الأدلة على وجود الله عز وجل 1

للاستماع للمحاضرة

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فإن الْعلماء ذكروا طرقًا كثيرة، وأثبتوا بأدلة عديدة وُجُود الله تبارك وتعالى، والحق أن الفطرة وحدها تكفي لإثبات وُجُود الله رب العالمين؛ ولَكِن الفطرة قد تنحرف، وقد يصيبها من الغبش ما يصيبها، مما تَلَقَّاه المرء من شياطين الإنس والجن، من بيئته، من قراءاته، من نظره على حسب ما يدله عقله وحسه، إِلَى غير ذَلِكَ؛ فهذا كله قد يحرفه عَنْ الْحَقّ وعن الصراط المستقيم.

ولقد دل على وُجُود الله تعالى أمور؛ هي: الفطرة.

وكل مخلوق قد فُطِرَ على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عَنْ مقتضى هذه الفطرة إلاَّ من طرأ على قلبه ما يصرفه عَنْها؛ لقول النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: (ما من مولود إلا يولدُ على الفطرة، فأبواهُ يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه).

فالفطرة أول الأدلة على وجود الله جل وعلا.

والعقل:

ودلالة العقل على وُجُود الله تعالى؛ لأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها، لابد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد بنفسها من نفسها؛ ولا يمكن أن توجد صدفة.

فلا يمكن أن توجد نفسها بنفسها؛ لأن الشيء لا يخلقُ نفسه؛ لِأَنَّهُ قبل وُجُوده معدوم؛ فكيف يكون خالقًا؟!

ولا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من محدث، ولأن وُجُودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط المتلاحم بين الأَسْبَاب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض؛ يمنعُ منعًا باتًّا أن يكون وُجُودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام فِي أصل وُجُوده؛ فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره؟!

وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات من نفسها، بمعنى أن توجد نفسها، ولا أن توجد صدفة؛ فقد تعيَّن أن يكون لها موجد، وهو الله رب العالمين.

قد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي، والبرهان القطعي في سورة الطور، فقال جل وعلا: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ) [سورة الطور: 35].

يعني: أَنَّهُم لم يُخْلَقُوا من غير خالق، ولا هم الَّذِينَ خلقُوا أنفسهم؛ فتعين أن يكون خالقهم هو الله جل وعلا؛ ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رضي الله عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة المغرب سورة الطور، فبلغ هذه الآيات: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ)؛ قَالَ: (كاد قلبي أن يطير، وذَلِكَ أول ما وقر الإيمان فِي قلبي).

والحديث أخرجه البخاري في «الصحيح».

وهذا مثال يوضح ما مر:

لو حدَّثك شخص عَنْ قصرٍ مشيَّد، أحاطتْ به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، ومُلئ بالفرش والأسِرَّة، وزُيِّن بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إنَّ هذا القصر وما فِيه من كمال قد أوْجد نفسه، أو وُجِد هكذا صدفة بغير مُوجد؛ لبادرت إِلَى إنكار ذَلِكَ وتكذيبه، وعددت حديثهُ سفهًا من القول؛ أفيجوز بعد ذَلِكَ أن يكون هذا الكون الواسع: بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجَدَ نفسه، أو وُجد صدفة بغير موجد؟!

إن الَّذِينَ أنكروا وُجُود الله تبارك وتعالى؛ أنكر الله عليهم أن يكونوا خلقوا بلا خالق؛ «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ»؛ لضرورة أن الأثر يحتاج فِي حدوثه إِلَى مؤثر، كما شهد بذَلِكَ العقل والفطرة والحس، فأنكر أن يكونوا خالقين لأنفسهم لما يلزمه من التناقض، وأنكر أن يكونوا خالقين للسماوات والأرض؛ لشهادة تاريخ وُجُود الأمم والكونيات الأخرى بأن خلق السماوات والأرض قد كَانَ قبل خلق ما بينهما من الإنس والجن ونحوهم، فالسماوات والأرض وجدت قبل الإنسان؛ فكيف يكون خالقًا لها وقد وجد بعدها؟!


وكيف يخلق المتأخر فِي الوجود شيئًا قد سبقه وتقدم عليه؟!

قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله فِي «مذكرة التوحيد»:

وقد أخذ جماعة من الْعلماء هذا الدليل الخبري العقلي، وأدخلوا عليه شيئًا من التكلف والصناعة الكلامية، فقالوا: إن نسبة الممكن إِلَى طرفيه: «الوجود والعدم» على السواء، فلو وجد بدون سبب خارج عَنْ ذاته وحقيقته؛ لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، ولو أوجد نفسه؛ لزم مع ذَلِكَ أن يكون متقدمًا على نفسه باعتباره خالقًا لها، متأخرًا عَنْها باعتباره مخلوقًا لها، وتقدم الشيء على نفسه وتأخره عَنْها باطل بالضرورة؛ لما فِيه من التناقض الواضح، فثبت أن العالم لا بدّ له من مُوجد غيرِ ذاته وحقيقته، ولا بد أَيْضًا أن يكون واجب الوجود لذاته مختلفًا عَنْ العالم فِي خواصه وصفاته؛ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»؛ ذَلِكَ ليصح أن يستند إِلَيْهِ العالم فِي وُجُوده بدءًا ودوامًا؛ إذ لو كَانَ مستحيلًا لَمَا صح أن يكون منه خلق أو تقدير؛ لأن المستحيل عدم محض، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولو كَانَ ممكنًا؛ لافتقر إِلَى من يرجح وُجُوده على عدمه كما سبق بيانه، فإن استمرت الحاجة، فاستند كلٌّ فِي حدوثه إِلَى نظير له من الممكنات؛ لزم إما الدور القَبْلِي، وإما التسلسل فِي المؤثرات، وكلاهما باطل باتفاق العقلاء.

وإذا انتفى عَنْه الإمكان والاستحالة؛ ثبت له وجوب الوجود لذاته؛ لضرورة أن أقسام الحكم العقلي ثلاثة: «الوجوب، والإمكان، والاستحالة»، وقد انتفى اثنان، فتعين الثالث، وهو وجوب الوجود، قَالَ تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»، وفي الْحَدِيث: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء».

الحديث أخرجه مسلم في «الصحيح».

ذكر العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله فِي موضع آخر:

من الحكمة من إرسال الرسل: أن توحيد الإلهية، وصرف الهمة إِلَى بيان تفاصيله، وإجمال القول فِي توحيد الربوبية، والاستدلال عليه اكتفاء بشهادة الفطرة وإقرار العباد به، وعلمه بالضرورة؛ ذَلِكَ هو طريقة القرآن ومنهج الرسل عليهم الصلاة والسلام.

قَالَ رحمه الله:

قال تعالى: «قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولونَ إِذَا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى  عَمَّا يَقُولونَ عُلُوًّا كَبِيرًا»، إن كَانَ المعنى المراد: لاتخذوا سبيلًا إِلَى عبادته، والقيام بواجب حقه رجاء رحمته وخوف عقابه؛ فالآية فِي توحيد الإلهية؛ كقوله تعالى: «أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا».

وقد استخلص بعض الْعلماء من ذَلِكَ دليلًا سموه «دليل التمانع»، وجعلوا جل همهم: إثبات توحيد الربوبية به، قَالوا: لو جاز أن يكون للعالم ربان يخلقان ويدبران أمر العالم؛ لأمكن أن يختلفا، بأن يريد أحدهما وُجُود شيء، ويريد الآخر عدمه، أو يريد أحدهما حركة شيء، ويريد الآخر سكونه.

عند ذَلِكَ إما أن ينفذ مرادهما، وذَلِكَ محال؛ لما يلزمه من الجمع بين الضدين، وإما أن لا ينفذ مراد كل منهما، وذَلِكَ محال؛ لما يلزمه من رفع النقيضين وعجز كل منهما، وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، فيكون الَّذِي نفذ مراده هو الرب دون الآخر لعجزه، والعاجز لا يصلح أن يكون ربًا.

ولو أن هَؤُلَاءِ عنوا بتوحيد الإلهية، وصرفوا همتهم إِلَى بيان تفاصيله، وأجملوا القول فِي توحيد الربوبية، والاستدلال عليه اكتفاء بشهادة الفطرة وإقرار العبادة به، وعلمه بالضرورة، وجعلوا البحث فِيه وسيلة إِلَى توحيد العبادة ودليلًا عليه؛ لو فعلوا ذلك لكَانُوا بذَلِكَ قد سلكوا طريقة القرآن ومنهج الرسل عليهم الصلاة والسلام.

فهذا الدليل الَّذِي يَقُولون عَنْه: «دليل التمانع» على هذا النحو الَّذِي مر ذكره، ويستخدمه بعض أهل الْعِلْم فِي إثبات وُجُود الخَالِق ووحدانيته.

مر أن أدلة وُجُود الله تبارك وتعالى: الفطرة، وكذَلِكَ العقل، والنقل؛

 فالكتب السَّمَاوِيَّة كُلّها تنطقُ بوجوده تعالى، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق؛ دليل على أَنَّهُا من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها؛ دليل على أَنَّهُا من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.

فيشهد على وجود الله تبارك وتعالى الفطرةُ، والعقل، والنقل، والحس.

وأدلة الحس على وُجُود الله تعالى من وجهين:

أحدهما: أننا نسمعُ ونشاهدُ من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدلُ دلالة قاطعة على وُجُوده تعالى؛ «وَنُوحًا إِذ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ» [سورة الأنبياء: 76].

«إِذ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ» [سورة الأنفال: 9].

وعَنْ أنس بن مالك رضي الله عنه فيما أخرج الشيخان؛ قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ الناسَ عَلَى المِنْبَرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ؛ إذ قَامَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَلَكَ المَالُ، وَجَاعَ العِيَالُ؛ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ ودعا، فَثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فلَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وفي الجُمُعَةِ الثانية قَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ تَهَدَّمَ البِنَاءُ، وَغَرِقَ المَالُ؛ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا»، فَمَا يُشِيرُ إِلَى نَاحِيَةٍ إِلَّا انفَرَجَتْ».

وما زالت إجابة الداعين أمرًا مشهودًا إِلَى يومنا هذا؛ لمن صدق في الدعاء، وأتى بشرائط الإجابة.

فهذا وجه من وَجْهَيْ دلالة الحس على وجود الباري جل وعلا.

الوجه الثاني: أنَّ آيات الأنبياء التي تسمَّى المعجزات، ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها؛ هي برهان قاطع على وُجُود مرسلهم، وهو الله جل وعلا؛ لِأَنَّهُا أمور خارجة عَنْ نطاق البشر، يجريها الله تعالى؛ تأييدًا لرسله، ونصرًا لهم.

مثال ذَلِكَ: آية موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه؛ فانفلَق اثنى عشر طريقًا يابسًا، والماء بين الطرق كالجبال؛ قَالَ تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم) [سورة الشعراء: 63].

مثال ثانٍ: آية عيسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث كَانَ يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله؛ قَالَ تعالى عَنْه: (وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذنِ اللهِ) [سورة آل عمران: 49]، وقال: (وَإِذ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذنِي) [سورة المائدة: 110].

مثال ثالث: لنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، حين طلبت منه قريش آية، فأشار إِلَى القمر، فانفلق فرقتين، فرآه الناس، وفي ذَلِكَ يقول الله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) [سورة القمر: 1-2].

فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييدًا لرسله، ونصرًا لهم، تَدُلّ دلالة قطعية على وُجُوده تعالى.

فالإيمان بالله تبارك وتعالى يتضمن أربعة أمور:

الإيمان بوجوده؛ فهذا أول شيء.

والإيمان بربوبيته.

والإيمان بألوهيته.

والإيمان بأسمائه وصفاته.

الإيمان بوجود الله تبارك وتعالى دل عليه الفطرة، والعقل، والنقل، والحس.

وقد نقلت ذلك بمعظمه في «شرح مذكرة التوحيد» من كتاب «رسائل في العقيدة» للعلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى.

فالدليل الأول على وجود الله تبارك وتعالى هو: دليل الفطرة.

في كتاب «العقيدة في الله»:

لم يطل القرآن فِي الاستدلال على وُجُود الله تعالى؛ لأنّ القرآن يقرّر أنّ الفطر السليمة، والنفوس التي لم تتقذر بأقذار الشرك، تُقرّ بوجوده من غير دليل.

ليس كذَلِكَ فقط؛ بل إنّ توحيده سبحانه أمر فطري بدهي؛ «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» [الروم: 30].

هذه الفطرة هي التي تفسر الظاهرة التي لاحظها الباحثون فِي تاريخ الأديان، وهي أنّ الأمم جميعًا - التي درسوا تاريخها - اتخذت معبودات تتجه إِلَيْهِا وتقدَّسها؛ حتى الشيوعيون الَّذِينَ أرادوا أن يتحرروا من عبادة الآلهة بزعمهم؛ عبدوا مؤسس المذهب، فكانوا يمرون أمام جثته الْمُحَنَّطَةِ فِي الميدان الأحمر، فِي ذكرى يوم وفاته، خاضعين حانين رؤوسهم؛ فقد جعلوه إلهًا!!

وبدلًا من أن يعبدوا خالق البشر؛ عبدوا ميتًا من البشر؛ فبعدًا لهم.

ثم هدم القائمون على المذهب الشيوعي مذهبهم، وألقوا جثث قادة المذهب، كما ألقوا عقائدهم وأفكارهم.

فالانسان مفطور على الإقرار بوجود الله تبارك وتعالى؛ حتى إن ذَلِكَ الملحد الَّذِي أُتِي به فِي التلفاز المصري، فِي بعض البرامج مناظرًا، يناظر عَنْ إِلْحَاده، والذي كَانَ يناظره مقدِّمُ بَرَامِجَ، وهو نصراني مَارُونِيٌّ، من لبنان - فِيما أحسب -.

المهم؛ أن هذا الملحد عَنْدما احتد فِي الكلام، واحتدم النقاش قَالَ: واللهِ!! ـ وأقسم بالله!! ـ، وهو ملحد!!

فأقسم بالله تبارك وتعالى!!

قد يُسْأَلُ هنا: لو كَانَ التوجه إِلَى الله أمرًا فطريًا؛ لَمَا عبد النّاس فِي مختلف العصور آلهة شتى.

فالجواب: أنّ الفطرة تدعو المرء إِلَى الاتجاه إِلَى الخَالِق؛ لَكِن الإنسان تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف حينما يتجه إِلَى المعبود الْحَقّ.

من ذلك: ما يغرسه الآباء فِي نفوس الأبناء، وما يلقيه الكتّاب والمعلمون والباحثون فِي أفكار الناشئة؛ فإن ذلك يبدّل هذه الفطرة ويُقَذِّرُها، ويلقي عليها غشاوة، فلا تتجه إِلَى الْحَقيقة.

وأكثر الْإِلْحَاد فِي هذا العصر بهذا السبب؛ فأكثرهم تلقوا تلك الأفكار الْإِلْحَادية من البيئة المحيطة بها، وأكثرهم نظر فِي بعض الكتب التي كتبها أهل الضلال، فشَكَّكَتْهُ فِي عقيدته، فانحرف عَنْ النهج السوي، وصار بعد حين من الْمُلْحِدِينَ، أو على الأقل هو من الشُّكَّاك، لا يستطيع أن يثبت، ولا يستطيع أن ينفي، وهَؤُلَاءِ الشُّكَّاك كُثُر.

كثير من الناس وقع فِي الشك فِي وُجُود الخَالِق تبارك وتعالى؛ لغلبة المدنية الْحَدِيثة بماديتها ولذاتها، وبُعْدِها عما يتعلق بالروح؛ حتى إن رجلًا من مقدَّميهم ذكر أن الإنسان لما دخل المعامل، وخضع للتجارب، يعني فِي كثير من وجوهه، فِيما يتعلق بدمه، وأعصابه، وفضلاته، وإفرازاته، وغير ذَلِكَ؛ فيقرر أننا قد عرفنا كل شيء تقريبًا عَن الإنسان من حيث هو مادة؛ ولَكِننا نجهل كل شيء عَن الإنسان من حيث هو روح.

هذا فِيه كثير من الْحَقّ بالنسبة لما وصلوا إِلَيْهِ، وما هم عليه.

وأما عَنْدنا نحن ـ المسلمين ـ؛ فإن الأمر ليس كذَلِكَ؛ لأن دين الإسلام الْعَظِيم يوازن بين الجسد والروح، يوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، كما هو معلوم فِي تعاليم دين الاسلام الْعَظِيم.

والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كما مر في الحديث الذي أخرجه الشيخان من رواية أبي هريرة رضي الله عَنْه قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ».

لم يقل: «يُسْلِمَانِه» أي: يجعلانِهِ مسلمًا؛ لأنّه ولد على ذلك، ولد على الفطرة، فالفطرة الإسلام؛ ولكنْ أبواه يحرفانه عن الفطرة التي هي الإسلام، «يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»؛ فالإسلام مُوافقٌ للفطرة؛ بل الإسلام هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

قد يقال: إِذَا تركنا الطفل من غير أن نُؤثّر فِي فطرته؛ هل يخرج موحدًا عارفًا بربّه؟

فالجواب: إِذَا تَرَكَ شياطينُ الإنسِ البَشَرَ، ولم يدّنسوا فِطَرَهُم؛ فإنّ شياطين الجنّ لن يتركوهم؛ فقد أخذ الشيطان على نفسه العهد بإضلال بني آدم؛ «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83»)[ص: 82-83].

وأُعْطِيَ الشيطانُ القدرةَ على أن يصل إِلَى قلب الإنسان، كما فِي الْحَدِيث الذي أخرجه مسلم في «صحيحه»: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا»، أَوْ قَالَ «شَيْئًا».

 والقرآن وصف الشيطان المطلوبَ الاستعاذةُ منه بأنّه «يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» [الناس: 5]، وقد صح أَيْضًا أنّ لكل إنسان قرينًا من الجنّ يأمره بالشرّ ويحثه عليه، وفي القرآن العظيم: «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) [ق: 27].

ولا يتخلص المرء من هذا إلا بالالتجاء إِلَى الله جل وعلا؛ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6»)[الناس: 1-6].

وشياطين الجنّ يقومون بدور كبير فِي إفساد الفطرة وتدنيسها، وعند مسلم في «الصحيح» من رواية عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ، فكان مما جاء فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عبادي حَلَالٌ – و"نَحَلْتُهُ" أي: منحتُه -، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا".

فشياطين الجن يقومون بدور كبير في إفساد الفطرة وتقذيرها، كما أن شياطين الإنس يقومون بدور كبير في إفساد الفطرة وتدنيسها؛ ولكنْ تنكشف الْحُجُبُ عَنْ الفطرة عندما تُدْرِكُ المرءَ المصائبُ، فتصفي حينئذ جوهر فطرته، فتزول عَنْ فطرته الغشاوة التي رانت عليها عَنْدما يصاب المرء بمصاب أليم، أو يقعُ فِي مأزِقٍ لا يجد فِيه من البشر عونًا، ويفقد أَسْبَاب النجاة.

كم من ملحد عرف ربّه وآب إِلَيْهِ عَنْدما أحيط به؟!!

وكم من مشرك أخلص دينه لله لضرّ نزل به؟!!

«حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22») [يونس: 22].

فكم من مشرك أخلص العبادة لله والتوحيدَ لوجهه الكريم عَنْد نزول المصيبة به؟!!

وكم من ملحد لما أحيط به؛ أقر واعترف بوجود خالقه وإلهه؟!!

وإنك لتسمع؛ كيف آب ركاب طائرة مثلًا إِلَى ربّهم جل وعلا عَنْدما أصاب طائرتهم خلل، فأخذت تهتز وتميل، وتتأرجح فِي الفضاء، الطيار لا يملك من أمره شيئًا؛ فضلًا عَنْ ركاب الطائرة؛ فهُنَالكَ يختفي الْإِلْحَاد، وتضجّ الألسنة بالدّعاء، وترغب القلوب إِلَى ربها بالصدق والإخلاص، ولم يبق للشرك والإِلْحَاد حينئذ وُجُود فِي مثل هذا الموقف العصيب.

العرب الَّذِينَ دعاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانوا مقرّين بوجود الله، وأنّه الخَالِق وحده للكون، كما كانوا يقرّون بأنّه وحده الرازق المحيي المميت؛ ولَكِنهم كَانوا يبعدون غيره معه، ولا يخلصون دينهم لله وحده، فلم يكونوا ملحدين، وإنما كَانوا وَثَنِيِّين، يعبدون مع الله تبارك وتعالى غيره، أو يعبدون غير الله تبارك وتعالى؛ ولَكِنهم يثبتون خالقًا للكون، ورازقًا للخلق، ومدبرًا للأمر.

وأما الملحد؛ فإنه ينكر ذَلِكَ كلَّه، ينكر أن يكون للخلق خالقًا، وللوجود موجدًا، وللصنعة صانعًا.

فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لم يجادلهم فِي وُجُود تبارك وتعالى؛  لِأَنَّهُم كَانوا مقرين به، والقرآن كذَلِكَ، لم يصرف كثيرًا من الوجوه القرآنية فِي إثبات ذَلِكَ لِأَنَّهُم ينكرونه، فهم كَانوا يقرون به؛ وإنما اتخذ إقرارَهم بوجود الله تبارك وتعالى وسيلةً لِجَعْلِهِمْ يقرون بتوحيد الألوهية لله رب العالمين.

فوجود الله تبارك وتعالى تقره الفطرة السليمة.

ولِذَلِكَ كما قَالَ ابن أبي العز رحمه الله تعالى فِي «شرح الطحاوية»:

التَّوْحِيدُ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَوَّلُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ يَقُومُ فِيهِ السَّالِكُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ؛ أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ: «شِهَادَةُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، لَا النَّظَرُ، وَلَا الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَلَا الشَّكُّ، كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِأَرْبَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ.

الذين قَالوا: إن أول واجب هو النظر هم الأشاعرة، كما ذكر ذَلِكَ الباقلانيُّ فِي «الإنصاف».

الذين قَالوا: إنهُ القصد إِلَى النظر هُمْ: الجويني ومَنْ أَخَذَ بقوله، كما ذُكِرَ فِي «الإرشاد».

وأما القول بأنه الشك؛ فهذا مذهب المعتزلة، كما قرره القاضي عبد الجبار فِي «الأصول الخمسة».

أَرْبَابُ الْكَلَامِ الْمَذْمُوم ذهبوا إِلَى أن معرفة الله تعالى كَسْبِيَّةٌ نظرية، فأوجبوا النظر، أو القصد إِلَى النظر، أو الشك؛ على اختلاف فرقهم كما مر. 

وهذا كله مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف؛ من أن أول واجب على العبيد: عبادة الله، وأن معرفة الله تعالى حاصلة ضرورة فِي كل إنسان بفطرته التي فطره الله عليها، كما قَالَ شيخ الإسلام رحمه الله فِي «درء تعارض العقل والنقل»؛ فإن الخلق كلهم؛ مؤمنهم وكافرهم يلجؤون إِلَى الله تعالى حالة الشدة والكرب، وذَلِكَ يدل على أن الخلق كلهم على اختلاف أديانهم مفطورون على معرفة الله سبحانه، والإقرار به؛ ولَكِنْ قد يصيب الفطرةَ ما يحرفها عَنْ الصراط المستقيم، فتحتاج حينئذ إِلَى النظر؛ لأن الأصل أن معرفة الله يقينية ضرورية، ليست بكسبية ولا نظرية، يعني لا يحصلها العقل، وإنما يقر بها القلب، جعلها الله رب العالمين فطرية ضرورية، ليست بكسبية ولا نظرية؛ ولكن قد يشك الإنسان فِي هذه الْحَقيقة الكبرى؛ بل حقيقةِ الْحَقائق، فيحتاج حينئذ إِلَى النظر.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في «مجموع الرسائل الكبرى»:

الصحيح أَنَّهُا فطرية ـ يعني: معرفة الله تعالى ـ ؛ ولَكِن قد يعرض للفطرة ما يُفسِدها، فتحتاج حينئذ إلى النظر؛ فهي فِي الأصل ضرورية، وقد تكون نظرية.

وهذا ما نحن فِيه، نحن لا نحاول إثبات ما هو ثابت؛ فإن المؤمن يقر بفطرته بوجود الله تبارك وتعالى، لا يحتاج إلى دليل فوق فطرته؛ ولَكِن قد تتلوث الفطرة، وقد تنحرف، فيحتاج حينئذ إِلَى النظر، يعني إِلَى الدليل، سواء كَانَ دليلًا عقليًا، أو كَانَ دليلًا يُنَبَّهُ عليه الحسُّ، أو يُلْفَتُ إِلَيْهِ بما عليه الإنسانُ فِي فطرته الأصلية، إِلَى غير ذَلِكَ؛ كما يحدث إِذَا ما أصاب الإنسانَ كربٌ؛ فإنه حينئذ يعود إِلَى فطرته، يعود إلى ما هو مركوز فِي فطرته من المعرفة اليقينية الضرورية بوجود الله رب العالمين.  

فقد يحتاج الإنسان إلى التنبيه إلى ذلك عندما تفسَدُ فطرته، كما هو الواقع عند كثير من الناس في هذا الزمان الذي تكالبت فيه على المسلمين وغيرِهم شياطينُ الإنس والجن، تزيِّنُ لهم الإلحاد والشك في وجود الله تبارك وتعالى، فيحتاجون إلى أمثال هذه الأدلة العقلية؛ من أجل تثبيت الإيمان عند المؤمن؛ حتى لا يدركه شك، ومن أجل إقامة الحجة على الملحد الذي قد نَفَى وجود الله تبارك وتعالى.

ذهب عامة السلف إِلَى أن معرفة الله تعالى فطرية ضرورية، وذهب جمهور المتكلمين من المعتزلة ومَنْ تَبِعَهُم من الشيعة الإمامية والزيدية والأشاعرة والماتريدية إِلَى أن معرفة الله جَلَّ وَعَلَا كسبية نظرية.

وقد حكى الإجماعَ على أَنَّهُا فطريةٌ ضروريةٌ ابنُ أبي العز فِي «شرح الطحاوية» فقال:

أَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ: «الشَّهَادَتَانِ».

لأنه مركوز في فطرة العبد أن الله عز وجل موجود، فهو لا يحتاج إلى إقامة دليل على ذلك، لا يحتاج إلى النظر، ولا إلى قصد النظر؛ فضلًا عن أن يحتاج إلى الشك في وجود الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذَلِكَ يُثْبِتُ وُجُودَ الله بالدليل العقلي حتى لا يكون مقلدًا؛ لِأَنَّهُم قَالَوا: لو أن الإنسان نشأ فِي بيئة نظيفة، فِي وسط قومٍ مسلمينَ مُوَحِّدِينَ برب العالمين، فخرج موحدًا؛ يَقُولون: هذا مقلد، وإيمان المقلد لا يصح!! وهذا من أعجب العجب؛ فماذا تريدون؟!!

يَقُولون: لكي يصح إيمانه؛ ينبغي عليه أن يشك فِي وُجُود الله أولًا، ثم عليه أن يجتهد بعد ذَلِكَ فِي إثبات وُجُود الله بالطريقة الكسبية النظرية!!

وهذا على الضد مما عليه الفطرة الإنسانية.

فالحمد لله الَّذِي هدانا من هذه المضائق كلها، ونسأل الله أن يديم علينا فضله، إنَّهُ على كل شيء قدير، وأن يزيدنا منه.

في كتاب «الوجود الْحَقّ» بحثٌ عَنْ السببية.

في هذا البحث: أَنَّهُ منذ امتياز هذا الإنسان بالإدراك، وإشراق أشعة عقله على الوجود تساءل ولا يزال عن مبدئه ومنتهاه، فهو يتساءل؛ من أين أتى؟

وإلى أين يصير؟

وهو إذ ينصرف فكره إِلَى أن وروده المباشر إِلَى هذا العالم، إنما كَانَ من رَحِمِ أمه، أو من نطفة أبيه؛ لا يقتنع بهذة النظرة السطحية القريبة دون النظر إِلَى المبدأ الأول، والبحث عَنْ السبب الأساسي التي ترجع إِلَيْهِ جميع الأَسْبَاب.

لهذا الدافع العميق الممتزج بالنفس البشرية، والذي ولد معها، وما زال يلازمها؛ كَانَ الجواب عَنْ هذا السؤال شُغُلَ المحققين الشاغل، فنشأت أحكام مختلفة ونظريات متباينة، وكان منهم مخطىء ومصيب، غير أننا إِذَا نظرنا إِلَى ما بين أيدينا من السماء والأرض؛ نرى أن المطر ينهمر من سحاب، وأن الثمر يحصل من شجر، وأن الشجر ينبت من الماء والتراب، وأن الماء ينشأ من عُنْصُرَيْ «الْأُكْسُجِينْ وَالْهَيْدُرُوجِين»، ولم يشاهد الإنسانُ منذ فَتَحَ عينيه على الوجود أن حادثًا حَدَثَ من غير سبب، أو أن شيئًا وجد من غير مُوجِد، حتى أضحى هذا المعنى بحكم الواقع القاهر لا يَتَصَوَّرُ العقلُ خلافَه، ولا يطمئن إِلَى غيره، ولا يأبى الإقرارَ به إلا عقلٌ مريضٌ شأنَ المعتوهين، أو عقلٌ قاصرٌ شأنَ الطفل الَّذِي يَكْسِرُ الإناء ثم يَقُول: إنَّهُ انكسر بنفسه؛ لِأَنَّهُ يخشى العقاب، فإذا قيل له: من كسر هذا؟ يَقُول: هو الَّذِي انكسر!! كسر نفسه!!

ولِذَلِكَ وجدنا ذَلِكَ العربي قد أدرك هذه السببية بفطرته النقية، فنادى نداءه المشهور: البعرة تَدُلّ على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج؛ أفلا تَدُلّ على الصانع الخبير؟!!

بهذا الواقع الصريح، والإدراك القاهر، وجَرَيَانِ الحوادث أبدًا على هذا القانون ـ يعني: قانون السببية ـ؛ أضحى هذا المبدأ مُسَلَّمًَا به؛ حتى فِي كتب الفلسفة، وسمي بمبدأ السببية، وهو أول مبادىء العقل المديرة للمعرفة؛ لِأَنَّهُ أساس الأحكام العقلية والمحاكمات المنطقية، ولو الْتَفَتَّ إِلَى كلماتك التي تخاطب بها الناس صباح مساء، والأحكام التي تنظم بها شؤون حياتك، لو التفتَّ إِلَى ذَلِكَ؛ لوجدته كله لا يخلو فِي أي مرحلة من المراحل من الاستناد إِلَى مبدأ السببية.

إذًا فقولنا: «لا بد لكل حادثٍ مِنْ مُحْدِثْ» أمرٌ يقينيٌّ مُسَلَّمٌ به، ولا يقبل العقل غيره، وبالتالي مُحَالٌ على حادث أن يحدث نفسه، أو أن يحدث بذاته، وعلى شيء أن يوجَدَ بغير موجد، وإِلَيْهِ الإشارة فِي القرآن الكريم بقوله تعالى: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ (35»).

فبناءً على هذه القاعدة تقول: إن عالمنا هذا مِنْ أرض وجبال، وشجر ودواب، وكواكب وشموس؛ لا بد له من محدث، وأن هذه الحوادث الفرعية الكثيرة مندفعة عَنْ أَسْبَاب - أي ناتجةٌ عَنْها -، وهذه الأَسْبَاب مندفعة عَنْ أَسْبَاب أخرى أقلَّ من الأولى، ولا بد أن نصل بالنتيجة إِلَى سبب لجميع هذه المسبَّبَات، ومُحْدِثٍ لجميع هذه الْحَادثات؛ لأننا كلما رجعنا إِلَى الأصل الَّذِي انْدَفَعَتْ عَنْه المسبَّبَاتُ؛ قَلَّت العواملُ الدافعة، حتى نصل أخيرًا إِلَى مسبِّبٍ واحد؛ كنظرك إِلَى أغصان الشجرة المتعددة المتشابكة، فكلما ذهبت تبحث عَنْ أَسْبَابها؛ ذهبت إِلَى قليل من كثير، حتى تنتهي إِلَى ساق واحدة، وإنك تجد لهذه أمثلة كثيرة هي من الظهور بمكانٍ لا تحتاج معه إِلَى الوقوف الطويل وضرب الأمثال.

إذًا؛ فإنكار محدث للحوادث وموجِدٍ للوجود، تناقضٌ مع العقل، وإقامة على الخطأ، ولعله لهذا الإلزام المنطقي الَّذِي لا مناص منه سمي ب «الواجب الوجود»، حفاظًا على حرمة العقل من أن يوصم بالتخليط والتناقض، أو بالبلاهة والتبلد، إذ يستحيل أن ينبثق الوجود من العدم.

هذا؛ وإن قدم المبدأ، أو قولَ كثيرين به، أو ظهورَه بِمَظْهَرِ البديهية؛ لا يقضي عليه، يعني لا يقال حينئذ: إنَّهُ من الرجعية!!

هذا مبدأ قديم!!

أو قَالَ به المتقدمون!!

إِلَى غير ذَلِكَ مما يأخذ به كثير من الزائغين، فيقولون: إنما نرده لِأَنَّهُ من كلام القدماء!!

ولَكِن هذا لا يخرجه من الْحَقّ إِلَى الباطل ما دام العقل يمليه، وما دام الواقع يؤيده، إلا إِذَا كَانَ الداعى إِلَى الإنكار استكبارًا على كل قديم، أو عقوقًا للمنطق السليم، أو جَرْيًا مع كل هوى سقيم، شأنَ الحمقى والمرضى والمغرورين.

وقد يَقُول قائل: إن الْمُحْدِثَ لِجَميعِ الحوادث هو الطبيعةُ!!

وسيأتي الكلام عَنْها إن شاء الله فِي مبحث مستقل.

أو يَقُول: إِذَا أقررنا بوجود الخَالِق؛ فمن الَّذِي أوجد الخَالِق؟!

ولَكِنَّ الَّذِي نريد أن نخلص إِلَيْهِ الآن واضحًا مجزومًا به: «لا بد لكل حادث من محدث».

إذًا؛ فلا بد لهذا العالم من خالق، ونسمي هذا المبدأ: «القاعدةَ الأولى».

هنا قد يثير بعض النقاد قضية قِدَمِ العالم وحدوثه، فيقول: إن هذه القاعدة تستقيم إِذَا سَلَّمْنَا بحدوث العالم، ولم نَقُلْ بِقِدَمِه.

فهُنَالكَ من يَقُول بقدم العالم، أي أَنَّهُ لا أول له، فيُعْطُون العالَمَ الأوليةَ! وهذه الأولية المطلقة لله رب العالمين وحده، فهو الأول الَّذِي قبله شيء.

فلأنهم يفرون من الحدوث الَّذِي لا بد أن يقروا به، فإذا أقروا به أقروا بوجود الخَالِق المحدث؛ من أجل أن يفروا من إثبات وُجُود الخَالِق تبعًا لِخَلْقِ الخلقِ وحدوث العالم؛ قَالوا: هو قديم!!

فيثيرون هذه القضيةَ قضيةَ قِدَمِ العالَمِ وحدوثِهِ، فيقولون: إن هذه القاعدة تستقيم ـ يعني أن لكل حادث محدثًا ـ، تستقيم إِذَا سلَّمْنا بحدوث العالم، ولم نقل بقدمه. 

والبرهان ملزم بالقول بحدوث العالم ونفي قدمه؛ فقد قيل بناءً على ملاحظة الحركةِ والسكون: إن دورة من الفلك، إما أن تكون شفعا أو وترًا، فإن كَانَت شفعًا؛ فقد أتمت عددًا فرديًا، وإن كَانَت وترًا؛ فقد أتمت عددًا زوجيًا.

إذًا؛ فالعدد السابق على كِلَا الحالين محدود، ولما كَانَ محدودًا فهو حادث قطعًا.

يعني: الآن الفلكُ يدور، فأنت تقول: هذه الدورة، إما أن تكون عددًا فرديًا مع ما قبلها، أو عددًا زوجيًا، وفي الحالات كلها؛ سواءٌ كَانَ عددًا فرديًا أم كَانَ عددًا زوجيًا، فالعدد مُتَنَاهٍ؛ إِذًَا فلا بد أن يكون له بدء.

فَعَلَى كلا الحالين؛ فهذا محدود، ولما كَانَ محدودًا فهو حادث قطعًا، يعني وُجِدَ بعد أن لم يكن موجودًا، فهذه الدورات نهائية، وليست بلا نهائية، مهما بلغ عدده، فما دامت نهائيةً؛ فإذًا لم تكن قَبْلُ؛ فمن الَّذِي أوجدها؟

ومن الَّذِي أعطى هذه الْأَجْرَامَ حركتها؟

فهذا كله يدل على وُجُود الخَالِق.

لو استمر الناقد فقال: إن أصل العالم «هَيُولَاهُو القَدِيم»، هذه نظريةٌ عَنْدهم «نَظَرِيَّةٌ الْهَيُولَا»، يَقُولون: والحركة طارئة.

فيقال لهم: من أين طرأت الحركة؟!!

فهذا إذًا إقرار منهم صريحٌ بوجود مرجِّحٍ آَخَرَ أَثَّرَ على العالَمِ بايجاد الحركة؛ بل هو استعجالٌ فاصلٌ للإقرار بوجود خالقٍ للعالم، فالناقد بين أمرين: إما أن يرجع إِلَى القول بالحدوث؛ وحينئذ لا بد عليه أن يعترف بالخَالِق، أو أن يقر بوجود المرجح، وهو اعتراف أَيْضًا بالخَالِق. إذًا؛ فنقد الناقدِ وَاهٍ، لم يصل إِلَى القرارة، ولم يثبت على النقد.

والقول بقدم العالم باطل، لا يسنده برهان؛ بل الَّذِي يسنده البرهان كما مَرَّ هو القول بحدوث العالم، لا القول بقدمه، وهكذا تنهار المادية الجدلية التي أتى بها ماركس، والتي أُسِّسَتْ عليها الشيوعيةُ فِي الدِّيَالِكْتِيكْ وما أشبه، فِيما يتعلق بالمادية الجدلية.

هذا كله باطل كما ترى بأقل حجة عقلية، فالمذهب كله ينهار، ولا يثبت على النقد بهذه الحجة العقلية اليسيرة؛ فتنهار المادية الجدلية التي تقول بِقِدَمِ العالم هربًا من الإقرار بوجود الخَالِق الْعَظِيم، ويَتَفَلَّتُون بقولهم بِقِدَمِ العالَمِ من البرهانِ الْمُلْزِمِ والدليلِ القطعي.

قد يَسْتَغْرِبُ بعض الناس القول بأنها تنهار بهذه السرعة، وبمثل هذا البرهان الَّذِي يُظَنُّ فِيه أَنَّهُ ليس بشيء؛ ولَكِنْ إنَّ عِقْدًا فِي نظام - أَيْ فِي سِلْك -، عقد بحباته فِي سلك، لو بلغ ألف حبة؛ لانفرط كله بحل العقدة الأولى، وإن لم تُرِدْ ذَلِكَ فاحذف من المادية الجدلية قولها بِقِدَمِ العالم، حيث ثبت أن ذَلِكَ باطل، فأول حكم تهدمه من أحكامها الأساسية هو إِلْحَادها فِي الخَالِق، وعند الإقرار بخالق الوجود تنشأ أحكام أخرى.

فهذا هو الأساس الَّذِي أسسوا عليه المادة فِيما يتعلق بالشيوعية جملة، فإذا انهار هذا الأساس انهارت كلها، فتُهْدَمُ أحكامُها الفرعيةُ دون أن يكون النقد موجهًا إِلَى الفروع مباشرة؛ لأنك هدمت الأصل فانهارت الفروع تبعًا، كما أن الشجرة تتهاوى فروعُها كلُّها إِذَا ما حَطَّمْتَ جِذْعَهَا، فإنه إِذَا ما انهار ذَلِكَ الجذع تهاوت الفروعُ كلُّها بصفةٍ عَفْوية؛ كالبناء الشامخ يَتَدَاعَى جملةً واحدةً بِنَقْضِ أساسِه، ولقد صَوَّرَتِ الآيةُ الكريمةُ التاليةُ هذا المعنى بتلك الصورةِ المحسوسةِ الرائعةِ؛ «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109»). 

إذًا فهذا العالم حادث غير قديم قطعًا، وما قَالَ بقِدَمِهِ مَنْ قَالَ إلا فرضًا للرأي بغير برهان! هكذا!! ومجانبةً للحق دون تبيان، ولما كَانَ حادثًا فلا بد له من محدث كما مر فِي القاعدة الأولى، فهذه هي السببية؛ فهذا العالم حادث، وما دام العالم حادثًا فلا بد له من محدث.

قال القاسمي فِي «دلائل التوحيد»:

العالَم إما أَنَّهُ أحدث ذاته، أو حدث بغير أن يحدثه غيره وبغير أن يحدث هو نفسه، أو يكون أحدثه غيره، فإن كَانَ هو أحدث ذاته؛ كَانَ علة لنفسه متقدمًا عليها، فلزم كونه قبل أن يكون، وهو محال، وأيضا فإنه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته، وهذا محالٌ باطلٌ بالمشاهدة والحس، وإن كَانَ خرج عَن العدم إِلَى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته أو يخرجه غيره فهذا أَيْضًا محال؛ لِأَنَّهُ لا حال أولى بخروجه إِلَى الوجود من حال أخرى، ولا حال هُنَاكَ أصلًا؛ فإذًا لا سبيل إِلَى خروجِهِ وخُرُوجُهُ مشاهَدٌ مُتَيَقَّنٌ، وإذا بطل أن يخرج العالم بنفسه، وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره؛ فقد ثبت الوجه الثالث ضرورةً؛ إذ لم يبق غيره الْبَتَّةَ؛ فلا بد من صحته، وهو: أن العالم أخرجه غيره من العدم إِلَى الوجود، وهو بالضرورةِ الخَالِقُ جَلَّ وَعَلَا.

أشار إِلَى ذَلِكَ ابن حزم فِي الفِصَل – كما قال القاسمي -.

وثَمَّةَ فِي باب الانحصار الملزِمِ طريقةً أخرى أشار لها بعض المحققين؛ قَالَ:

إن وُجُود الأشياء إما بالاتفاق والصدفة، وإما بالضرورة، وإما بالقصد والإرادة، وكلٌّ من الأول والثاني باطل - أي بالاتفاق والصدفة، هذا باطل -، وكذَلِكَ بالضرورة، هذا باطل، وإما بالقصد والإرادة، فهذا هو الَّذِي يثبت لا محالة.

لا يمكن أن يثبت العالم بمحض الاتفاق والصدفة؛ لِأَنَّهُ يقتضي وُجُود معلول بلا علة، ولا يمكن أن يكون بالضرورة؛ لِأَنَّهُ يقتضي أن الأشياء على ما هي عليه الآن، كَانَت كذَلِكَ منذ الأزلِ، والواقعُ على خلاف ذَلِكَ، وحينئذ؛ كيف توزعت عَنْاصر العالم على نسبها المعلومة؟

إذًا؛ كَانَ الذهب أقل من الحديد، وكان الحديد أقل من الصلصال. وكيف اسْتَنْسَبَتِ الكرةُ الأصليةُ فِي خَوَاصِّ مَوَادِّها وصِفَاتِها ومَقَادِيرِها، وتوزعت على مقتضى حاجة الأحياء وانتشارها ونموها؟ وكيف نشأت الحياة من الجماد؟

ما ذَلِكَ إلا لأن كل حي قائم بعناية خالقٍ ضابطٍ للكل؛ فالعالم مخلوق، فثبت الخَالِق الأزلي.

وهذه الطريقة من الأدلة الْعِلْميةِ، والْعِلْمُ الْحَقّ دليلٌ على الإله الْحَقّ، كما قَالَ القاسمي غفر الله له.

دلالة العقل من الأدلة الْعِلْمية، ودلالة العقل على أن الممكن محتاج إِلَى موجد ومؤثر، وهي دلالته على وُجُود الخَالِق، فنقول: هل وُجُود هذه الكائنات بنفسها أو وجدت صدفة؟

فإن قلتَ: وجدت بنفسها؛ فمستحيل عقلًا، ما دامت هي معدومة؛ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟!!

المعدوم ليس بشيءٍ حتى يوجَد وحتى يوجِد!!

إذًا لا يمكن أن توجِدَ نفسَها بنفسِها.

وإن قلتَ: وجدت صدفة؛ فهذا مستحيل أَيْضًا، ويقال: أنت أيها الجاحد؛ هل ما أُنْتِجَ من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها؛ هل وُجِدَ هذا صدفةً؟!!

فيقول: لا يمكن أن يكون.

فكذَلِكَ هذه الأطيار والجبال، والشمس والقمر، والنجوم والشجر، والرمال والبحار وغيرُ ذَلِكَ، لا يمكن أن توجد صدفة أبدًا، كما مر فِي قصة أبي حنيفة مع السمنية، وهم من أهل الهند الَّذِينَ ناظروه فِي إثبات الخَالِق الْعَظِيم سبحانه وتعالى.

قال ابن كثير رحمه الله:

قوله تعالى: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ»، أَيْ: أَوُجِدُوا مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ؟!

أَمْ هُمْ أَوْجَدُوا أَنْفُسَهُمْ؟!

أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا؛ بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَنْشَأَهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا.

إذًا؛ الفطرة تقر بوجود الخَالِق الْعَظِيم، وهذا يقين فِي الفطر السليمة المستقيمة؛ ولَكِنها قد تنحرف، فتحتاج حينئذ إِلَى إقامة الأدلة النظرية العقلية على إثبات وُجُود الباري جَلَّ وَعَلَا كما مر فِي تقرير قانون السببية؛ فإن هذا لا يمكن أن يدفع، وهو مُفْضٍ لا مَحَالَةَ إِلَى إثبات وُجُود الباري جَلَّ وَعَلَا.

في كتاب «الفيزياء ووجود الخَالِق»:

قال بعض الْمُلْحِدِينَ: إنَّهُ ليس هُنَاكَ من خالق؛ لِأَنَّهُ لا دليل على ذَلِكَ من عقل ولا حس، ويقول بعض المؤمنين من المسلمين وغير المسلمين: بلى؛ إن للكون خالقًا؛ لَكِنهم يوافقون الْمُلْحِدِينَ فِي أَنَّهُ لا دليل عقليَّ على وُجُوده، وأن التصديق بوجوده أمر يعتمد على الإيمان القلبي فَحَسْب، لا الدليلِ العقلي، أو هو أمر يعتمد فَحَسْب على تصديق الرسل فِيما أتوا به.

أما كون الإقرار بوجود الخَالِق أمرًا إيمانيًا قلبيًا؛ فلا شك فِي ذَلِكَ، وأما كونه أمرًا تُعَزِّزُهُ رسالاتُ الله؛ فهذا لا شك فِيه أَيْضًا؛ ولَكِن مَنْ قَالَ: إن الإيمانَ والْعِلْمَ لا يجتمعان؟!

ومن قَالَ: إن القلب يطمئن إِلَى ما لا يدل عليه عقل؟!

من قَالَ هذا؟!

ليس فِي لغة العرب ولا استعمالات القرآن هذا التقابل الشائع بين القلب والعقل؛ بل إن ما يسمى فِي الاصطلاح الشائع «عقلًا» هو الذي يسمى فِي القرآن الكريم ولغة العرب «قلبًا».

وأما العقل؛ فإنما هو فِي لغة العرب والاستعمال القرآني: فِعْلُ القلب، فالقلب هو المحل، والعقل هو ما يَحْدُثُ فِي ذَلِكَ المحل؛ لِذَلِكَ لم تأت كلمة «العقل» فِي القرآن الكريم إلا فعلًا، ولم تأت اسمًا قط.

لم يأت العقل هكذا اسمًا في القرآن قط، حتى حين تُسْتَعْمَلُ فِي غير القرآن الكريم اسمًا؛ فإنما المقصود به: المصدر، فتقول: عَقَلَ عَقْلًا، كما تقول: قَرَأَ قِرَاءَةً، وقد يقال: «العقل» ويرادُ به «القلب» من باب تسمية الشيء بمحله كما مَرَّ، وقد يكون العكس أَيْضًا.

إذًا؛ فبالقلب يفكر الإنسان، وبه يتأمل ويَسْتَنْتِجُ، وبه يُحِبُّ ويَكْرَهُ، وغَنِيٌّ عَنْ القولِ أن المقصود بالقلب هنا ليس هو مجردَ ذَلِكَ العضوِ الحسي، وإنما المقصود به أساسًا: الروح التي بها تكون كل أنواع الوعي البشري.

وأما الجسم - قلبًا أَسْمَيْنَاهُ أم دِمَاغًا -؛ فليس مصدرًا ولا محلًا للوعي؛ لَكِنَّ له به تَعَلُّقًا لِتَعَلُّقِهِ هو بالرُّوح.

إذًا مَنْ قَالَ: إن القلب يطمئن إِلَى ما لا يدل عليه العقل؟!!

إن الإيمانَ الصحيحَ المُعْتَبَرَ هو الإيمانُ القائمُ على الْعِلْم، وإلا لم يكن هُنَالِكَ مِنْ فَرْقٍ بينَ مَنْ يُؤْمِنُ بوجودِ خالقٍ ومَنْ يُؤْمِنُ بوجودِ خالِقَيْنِ ومَن لا يؤمن بخالقٍ أصلًا؛ لأن كلًا منهم يمكن أن يَقُول: إن اعتقاده أمر قلبي لا يخضع للمناقشة العقلية، ولم يَعُدْ مِنْ حَقِّ أحدٍ منهم أن يَقُول للآخر: إنك مُخْطِأٌ فِي اعتقادك!!

فَمَنْ قَالَ: إن القلب يطمئن إِلَى ما لا يدل عليه العقل؟!!

لو كَانَ الأمر كذَلِكَ راجعًا إِلَى القلب وحده لكان لكلٍّ حجة، فالذي يعتقد بوجود إله يَقُول: دلني القلب!!

والذي يعتقد بوجود إلهين أو ثلاثة يَقُول: القلب دلني أَيْضًا، ولا مَدْخَلَ للعقل ههنا؛ فلا يَقْبَلُ حجةً من أحد!!

وكذَلِكَ الَّذِي ينكر وُجُود الإله أصلًا فيقول: دلني على إنكارِهِ القلبُ!!

فحينئذ لا يكون للحجة العقلية معه مجال!!

وهذا من أعجب ما يمكن أن يقرره مقرر؛ لأن القرآن سلك مسلكًا عقليًا فِي إثبات وُجُود الرب تبارك وتعالى فِي كثير من الآيات؛ « أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ (35») هذا مسلك عقلي يَلْفِتُ الإنسان إِلَى قانون السببية - كما مر -، مِنْ أَنَّهُ لا بد لكل موجود من موجد، ولا بد لكل صنعة من صانع، ولكل مخلوق من خالق، وهذا مقرر ثابت، كما مر ذكر بعض الأمثلة عليه مِنْ أن الإنسان إِذَا وُجِدَ فِي ساحة المسجد، ثم وُجِدَ بعد ذَلِكَ فوق سطح المسجد؛ فإننا لا نستغرب منه ذَلِكَ؛ ولكن لو وُجِدَ حَجَرٌ فِي ساحة المسجد، ثم وجدناه فوق سطح المسجد؛ فإننا نقول: مَن الَّذِي صعد بهذا الحجر إِلَى هذا المكان؟ لِأَنَّهُ لا بد لِمَا لا حَرَكَةَ له مِنْ مُحَرِّكٍ، وكذَلِكَ لا بد لكل موجود من مُوجِدٍ، ولا بد لكل مخلوق من خالق، ولا بد لكل صنعة من صانع.

نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا ويقيننا، وأن يزيدنا إيمانًا ويقينًا.

وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.