرِياءُ

وَإِذا خَطَبتَ فَلِلمَنابِرِ هِــزَّةٌ                                تَعرو النَدِيَّ وَلِلقُلوبِ بُكاءُ

وَإِذا قَضَيتَ فَلا ارتِيابَ كَأَنَّما                            جاءَ الخُصومَ مِنَ السَماءِ قَضاءُ

وَإِذا حَمَيتَ الماءَ لَم يُورَد وَلَو                                  أَنَّ القَياصِرَ وَالمُلوكَ ظِماءُ

وَإِذا أَجَرتَ فَأَنتَ بَيتُ اللهِ لَم                                يَدخُل عَلَيهِ المُستَجيرَ عَداءُ

وَإِذا مَلَكتَ النَفسَ قُمتَ بِبِرِّها                              وَلَوَ اَنَّ ما مَلَكَت يَداكَ الشاءُ

وَإِذا بَنَيتَ فَخَيرُ زَوجٍ عِشرَةً                                  وَإِذا ابتَنَيتَ فَدونَكَ الآباءُ

وَإِذا صَحِبتَ رَأى الوَفاءَ مُجَسَّمًا                             في بُردِكَ الأَصحابُ وَالخُلَطاءُ

وَإِذا أَخَذتَ العَهدَ أَو أَعطَيتَهُ                                 فَجَميعُ عَهدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفاءُ

وَإِذا مَشَيتَ إِلى العِدا فَغَضَنفَرٌ                               وَإِذا جَرَيتَ فَإِنَّكَ النَكباءُ

وَتَمُدُّ حِلمَكَ لِلسَفيهِ مُدارِيًا                                 حَتَّى يَضيقَ بِعَرضِكَ السُفَهاءُ

في كُلِّ نَفسٍ مِن سُطاكَ مَهابَةٌ                                 وَلِكُلِّ نَفسٍ في نَداكَ رَجاءُ

وَالرَأيُ لَم يُنضَ المُهَنَّدُ دونَهُ                             كَالسَيفِ لَم تُضرِب بِهِ الآراءُ

الحَربُ في حَقٍّ لَدَيكَ شَريعَةٌ                              وَمِنَ السُمومِ الناقِعاتِ دَواءُ

وَالبِرُّ عِندَكَ ذِمَّةٌ وَفَريضَةٌ                                 لا مِنَّةٌ مَمنونَةٌ وَجَباءُ

جاءَت فَوَحَّدَتِ الزَكاةُ سَبيلَهُ                             حَتَّى التَقى الكُرَماءُ وَالبُخَلاءُ

أَنصَفَت أَهلَ الفَقرِ مِن أَهلِ الغِنى                    فَالكُلُّ في حَقِّ الحَياةِ سَواءُ

مِن كُلِّ داعي الحَقِّ هِمَّةُ سَيفِــهِ                         فلِسَيفِهِ في الراسِياتِ مَضاءُ

ساقي الجَريحِ وَمُطعِمُ الأَسرى وَمَن                     مِنَت سَنابِكَ خَيلِهِ الأَشلاءُ

إِنَّ الشَجاعَةَ في الرِجالِ غِلاظَــةٌ                        ما لَم تَزِنها رَأفَةٌ وَسَخاءُ

وَالحَربُ مِن شَرَفِ الشُعوبِ فَإِن بَغَوا                  فَالمَجدُ مِمّا يَدَّعونَ بَراءُ

وَالحَـــربُ يَبعَثُهــا القَوِيُّ تَجَبُّرًا                          وَيَنُوءُ تَحتَ بَلائِها الضُعَفاءُ

كَم مِن غزاةٍ لِلرَسولِ كَريمَةٍ                              فيها رِضىً لِلحَقِّ أَو إِعلاءُ

كانَت لِجُنــدِ اللهِ فـيها شِـــدَّةٌ                            في إِثرِها لِلعالَمينَ رَخاءُ

ضَرَبوا الضَلالَةَ ضَربَة ذَهَبَت بِها                         فَعَلى الجَهالَةِ وَالضَلالِ عَفاءُ

دَعَموا عَلى الحَربِ السَلامَ وَطالَما                          حَقَنَت دِماءٌ في الزَمانِ دِماءُ

إنَّ النبيَّ ﷺ حَرَّرَ المرأةَ مِن ظُلمِ أهلِ الجاهليةِ وأهلِ الكتابِ، فقد بعثَ اللهُ مُحمدًا ﷺ والمرأةُ مظلومةٌ مهضومة، تُعامَلُ كما يُعامَلُ سَقَطُ المتاعِ حتى قال عُمَر -رضي الله عنه-: ((والله ما كنَّا في الجاهليةِ نَعُدُّ النساءَ شيئًا، حتى أنزلَ اللهُ فيهنَّ ما أنزل)). رواه مسلم.

فبعث اللهُ نبيَّهُ ﷺ بهذا الدين القويم، فَجَعَلَ المرأةَ دُرَّةً مَصونةً وجوهرةً مكنونة، حَرَّرَهَا مِن ظُلمِ الجاهلية، وأعطاهَا حقوقَها الشرعية التي تُناسبُ فِطرتَها وطبيعتَها؛ لا وَكْسَ ولا شَطَط، ومِن ذلك؛ كان أهلُ الجاهليةِ يدفنون بناتِهم أحياءَ خشيةَ العارِ أو الفقرِ –زعموا-، فَحَرَّمَت الشريعةُ الإسلاميةُ ذلك ونَفَّرَت عنه، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8-9]

قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-:

((الموءودةُ هي التي كان أهلُ الجاهليةِ يدُسُّونها في الترابِ كراهيةَ البناتِ؛ فيومُ القيامةِ تُسألُ الموءودةُ على أيِّ ذَنْبٍ قُتِلَت؛ ليكونَ ذلك تهديدًا لقاتِلها، فإنَّه إذا سُئلَ المظلومُ، فَمَا ظَنُّ الظالمِ إذن؟!))

وقال العلامةُ السعديُّ -رحمه الله-:

((وهي كانت الجاهليةُ الجهلاءُ ما تفعلُهُ مِن دَفْنِ البناتِ وهنَّ أحياء من غيرِ سبب، إلا خشية الفقر فتسأل: {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب، ولَكِنَّ هذا فيه توبيخٌ وتقريعٌ لقاتلِها)).

وعن الْمُغيرةِ بنِ شُعبةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قال رسولِ اللَّهِ ﷺ: ((إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)). مُتَّفَقٌ عليهِ.

ورتَّبَ الشرعُ على تربيةِ البناتِ والصبرِ عليهن الأجرَ العظيم، فعن عائشة -رضي الله عنها-قالت قال رسول الله ﷺ: ((من اُبتلي من البناتِ بشيءٍ فأحسنَ إليهن كُنَّ له سِتْرًا من النار)). متفق عليه.

وكان أهلُ الجاهليةِ لا يُوَرِّثون المرأة بدعوى أنًّه لا يَرِثَ إلا مَن حَمَلَ السلاحَ ورَكَبَ الفَرَسَ؛ فأعطت شريعةُ نبيِّنا مُحمدٍ ﷺ المرأةَ حقَّها مِن الميراث، فورثَتها أمَّا وجدةً وبنتًا وزوجةً وأختًا، وكان أهلُ الجاهلية يُزوِّجون المرأة بدون عِلْمها ولا إذنِها ولا رضاها، فجاءتُ الشريعة الإسلامية وأعطت المرأةَ حقَّها في ذلك.

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: ((لا تُنكح الأيِّم –أي الثَيِّب- حتى تُستأمر، ولا البِكْر حتى تُستأذن)). متفق عليه.

وبعثَ اللهُ تعالى نبيَّه ﷺ ومِنْ أنكِحَة الجاهليةِ ما يُسَمَّى بالشِّغَارِ: يقولُ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: زوجني ابنتك على أنْ أزوِّجك ابنتي، أو زَوِّجني أختكَ وأُزَوِّجك أختي دون أنْ يعطي المرأة شيئًا من المهرِ ودون رضاها، فأبطل النبي ﷺ هذا النكاح الذي فيه ظُلْم للمرأة فقال ((لا شِغَارَ فِي الإِسْلامِ)). رواه مسلم

وبعثَ اللهُ نبيَّهُ ﷺ والرجلُ من أهلِ الجاهلية يُطَلِّقُ زوجتَهُ ما شاء ثم يُراجع، فأنزل اللهُ تعالى على نبيَّه ﷺ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}   [البقرة: 229]

فرُفِعَ الظُّلمُ عن المرأةِ بهذه الشريعة السَّمْحَة.

وَبَعثَ اللهُ نبيَّهُ ﷺ وَالرَّجُل مِن أهلِ الجاهِليةِ يُطَلِّق زَوجتَهُ مَا شَاءَ ثُمَّ يُراجِع, فَأنزَل اللهُ تَعالَى علَى نَبيِّهِ ﷺ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229], فَرَفَع الظُّلمَ عن المَرأةِ بهذهِ الشريعَة السَّمحَة.

وَبَعثَ اللهُ نبيَّهُ محمَّدًا ﷺ, وَاليَهودُ إِذَا حَاضَت فِيهِمُ الْمَرْأَةُ؛ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا, وَلَم يَجتَمِعُوا مَعهَا تَحتَ سَقف, فَخَالَفَهُم رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي ذَلكَ وَقَالَ: ((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ)).

فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَت فِيهِمُ الْمَرْأَةُ؛ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا, وَلمْ يُجَامِعُوهنَّ في البُيُوتِ، فَسَألَ أَصحَابُ النَّبِيِّ النَّبِيَّ ﷺ فَأَنزَلَ اللهُ تَعَالَى قَولَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ)).

فَبَلَغَ ذَلكَ اليَّهودَ فَقَالُوا: مَا يُريدُ هَذا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِن أَمرِنَا شَيئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ.

رَوَاهُ مُسلِمٌ

وَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى نَبيَّهُ ﷺ وَأَهلُ الجَاهِليةِ لَا يَرَونَ النِّسَاءَ شَيئًا, فَأعطَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ حُقوقَهُنَّ وَأَوصَى بِهِنَّ خَيرًا.

قَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائقُ الرِّجَال)). أَخرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَفِي هَذا الحَديثِ مُلاطَفَةُ النِّسَاءِ وَالإِحسَانُ إِلَيهِنَّ, وَالصَّبرُ علَى عِوَجِ أَخلَاقِهِنَّ, وَاحتِمَالُ ضَعفِ عُقولِهِنَّ, وَكَراهِيَةُ طَلاقِهِنَّ بِلَا سَببٍ, وَأنَّهُ لَا يُطْمَعُ بِاستِقَامَتِهَا وَاللهُ أَعلَم)).

وَقَالَ ﷺ: ((لا يَفْرِكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ –رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْغِضهَا، لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يُكْرَهُه وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَرْضَاهُ, بِأَنْ تَكُون شَرِسَةَ الأَخلَاقِ لَكِنَّهَا دَيِّنَةٌ أَوْ عَفِيفَةٌ أَوْ رَفِيقَةٌ بِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ)).

قَالَ ﷺ: ((خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهلِهِ وَأَنَا خَيرُكُم لِأَهلِي)).

رَوَاهُ الحَاكِمُ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ ﷺ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُهُمْ خِيَارُهُمْ لِنِسَائِهِمْ)).

رَوَاهُ أَحمَد وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانِيُّ.

وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ علَى تَعلِيمِ المَرأة فِي عِدَّةِ أَحادِيثَ مِنهَا:

عَن أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثَلاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِندَهُ أَمَةٌ فَأدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ)). أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَعَن أَنَسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ)). أَخرَجَهُ ابنُ مَاجَه بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ, وَهَذَا يَشمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاء.

وَعَن مَالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَنْ مَنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا ﷺ فَقَالَ: ((ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ, وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي, وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ)) أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: ((مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ أَولَادِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ))، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ

فَقَالَ: ((وَاثْنَيْنِ)). أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ حَسَنَ العِشرَةِ مَع أَزوَاجِهِ, وَهُوَ القَائلُ ﷺ: ((خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهلِهِ وَأَنَا خَيرُكُم لِأَهلِي)).

وَكَانَ ﷺ يَكُونُ فِي البَيتِ فِي مِهنَةِ أَهلِهِ, فَعَنِ الأَسوَدِ بن يَزِيد –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: ((سَأَلْتُ عَائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنهُا-؛ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ, تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ, فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ)). أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَفِي الحَدِيثِ التَّرغِيبُ فِي التَّواضِعِ وَتَرَكِ التَّكَبُّرِ, وَفِيهِ خِدمَةُ الرَّجُلِ أَهلَهُ.

قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ((مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ التَّوَاضُعُ, وَالْبُعْدُ عَنِ التَّنَعُّمِ, وَامْتِهَانُ النَّفْسِ؛ لِيُسْتَنَّ بِهِمْ, وَلِئَلَّا يَخْلُدُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الْمَذْمُومَةِ)).

وَعَن عَائشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنهُا-: ((أَنَّهَا سُئِلْتُ؛ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ, وَيَحْلُبُ شَاتَهُ, وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ)). أَخرَجَهُ أَحمَدُ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مَهمَا قُدِّمَ إِلَيهِ مِن طَعَامٍ لَم يَذُمَّهُ, فَعَن أَبِي هُرَيرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: ((مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَعَامًا قَطُّ، إِن اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَمَا ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ امرَأةً قَطُّ, فَعَن عَائشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنهُا- زَوجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَت:

((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا بِيَدِهِ قَطُّ, وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ, وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَمِن رَحمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَزوَاجِهِ –رَضِيَ اللهُ عَنهُنَّ- أَنَّهُ أَمَرَ سَائقَ إِبِلِهِنَّ أَنْ يَرفُقَ بِهِنَّ

فَعَن أَنَسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى أَزوَاجِهِ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَة، فَقَالَ: ((وَيحَكَ يَا أَنْجَشَة، رُوَيدًا سَوْقَكَ بِالقَوَارِيرِ)) رَوَاهُ مسلمٌ.

وَعَنهُ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: كَان لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حَادٍ حَسَنُ الصَّوت, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((رُوَيدًا يَا أَنجَشَةُ لَا تَكسِر القَوَارِير)) يَعنِي: ضَعفَةَ النِّسَاءِ, رَوَاهُ مُسلِمٌ.

فَهَل بَعدَ كُلِّ مَا سَبَق؛ يَمتَرِي ذُو لُبٍّ فِي أَنَّ الشَّرِيعَةَ الإِسلَامِيَّةَ السَّمحَاءَ الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَد أَنصَفَت المَرأَة, وَأعطَتهَا حُقُوقَهَا العَادِلَة, بَعدَمَا ظَلَمَتهَا الجَاهِلِيةُ كُلُّهَا, فَحَرَّرَهَا الإِسلَامُ مِن قُيودِهَا, وَكَرَّمَهَا وَأَعلَى مَكَانَتِهَا, بِاعتِبَارِهَا إِنسَانًا وَبِنْتًا وَزَوجَةً وَأُمًّا وَعُضوًا فِي الأُسرَةِ وَالمُجتَمَعِ؟!

* كَرَّمَهَا إِنسَانًا؛ مُنذُ أَعلَنَ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ كَالرَّجُل, وَأَنَّهَا مُثَابَةٌ وَمُعَاقَبَةٌ مِثْلُهُ, وَأَنَّهَا أَحَدُ شِقَّيِّ الإِنسَانِيَّةِ, فَلَا بَقَاءَ لِلنَّوعِ بِغَيرِهَا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ} [الحجرات: 13].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران: 195].

وَقَالَ –جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائقُ الرِّجَال)).

*وَكَرَّمَهَا بِنتًا؛ فَأَنكَرَ أَشَدَّ الإِنكَارِ وَأْدَهَا خَشيَةَ الإِملَاقِ أَوْ خَوفَ العَار, أَوْ لِأَيِّ سَبَبٍ كَان, فَلَو لَمْ يَكُن مِن فَضْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ إِلَّا تَحرِيمَ هَذِهِ العَادَةِ القَبِيحَةِ لَكَفَاهَا فَخرًا.

*كَمَا أَوجَبَ حُسنَ تَأدِيبِهَا, وَأَوجَبَ تَعلِيمَهَا وَرِعَايَتَهَا وَالإِنفَاقَ عَلَيهَا حَتَّى تَتَزَوَّج, وَفَرَضَ عَلَى أَبِيهَا أَلَّا يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِرِضَاهَا وَإِذنِهَا, وَإِنْ كَانَت بِكرًا تَستَحْيِي مِن إِظهَارِ الإِذنِ وَالرِّضَا بَالقَولِ؛ فَجَعَلَ إِذنَهَا صُمَاتَهَا.

*وَكَرَّمَهَا زَوجَةً؛ فَجَعَلَ لهَا مِثلَ مَا لِلرَّجُلِ مِن حُقُوقٍ, إِلَّا فِي دَرَجَةِ القَوَامَةِ وَالمَسئولِيَّةِ عَن الأُسرَةِ فَجَعَلَهَا لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَكثَرُ بَصَرًا بِالعَوَاقِبِ مِنَ المَرأةِ, وَلِأَنَّهُ الغَارِمُ فِي بِنَاءِ الأُسرَةِ، فَيَظَلُّ حَرِيصًا عَلَى بَقَائهَا, قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].

*وَأَوجَبَ لهَا النَّفَقَةَ وَتَمَامَ الكِفَايَةِ وَالمُعَامَلَةَ بِالحُسنَى, فَقَالَ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

*وَكَرَّمَهَا أُمًّا وَأَمَرَ بِحُسنِ مُصَاحَبَتِهَا وَمُعَاشَرَتِهَا إِكرَامًا لِأُمُومَتِهَا, وَجَزَاءً لمَا عَانَت فِي سَبِيلِ أَولَادِهَا, قَالَ تَعَالَى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].

*وَكَرَّمَهَا بِاعتِبَارِهَا عُضوًا فِي الأُسرَةِ وَالمُجتَمَعِ, فَأَنكَرَ اعتِبَارِهَا عِندَ مَوتِ زَوجِهَا شَيئًا يُورَث كَمَا يُورَثُ المَتَاعُ وَالدَّوَابُ, قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19].

*وَقَرَّرَ أَهلِيَّتَهَا لِلتَّمَلُّكِ وَالبَيعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائرِ العُقُودِ, فَهِيَ تَملِكُ كَمَا يَملِكُ الرَّجُل, قَالَ تَعَالَى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32].

*وَأَصبَحَ لِلمَرأةِ حَظٌّ مِنَ الإِرْثِ, الَّذِي كَانَ مَقصُورًا عَلَى الرِّجَالِ قَالَ تَعَالَى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7].

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَمَلَ إِلَى البَشَرِيَّةِ التَّيسِيرَ وَالتَّبشِيرَ, فَعَن أَبِي هُرَيرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ, وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ, فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا, وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَعَن أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِن أَصحَابِهِ فِي بَعضِ أَمرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا, وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَعَنهُ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذً إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَعَن أَنَسِ بِن مَالِكٍ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

لَقَد بَعَثَ اللهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ لِنَبذِ الغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَينَ الأُمَمِ فِي عَقِيدَتِهَا وَعِبَادَتِهَا وَأَخلَاقِهَا وَمُعَامَلَاتِهَا, -وَالوَسَطُ: العَدلُ الخِيَارُ- فَلَا إِفرَاطَ وَلَا تَفرِيطَ, وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ, وَقَد عَابَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهلِ الكِتَابِ الغُلُوَّ فِي الدِّينِ, فَقَالَ –جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].

وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحمَّدًا ﷺ بِرَفعِ الآصَارِ وَالأَغلَالِ الَّتِي كَانَت علَى مَن قَبلِنَا بِشَرِيعَةٍ سَمحَةٍ, مِن قَوَاعِدِهَا رَفعُ الحَرَج, وَمِن قَوَاعِدِهَا أَنَّ المَشَقَّةَ تَجلِبُ التَّيسِيرَ, وَمِن قَوَاعِدِهَا لَا وَاجِبَ بِلَا اقتِدَارٍ وَلَا مُحَرَّمَ مَع اضطِرَار, وَمِن قَوَاعِدِهَا أَنَّ الضَّرَرَ يُزَال فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار.

((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اختَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَقَالَ أَبُو مُوسَى –رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: كَانَ رَسُولَ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِن أَصحَابِهِ –رَضِيَ اللهُ عَنهُم- فِي بَعضِ أَمرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا, وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. قَالَهَا ثَلَاثًا)). أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَدَاةَ جَمْعٍ –وَهُوَ: يَومُ مُزدَلِفَة-: ((هَلُمَّ الْقُطْ لِي الحَصَى)).

قَالَ: فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهَا فِي يَدِهِ، قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)) رَوَاهُ أَحمَد وَالنَّسَائِيُّ وَابنُ مَاجَه وَالحَاكِمُ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَالنَّهيُ عَن الغُلُوِّ نَهيٌ عَنهُ فِي الاعتِقَادَاتِ وَالأَعمَالِ؛ لِأَنَّ اللَّفظَ عَام وَقَد كَانَ فِي رَميِ الجَمَرَاتِ, فَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ مِثْلُ الرَّميِ بِالحِجَارِ الكِبَارِ بِنَاءًا عَلَى أَنَّهَا أَبلَغُ مِنَ الصِّغَارِ، ثُمَّ عَلَّلَهُ بِمَا يَقتَضِى مُجَانَبَةَ هَدْيِهِم –يَعنِي: هَدْيَ مَن كَانَ قَبلَنَا- إِبعَادًا عَنِ الوُقُوعِ فِيمَا هَلَكُوا بِهِ، وَأَنَّ المُشَارِكَ لَهُم فِي بَعضِ هَدْيِهِم يُخَافُ عَلَيهِ مِنَ الهَلَاكِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنِ الغُلُوِّ وَنَهَى عَنِ التَّطَرُّفِ فِي الأُمُورِ, حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ, إِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)).

مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وَعَن عَبدِ اللهِ بِنِ الشِّخْيرِ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا

فَقَالَ: ((السَّيِّدُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))

قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا

فَقَالَ: ((قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بِبَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)).

فَالنَّبيُّ ﷺ بُعِثَ بِالعَدلِ, حَتَّى إِنَّهُ قِيلَ لهُ: ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ, فَقَالَ ﷺ: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.

وَعَن جَرِيرِ بِنِ عَبدِ اللهِ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا- بِالشَّرِيعَةِ الكَامِلَةِ وَبِالدِّينِ التَّامِ, بَعَثَهُ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ بِخِتَامِ شَرَائعِ اللهِ رَبِّ العَالمِينَ إِلَى خَلْقِهِ فِي أَرضِهِ, فَلَا نَبِيَّ بَعدَهُ ﷺ.

وَلِذَلِكَ تَعجَبُ فِي الَّذِينَ يَدَّعُونَ الإِئتِسَاءَ بِالنَّبِيِّ ﷺ, وَقُلُوبُهُم غَلِيظَة وَأَفئدَتُهُم قَاسِيَة لَا تَبِضُّ قَطرَةً مِن رَحمَةٍ!! أَلفَاظُهُم جَاسِيَة, وَنَظَرَاتُهُم مُرعِبَةٌ فَظِيعَةٌ, إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا تَجِدُهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّن يَدَّعِي الانتِمَاءَ وَالتَّأَسِّيَ بِرَسُولِ اللهِ, وَمَا كَذَلِكَ كَانَ ﷺ, بَلْ هُوَ الرَّحمَةُ المُهدَاةُ, وَالنِّعمَةُ المُسدَاةُ ﷺ.

فَمَن أَرَادَ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِ؛ فَلْيُقْبِل عَلَى تَعَلُّمِ مَا جَاءَ بِهِ, وَحِينَئذٍ يَرِقُّ قَلبُهُ, وَتَصفُو نَفسُهُ, وَتَتَهَذَّبُ طِبَاعُهُ, وَتَعتَدِلُ أَخلَاقُه, وَتَستَقِيمُ عَلَى الطَّرِيقِ خُطَاهُ.

نَسَأَلُ اللهَ أَنْ يَجعَلَنَا مِن أَتبَاعِ النَّبِيِّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا, وَمِنَ المُتَمَسِّكِينَ بِمَا أَرسَلَهُ بِهِ رَبُّهُ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

ففي رَجب أو شعبان من السنةِ الثانيةِ من الهجرة؛ نزلَ الأمرُ الإلهيُّ بتحويلِ القِبْلَةِ مِن بيتِ المَقدسِ إلى الكعبةِ المُشَرَّفة، وهو أوَّلُ نَسْخٍ وَقَعَ في الإسلام.

عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ –رضي الله عنه-:  أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ صَلَّى إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَو صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَ الذي مَاتَ علَى القِبْلَةِ قَبْلَ أنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لم نَدْري ما نَقولُ فيهم، فَأنزلَ اللهُ –جَلَّ وعلا-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].

متفقٌ عليه.

وَعَنِ عبد اللهِ بْنِ عُمَرَ –رضي الله عنهما- قَالَ: ((بَيْنَمَا النَّاسُ يصلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجدِ قُبَاء، إِذْ جَاءَ جَاءٍ؛ فَقَالَ: أَنْزِلَ اللهُ على النبيِّ –صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ- قرآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ؛ فَاسْتَقْبِلُوهَا فتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ)).

متفقٌ عليه.

وَعَنْ أَنَسٍ –رضيَ اللهُ عنهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144].

فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ)). رواهُ مُسلم.

قال ابنُ كثير –رحمه الله-:

((وحاصلُ الأمر أنَّ رسول الله ﷺ كان يُصلِّي بمَكَّةَ إلى بيتِ المقدسِ والكعبةُ بين يديه كما رواه الإمامُ أحمد عن ابن عباسٍ –رضي اللهُ عنهما-، فلمَّا هاجرَ إلى المدينةِ؛ لم يُمكنهُ أنْ يجمعَ بينهما؛ فصَلَّى إلى بيتِ المقدسِ أولَ مَقدمِهِ المدينة واستدبرَ الكعبة سِتَّة عشرَ شهرًا أو سبعةَ عشرَ شهرًا)).

وهذا يقتضي أنْ يكونَ ذلك في رَجَب من السنةِ الثانية.

وقال ابنُ إسحاق: ((وصُرِفت في رجبٍ على رأسِ سبعةَ عشرَ شهرًا من مَقْدَمِ رسول الله ﷺ المدينة)).

كان النبيُّ ﷺ يُصلِّي إلى قِبلةِ بيتِ المقدس ويُحبُّ أن يُصرفَ إلى الكعبة، فجعلَ يُقلِّبُ وجهَهُ في السماء يرجو ذلك حتى أنزل اللهُ تعالى عليه: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 143].

وذلك بعد سِتَّةَ عشرَ شهرًا من مقدمِهِ المدينة قبل وقعةِ بدرٍ بشهرين، وكان للهِ في جَعْلِ القِبلةِ إلى بيتِ المقدس ثم في تحويلِها إلى الكعبة حِكَمٌ عظيمة ومِحنةٌ للمسلمين والمشركينَ واليهود والمنافقين.

فأما المسلمون، فقالوا: سمعنا وأطعنا وقالوا : {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] وهُم الذين هَدَى اللهُ، ولم تكُن كبيرةً عليهم.

وأما المشركون، فقالوا : كما رجعَ إلى قِبلتِنا يوشك أنْ يرجعَ إلى دينِنا، وما رجعَ إليها إلا أنها الحق.

وأما اليهود ، فقالوا : خالفَ قِبلةَ الأنبياءِ قَبْلَهُ، ولو كان نبيًّا؛ لكان يُصَلِّى إلى قِبلةِ الأنبياء.

وأما المنافقون، فقالوا: ما يدرى مُحَمدٌّ أين يتوجه، إنْ كانت الأولى حقًّا؛ فقد تَرَكَهَا، وإنْ كانت الثانيةُ هي الحق؛ فقد كان على باطل.

وَكَثرُت أقاويلُ السفهاءِ، وكانت كما قال الله –جلَّ شأنُهُ-: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: من الآية143]، وكانت مِحنةً مِن اللهِ امتحنَ بها عبادَهُ؛ ليرى مَن يَتَّبعَ الرسولَ منهم ممن ينقلبُ على عَقبيه.

وعن قتادة قال: ((قلتُ لسعيد بنُ المُسيِّبِ: لِمَا سُمُّوا المهاجرين الأوَّلين؟

قال: مَن صلَّى مع النبيِّ ﷺ القِبلتين جميعًا؛ فهو من المهاجرينَ الأوَّلين)).

ومِثْلُه عن ابن سيرين.

وقال الشعبيُّ: ((المهاجرون الأوَّلون من أدرك البَيْعَةَ تحتَ الشجرة)).

وفي تحويلِ القِبلة؛ ترى سُرعةَ مبادرةِ الصحابةِ –رضوان الله تعالى عليهم- إلى تنفيذِ أوامرِ الرسول ﷺ، فالخبرُ يلغُهم أثناء الصلاة؛ فيستديرون وهُم في صلاتِهم، فعندما أتى رجلٌ إلى بعضِ الصحابة؛ فقال: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، إذا بِهم يبادرون بالتحوُّلِ إلى القِبلةِ الجديدةِ من دونِ سؤالٍ أو استفسارٍ أو تَرَدُّد، وهذا شأنُ المؤمن؛ الاتباع والتمسُّكُ بالعملِ بالنَّصِّ فَوْرَ بُلوغِهِ له مع المبادرةِ إليه، سواءٌ ظهرت له الحكمةُ من ذلك أم لم تظهر.

قال ابن كثيرٍ –رحمه الله-: ((فحيثُما وجَّهنَا الله سبحانه توجهنا، فالطاعةُ في امتثالِ أمرِهِ، ولو وجَّهَنَا في كلِّ يومٍ مرَّاتٍ إلى جِهَاتٍ متعددة، فنحنُ عبيدُهُ وفي تَصرُّفِهِ وخُدَّامُهُ، حيثُما وَجَّهنا توجهنا)).

والتمهيدُ للأمرِ العظيمِ قبل حصولِهِ يُلحظُ في تحويلِ القِبلة.

قال الإمام ابنُ القيم –رحمه الله-: ((وَكَانَ أَمْرُ الْقِبْلَةِ وَشَأْنُهَا عَظِيمًا؛ وَطَّأَ سُبْحَانَهُ قَبْلَهَا أَمْرَ النَّسْخِ وَبَيَّنَ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَأَنّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالتّوْبِيخِ لِمَنْ تَعَنَّتَ رَسُولَ اللّهِ ﷺ وَلَمْ يَنْقَدْ لأَوامِرِهِ، وَجَعَلَ هَذَا كُلّهُ تَوْطِئَةً وَمُقَدّمَةً بَيْنَ يَدَيْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ)).

كان تحويلُ القِبلة فُرصةً لأعداء الإسلامِ لإثارةِ الشُّبهات حَولَ الإسلامِ والمسلمين، ولأجل هذا ارتدَّ بعضُ مَن أسلم.

قال ابنُ جُريج: ((بلغني أنَّ أُناسًا مِمن أسلم، رجعوا فقالوا: مرةً هاهنا ومرةً هاهنا)).

وفتنةُ إثارةِ الشُّبهاتِ لا تزال حيَّة، يحاولُ أعداءُ الإسلام من خِلالها صَدَّ المسلمين أو غيرهم عن هذا الدين، والشُّبهات تُدْفَعُ بالعلمِ الشرعيِّ الذي يُبْطِلُ كَيْدَ الأعداء

هذه القِبلة التي هَدى هذه الأمةَ لها هي القِبلة التي تليقُ بها وهُم أَهْلُها؛ لأنها أفضلُ الأمم كما اختارَ لهم أفضلَ الرُّسل وأفضلَ الكُتُب وأخرجَهم في خيرِ القرون، وخَصَّهم بأفضلِ الشرائع، ومَنَحَهم خَيْرَ الأخلاق، وأسكنهم خيرَ الأرض، وجعلَ منازَهم في الجنَّةِ خير المنازل، وموقفَهم يومَ القيامة خيرَ المواقف.

وفي قولهِ –جلَّ وعلا-: {مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] آيةٌ لمُحمد ﷺ إذ تصمنت الإخبار عن أمرٍ غيبي، فالإتيان بالسين الدالةِ على الاستقبالِ من الإخبارِ عن المستقبل، وقد وقعَ ذلك كما أخبر القرآنُ به وكما ذكرَ ذلك الرسولُ ﷺ.

في تحويلِ القِبلةِ إلى الكعبة واستقبال المسلمين أينما كانوا لهذا البلد الأمين بيانٌ لمكانتِهِ وتميُّزِهِ عن سائرِ الأمكنة، فهو مهبطُ الوحي، ومنطلقُ الرسالة، ومهوى الأفئدة، ومقصدُ المسلمين في حَجِّهم وعُمرتِهم، وهو قِبلتُهم أحياءً وأمواتًا، قد شَرَّفَه اللهُ –جلَّ شأنُهُ- بهذا الشرف الذي لا مزيدَ عليه.

في تحويلِ القِبلةِ إلى مكَّة تأكيدٌ لوسطيةِ هذه البقعةُ جغرافيًّا، في سببِ اختيارِ هذه الجزيرة لتكونَ مُنطلقًا للرسالةِ الخاتمة، هذه الجزيرةُ وسطُ العالَم.

قال تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92].

وهذا الاختيارُ يعني أن تكونَ مَكَّةَ مُنطلقَ تحديد الجهات، لكننا وأسفاه تابعنا المستعمرين ممن احتلَّ أرضَنا واحتلَّ بعد ذلك عقولَنا وأرواحَنا وأفئدتنا، وتلقينا مصطلحاتهم وسلَّمنا لهم، ولو فكَّرنا قليلًا؛ لأدركنا المعاني الحقيقية لكثيرٍ من هذه المصطلحات، وأنها لا ارتباط لها بواقعنا ولا بتاريخِنا، يقولون مثلًا: الشرقُ الأدنى والشرقُ الأقصى والشرقُ الأوسط، ذلك لأن المستعمرَ الأوربيَّ اعتبرَ نَفْسَهُ في مركزِ الأرض، فأطلقَ هذا التوزيعَ بالنسبةِ لموقعِهِ هو، وجاريناهُ نحن على ذلك ونسينا أننا هنا نحنُ الوسطُ ونحن المركز، وأنَّ هذه الوسطيةَ المكانية ينبغي أنْ تكونَ لبلادِ المسلمين، وأن ينطلقَ تحديدُ الجهاتِ منها، وأنَّ هذا هو المعروف في وقتِ قوةِ الأمةِ الإسلاميةِ وعِزَّتِها، أمّضا الآن وقد غَلَبَ على الأمةِ الإسلامية؛ فأصبح ليس لبُقعتِها إلَّا أنْ يُقال عنها: الشرقُ الأوسط.

النبيُّ ﷺ اختار اللهُ ربُّ العالمين له خيرَ القِبَل، والمسلمون هم أهلُ القِبلةِ، يتوجهون إليها أحياءً وأمواتًا في صلاتِهم وعند مماتِهم، فإنهم في قبورِهم يُوَجَّهونَ جِهةَ القِبلة، فهي قِبلةُ المسلمينَ أمواتًا وأحياءً، فعلى أهلِ القِبلةِ أنْ يتقوا اللهَ في أهلِ القِبْلَةِ.

البلاءُ موكولٌ بالمَنطِق، واللسان مَركبٌ خَطِرٌ من مراكبِ العَطَب، وقد حَذَّرَنا اللهُ شَرَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ جدًّا في كتابِهِ؛ لأن المرءَ مسئولٌ يومَ القيامةِ عمَّا قاله في الدنيا.

قال تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

من الآفاتِ اللسانيةِ التي يُسألُ عنها: تكفيرُ المسلمين بغيرِ حقٍّ، كاتَّباعِ الظَّنِّ، أو المبالغةِ في ردِّ عدوانِهِ إلى حَدِّ تكفيرِهِ بلا مُسَوِّغ، أو جَعْلِ كبائرِهِ نواقضَ لإيمانِهِ.

قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].

في ((الصحيحين)) عن ابن عُمر قال: قال رسول الله ﷺ: ((إذا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيه يَا كَافِر فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا)).

وفيهما عن أبي ذَرٍّ أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: ((مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ ، أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، إِلَّا حَارَ -أي رجع- عَلَيْهِ)).

وقال ﷺ: ((مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ)).

رواه الطبرانيُّ من حديثِ هشام بن عامر وصححه الألبانيُّ في ((صحيحِ الجامع)) وغيره.

على هذا فينبغي للناصحِ لنفسهِ أن يتجنبَ أعراضَ المسلمين، أنْ يتجنبَ أعراضَ أهلِ القِبلة.

ففي ((الصحيحين)) أنَّ رسول الله ﷺ قال: ((سِبَابُ الْمُسْلِم فُسُوقٌ وَقِتالُهُ كُفْرٌ)).

وإنما كان إثمُ التكفيرِ عائدًا على صاحبِهِ إذا لم يكُن المُكَفَّرُ أهلًا لذلك؛ لأنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العمل.

وقد ذكرَ ابنُ رجبٍ في ((النصيحة)) أنه لمَّا ركبَ ابن سيرين الدَّيْن وحُبِسَ به، قال: ((إني أعرفُ الذنب الذي أصابني هذا؛ عَيَّرتُ رجُلًا منذ أربعين سنة، فقلت له: يا مُفلِس)).

فابتُليَ بالدَّيْنِ بعد أربعين سنة، فكسرَهُ ولم يستطع له وفاءً ولا أداءً، فحُبِسَ بسببِهِ، ولكنَّهُ لتقواه وَوَرَعِهِ وخوفِهِ من الله؛ يعلمُ قلَّةَ ذنوبِهِ، فعَلِمَ السببَ الذي لأجلهِ أُصيبَ بما أُصيبَ به، فيقول: إني لأعرفُ السبب الذي لأجلهِ أصابني ما أصابني:عيَّرتُ رجُلًا منذ أربعينَ سَنَة، فقلت له: يا مُفلِس.

هذا، فكيف بالوقوعِ في الأعراض؟!

فكيف بفَرْيها فَرْيَ الأديم؟!

فكيف بالتخوين؟!

فكيف بالوقوعِ على الناسِ وقوعَ الصاعقة؟!

إلى غيرِ ذلك مما هو فاشٍ بين أبناءِ الأمةِ الإسلامية.

كيف بإخراجِ المسلمين من أهلِ القِبْلَةِ من أهلِ القِبْلَةِ –بجَعْلِهم كُفارًا ومرتدين بغير حق-؟!!

كلمةٌ قالها صاحبُها منذ أربعينَ سنة، فلم يَنْسَها؛ لأنهم لم يكونوا عن أنفسِهم غافلين، فكيف إذا كان المرءُ يلوكُ كلمة (يا كافر) التي هي شَرٌّ مِن (يا مُفلس) –يلوكُها بلسانِه صباحَ مساء!!

عن أبي سفيان قال: ((سألتُ جابرًا وهو مجاورٌ بمكة، وكان نازلًا في بني فِهر، فسألهُ رجُل: هل كنتم تزعمون أحدًا من أهل القِبلةِ مُشركًا؟

فقال: معاذ الله، وفَزِعَ لذلك.

فقال: هل كنتم تَدْعون أحدًا منهم كافرًا؟

قال: لا)).

رواه أبو يعلَى وأحمد مختصرًا وأبو نُعيم في ((صفةِ النفاقِ)) بنحوِه، والطبرانيُّ وصححهُ ابنُ حجر في ((المطالبِ العالية)).

وعن حُذيفةَ رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ, حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ بَهْجَتَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ؛ انْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ, وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ)).

قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ؛ الرَّامِي، أَوِ الْمَرْمِيِّ؟

قَالَ: ((بَلِ الرَّامِي)).

أخرجه البخاريُّ في ((التاريخ)) وابن حِبان وحَسَّنَهُ الألباني.

فوا حسرتاه على ما آل إليه الحال، ووا خوفاه على هذه الأمةِ من تَحلُّلِ عُراها وتبدُّدِ أسبابِ قواها وتَمَزُّقِها حتى تصيرَ نهبًا للأمم كما قال ﷺ: ((تتداعى عليها كما تتداعى الأكلةُ إلى قصعتِها)).

فوا خوفاه من وقوعِ السُّوءِ عليها ومن تَمزُّقِ أمرِها وتَبدُّدِ أحوالِها وتبدُّدِ أسبابِها حتى تصيرَ بحيثُ تَلْقَى عِقَابَ ربِّها.

تمسكوا بِعُرَى دينِكم، يا أهلَ القِبلة؛ إنَّ اللهَ ربَّ العالمين اختارَ لكم أَجَلَّ القِبَلِ وأعظمَها، وأرسلَ إليكم أَعْظَمَ الرُّسُل وأنزلَ عليكم أجَلَّ وأكرمَ الكُتب.

اللهُ ربُّ العالمين اصطفاكم؛ فجَعَلَكُم خيرَ أُمةٍ أُخرجت للناس، فحَقِّقوا الخيريةَ فيكم، فإنْ فعلتُم؛ نَجوتُم، وإنْ لم تفعلوا؛ فإلى اللهِ المشتكى وهو حسبُنا ونِعمَ الوكيل، ولتعلمُنَّ نَبَأَهُ بعد حين.

اتقوا الله في أُمَّتِكم؛ في دينكم، اتقوا اللهَ في قِبلَتِكم، لا تتشرذموا ولا تَتشظَّوا، تماسكوا وتلاحموا، وكونوا جميعًا كالجسدِ الواحد كما وصفكم رسولُ الله ﷺ.

انظري يا رياحُ ذا القَبَسَ الوهَّاج                  قد راوغَ الفناءَ اقتدارا

عاش تحت الأطباقِ دهرًا فدهرًا                    يتلوَّى بثقلهِنَّ انبهارا

كلما رامَ مَنْفذًا ردَّدته في ظلامِ                      الأعماق يعنو صَغارا

لم يزل دائبًا يُنقِّب ملتاعًا                             ويحتالُ في صفاها احتِفارا

صدعَ الصخرةَ الململَمَةَ الكبرى                   وأسرى حتى نَمَا فاستطارا

ورأى نورَهُ فجُنَّ من الفرحةِ                         أعمَى رأى الظلام نهارا

أيُّ شيءٍ هـــذا؟ وما ذاك؟                           بل هذا وزاغت لِـحاظُه استكبارا

قد رأى عالمًا مَهُولاً من المجهول                 غشَّاه نورُه فاستنارا

ليس يدري: أهم عِدًى أم صديقٌ؟              أيُبينون لو أراد حوارا؟

أم صُمـــوتٌ لا ينطقــون                         ازدراءً لغريبٍ عنهم أساء الجوارا؟

واغلٌ يعتدي يُسَـــــائِــلُ                         عن أسرار خلقٍ أجلَّ من أن تُثارا

كيف غرَّته نفسُه؟                                  كيف ظنَّ الغيب يُلقي لثامَه والخمارا؟

أملٌ باطلٌ فلو أسفر الغيبُ                       لأعمى بنورِه الأنوارا

أسألُ اللهَ أن يحفظَ أمتنا وأن يُديمَ على بلدِنا الأمنَ والأمان وأنْ يَمُنَّ على دولِ الأمةِ الإسلاميةِ كلِّها بالخروجِ من التِّيه والاستقامةِ على الجَادَّة والخروجِ من التخالفِ والمُشَاقَّةِ والمُنازعة.

أسألُ الله أن يجمعَ المسلمين في مشارقَ الأرضِ ومغاربها على كلمةٍ سواء.

وصلى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا مُحمد وعلى آله وأصحابه أجمعين