الأدلة على وجود الله عز وجل 2

للاستماع للمحاضرة

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فقد مر بحول الله وقوته ذكر بعض المقدمات في الرد على الملحدين، وهذه المقدمات – كما مر – هي مقدمات ونتائج في الوقت عينه؛ فإنها تحمل الأدلة التي تقطع الشبهات وتزيحها؛ بل وتنسفها بفضل الله جل وعلا.

وقد سلك العلماء – رحمهم الله - من المتقدمين مسالك في إثبات وجود الخالق العظيم، والْحَقُّ أن وجود الله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى إثبات؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل اليقين على وجوده جل وعلا مركوزًا في نفس كل إنسان، فهذا أمر لا يحتاج إلى برهان وبيان؛ ولكنَّ الفطرة أحيانًا يصيبها ما يصيبها من الالتواء والغموض والغبش، فتحتاج حينئذ إلى الدليل، وهذا ما سلكه العلماء المتقدمون، فذكروا أدلة وجود الله تبارك وتعالى.

وقد مَرَّ أن أكبر الأدلة على وجود الله تبارك وتعالى: هو دليل الفطرة؛ فإن الله تبارك وتعالى فطر الخلق على إثبات وجوده جل وعلا؛ بل وعلى إثبات كثير من صفاته التي هي له وحده جل وعلا؛ كصفة علو الذات وما يتعلق بذلك من صفات الكمال لله جل وعلا.

وقد ذكرنا بفضل الله تبارك وتعالى بعض ما يتعلق بدليل الفطرة على وجود الرب تبارك وتعالى، وكذلك ما يتعلق بقانون السببية الذي لا يمكن لأحد ممن ينكر وجود الله تبارك وتعالى أن يتوقف فيه؛ فضلًا عن أن يرده؛ إلا إذا كان معاندًا مكابرًا.

يقول بعض الْمُلْحِدِينَ – كما ذَكَرَ صاحبُ كتاب «الفيزياءُ ووجودُ الخَالِق» -، يقول بعض الْمُلْحِدِينَ: إنَّهُ ليس هُنَالكَ من خالق؛ لِأَنَّهُ لا دليلَ على ذَلِكَ من عقلٍ ولا حِسٍّ، ويقول بعضُ المؤمنين من المسلمين وغير المسلمين: بلى؛ إن للكون خالقًا، ويريد بقوله: «يقول بعض المؤمنين»: يعني ممن يؤمنون بوجود الخالق تبارك وتعالى؛ لذا جاز له أن يجمع المسلمين مع غيرهم في قوله: «مِنَ المسلمين وغير المسلمين»، يقولون: بلى؛ إن للكون خالقًا؛ ولَكِنهم يوافقون الْمُلْحِدِينَ فِي أَنَّهُ لا دليلَ عقليَّ على وُجُوده، وأن تصديق الإنسان بوجود الله تبارك وتعالى أمر يعتمد على الإيمان القلبي فحَسْب، لا على الدليل العقلي، أو هو أمر يعتمد فحَسْبُ على تصديق الرسل فِيما أَتَوْا به، وأما العقل؛ فبمبعدة عن ذلك، ولا يستطيع العقل – كما يقول هؤلاء!! – أن يثبت وجود الرب جل وعلا.

أما كون الإقرار بوجود الخَالِق أمرًا إيمانيًا قلبيًا؛ فلا شك فِي ذَلِكَ، وأما كونه أمرًا تُعَزِّزُهُ رسالاتُ الله تبارك وتعالى؛ فلا شك فِي ذلك أَيْضًا؛ ولَكِن مَنْ قَالَ: إن الإيمانَ والْعِلْمَ لا يجتمعان؟!

ومن قَالَ: إن القلب يطمئن إِلَى ما لا يدل عليه عقل؟!

وليس فِي لغة العرب ولا استعمالاتِ القرآنِ الكريم هذا التقابلُ الشائعُ بين القلب والعقل؛ بل إن ما يسمى فِي الاصطلاح الشائع «عقلًا» هو الذي يسمى فِي القرآن الكريم ولغة العرب «قلبًا».

وأما العقل؛ فإنما هو فِي لغة العرب والاستعمالِ القرآني: فِعْلُ القلب، فالقلب هو المحل، والعقل هو ما يَحْدُثُ فِي ذَلِكَ المحل – أَيْ في القلب -؛ ولِذَلِكَ لم تأت كلمة «العقل» فِي القرآن الكريم إلا فعلًا، ولم تأت اسمًا قط فِي القرآن الكريم، حتى حين تُسْتَعْمَلُ فِي غير القرآن الكريم اسمًا؛ فإنما المقصود به: المصدر، فتقول: عَقَلَ عَقْلًا، كما تقول: قَرَأَ قِرَاءَةً، وقد يقال: «العقل» ويرادُ به «القلب» من باب تسمية الشيء بمحله، وقد يكون العكس أَيْضًا.

وإذًا؛ فبالقلب يفكر الإنسان، وبه يتأمل ويَسْتَنْتِجُ، وبه يُحِبُّ ويَكْرَهُ، وبه يعقل.

وغَنِيٌّ عَنْ القولِ أن المقصود بالقلب هنا ليس هو مجردَ ذَلِكَ العضوِ الحسي الصُّنُوبَرِيِّ الذي يوجد في الجهة اليسرى من الصدر، وإنما المقصود به أساسًا: الروح التي بها تكون كل أنواع الوعي البشري.

وأما الجسم - قلبًا أَسْمَيْنَاهُ أم دِمَاغًا -؛ فليس مصدرًا ولا محلًا للوعي؛ لَكِنَّ له به تَعَلُّقًا لِتَعَلُّقِهِ هو بالرُّوح.

فمَنْ قَالَ: إن القلب يطمئن إِلَى ما لا يدل عليه العقل؟!!

إن الإيمانَ الصحيحَ المُعْتَبَرَ هو الإيمانُ القائمُ على الْعِلْم، وإلا لم يكن هُنَالِكَ مِنْ فَرْقٍ بينَ مَنْ يُؤْمِنُ بوجودِ خالقٍ ومَنْ يُؤْمِنُ بوجودِ خالِقَيْنِ ومَن لا يؤمن بخالقٍ أصلًا؛ لأن كلًا منهم يمكن أن يَقُول: إن اعتقاده أمرٌ قلبي لا يخضع للمناقشة العقلية، وحينئذ لا يقوم لك عليه برهان ولا سلطان؛ لأنه يُرْجِعُ ذلك إلى القلب وحده، فيقول: هذا ما أوقن به بقلبي، هذا ما هداني قلبي إليه، فلا يُخْضِعُ هذا اليقين القلبي للمناقشة العقلية، وحينئذ لا يعود مِنْ حَقِّ واحدٍ منهم أن يَقُول للآخر: إنك مُخْطِأٌ فِي اعتقادك!! فيقبل كل اعتقاد كل بهذا التسليم المرفوض عقلا وفطرة وحسا ولو كَانَ الأمر كذَلِكَ لكان من حق من شاء أن يؤمن بما شاء من غير تثريب عليه واذا كَانَ بعض الْمُتَدَيِّنِينَ من غير المسلمين يلجؤون إِلَى مثل هذه الأقوال المتهافتة ليستروا بها عيب اعتقاداتهم الفاسدة لِأَنَّهُا ـ أي: هذه الاعتقاداتُ الفاسدة ـ لا يقوم عليها برهان عقلي فِي الأصل فما هكذا ينبغي أن يكون موقف المؤمن المسلم وهو يقرأ فِي كتاب ربه: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ».

«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم أَنَّهُ الْحَقّ مِنْ رَبِّكَ فِيؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ».

فالْعِلْم أولًا ثم الايمان المترتب على هذا الْعِلْم ترتبا تعبر عَنْه فاء السببية «فَيُؤْمِنُوا بِهِ»، ثم يأتي الاخبات المترتب على الايمان: «فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ»، ويقرأ المؤمن المسلم فِي عشرات من ايات القران المجيد تشديد النكير على الَّذِينَ يتبعون الظنون والاهواء ويتكلمون بغير علم ويدعون فِي مجال أصول الدين دعاوى لا تسندها الأدلة والبراهين ويعدهم من الجاهلين بل من غير العاقلين ويتوعدهم بأشد أنواع الوعيد؛ «تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ».

«أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ».

«إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23»).

«هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ».

إذا قلت هذا قَالَ بعضهم: نحن لا ننكر أن يكون على وُجُود الصانع تعالى دليلٌ أيُّ دليلٍ، وإنما نقول: إنَّهُ لا يوجد عليه دليل من النوع الَّذِي يسمى ب«الدليل الْعِلْمي» بالمصطلح الْحَدِيث، أو «الدليل المنطقي البرهاني»؛ لَكِن هذا ليس بالكلام الدقيق؛ إلا إِذَا فُهِمَ هذان الدليلان ـ يعني «الدليل الْعِلْمي» بالمصطلح الْحَدِيث، وكذَلِكَ «الدليل المنطقي البرهاني» ـ إلا إِذَا فُهِمَا فهمًا ضيقًا يجعلهما خاصين ببعض العلوم، وإلا فما معنى الدليل الْعِلْمي؟!

وما الأدلة التي يقبلها الْعلماء الطَّبِيعِيُّونَ من فِيزيائيين وكميائيين وأحيائيين وغيرهم؟!

إنهم يقبلون الدليل الحسي المباشر، فكل ما شَهِدَ الحِسُّ بوجوده شهادةً مباشرةً فهو موجودٌ لا شك فِي وُجُوده، وهذا دليل مقبول عَنْد العقلاء كافة، وله فِي الدين مكانة كبيرة، كما مَرَّ أن المنهج الْعِلْمي الْحَدِيث فِيما يتعلق بالبحث الْعِلْمي فِي أمور المادة وأسرارها فِي هذا العصر هو منهج قرآني بطبيعته، وقد مر التدليل على ذَلِكَ من آيات ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.

فهذا الَّذِي يذهبون إِلَيْهِ فِي أمر المشاهَدة المباشِرَةِ؛ هذا أمر مقبول عَنْد العقلاء كافة، وله فِي دين الإسلام مكانةٌ كبيرةٌ؛ لَكِن الأدلة الْعِلْمية ليست محصورة فِي هذا الدليل، فما كل ما يُصَدِّقُ الْعلماءُ الطَّبِيعِيُّونَ أو عامةُ العقلاءِ بوجوده هو مما شوهد مشاهدة مباشرة بالحواس المجردة والآلات المساعِدة؛ بل إن الإصرار على عدم قبول دليلٍ سوى الدليل الحسي المباشر؛ هو نفسه من علامات عدم العقلانية، ولو أن الْعلماء الطَّبِيعِيِّينَ وسائر العقلاء لم يقبلوا دليلًا غير هذا الدليل؛ لَمَا تقدم عِلْمٌ من العلوم؛ بل ولا قامت لعلم قائمة؛ ولهذا فإن القرآن الكريم حين يستنكر حصر الأدلة فِي هذا الدليل، وينعى على المطالبين به فِي غير موضعه؛ إنما يقرر حقيقةً يُسَلِّمُ بها كل العقلاء من بني البشر؛ «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ»، فهم يريدون أمرًا مشاهدًا محسوسًا، فلا يؤمنون إلا بذَلِكَ، «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ»، وكذَلِكَ فِي قول ربنا تبارك وتعالى: « إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36»)، فهم يُرْجِعُون الأدلة كلها إِلَى هذا الدليل الحسي الَّذِي يرونه مباشرةً ويَخْضَعُ للحس، فَنَعَى عليهم القرآنُ الْعَظِيم هذا الَّذِي قَالَوه، وقد قَالَوه من قبل، فإن الْمُلْحِدِينَ المعاصرين الَّذِينَ ينكرون وُجُود الرب تبارك وتعالى لم يأتوا بدليل.

النوع الثاني من الأدلة التي يقبلها العقلاء وسائر الْعلماء على وُجُود الأشياء؛ هو: الاستدلال على الغائب غير المشاهد بالواقع المشاهد، وهذا الاستدلال أنواع ترجع كلها بصورة أو أخرى إِلَى الاستنباط المنطقي المعروف؛ لَكِن نتائج الاستنباط تصدق أو تكذب، وتقوى أو تضعف بحسب صدق المقدمات، ومدى الثقة بهذا الصدق.

والأدلة على وُجُود الخَالِق كثيرةٌ؛ لَكِن المتعلق منها بدلالة الكون المشهود على خالقه ثلاثة أدلة؛ هي: «البرهان الكوني، ودلالة الآيات، ودليل العناية، ويلحق به الدليل الخُلُقِي».

وهذه البراهين تُجْعَلُ عَنْد الإتيان بها أساسًا لمناقشة الْمُلْحِدِينَ الْفَلَاسِفَةِ الفيزيائيين الغربيين وغيرهم؛ لأن هَؤُلَاءِ إنما يصدرون من قواعد علمية.

وأما الَّذِينَ يلحدون إِلْحَاد بطن وفرج، أو الَّذِينَ يسيرون كالأنعام السائمة خلف من يضلهم من الناس؛ فهَؤُلَاءِ لا يُحَكِّمُون عقلًا ولا يطلبون دليلًا؛ وإنما هم يتبعون كل ناعق فِي كل واد!!

وبما أن معظم الَّذِينَ تعرضوا لمسألة وُجُود الخَالِق منهم – أي من هَؤُلَاءِ الفيزيائيين والْفَلَاسِفَة الغربيين من الْمُلْحِدِينَ - لم يركزوا إلا على البرهان الكوني.

إذًا فليكن جُلُّ الْهَمِّ مصروفًا إِلَى البرهان الكوني.

البرهان فِي اللغة: هو ما يدل على حقيقة، فإذا قلت لإنسان: فِي المكان الفلاني شجرة؛ فسألك: ما برهانك على ذَلِكَ؟

قلت: إني أرى خُضْرَةَ ألوانِها، وأسمعُ حَفِيفَ أوراقها، أو أَشُمُّ شَذَى أزهارِها، فتعال هنا فانظر إِلَيْهِا.

أو قد تقول: إنني لم أرها؛ لَكِن فلانًا وهو عَنْدي وعندك ثقة قد أخبرني بوجودها، أو غيرَ ذَلِكَ مما يعده الناس فِي حياتهم اليومية أدلةً، فهذا برهان.

فالبرهان فِي اللغة: هو ما يدل على حقيقة.

وأما فِي الاستعمال الاصطلاحي المنطقي؛ فإن البرهان هو أَيْضًا: ما يدلك على حقيقة؛ لَكِن دلالته محصورة فِي نوع معين تخرج عَنْه دلالةُ الحواسِّ ودلالةُ الأخبارِ وغيرِها.

فإذا قلت لطالب: ما برهانك على أن مجموع زوايا المثلث مائة وثمانون درجة؟

فلا يُعَدُّ برهانًا قوله: لقد قستُ كل ما وجد من مثلثات فوجدتها كذَلِكَ، ولن يُجْدِيَ قوله: إن أستاذ الرياضة أنبأنا بذَلِكَ.

البرهان بالمعنى الاصطلاحي هو: أن تستخلص أو تستنتج الْحَقيقة المرادَ برهانُها من حقيقة أو حقائق أخرى هي مقدمات البرهان، بحيث يلزم كل مَنْ يُسَلِّمُ بها - أي بالمقدمات - أن يسلم بالنتيجة التي تؤدي إِلَيْها، وإلا ناقض نفسه؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ بالمقدمات التي تؤدي إِلَى نتيجة حتمية، ثم لما جاءت النتيجة؛ رفض النتيجة؛ فإنَّهُ حينئذ يكون متناقضًا؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ بالمقدمات التي أدت إِلَى النتيجة.

فإذا سلم الإنسان مثلًا بأن كل ما يُسْكِرُ فهو خمر مُحَرَّمٌ شُرْبُهُ، وسلم بأن الشراب الفلاني مسكر؛ فيلزمه القول بأنه خمر محرم؛ لأن المقدمتين قد أَدَّيَتَا إِلَى هذه النتيجة التي لا يمكن أن يردها؛ فإنه يقال له: ما تقول فِي هذه المقدمة: كل ما يسكر فهو خمر محرم شربه؟

يقول: أنا أقر بذَلِكَ.

فيقال له: وما تقول فِي هذه المقدمة: هذا الشراب مسكر؟

فيقول: نعم، أنا أقر بذَلِكَ.

فيقال له حينئذ: هذا الشراب خمر محرم.

فهذا ما أدى إِلَيْهِ استعمال النتيجتين، وهو قد أقرهما.

فإذا قَالَ: لا أقر بذَلِكَ؛ وقع فِي التناقض.

فأنت ترى إذًا أن البرهان المنطقي لا بد أن يستند إِلَى حقائق لا تأتي عَنْ طريق المنطق، وذَلِكَ بدهي؛ لِأَنَّ مجال المنطق هو القضايا، أي: هو أن يستنتج المرء قضية أو قضايا من قضية أو قضايا أخرى، وليس مجاله الدلالة على الواقع الوجودي، فهذا مجال الحواس؛ ظاهرةً كَانَت أم باطنة.

 فَبَعْدَ أن تقول: هذه الحواس أو غيرُها من الأدلةِ الدالةِ على الواقعِ كلمتَها؛ يأتي البرهان أو المنطق ليقول: إِذَا كَانَت القضية الفلانية والقضية الفلانية قضايا صحيحة؛ فإنه يلزم عَنْهُمْا قضيةٌ ثالثة هي كذا وكذا.

لَكِن هذه الْحَقيقة التي دلنا عليها البرهان المنطقي، قد تكون مما يمكن إدراكه إدراكًا مباشرًا بالحواس.

وكم من حقيقة استنتج الْعلماء النظريون بالمنطق العقلي الرياضي ضرورةَ وُجُودها، ثم جاء الْعلماء التجريبيون فأكدوا بالآلات الحسية وُجُودها بعد أن أثبتت بالمنطق العقلي، وأنها ضرورة واقعة، ثم يأتي بعد ذَلِكَ التجريبيون من الْعلماء ليأكدوا بالآلات الحسية وُجُود تلك الْحَقيقة التي أقرها العقل بعملياته المنطقية من قبل.

البرهان الكوني هو برهان منطقي بالمعنى الاصطلاحي، أي أَنَّهُ يلزم كل من يسلم بمقدماته أن يسلم بنتيجته، وهي: أن للكون خالقًا؛ وإلا ناقض نفسه.

ليس هذا فحسب؛ بل إن المقدمات التي تقود إِلَى تلك النتيجة هي مقدمات لا يسع العاقلَ إلا التصديقُ بها؛ لِأَنَّهُا إما من الْحَقائق الحسية أو من البدائه العقلية.

فإذًا؛ التدليل على وُجُود الخَالِق بهذه الطريقة المنطقية لا يعني أَنَّهُ لا يمكن أن يُعْرَفَ بغيرها؛ فقد مر دليل الفطرة، وهو غير خاضع لهذا كله؛ فإن الإنسان بفطرته يؤمن بوجود ربه، فهذا لا مرية فِيه؛ ولِذَلِكَ لم يَشْغَل القرآنُ فِي كثير من الآيات الناسَ بجدالهم فِي وُجُود الخَالِق الْعَظِيم؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل ذَلِكَ مركوزًا فِي فِطَرِ الخلق؛ وإنما استعمل ما يقرون به من توحيد الربوبية وإثبات الخَالِق الْعَظِيم؛ استعمله كمقدمة لإلزامهم بصرف العبادة لله رب العالمين وحده؛ لأنهم إذا كانوا يقرون أن الله هو خالق الخلق، وهو رازقهم، وهو مالكهم، وهو مدبر الأمر، وهو الذي يحيي ويميت؛ إذًا فهو الذي يستحق العبادة وحده؛ لأن غيره مما يَعْبُدُونَ وَمِمَّنْ يَعْبُدُونَ لا يَمْلِكُ مِنْ ذلك شيئًا.

إذًا؛ فهو يَقُودُهُم بتوحيد الربوبية عندما يقرون به – وهم يقرون به -؛ لذلك لم يقع فيه الجدال ولا النقاش، والأنبياء لم يُرْسَلُوا إلى أممهم من أجل أن يُثْبِتُوا لهم أن الله هو خالق الخلق ورازقهم ومالكهم ومدبر أمورهم؛ لأنهم يقرون بذلك أصلًا كما بَيَّنَ القرآن العظيم، فإنه بَيَّنَ لنا أننا لو سَأَلْنا الكافرين من أبي جهل إلى مَن دونَه؛ من الذي خلقك؟ سيقول: الله.

من الذي خلق السماوات والأرض؟

سيقول: الله.

بل مَن الذي خلق الآلهة التي تَعْبُدُونَ من دون الله؟

فسيقول ويقولون: الله.

إذًا هذا لا خلاف عليه؛ ولكنْ هم يَصْرِفُون العبادة لله ولغير الله، فيأتي هاهنا استعمالُ ما أقروا به من توحيد الربوبية، فيقال لهم: ما دمتم تقرون أن الله هو خالقكم وخالق آبائكم الأولين، وهو الذي يملك الأمر ويدبره، وهو الذي يحيي ويميت؛ فلماذا تصرفون العبادة لمن دونه؟!!

فهذا ما استعمله القرآن، وكذا الأنبياءُ قَبْلَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.

إذًا؛ التدليل على وجود الخالق بالطريقة المنطقية؛ لأننا نتعامل مع الملحدين، هؤلاء قوم ينكرون وجود الله تبارك وتعالى، وأكثرهم – كما مر – يقولون: نحن لا نؤمن إلا بما دلت عليه الحواس، وينكرون ما وراء ذلك!!

وكثير منهم أيضًا يقول: إنما نؤمن بالعقل، ولا نخضع إلا لبرهان العقل!!

فهؤلاء عندما يُرَادُ جدالُهم؛ فلا بد من الإتيان بأمثال هذه الحجج؛ لأنهم لا يستطيعون لها دفعًا لو كانوا منصفين، وأما المكابر المعاند؛ فهذا لا تنفع معه حجة.

فهذه الطريقة المنطقية عَنْد الإتيان بها للتدليل على وُجُود الخَالِق الْعَظِيم؛ فهذا لا يعني أَنَّهُ لا يمكن أن يُعْرَفَ تعالى بغيرها، أو لا يمكن أن يعرف معرفة مباشرة؛ كَأنَ يكون الإيمان به أمرًا فطريًا كما مر؛ بل ضُرِبَ المثالُ على ذَلِكَ بأُولَئِكَ القوم الَّذِي كَانوا فِي القديم يركبون البحر، فإذا هاجت الأمواج وعلت، وأتى من أمر العواصف ما يهدد حياتهم وسفينتهم بالغرق؛ فإنهم حينئذ يخلصون العبادة لله تبارك وتعالى، ويدعون الله مخلصين له الدين.

وكذَلِكَ مَرَّ المثال فِي العصر المعاصر: لو أن قومًا كَانوا فِي طائرة، وكَانُوا جميعًا من الْمُلْحِدِينَ، فوقع بها خلل، فاضطرب أمرها ومِيزَانُهَا، ولم يستطع طَيَّارُها أن يتحكم فِيها؛ فإنهم حينئذ يتخلون تمامًا عَنْ إِلْحَادهم، ويلجئون إِلَى فاطر السماوات والأرض، ويعودون إِلَى ربهم داعينه أن يُنَجِّيَهُمْ مما حَلَّ بهم من الكرب الْعَظِيم.

فهذا الأمر أمر فطري؛ بل مَرَّ ما هو أعجب من ذَلِكَ: ذلك الملحد الذي جيء به إلى التلفاز المصري في إحدى قنواته ليناظر عن إلحاده ويدافع عنه، في غمرة النقاش أو في حدته قال: واللهِ!!

فيقال له: أنت لا تؤمن بالله، لا تؤمن بوجوده، يعني هو لا يشرك بالله؛ هو لا يؤمن بوجود الله، ومع ذلك يقسم به!!

فهَؤُلَاءِ فِي الجملة ربما كَانوا من المرضى النفسيين الَّذِينَ يحتاجون إِلَى العلاج وراء أسوار البِيمَارِسْتَان، لا أن تُدْفَعَ لهم الحجةُ بعد الحجةِ؛ سواء بحجج الفطرة، أو بحجج الخلق، أو بحجج العناية، أو الهداية، أو دليل الإرادة، أوِ غير ذَلِكَ من الأدلة الدالة على وُجُود الرب جَلَّ وَعَلَا.

ولَكِن هُنَالِكَ مَنْ أَفْسَدَهُ مَنْ حَوْلَهُ ممن يلقون له الشبه، سواء قرأها فِي كتاب، أو سمعها فِي محاضرة، أو أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِي موقعٍ من مواقع الْإِلْحَاديين على الشبكة العنكبوتية فاستقرت الشبهة فِي قلبه، فهذا يحتاج إِلَى المناظرة على هذا النحو الَّذِي نستعين الله عليه.

الإنسان قد يمر بتجربة تَنْزِعُ عَنْه حجاب الْإِلْحَاد والشك، فإذا الْحَقيقةُ مَاثِلَةٌ بين عَيْنَيْ بَصِيرَتِهِ يَسْتَيْقِنُهَا عَقْلُهُ كما يَسْتَيْقِنُ الْحَقائقَ الحسيةَ الشاخصةَ أمامَ عينيه، حتى الَّذِي يستنتج قضية وُجُود الباري من وُجُود الْحَقائق الكونية؛ لا يلزمه أن يسير بهذه الخطوات الطويلة التي تتطلبها صناعة المنطق؛ بل قد يختصرها كلَّها فِي لحظة من لحظات الصفاء العقلي، يقر بوجود الرب الكريم جَلَّ وَعَلَا.

فلئن كَانَ ما يُقَرَّرُ هَاهنا برهانًا على وُجُود الخَالِق تعالى؛ فما هو بالبرهان الوحيد، وما هو بالخطوة النهائية فِي طريق الباحث عَن الله، فإنَّ مُهِمَّتَنَا هنا هي أنْ نُدَلِّلَ أن قضية وُجُود الخَالِق قضيةٌ يمكن الاستدلال على صدقها بالبرهان المنطقي، وأن كل ما ذكره بعض المفكرين - مَنْ آَمَنَ منهم بوجود الخَالِق ومن كفر - مِنْ حُجَجٍ يُدْلُونَ بها على أن ذَلِكَ غير ممكن؛ هي حجج باطلة لا تقوم لها عَنْد النظر الصحيحِ قائمةٌ.

لهذا البرهان عدةُ صِيَغٍ، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو غالط، ومنها ما هو فِي شكل الدليل المنطقي الاستنباطي، ومنها ما هو فِي شكل الدليل الجزئي المباشر.

فلنبدأ بالدليل فِي شكله المنطقي الصحيح الَّذِي اهتم به أكثر علماء أصول الدين من المسلمين، ومن اللَّاهُوتِيِّينَ والفلاسفةِ الغربيين أَيْضًا؛ لَكِنه يصاغ هنا صياغة مفصلة، نرجو أن تساعِدَ على إيضاحه.

يسير البرهان على مراحل، لكلٍّ منها مقدماتٌ تؤدي إِلَى نتيجة، ثم تلك النتيجة تؤدي مع مقدمات أخرى إِلَى نتيجة ثانية، وهكذا حتى نصل إِلَى ما نبتغي بحول الله وقوته.    

في هذا الكون حوادث، والْحَادث كما مر هو: ما وُجِدَ بعد ما كَانَ معدومًا، وهو أَيْضًا: الممكن؛ فكل ممكن حادث.

فالممكن: ما يستوي فِي حقه الوجود والعدم، فإذا وجد فهذا حادث، يعني هو يحتاج إِلَى من يعطيه وُجُوده: غيث ينزل، زهر يتفتح، طفل يولد، إنسان ينمو ويكبُر، آخر يمرض ثم يهلك، أجسام تبنى وتتركب، وأخرى تفنى وتتحلل.

اللبنات كُوِّنَ منها الأولياتُ ثم الذراتُ، ومن الذرات تتكون الْجُزَيْئَاتُ، ومنها تتكون العناصر، ثم المركبات، ثم الأجسام المادية المشاهدة.

قالوا: الأوليات؛ لِأَنَّهُم توصلوا بالحساب الدقيق وبالتجارب الْمَعْمَلِيَّةِ وغيرها إِلَى أنَّ هُنَالِكَ ما هو أَدَقُّ من الذرات، فقالوا: هذه الأوليات هي التي تُكَوِّنُ الذرات، الذراتُ تتحد فِي جزيئات، الْجُزَيْئَاتُ تُكَوِّنُ العناصرَ، هذه العناصرُ إِذَا ما اتحدت كونت المركبات، ثم تأتي هذه الأجسام المادية المشاهدة.

من الغازات الأولية تتكون مجراتٌ تتكون منها نجوم، ومن المجرات مجموعاتُ مَجَرَّاتٍ، ولكلٍّ من هذه الكائنات ساعةُ ميلادٍ ويومُ هلاكٍ، فمَن الَّذِي أوجدها؟

ومن الَّذِي يُفْنِيها؟

هل جاءت من العدم؟!!

 وقد مر أن ذلك لا يقبله العقل، فهذا مستحيل عقلًا؛ لِأَنَّهُا وجدت، فهل يمكن أن تكون قد أوجدت نفسها؟!!

كَانَت معدومة، ثم أوجدت نفسها؟!!

هي لم تكن موجودة أصلًا؛ فكيف توجِدُ نفسها؟!!

ومعنى ذَلِكَ: أَنَّهُا تكون سابقة على وُجُودها!!

لا بد لها إذًا مِنْ سببٍ أحدثها؛ لَكِنَّ هذا السبب لا يمكن أن يكون الشيءَ الْمُحْدِثَ نفسَه؛ إذ كيف يسوغ عقلًا أن يكون الْحَادث المعين سَبَبًَا فِي إحداث نفسه؟!!

قد مر هذا بفضل الله فِي المقدمات.

لا بد إذًا أن يكون سببه شيئًا غيرَه؛ لَكِن إِذَا كَانَ هذا السبب الخارجي هو نفسه حادثًا كالأَسْبَاب الطبيعية التي نشاهدها؛ فإنه سيحتاج كالْحَادث الأول إِلَى سبب، يعني: الَّذِي كَانَ قبله سيحتاج إِلَى سبب، وسيحتاج سببه إِذَا كَانَ حادثًا إِلَى سبب، وهكذا؛ لَكِن هذا التسلسل فِي العلل والمؤثرات مستحيل عقلًا.

لا بد إذًا من أن يكون السبب الْحَقيقي للحوادث سَبَبًَا غير حادث، وهو ما سماه المتقدمون من علمائنا ب«واجب الوجود»، أي: لا بد أن يكون شيئًا أزليًا ليس لوجوده ابتداء، أي: هو الأول الَّذِي ليس قبله شيء.

فالأول الَّذِي ليس قبله شيء لا يكون حادثًا، وأما الأول الَّذِي قبله شيء؛ فلا شك أَنَّهُ يكون حادثًا، بمعنى أَنَّهُ لم يكن ثم كَانَ، كَانَ معدومًا ثم وجد؛ فمَن الَّذِي أعطاه وُجُوده؟

يمتنع أن يكون هو أعطى نفسه الوجود كما مر.

إذًا لا بد مِنْ مُوجِدٍ له.

التسلسل والدَّوْرُ، هذا باطل كما هو معلوم؛ إذًا لا بد أن يكون هذا السبب الأزلي ليس لوجوده ابتداء، ولا يمكن أن يكون هذا السبب الأزلي شيئًا سوى الله.

فَلْنُرَكِّزْ على هذا البرهان، فَلْنَتَبَيَّن أن علم الفيزياء لم يبطل شيئًا من مقدمات هذا البرهان؛ بل زادها رسوخًا، وهذه المقدمات تقود لا محالة إِلَى النتيجة التي هي وُجُود خالق للكون.

فللنظر في برهان الآيات:

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مبينًا الفرق بين برهان الآيات والبرهان الاستنباطي:

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَاتِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ - يعني به «الاستنباط المنطقي» -: أَنَّ " الْآيَةَ " هِيَ الْعَلَامَةُ وَهِيَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ عَيْنَ الْمَدْلُولِ،

لَا يَكُونُ مَدْلُولُهُ أَمْرًا كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَطْلُوبِ وَغَيْرِهِ؛ بَلْ نَفْسُ الْعِلْم بِهِ يُوجِبُ الْعِلْم بِعَيْنِ الْمَدْلُولِ، كَمَا أَنَّ الشَّمْس آيَةُ النَّهَارِ؛ قَالَ تعالى: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً»، فالشمس آية النهار، فَنَفْسُ الْعِلْم بِطُلُوعِ الشَّمْس يُوجِبُ الْعِلْم بِوُجُودِ النَّهَارِ.

فهذا برهان الآيات.

وهنالك فرق بين برهان الآية والبرهان الاستنباطي المنطقي:

آيَاتُ الرَّبِّ تَعَالَى نَفْسُ الْعِلْم بِهَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ تَعَالَى،  لَا يُوجِبُ عِلْمًا كُلِّيًّا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَالْعِلْمُ يكَوْنُ بهَذَا مُسْتَلْزِمًا لِجِهَةِ الدَّلِيلِ؛ لأنه يكون مستلزمًا لهذا بجهة الدليل نفسها، فَكُلُّ دَلِيلٍ فِي الْوُجُودِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ، وَالْعِلْمُ بِاسْتِلْزَامِ الْمُعَيِّنِ لِلْمُعَيَّنِ الْمَطْلُوبِ أَقْرَبُ إِلَى الْفِطْرَةِ مِنْ الْعِلْم بِأَنَّ كُلَّ مُعَيَّنٍ مِنْ مُعَيَّنَاتِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ يَسْتَلْزِمُ النَّتِيجَةَ، وَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ هَذَا شَأْنُهَا. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

برهان الآيات هذا هو البرهان الَّذِي يستعمله القرآن الكريم؛ ليدل الناس على وُجُود الخَالِق وصفاته، فَيَستخدم برهان الآيات كما فِي قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقونَ (59»)؟!!

فهذا برهان الآية، هذه آية، وهي تَدُلّ كما ترى على المدلول دلالةً مباشرة.

«أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64»)؟!!

« أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم (74»).

برهان الآيات هذا لا يعتمد على قضية كلية.

تقول: إن كل حادث لا بد له من محدث؛ بل يعتمد على ما هو أقوى بداهة من العقل، وهو الْعِلْم بأمثال هذه الْحَقائق الجزئية المعينة، فَعِلْمُ الإنسان مثلًا بأنه مفتقر إِلَى من يوجده ويحدثه؛ أسبقُ عَنْده وأقوى بداهةً من أن يستدل عليه بقضية كليه.

تقول له: إنك حادث، وكل حادث لا بد له من محدث؛ فأنت لا بد لك من محدث.

هذا هو الاستدلال الاستنباطي المنطقي.

وأما دليل الآية فَفَوْقَ ذَلِكَ وأرفعُ منه.

 قَالَ شيخ الاسلام رحمه الله:

فليس الْعِلْم بِحُكْمِ الْمُعَيَّنِ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ الْعِلْم بِالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ، كَمَا أَنَّ الْعِلْم بِأَنَّ الْعَشرَةَ ضِعْفُ الْخَمْسَةِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْم بِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ لَهُ نِصْفِيَّةٌ، فَهُوَ ضِعْفُ نِصْفَيْهِ.

هذه قضية منطقية؛ ولَكِنَّ معرفتَك أنت بأن العشرة ضعف الخمسة سابقة على هذا، فهذا أمر كَأنَه فُطِرَ عليه الخلق.

فملخص ما يَقُوله شيخ الإسلام رحمه الله: هو أن النتيجة التي يؤدي إِلَيْهِا البرهان المنطقي هي: أَنَّهُ لا بد أَنَّهُ للكون من خالق أو محدث أو مسبِّبٍ؛ لَكِنه لا يدلك على عين هذا الخَالِق، وإنما يأتي لك بقضية كلية قد يختلف الناس فِيها، أي أَنَّهُ لا يدلك على أن هذا الخَالِق هو الله تعالى؛ ولِذَلِكَ لما أثبتوا بهذا البرهان الاستدلالي المنطقي وُجُود الخَالِق قَالوا: القوة العظمى التي تؤثر فِي الكون!!

القوى الفاعلة!!    

الإرادة الجازمة!!

وضلوا فِي هذا ضلالًا مبينًا.

وأما دلالة وبرهان الآيات؛ فهو يدلك على وُجُود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مباشرة، لا يدلك على قضية كلية يضل فِيها العقل ويزل فِيها الفهم.

فشيخ الإسلام رحمه الله لا يَقُول: إن الطريقة المنطقية ليست صحيحة؛ بل يصرح فِي كثير من كتاباته بأنها صحيحة؛ لَكِنه يرى أَنَّهُا لا تُوصِلُكَ إِلَى الْعِلْم بالذات الإلهية؛ بل إِلَى علمٍ بخالق أو محدث؛ هكذا بطريقة كلية.

وأما طريقة الآيات؛ فتدلك على عين الخَالِق سبحانه؛ كما يدلك صوت إنسان تعرفه على عينه، وكما يدلك شعاع الشَّمْس على عينها.

قد تقول للشيخ رحمه الله تعالى: إنني عرفت الشَّمْس أولًا، وعرفت أن لها شعاعًا، ثم لما رأيتُ الشعاعَ علمتُ بوجود الشَّمْس، وكذَلِكَ الأمر بالنسبة للصوت، فأنا عرفت الشخص أولًا، وعرفت تميزه بهذا الصوت الَّذِي هو صوته، ثم لما سمعتُ الصوتَ عرفتُ أَنَّهُ صوتُه.

وشيخ الإسلام يوافقك على هذا ولا ينكره.

يقول رحمه الله :

ثُمَّ الْفِطَرُ تَعْرِفُ الخَالِق بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ؛ فَإِنَّهَا قَدْ فُطِرَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ؛ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَهُ.

وإنما هي تعرفه بالفطرة قبل أن تأتي الآية، فلما جاءت الآية دلت عليه؛ لأنها أنشأت عند الإنسان معرفةً بأن هنالك خالقًا هو الذي خلقه.

هو يعلم ذلك فطرةً قبل أن تتلوث فطرته كما مَرّ، وهو إجماع أهل السنة من علمائنا عليهم الرحمة؛ أن معرفة الله تبارك وتعالى ضرورية فطرية، وليست بكسبية عقلية، معرفةُ الله تبارك وتعالى ضرورية، فإذا جاءت الآيةُ دَلَّتْكَ على ذلك، فأنت إذا اعْتَرَضْتَ عليه وقلتَ: أنت تضرب المثل بالشمس إذا ما رأيتُ ضوءها فقلت: أنا أستدل بهذا الضوء على الشمس؛ فيأتي من يقول: فلا بد من معرفة الشمس أولًا، وكذلك معرفة صاحب الصوت، فإذا ما سمعتُ صوته؛ استدللتُ بالصوت عليه.

فيقال: نعم، ولا ننكر ذَلِكَ، وأنت أَيْضًا تعرف الله قبل أن تأتي الآيةُ؛ لِأَنَّهُ مغروز فِي فطرتك أن الله عز وجل هو خالقُك وخالقُ الكون، وأنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى موجود.

رحمه الله رحمةً واسعة.

ما كان أَثْقَبَ فِكْرَهُ وَأَدَقَّ نَظَرَهُ!!

ما كان أَشَدَّ تَوْفِيقَهُ!!

رحمه الله رحمةً واسعة.

يقول رحمه الله:

ثُمَّ الْفِطَرُ تَعْرِفُ الخَالِقَ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَإِنَّهَا قَدْ فُطِرَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ؛ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَهُ؛ فَإِنَّ كَوْنَهَا آيَةً لَهُ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، وَتَصَوُّرَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ؛ فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَدْلُولُ مُتَصَوَّرًا؛ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، فَمَعْرِفَةُ الْإِضَافَةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَصَوُّرِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ؛ لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِالْإِضَافَةِ وَلَا كَوْنِهِ دَلِيلًا، فَإِذَا تَصَوَّرَهُ عَرَفَ الْمَدْلُولَ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ.

وقد مر في كلامه أيضًا رحمه الله أن الفِطَرَ يصيبها أحيانًا بعضُ الالتواء، يصيبها أحيانًا بعض الانحراف، فتحتاج حينئذ إلى النظر وإقامة الدليل.

فَيُفْهَمُ من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن الناس نوعان:

نوعٌ سليمُ الفطرةِ، يعرف الله عز وجل ويؤمن به، فمعرفته وإيمانه سابقان لمعرفته بالآيات؛ لَكِنه إِذَا رأى المخلوقاتِ عَرَفَ أَنَّهُا آياتٌ له، فمعرفته بالآيات تؤيد وتؤكد إيمانه ولا تنشأه، تؤكد الإيمان ولا تنشأه، يعني إِذَا جاءتك الآية من آيات الله رب العالمين فِي خلقه؛ فهذا لا يُنْشِأُ عَنْدك أن لهذا الكون خالقًا؛ لأنك تعرفه قبل ذَلِكَ، فإذا جاءت الآيةُ أَكَّدَتْ إيمانَك ولم تُنْشِأءهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ موجودًا قَبْلُ.

فهذا نوعٌ مِنْ نَوْعَي الناس: سليمُ الفطرةِ، يَعْرِفُ اللهَ عز وجل ويُؤْمِنُ به.

نوعٌ آَخَرُ حَدَثَ فِي فطرته خلل، فلم يَعُدْ يؤمن بوجود الخَالِق؛ لَكِنه إِذَا تأمل الآياتِ وَجَدَها دالةً عليه، فآَمَنَ بالله عَنْ طريق الآيات؛ لَكِن حتى هذا ما كَانَ لِيُؤْمِنَ لو لا أَنَّهُ كَانَ متصورًا للخالق قبل رؤيته للآيات، فلما رأى الآيات؛ رأى المناسبةَ بينها وبين ذَلِكَ الَّذِي تصوره، رأى دلالتها على وُجُود الخَالِق الَّذِي كَانَ قبل ذَلِكَ يتصوره ولا يؤمن به، يتصور وُجُوده ولا يؤمن به.

فحتى هذا الَّذِي يَقُول: إنَّهُ ملحد؛ هو متصور لوجود الخَالِق، فإذا جاءته الآية؛ أزاحت الانحرافَ والغَبَشَ مِنْ أجل أن يصل إِلَى حقيقة فطرته.

قال شيخ الاسلام رحمه الله:

إنَّ الْإِقْرَارَ بِالخَالِق وَكَمَالِهِ يَكُونُ فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا فِي حَقِّ مَنْ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ - أي على وجود الله تبارك وتعالى -، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْدَ تَغَيُّرِ الْفِطْرَةِ وَأَحْوَالٍ تَعْرِضُ لَهَا.

فهذا هو الواقع فِي هذا العصر الَّذِي عَمَّتْ فِيه الشبهاتُ وطَمَّتْ، وصار أهل الْإِلْحَاد والزيغ والتشكيك يَنْثُرُونَ ما عَنْدهم فِي كثير من وسائل الإعلام، يتلقفها كثير من الناس من غير وعي ولا فهم، فيقع لون من التشكيك؛ إن لم يقع الْإِلْحَاد بالإنكار والجحود، نسأل الله السلامة والعافية.

فكأن الآيات هي فِي حقيقتها تذكيرٌ للإنسان بأمر مستقر فِي فطرته، وهو مع ذَلِكَ لسببٍ من الأَسْبَاب يجحده؛ لَكِن مثل هذا لا يَبْدَهُهُ ما فِي الآيات من دلالةٍ على وُجُود الخَالِق؛ بل لا بد من أن يُبَيِّنَ له كونها آياتٍ، وهذا ما نجده فِي بعض آيات القرآن الكريم، كما فِي قوله تعالى: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36»).

إن خلق الإنسان آية دالة على وُجُود خالقه، فالقرآن الكريم يدعو المنكر لوجود الخَالِق أن يفكر فِي هذه الْحَقيقة التي يعرفها أكثرَ من معرفته لغيرها من الْحَقائق.

فهذا الدليل القرآني على وُجُود الخَالِق لا يتحدث عَنْ حوادث كثيرة، ولا يتحدث عَنْ العالم كله، كما هو الشأن فِي مقدمات القياس المنطقي؛ بل يتحدث عَنْ هذا الْحَادث الواحد الَّذِي يعلمه كلُّ مخاطَبٍ أكثرَ من علمه بأي حادث آخر؛ لكي يَدُلَّهُ على أن خلقه هذا آيةٌ دالةٌ على وُجُود خالقه، فإنه يدعوه للتفكير فِيه، ويُعِينُهُ على ذَلِكَ بأسئلة عَنْ نفسِه يَعْرِفُ كيف يجيب عَنْها؛ لَكِنه إِذَا أجاب عَنْها الإجابة الصحيحة؛ قَادَتْه إجابَتُهُ إِلَى رؤية ما فِي نفسه من دلالةٍ على وُجُود خالقه؛ لِأَنَّهُ إِذَا قيل له: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ»؟!

يَقُول: لا يمكن أن يُخْلَقُوا من غير شيء.

فأجاب.

«أم هم الخَالِقون»؟!

يَقُول: لا يمكن أن يكونوا هم خالِقين لأنفسهم.

فيقال له: فمن الَّذِي خلقهم؟

فحينئذ يُقِرُّ.

فتأخذه هذه الأسئلة إِلَى هذه الإجابة المطمئنة التي تستقر فِي النفس، ولا يمكن أن تدفعها النفسُ أو أن يُنْكِرَها العقل؛ فإن هذه الأسئلة كما ترى حتى فِي صِيغَتِها البلاغيةِ أسئلةٌ اسْتِنكَارِيَّةٌ؛ لأن الإجابة عَنْها بديهية فطرت عليها العقول، فما ينبغي لأحد أن يجهلها؛ «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ»؟!

 هذا استفهام استنكاري، الغرض منه: «النفي»، يعني: لم يُخْلَقُوا من غير شيء.

وكذَلِكَ: «أم هم الخَالِقون»؟!  هذا أَيْضًا استفهام استنكاري، والغرض البلاغي منه: النفي أَيْضًا.

فكأن القرآن الكريم يَقُول لهذا المنكر: إِذَا لم يكن الله هو الَّذِي خلقك، وخلق هذا الكون مِنْ حَوْلِكَ؛ فهل خُلِقْتَ من غير شيءٍ خَلَقَكَ؟!! أي: هل جئت من العدم المحض؟!

سيقول كلُّ عاقل فِي نفسه: كلا؛ فإن هذا مستحيل.

أو أنك أنت الَّذِي خلقت نفسك؟!!

سيقول: كلا؛ فإن هذا يبدو أكثرَ استحالَةً.

هل كنت أنت الَّذِي خلق هذه السماوات والأرض؟!!

سيقول: كلا؛ فالقول بغير ذَلِكَ مكابرة.

فهذه حجة فطرية يدركها الناس بعقولهم، وهذه طريقة القرآن، قرر القرآن مقدماتها فِي شكل أسئلة استنكارية.

فهذه طريقته فِي تقرير كل حقيقة معروفة بالبدهيات العقلية؛ يقرر بسؤال استنكاري ليدل على أن منكرها ينكر البدائه؛ بل إنَّهُ ينتزع منه الإجابة الصحيحة، فيقال له: أَجِبْ، فيأتي هذا السؤال من أجل أن ينتزع منه الإقرار بلسان نفسه.

«أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»؟!!

« أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14»)؟!!

«أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16»)؟!!

إنَّهُا لَحُجَّةٌ فطرية؛ لِذَلِكَ أثرت تأثيرًا بالغًا فِي بعض مَنْ سَمِعَها ممن كَانَ كافرًا فِي زمان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثم هداه الله تعالى، كما مر فِي حديث البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه؛ لَمَّا سمع آيات سورة الطور يتلوها الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب، قال: "فذلك – أي حين سمعها – كاد قلبي أن يطير، وذلك أولَ ما وقر الإيمان في قلبي"؛ لأن العاقل لا يمكن أن يكابر في هذا، والفطرة السوية لا بد أن تذعن لهذا البرهان الفطري.

هذه الحجة الفطرية القرآنية - التي هي دليل الآيات - يمكن وضعها هي الأخرى فِي صيغة من الصيغ المنطقية العقلية المعروفة، وذَلِكَ أن الحجج المنطقية ليست محصورة فِي الاستنباط، أو ما كَانَ يسميه الْعلماء من علمائنا المتقدمين ب«قياس الشمول»؛ بل هُنَالكَ حجج أخرى منطقية عقلية صحيحة يستعملها الناس فِي علومهم؛ بل فِي حياتهم اليومية، وإن لم يصوغوها الصياغات المنطقية.

من هذه الحجج: ما يسمى ب«القياس الاستثنائي».

الحجة القرآنية هذه يمكن وضعها فِي هذا الشكل المنطقي؛ كَأنَ نقول مخاطِبِينَ الملحدَ: أنت تعلم من نفسك أنك حادثٌ وُجِدْتَ بعد أن لم تكن، فإما أن تكون قد أَوْجَدْتَ نفسك، أو وُجِدْتَ من العدم، ومن المستحيل أن توجِد نفسك، ومن المستحيل أن توجَدَ من العدم؛ إذًا فقد أَوْجَدَكَ شيءٌ، هذا الموجدُ إما أن يكون أنت نفسَك، أو يكونَ غيرَك.

من المستحيل أن تكون أنت الَّذِي أوجدت نفسك؛ إذًا لا بد أن يكون شيء سواك هو الَّذِي أوجدك، إما أن يكون هذا الَّذِي أوجدك أن يكون مثلك فِي حاجته إِلَى من يوجده أو لا يكون، لا يمكن أن يكون مثلك؛ إذ ما قيل عَنْك سيقال عَنْه أَيْضًا؛ إذًا لا بد أن يكون خالقًا غنيًا بنفسه غيرَ مفتقرٍ إِلَى مَنْ يُوجِدُهُ، وهذا هو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

فهذا قَطْعٌ لِحُجَجِ أُولَئِكَ الجاحدينَ المنكرينَ لوجود رب العالمين، والأمر يسيرٌ كما ترى.

فهذا دليل الخلق ودليل الآيات.

دليل الخلق سماه علماؤنا أَيْضًا: «دليلَ الإبداع»، أو «دليلَ الاختراع».

ودليل الحدوث هو: العالَمُ متغيِّرٌ، وكل متغيرٍ حادثٌ، وكل حادث لا بد له من محدث، ولا بد أن يقف العقل عَنْد مُحْدِثٍ غيرَ حادثٍ، وإلا لزم الدَّوْرُ والتسلسل، وهما مُحَالَان.

هذا دليل الحدوث.

ذَلِكَ المحدث هو الله، وهو دليل الإمكان؛ أن الموجودات إما أن تكون واجبة الوجود جميعًا، وإما أن تكون ممكنة الوجود جميعًا.

إما أن تكون هذه الموجودات ممكنة، وإما أن تكون واجبة.

الواجب: ما كَانَ وُجُوده لذاته من حيث هي، بمعنى أَنَّهُا تكون - أي هذه الموجودات - غير حادثة، لم يسبقها فناء ولا عدم، وذَلِكَ مرفوض عقلًا؛ لِأَنَّهُا متغيرة، وكل متغير حادث، وهذا الحادث لا بد له من محدث، فلا يمكن أن تكون هذه الموجودات واجبةً بمعنى أنها ليست بمسبوقة بعدم، وأن وجودها ليس من غيرها، هذا مرفوض عقلًا.

لا يمكن أن تكون من القسم الثالث من أقسام المعلوم؛ لِأَنَّهُ لا يُذْكَرُ ههنا - وهو «المستحيل»-؛ لِأَنَّهُا موجودة.

والمستحيل: عدمه لذاته من حيث هي، وهي موجودة؛ إذًا هي إما أن تكون ممكنة، وإما أن تكون واجبة.

قد بطل أن تكون واجبة؛ فلا بد أن تكون هذه الموجوداتُ ممكنةً.

لا يمكن أن تكون لا أول لها!!

لا يمكن أن تكون غير مخلوقة!!

لا يمكن أن هذه الموجوداتُ أَعْطَتِ الوجودَ لنفسها، أو وُجُودُها من ذاتها!!

هذا مرفوض كما مَرَّ.

إذًا؛ هذه الموجودات كلها؛ لأن الَّذِي تعلمه مما هو موجود قسمان:

خالق ومخلوق.

ممكن وواجب.

مُحْدِثٌ وحادث.

مصنوع وصانع.

كل ما هو موجود لا يخرج عَنْ هذين القسمين؛ إما أن يكون ممكنًا، يعني أَنَّهُ لم يكن ثم كَانَ، ويصير إِلَى العدم بعد الوجود.

إذًا هو يحتاج إِلَى موجِدٍ، وهذا الموجد هو الواجب.

هذا هو الاستدلال العقلي المنطقي.

إذًا؛ هذه الموجودات إما أن تكون واجبة الوجود جميعًا، وإما أن تكون ممكنة الوجود جميعًا.

محال أن تكون واجبةَ الوجودِ كلَّها، ومحال أن تكون ممكنة الوجود، فبقي الفرض الثالث، وهو أن يكون بعضُها، يعني جميع الموجودات – بما في ذلك «الواجب» -، وهذا قبل التقسيم، فبعضها يكون ممكنَ الوجود، وهو هذا العالمُ، وواجبَ الوجود، وهو الذي أعطاها الوجود، وهو الله تعالى.

يقولون: هذا دليل الإمكان.

فالأدلة عند علمائنا المتقدمين كثيرة، أغنانا الله تبارك وتعالى بها عند مناقشة الملحدين من أن نَتَقَمَّمَ من هنا وهنالك؛ لكنَّ الذي يجحد ويكابر ويعاند؛ هذا لا تنفع معه حجة.  

في كتاب «الله جل جلاله» نَظَرٌ فِي حدوث الكون:

أول ظاهرة تَدُلّنا على الله: هي حدوث هذا الكون الَّذِي يدلنا على أن له محدثًا، وكلما تقدم الْعِلْم أكثر؛ أعطانا الدليل بشكل أدقَّ وأعْمَقَ وأكثرَ إقناعًا على هذه الظاهرة؛ بل ما قَدَّمَهُ الْعِلْم من أدلةٍ جَعَلَهَا فِي حكم البَدِيهِيَّةِ، إذ وضوحُ الأدلةِ وتَعَاضُضُهَا لم يُبْقِ مجالًا للشك فِيها، فقوانينُ الْحَرَارَةِ وقوانينُ الْإِلِكْتُرُون والطاقةُ الشَّمْسيةُ؛ قَدَّمَ كُلٌّ منها دليلًا واضحًا على هذه القضية، وبِتَضَافُرِ هذه الأدلةِ يَظْهَرُ الأمرُ ظهورًا لا يبقى معه مجالٌ للشك.

هذا سوى الأدلة الفطرية والعقلية والقطعية التي ذكرها الربانيون من الْعلماء فِي كل عصر.

فلْننظرْ في هذا الجانبِ الأول، وهو ما يتعلق بحدوث الكون.

والقوانين الطبيعية التي تَوَصَّلَ إِلَيْهِا علماء المادة التي أثبتت بطريقة قطعية حدوث هذا الكون، فقوانين الْحَرَارَة مثلًا؛ يَقُول بعض أُولَئِكَ الفيزيائيين - وهو رئيسُ قسمِ الفلسفةِ فِي جامعة السُّرْبُون قديمًا - في كتابٍ له، هو «مصيرُ البشريةِ»، يقول:


إن أحد وجوه النجاح الْعَظِيمة التي حققها الْعِلْم الْحَدِيث: ربط قانون «كَارْنُتْ كُلُوزْيُسْ»، وهو يُدْعَى أَيْضًا ب«القانونِ الثاني من قوانينِ التِّرْمُودَيْنَمِكْ»، أو «الدِّينَامِيك الْحَرَارِيّ».

قال: الَّذِي يُعْتَبَرُ مِفتاحَ فَهْمِنَا للمادة غيرِ الحية بحساب الاحتمالات، وقد أثبت الفيزيائي «بُولْتِزْمَانْ» أن التطور غيرَ الحيِّ وغيرَ القابلِ للانعكاس الَّذِي يفرضه هذا القانونُ يوافق تطورًا نحو حالاتٍ أكثرَ وأكثر احتمالًا، تتصف بازدياد التناظر وتوازن القدرة، وهكذا فإن الكون يميل نحو التوازن، حيث تزول جميع عدم التناظرات الموجودة فِي الوقت الحاضر، وتقف جميع الحركات، ويسود الظلام التام.

عَبَّرَ «لُوسْكِيلْ» عَنْ هذا القانون، وكيف أَنَّهُ يُثْبِتُ به أن لهذا الكون بدايةً.

هَؤُلَاءِ ماديون طبيعيون فِيزيائيون!!

هؤلاء ليسوا بمسلمين؛ بل منهم من كَانَ ملحدًا؛ ولَكِنه عَنْد النظر فِي أمثال هذه القوانين المادية الطبيعية يأتي لنا بهذا الكلام!!

يقول: قد يعتقد بعضهم أن هذا الكون هو خالق نفسه، وعلى حينَ يرى البعض الآخر أن الاعتقاد بأزليةِ هذا الكون ليس أصعب من الاعتقاد بوُجُود إلهٍ أزلي؛ ولَكِنَّ القانونَ الثاني من قوانين الدِّينَامِيكَ الْحَرَارِيّ يثبت خطأ هذا الرأي؛ فالعلوم تثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًا، فهُنَاكَ انتقالٌ حَرَارِيٌّ مستمرٌّ من الأجسام الحارة إِلَى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوةٍ ذاتية، ومعنى ذَلِكَ: أن الكون يتجه إِلَى درجة تتساوى فِيها حرارة جميع الأجسام، وَيَنْضُبُ منها مَعِينُ الطاقة، ويومئذ لن يكون هُنَاكَ عملياتٌ كيماويةٌ أو طبيعيةٌ، ولن يكون هُنَالكَ أثرٌ للحياةِ نفسِها فِي هذا الكون؛ لِذَلِكَ فإننا نَسْتَنْتِجُ أنَّ هذا الكونَ لا يمكن أن يكون أزليًا؛ وإلا لَاسْتُهْلِكَتْ طاقتُهُ منذ زمنٍ بعيد، وَتَوَقَّفَ كلُّ نشاط فِي الوجود. وهكذا تَوَصَّلَت العلومُ دون قصدٍ أن لهذا الكون بداية، وهي بذَلِكَ تُثْبِتُ وُجُود الله، وما كَانَ له بدايةٌ لا يمكن أن يكون قد بَدَأَ بنفسِه، ولا بد له من مُبْدِأٍ أو مِنْ مُحَرِّكٍ أول، أو مِنْ خالقٍ، وهو الإله الْعَظِيم، وهو الله.

أيضًا؛ عالمٌ من علماء الطبيعةِ الْبَيُولُوجِيَّةِ يستدل على عدم أزلية هذا الكون بالقانون نفسه، فيقول: كثيرًا ما يقال: إن هذا الكون المادي لا يحتاج إِلَى خالق.

كما يَقُول الْمُلْحِدُونَ من الفيزيائيين والفلاسفة ومَنْ تَبِعَهُمْ مِن الرَّعاع الَّذِينَ لا يفكرون؛ ولَكِنْ هم مبهورون بما عَنْد القوم!!

فيقولون: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وصلوا فِي العلوم المادية إِلَى ما وصلوا إِلَيْهِ لا يمكن أن يكونوا مخطئين، فإذا أَلْحَدُوا أَلْحَدُوا وَرَاءَهم!!

إذا شَكُّوا شَكُّوا كما شَكُّوا!! 

فيقول:

كثيرًا ما يقال: إن هذا الكون المادي لا يحتاج إِلَى خالق؛ ولَكِننا إِذَا سلمنا بأن هذا الكون موجود؛ فكيف وُجُوده ونشأته؟

هُنَاكَ أربعة احتمالات للإجابة عَنْ هذا السؤال:

فإما أن يكون هذا الكون مجرد وَهْمٍ وخيالٍ، وهو ما يتعارض مع القضية التي سَلَّمْنَا بها حول وُجُوده؛ لأننا نبحث عن سبب وجوده، عن مَنْشَئِهِ، فإذا قلنا: هو وَهْمٌ وخيالٌ؛ فقد تَنَاقَضْنَا.

إذا كنا نحن نبحث في وجوده؛ أنقول: هو وهم وخيال؟!!

ولكنْ هذا احتمال.

وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم.

وإما أن يكون أبديًا ليس لنشأته بداية.

وإما أن يكون له خالق.

فهذه احتمالات أربعة.

الاحتمال الأول: هو أن هذا الوجود ليس بموجود، وأن ما نحن فيه ونحن أيضًا وَهْمٌ وخيالٌ!!

هذا الاحتمال لا يُقِيمُ أمامَنا مشكلةً سوى مشكلةِ الإحساس والشعور، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فِيه لا يعدو أن يكون وهمًا من الأوهام، ليس له ظل من الْحَقيقة!!

فالرأي الذي يدعي أن هذا الكون ليس له وجود فِعْلِيٌ، وأنه مجرد صورة في أذهاننا، وأننا نعيش في عالم من الأوهام؛ هذا لا يحتاج إلى مناقشة ولا إلى جدال.

الرأي الثاني الذي يقول: إن هذا العالم بما فِيه من مادة وطاقة قد نشأ هكذا وحده من العدم!!

قال: فهو لا يَقِلُّ عَنْ سابقه سُخْفًا وحماقةً، ولا يستحق هو أَيْضًا أن يكون موضعًا للنظر أو المناقشة.

القرآن دلنا على ذَلِكَ من قديم، وأسس عليه علماؤنا - عليهم الرحمة - هذه الاحتمالات؛ ولَكِنْ نحن الآن مع احتمالاتٍ يَقُول بها عالِمُ الطبيعة الْبَيُولُوجِيَّة «فْرَانْكْ آَلَنْ».

هذا ليس بمسلم، وليس بعربي، ولم يَتْلُ كتابَ الله تبارك وتعالى؛ ولَكِنه عَنْدما أَعْمَلَ فطرتَه وعقلَه؛ يتوصل إِلَى هذه الاحتمالات، ثم ينقضُها احتمالًا احتمالًا ليصل إِلَى الصواب من ذَلِكَ.

الرأي الثالث يقول: الَّذِي يذهب إِلَى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية، إنما يشترك مع الرأي الَّذِي ينادي بوجود خالق لهذا الكون، وذَلِكَ فِي عَنْصرٍ واحد هو «الأزلية»، كما مر أن الَّذِينَ يَقُولون بأن الطبيعة هي التي أوجدت هذا الوجود، وهي التي خلقت الخلق!!

فيقال: تقولون عَنْ الطبيعة: «أزليةٌ أبديةٌ»!! فقد أعطيتموها صِفَتَيْنِ من صفاتِ الخَالِق الْعَظِيم: «الأولَ والآَخِرَ»؛ فقد اتخذتم إلهًا من دون الله!!

وأنتم تزعمون - أعني الأبعدين - أَنَّهُ لا خالق للكون ولا موجد له؛ فقد تناقضوا!!

هم يَقُولون: إنَّهُم ملحدون، ويُفَاخِرُونَ بذَلِكَ، ومع ذَلِكَ يثبتون للكون خالقًا!!

ولَكِنهم بَدَلَ أن يرجعوا بالأمر إِلَى أصله، وأن يَقُولوا: هو الله جَلَّ وَعَلَا؛ يَقُولون: «الطبيعة»!!

فَجَعَلُوها إلهًا خالقًا!!

وسيأتي لِذَلِكَ مزيدُ بحثٍ إن شاء الله جَلَّ وَعَلَا.

إذًا؛ الذين يقولون: هذا الكون أبدي؛ يشتركون مع الذين ينادون بوجود خالق لهذا الكون فِي عَنْصر واحد، وهو «الأزلية».

إذًا؛ فنحن إما أن نَنْسُبَ صفة الأزلية إِلَى عالَمٍ ميت، وإما أن ننسبها إِلَى إلهٍ حيٍّ يَخْلُقُ.

ليس هُنَالِكَ صعوبة فكرية فِي الأخذ بأحد الاحتمالَيْنِ أكثرَ مما فِي الآخر؛ ولَكِنَّ قوانينَ الدِّينَامِيكَا الحراريةِ تَدُلّ على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيًا، وأنها سائرة حتمًا إِلَى يومٍ تصير فِيه الأجسام تحت درجةٍ من الْحَرَارَة بالغةِ الانخفاضِ، هي «الصِّفْرُ الْمُطْلَقُ»، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة.

ولا مَنَاصَ عند حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقة عَنْدما تصل درجةُ حرارةِ الأجسامِ إِلَى الصِّفْرِ الْمُطْلَقِ بِمُضِيِّ الوقت.

أما الشَّمْس الْمُسْتَعِرَةُ، والنجومُ الْمُتَوَهِّجَةُ، والأرضُ الغَنِيَّةُ بأنواعِ الحياة، فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسَه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة؛ فهو إِذًَا حَدَثٌ من الأحداث.

كما قال علماؤنا: هو ممكن، هو حادث.

فهذا يقول: هو حَدَثٌ من الأحداث.

ومعنى ذَلِكَ: أَنَّهُ لابد لأصلِ الكونِ من خالقٍ أزليٍّ ليس له بدايةٌ، عليمٍ محيطٍ بكل شيء، قويٍّ ليس لقدرتِه حدودٌ، ولابد أن يكون هذا الكونُ مِنْ صُنْعِ يديه.

فهذا القانون - وهو «قانونُ الدِّينَامِيكَا الْحَرَارِيَّةِ» - يُثْبِتُ وُجُودَ الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ حتى عَنْد المنكرين لوجوده جَلَّ وَعَلَا، ولا يجدون مناصًا من التسليم.

لا بد من أنْ يُسَلِّمُوا كما سمعتَ فِي كلامهم.

فالقانون إذًا يثبت أن الكون ما دام فِيه حرارةٌ؛ فلا يمكن أن يكون أزليًا؛ لأن الْحَرَارَة لا يمكن أن توجَد بنفسها بعد برودته، ولو كَانَ أزليًا لكان باردًا.

أيضًا؛ قوانين الحركةِ الْإِلِكْتُرُونِيَّةِ هذه أَيْضًا تثبت حدوث هذا الكون بالدليل المادي الَّذِي يعرفه أُولَئِكَ.

فالشهادة الأخرى التي تَدُلّ على حدوث الكون نجدها فِي كل ذرة من ذرات الوجود على الإطلاق، وذَلِكَ أن ذرات الكون كلَّها مؤلفةٌ من جزئياتٍ كهربائيةٍ سالبةٍ وموجَبةٍ.

الموجَبَةُ يُطْلَقُ عليها اسمُ «الْبُرُوتُونْ»، والسالبةُ يطلق عليها اسم «الْإِلِكْتُرُونْ»، وبعض الذرات فِيها زيادةٌ على ذَلِكَ شحنةٌ معتدلة تسمى: «النِّيتْرُونْ».

الْبُرُوتُونْ والنِّيتْرُونْ يشكلان نواة الذرة، بينما الإلكترون يشكل كواكبها السيارة التي تدور حولها بسرعة هائلة، بحركة دائرية إِهْلِيلِيجِيَّةٍ - يعني ليست منتظمةً فِي كونها دائرةً، في دائريتها -.

بِسَبَب هذه السرعة الهائلة فِي حركة الإلكترون يبقى الإلكترون متحركًا هذه الحركة؛ إذ لو لا هذا الدوران لجذبت كتلة النواة كتلة الإلكترون، وهو ما يسمى ب«قوةِ الطَّرْدِ المركزيّ».

وقديمًا ضربوا لها مثالًا:

لو أتيتَ بخيط فجعلتَ مربوطًا فِيه قطعةً من الحجارة أو مَسْطَرَةً مما يُسْتَخْدَمُ فِي الحساب، ثم أخذت تدير الخيط بما ربط فِيه دورانًا سريعًا، لو أنك كففت عَنْ الحركة؛ وقع الحجر أو وقعت المسطرة على يدك، تقع.

وأما الَّذِي يضمن حركتها؛ فهو ما يسمى ب«قوة الطرد المركزية»، فكذَلِكَ الإلكترون؛ شحنة سالبة.

هُنَالكَ شحنة موجبة فِي النواة، فِي الذرة، لو لم يكن متحركًا فيؤدي الطرد المركزي إِلَى كونه ثابتًا فِي حركته، فِي مداره، لو لم يكن متحركًا لوقع على النواة، وحينئذ لو وقع؛ ما الَّذِي يحدث؟

يحدث العجب العجاب؛ إذ في هذه الحالة يصبح جِرْمٌ كالكرة الْأَرْضيَّة فِي حجم بيضة الدجاجة؛ إذ الفراغ كبير جدًا فِي عالم الذرة، فكتل الجزيئات لا تأخذ إلا حيزًا صغيرًا جدًا من فراغ الذرة الواسع، وذَلِكَ أن البعد بين النواة والإلكترونات الدائرة حولها كالبعد بين الشَّمْس وكواكبها السيارة نسبيًا، فلو أن هذا البعد بين الإلكترونات، بين الكُهَيْرِبَاتِ السالبة التي تدور فِي مداراتها حول النواة الموجبة؛ لو أن هذا الفراغ بين هذه الكهيربات السالبة والنواة انْمَحَى، فكان فِي كل ذرةٍ الِكْتُرُونَاتُهَا على نواتها فصارت الأنويةُ مجموعة؛ ما وجد جرم كالشمس إلا كبيضة الدجاجة، إذا فَقَدَ الفراغاتِ الْبَيْنِيَّةَ التي تكون بين الإلكترونات الدائرة فِي مداراتها حول أنوية الذرات.

إذًا؛ الإلكترون فِي أكثر ذرات الوجود - إن لم يكن فِي كلها - فِي حركة دائمة دائرية إِهْلِيلِيجِيَّةٍ.

ليس هُنَاكَ أي دليل فِي الوجود يدل على أَنَّهُ يمكن أن يكون هُنَاكَ وَضْعٌ آَخَرُ للإلكترون كَانَ عليه أولًا، ثم انتقل إِلَى هذه الحال؛ إن لم نحكم باستحالة تصورٍ آخَرَ يكون أقدمَ من هذا الوضع، إذ لو كان لاحتجنا إِلَى مؤثر جعل الإلكترونات تتحرك بعد خمود، فيتوسع الكون بعد ضيق.

هذا الكون كله مؤلف من نفس الذرات التي عرفنا خصائصها هنا؛ بل من نفس العناصر، وهذه الحركة التي نجدها فِي الإلكترون نجدها فِي كل جرم فِي الفضاء.

وتَبَعًا: الشيء الدائر لا بد أن تكون له نقطةُ بدايةٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ بَدَأَ منها دورته، كما قيل: «الفَلَكُ دائريٌّ، وهو فِي دَوَرَان».

فيقال: حسن، ما دام الفلك فِي دوران؛ فدوراته الآن؛ لِأَنَّهُ يدور، فالدائرة  - كما تعلم - يمكن أن نجعل هُنَالِكَ بداية متخيلة على محيطها.

هذا الشيء الَّذِي يدور حركة دائرية؛ تصور أي نقطة على محيط تلك الدائرة، يتحرك جسمٌ حركةً دائريةً فِي محيط تلك الدائرة، فإذا ما تصورتَ ذَلِكَ؛ فإنه يبدأ منه ويعود إِلَيْهِ.

فهذه دورة.

فيقال حينئذ: الدورات التي دارها هذا الشيء الدائر فِي مداره؛ إما أن تكون زوجية، وإما أن تكون فردية.

هل هُنَالِكَ احتمال ثالث؟!

إما أن تكون عدد دوراته فردية أو زوجية، وعلى كلٍّ؛ فسواءٌ كَانَت زوجية أم كَانَت فردية؛ فهي محدودة نهائية مهما بلغ عددها، وحينئذ يكون لها بداية، وما دام لها بداية؛ فمن الَّذِي أعطاه الحركة؟

وهذا ما وصلوا إِلَيْهِ بالبحث فِي هذه المسائل التي مر ذكرها.

الشيء الدائر لا بد أن يكون له نقطةُ بدايةٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ بَدَأَ منها دورَتَه.

هذا لا ينكره العقل؛ بل لا يستطيع أن ينكره.

ولما كَانَت الإلكتروناتُ والْأَجْرَامُ أَيْضًا كلُّها فِي حركة دائرية، ولما كَانَت هذه الحركة غير مستأنفة كما يبدوا؛ فإذًا لا بد أن تكون هُنَاكَ بدايةٌ زمانيةٌ ومكانيةٌ لحركةِ الإلكترون فِي مداره حول نواته.

هذه البداية فِي الْحَقيقة هي بداية وُجُود الذرات نفسها، وبهذا نكون قد وصلنا إِلَى أن الكون له بداية ونشأة، وله خالق خَلَقَ من العدم؛ إذ العدمُ لا يَنْتُجُ عَنْه وُجُود.

فهذا أَيْضًا دليلٌ تَوَصَّلَ إِلَيْهِ علماءُ المادةِ بالنظر فِي تركيب الذرات، لإثبات وُجُود الخَالِق الْعَظِيم.

كذَلِكَ الطاقةُ الشَّمْسية.

فلا بد من كلمة تُوَضِّحُ معنى الأزلية:

لو وضعنا الرقم «1» وأمامَه أَصْفَارٌ ممتدة منه إِلَيْهِ على محيط الكرة الْأَرْضيَّة؛ تصور الآن محيطَ الكرةِ الْأَرْضيَّةِ، فأنت فِي أي نقطة من هذا المحيط؟!

كتبت الرقم «1»، ثم جعلت الأصفار ممتدة منه إِلَيْهِ على محيط الكرة الْأَرْضيَّة، هذا الرقم الكبير من السنين؛ إنما يمثل جزءًا كالصِّفْرِ تقريبًا بالنسبة إِلَى اللَّانِهَايَة أو الأبديةِ.

وضَرَبَ لها الْعلماءُ المتقدمون من علمائنا المسلمين مثلًا آخر، فقالوا: تصور أن الْأَرْض كتلةٌ مُصْمَتَةٌ من الطين، ليس فِيها بحار ولا أَنَّهُار ولا جبال، وإنما هي مستوية، كرةٌ من الطين، وتصور أن هذه الكتلة من الطين التي هي بحجم الكرة الْأَرْضيَّة؛ أَنَّهُا قد امتلأت بالذر - أي بالنمل الصغير -، ولا فراغات بين تلك النِّمَال، بل نملة تحاذيها مباشرةً نملةٌ أخرى من النمل الصغير - لا من الكبير -، وأن هُنَالكَ طائرًا يأتي كلَّ أَلْفَيْ سنةٍ، فَيَخْطِفُ من هذا النمل نملةً، لو تصورت أن هذا النمل يفنى لَفَنِيَ قبلَ أن يَفْنَى الخلودُ، لَفَنِيَ قَبْلَ أنْ يَفْنَى اللَّانِهَايَة، لَفَنِيَ قبلَ أن تفنى الأبدية.

لِذَلِكَ يَظْلِمُ نفسَه الكافرُ جدًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا دخل النارَ كَانَ فِي الأبدية، وهذه الأبدية كما ترى: لو أنك كتبت رقم «1» على محيط الأرض، ثم جعلت الأصفار منه إليه؛ فهذه الأصفار كلها لا تمثل شيئًا من حيث العدد إلا قدرًا يسيرًا جدًا – لا تمثل شيئًا – بالنسبة للأبدية؛ لأن الأبديةَ «لا نهاية».

تصور أنت الآن؛ لا نهاية!!

إذا دخلتَ الجنة فأنت في اللانهاية!! في الأبدية!! نعيم بخلود لا فناء معه، ولا فناء يتبعه!! بل تكون خالدًا فِي الجنة أبدًا!!

وكذَلِكَ الكافر الَّذِي يدخل النار!!

هذا أمر كبير.

فالآن لو نظرنا إِلَى الَّذِينَ يَقُولون بقدم المادة، الَّذِينَ يقولون بقدم المادة يعطون المادة هذا المعنى، فيعطونها الأبدية!!

وهذا الَّذِي تُثْبِتُ الظواهرُ كلُّها استحالَتَهُ وخِلَافَه.

الظاهرة التي يكون الكلام عَنْها هنا تمثل إحدى هذه الظواهر.

من أين تأتي الشَّمْس بطاقتها؟

كيف تحافظ الشَّمْس على حرارتها؟

عندما تقول: «الشَّمْس»؛ فأنت تعني ههنا كل نجوم هذا الكون.

نجوم هذا الكون كلُّها شموسٌ تُرَى صغيرةً لِبُعْدِهَا عَنَّا، وشمسنا هذه نموذج عَنْها.

السؤالان اللذان مَرَّا مهمانِ جدًا.

من أين تأتي الشَّمْس بطاقتها؟

وكيف تحافظ الشمسُ أيُّ شمسٍ، أيُّ نجمٍ من النُّجُومِ المتوهجةِ، كيف يحافظ على حرارته؟

الشمس وكل الشموس فِي حالة إعطاء دائم، فهي تعطي دائمًا إشعاعًا حراريًا يُشَكِّلُ طاقةً، فكل الطاقة الموجودة فِي الْأَرْض جعلها الله مستمَدةً من الشَّمْس.

لقد أُضِيءَ مَعْرَضُ شِيكَاغُو الَّذِي أقيم سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف «1933» بكامله بواسطة مفتاحٍ ضخم يدار بواسطة شعاع ضئيل، كَانَ قد انبعث من نجمِ السِّمَاكِ الرَّامِحِ منذ أربعين سنة!!

فهذه طاقة عظيمة!!

فهذه الشموسُ شمسنا هذه منها ونموذج عليها، هي فِي حالة إعطاء دائم.

فما سبب هذه الطاقة بهذه الشموس؟

أجيب عَنْ هذا السؤال بأكثر من جواب؛ ولَكِنها لم تكن مقنعة؛   كالشأن فِي الفروض والنظريات، ثم يصل الْعلماء إِلَى الْحَقائق، كما مر فِي المنهج الْعِلْمي بخطواته المختلفة.

ذرات هذه الشموس تتحطم فِي قلبها المرتفعِ الْحَرَارَةِ جدًا، بواسطة هذا التحطم الهائل الواسع المستمر تتولد هذه الطاقة الحرارية التي لا مثيل لها.

وكما هو معلوم أن الذرة عَنْدما تتحطم؛ تفقد جزءًا من كتلتها، حيث يتحول هذا الجزء إِلَى طاقة.

إذًا؛ فإن كل يوم يمر على أي شمس معناه: فقدان جزء - ولو يسيرًا - من كتلته، يتحول إِلَى طاقة.

إن الشَّمْس مثلًا تفقد كل يوم كذا كيلو جرام، وكذَلِكَ مثلها بقية النُّجُوم.

لو كَانَت هذه الشموس قديمة أزلية - بمعنى أَنَّهُ لا أول لها -؛ فهل يمكن أن تكون فِي وضعها الحالي، أو أَنَّهُا تكون قد استنفذت جميع كتلتها وانتهى أمرها؟

الأزل كما مر هو الأزل؛ ولَكِنَّ نسبة التحول إِلَى غير التحول تبقى ضئيلةً كنسبة النُّجُوم إِلَى الفضاء.

والكلام ليس ههنا فِي جزء من الكون يفقد ويعوض، فقد يوجد مثل هذا التوازن أحيانًا؛ ولَكِن الكلام فِي الكون كله، إذ ما دام الفضاء عظيمًا؛ فَحَتْمًَا سيضيع قسم كبير من هذه الطاقةِ ولا يتحولُ إِلَى مادة، وما دام هُنَاكَ شعاع واحد يمكن أن نتصوره لا يصطدم بمادة حتى يعيد تشكيله المادي بشكلٍ مَّا مِنْ جديد؛ فإن تصور أزلية الكون الحالي مستحيلة.ِ

بهذا يقضي الْعِلْمُ الماديُّ؛ إذ شعاع واحد على مدى الأزل - كما يقولون: الكونُ أزلي!! الكونُ لا بدايةَ له!!-، شعاع واحد على مدى الأزل كافٍ لاستنفاذ طاقة الوجود كله.

أما الكلام بأن الكون كله كَانَ فِي الأصل طاقة، فتحولت الطاقة إِلَى مادة، وهو الآن مادة تتحول إِلَى طاقة، ومِنْ ثَمَّ يكون مادةً وهكذا؛ فالذي يبدو؛ أن المغالطات فِيه واضحة؛ ذَلِكَ أن الطاقة كطاقةٍ إنما تظهر إِذَا وجدت مادةً مَّا تقوم بها، فالطاقة تحتاج إِلَى ذات، وبدون ذات تكون أشبه بمعدوم، أو بتعبير الْعلماء القدامى: الطاقة عَرَضٌ تحتاج إِلَى جوهر لتظهر فِيه، فإشعاع الشَّمْس عَنْدما يصادف الْأَرْض مثلًا؛ تأخذ ذرات الْأَرْض حرارته، وبهذا تصبح ذرات الْأَرْض مشحونة بالطاقة الحرارية، على الأقل لم يقل بهذا أحد حتى الآن.

وبهذا يتضح بما لا شك فِيه أن هذا الكون ليس قديمًا؛ بل له بداية، وأنه لا يتصور وُجُوده لو لا أن له خالقًا، هذا الخَالِق ابتدأ خلقه ووجوده بعد إذ لم يكن.

عبر علماء التوحيد القدامي عَنْ قضية حدوث الكون وابتدائه من العدم بقدرة الله تعالى هكذا:

نظروا إِلَى الكون فوجدوا ما فِيه على نوعين:

نوعٍ يقوم بذاته، ونوعٍ لا يقوم بلا ذات.

فمثلًا: الجسم يقوم بذاته؛ ولَكِن المرض، ولَكِن العَرَضَ لا يكون بلا جسم.

الذرة تقوم بذاتها؛ ولَكِن الْحَرَارَة لا تكون بلا ذات، وسموا ما يقوم بذاته: «الجوهر»، وما لا يقوم إلا بالجوهر سَمَّوْهُ: «عَرَضًَا».

فالذرة جوهر، وحرارتها عرض، والجسم جوهر، والصحة عرض.

قالو: إن الجواهر لا تنفك عَنْ الأعراض، فما رأينا جوهرًا إلا ويلازمه عرضٌ مَّا؛ كالذات والصفة، لا يمكن أن توجد ذات بلا صفة.

ما من ذات موجودة إلا ولها صفة أو صفات، فكذَلِكَ ما من جوهر ـ وهو الذات ـ إلا وله عرضٌ مَّا، وهو «الصفة».

كل عرض حادثٌ.

الظلام حادث؛ فمنذ فترة كَانَ قبله نهار.

النهار حادث؛ فمنذ فترة كَانَ قبله ليل.

حرارة الذرات مهما كَانَت فان لها بداية وكذَلِكَ برودتها لها بداية وهكذا.

وإذًا؛ فما من عرض إلا وله بداية، واذا كَانَ لا جوهر إلا بعرض؛ فلا جوهر إلا وله بداية أَيْضًا؛ لأنه لا عرض إلا وله بداية، ولا جوهر – أي ولا ذات – إلا ولها عرض، ولما كان العرض له أول؛ فكذلك الذات لا بد لها من أول، ولا بد لها من بداية.

فالكون - جواهرُه وأعراضُه - كلُّه حادثٌ، وليس أزليًا.

فهذا دليل عقلي عَبَّرَ به علماؤنا المتقدمون عَنْ قضية حدوث الكون، وكذَلِكَ الْعِلْم الْحَدِيثُ كما مر فِيما يتعلق بالقانون الثاني من قوانين الدِّينَامِيكَا الْحَرَارِيَّة، وكذَلِكَ ما يتعلق بالذرات، وكذَلِكَ ما يتعلق بأمثال هذه المسائل الْعِلْمية.

كل ذَلِكَ يدلنا على أن الكون إنما هو مخلوق حادث، لم يَكُنْ فَكَانَ، والله عز وجل هو الَّذِي أوجده، وهو الَّذِي أحدثه، وهو الَّذِي خلقه، وهو الخلاق الْعَظِيم.

نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا.

وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.