فاللهم إنكَ تَعَلَمُ أنِّي أُحبُّ أنْ أَدُلَّ عَليك وأُرشدَ إلى صرِاطك وأُعَرِّفَ الخَلْقَ بِك، وأَعَلَمُ أنك تعلمُ أني لستُ للدلالةِ عليكَ أهلًا، ولا للإرشادِ إلى صِراطكَ مَحَلًّا، ولا أنا إنْ أردتُ تعريفَ الخَلْقِ بِكَ شيءٌ أصلًا، لا لي شَيء، ولا منِّي شَيء، ولا فيَّ شَيء.
وأعلمُ أنكَ قَضيتَ قضاءً مُبْرمًا لا يُحَلُّ، وأنك قد أمضيتَ قضاءً نافذًا لا يُرَدُّ؛ أنَّ مَن سَمَّعَ؛ سَمَّعْتَ به، ومن رَاءَى؛ راءيتَ به.
فأعوذُ برِضاكَ مِن سَخطِك وبمُعافتك من نِقمتك، وبك مِنك، لا أُحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيتَ على نَفْسِك.
أَفْضَلُ العِلمِ والعَمَلِ والحالِ: العِلمُ باللَّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، والعملُ بمرْضَاتِهِ، وانجذابُ القلبِ إليهِ بالحُبِّ والخوفِ والرجاءِ، فهذا أشْرَفُ ما في الدُّنيا، وجزَاؤُهُ أشرفُ ما في الآخِرَةِ.
وأَجَلُّ المقاصدِ معرفةُ اللَّهِ ومحبَّتُهُ والأُنْسُ بقُربِهِ، والشَّوقُ إلى لِقَائِهِ والتَّنَعُّمُ بِذِكْرِهِ، وهذا أَجَلُّ سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ، وهذا هوَ الغايَةُ التي تُطْلَبُ لِذَاتِها.
وإنَّما يَشْعرُ العبدُ تمامَ الشُّعورِ بأنَّ ذلكَ عينُ السعادةِ إذا انكشفَ لهُ الغِطاءُ وفارقَ الدُّنيا ودخلَ الآخرةَ، وإلاَّ فهوَ في الدنيا -وإنْ شَعَرَ بذلكَ بعضَ الشعورِ- فليسَ شُعورُهُ كاملًا للمعارضاتِ التي عليهِ، والمِحنِ التي امْتُحِنَ بها، وإلاَّ فليست السعادةُ في الحقيقةِ سِوَى ذلكَ.
وكلُّ العلومِ والمعارفِ تَبَعٌ لهذهِ المعرفةِ، مُرَادَةٌ لأجْلِها، وتَفَاوتُ العلومِ في فضلِها بحسَبِ إفضائِها إلى هذهِ المعرفةِ وبُعْدِها، فَكُلُّ علمٍ كانَ أقربَ إِفضاءً إلى العلمِ باللَّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ؛ فهوَ أعلى ممَّا دُونَهُ، وكذلكَ حالُ القلبِ؛ فكلُّ حالٍ كانَ أقربَ إلى المقصودِ الذي خُلِقَ لهُ فهوَ أشرفُ ممَّا دُونَهُ، وكذلكَ الأعمالُ، فكلُّ عملٍ كانَ أقربَ إلى تحصيلِ هذا المقصودِ كانَ أفضلَ مِنْ غيرِهِ، ولهذا كانت الصَّلاةُ والجِهادُ منْ أفضلِ الأعمالِ وأفْضَلِهَا لقُرْبِ إفضَائِها إلى المقصودِ.
وهكذا يجبُ أنْ يكونَ؛ فإنَّ كلَّ ما كانَ الشيءُ أقربَ إلى الغايَةِ كانَ أفضلَ من البعيدِ عنها، فالعملُ المُعِدُّ للقلبِ المُهَيِّأُ لهُ لِمَعرفةِ اللَّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ ومحبَّتِهِ وخوفِهِ ورجائِهِ؛ أفضلُ ممَّا ليسَ كذلكَ.
وإذا اشتركتْ عِدَّةُ أعمالٍ في هذا الإِفْضَاءِ فأفضلُها أقْرَبُها إلى هذا المُفْضِي، ولهذا اشتركت الطَّاعاتُ في هذا الإفضاءِ فكانتْ مطلوبةً للَّهِ، واشتركت المعاصي في حَجْبِ القلبِ وَقَطْعِهِ عنْ هذهِ الغايَةِ فكانتْ مَنْهِيًّا عنها، وتأثيرُ الطاعاتِ والمعاصي بحَسَبِ درجاتِها.
قال الإمامُ العلُّامةُ ابنُ القيم –رحمه الله تعالى-: ((الأسماءُ الْحُسنى وَالصِّفَات الْعلَا مقتضيةٌ لآثارِها من الْعُبُودِيَّةِ وَالْأَمرِ اقتضاءَها لآثارِها من الْخَلْقِ والتكوين، فَكُلُّ صفةٍ لها عبوديةٌ خَاصَّة هِيَ مِن مُوجباتِها ومقتضياتِها -أعني من مُوجبَاتِ الْعلم بهَا والتَّحقُّقِ بمعرفتِها- وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي على الْقلبِ والجوارح.
*والعبد إِذا فتحَ اللهُ لقلبهِ شهودَ أَوَّليتهِ سبحانهُ: حيث كان ولا شيء غيرُه، وهو الإِلَهُ الحقُّ الكاملُ في أَسمائهِ وصفاتِهِ، الغنيُّ بذاتهِ عمَّا سواه، الحميدُ المجيدُ بذاتهِ قبل أَن يخلقَ مَن يحمدهُ ويعبدهُ ويُمجِّدُهُ، فهو معبودٌ محمودٌ حيٌّ قيومٌ له المُلك وله الحمدُ في الأَزلِ والأَبد، لم يَزَل ولا يزال موصوفًا بصفاتِ الجلال، منعوتًا بنعوتِ الكمال، وكلُّ شيءٍ سواه فإِنما كان به، وهو تعالى بنفسهِ ليس بغيرهِ، فهو القيومُ الذي قيامُ كلِّ شيءٍ به، ولا حاجةَ به في قيوميتهِ إِلى غيرهِ بوجهٍ من الوجوه.
فإِذا شَهِدَ العبدُ سَبْقَهُ تعالى بالأوَّليَّةِ ودوامَ وجودهِ الحق، وغابَ بهذا عما سواه من المُحْدَثات؛ استغنى العبدُ بهذا المشهدِ العظيمِ وتَغذَّى بتلك المعرفةِ عن فاقاتِهِ وحاجاتِه، فاضمحلَّ ما دون الحقُّ تعالى في شهودِ العبد كما هو مُضمحلٌّ في نفسِهِ، وشَهِدَ العبدُ حينئذ أَنَّ كلَّ شيءٍ مما سوى اللهِ باطل، وأَنَّ الحقَّ المُبين هو اللهُ وحدَهُ، فهو الأوَّلُ الذي ليس قَبْلَهُ شيء، قال بعضُهم: ما رأيتُ شيئًا؛ إلا وقد رأيتُ اللهَ قَبْلَهُ، ورأى هنا: هي العِلميةُ المُتعديةُ إلى مَفعولين، كقولِ الشاعرِ:
فيشَهِدُ الْقَلْبُ سَبْقَهُ لِلْأَسْبَابِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ، وَهُوَ الَّذِي كَسَاهَا حُلَّةَ الْوُجُودِ، فَهِيَ مَعْدُومَةٌ بِالذَّاتِ فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ بِذَاتِهِ وَالْغَنِيُّ بِذَاتِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَلَيْسَ الْغِنَى فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لَهُ، فَالْغِنَى بِغَيْرِهِ: عَيْنُ الْفَقْرِ، فَإِنَّهُ غِنًى بِمَعْدُومٍ فَقِيرٍ. وَفَقِيرٌ كَيْفَ يَسْتَغْنِي بِفَقِيرٍ مِثْلِهِ؟
وليسَ هذا مُختصًا بشهودِ أوَّليتَّهِ تعالى فقط، بل جميعُ ما يبدو للقلوبِ من صفاتِ الربِّ –جلَّ جلاله-؛ يستغني العبدُ بها بقَدْرِ حَظِّهِ وقَسْمِهِ مِن معرفتِها وقيامِهِ بعبوديتِها.
*فمَن شَهِدَ مشهدَ (علو اللهِ على خَلْقِهِ وفوقيتهُ لعبادِه واستوائِهِ على عرشهِ): كما أَخبر به أَعرفُ الخَلْقِ وأَعلمُهم به الصادقُ المصدوق، وتعبَّدَ بمُقتضى هذه الصفة، بحيثُ يصيرُ لقلبِهِ صَمَدٌ يَعرُجُ القلبُ إِليه مُناجيًا له، مُطْرِقًا واقفًا بين يديه وقوفَ العبدِ الذليلِ بين يدي الملكِ العزيزِ؛ فيشعرُ بأنَّ كَلِمَهُ وعَمَلَهُ صاعدٌ إِليه، معروضٌ عليه، مع أَوْفَى خاصتهِ وأَوليائِهِ، فيستحيي أَنْ يصعدَ إِليه من كَلِمِهِ ما يُخزيه ويَفضحُهُ هناك، ويشهدُ نزولَ الأَمرِ والمراسيمِ الإِلهيةِ إِلى أَقطارِ العوالم كلَّ وقت؛ بأَنواعِ التدبيرِ والتَّصَرُّفِ؛ مِن الإِماتةِ والإِحياءِ، والتوليةِ والعزلِ، والخفضِ والرفعِ، والعطاءِ والمنع، وكشفِ البلاءِ وإِرسالهِ، وتَقَلُّبِ الدولِ ومداولةِ الأَيامِ بين الناس، إِلى غير ذلك من التَّصَرُّفِ في المملكة، التي لا يتصرفُ فيها سواه، فمَرَاسِمُهُ نافذةٌ كما يشاءُ: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5].
فمن أعطى هذا المشهدَ حقَّهُ معرفةً وعبوديةً؛ استغنى به.
*وكذلك من شَهِدَ مشهدَ (العلمِ المحيط): الذي لا يَعْزُبُ عنه مثقالُ ذرةٍ في الأَرضِ ولا في السموات ولا في قرارِ البحار، ولا تحت أَطباقِ الجبال، بل أَحاطَ بذلك كُلِّهِ عِلْمُهُ عِلمًا وتفصيلًا، ثم تَعَبَّدَ العبدُ بمُقتضى هذا الشهودِ من حواسهِ؛ خواطرِهِ وإِرادتِهِ وجميعِ أَحوالهِ وعزماتِهِ وجوارحِهِ؛ عَلِمَ بِأَنَّ حركاتِهِ الظاهرةَ والباطنة، وخواطرَهُ وإِرادتَهُ وجميعَ أَحوالِهِ ظاهرةٌ مكشوفةٌ لديه، علانيةٌ له، باديةٌ لا يَخفَى عليه منها شيء.
*وكذلك إِذا أشعرَ العبدُ القلبَ صفةَ (سَمْعِهِ) -تبارك وتعالى-: سَمْعِهِ لأصواتِ عبادهِ على اختلافِها، وجهرِها وحفائِها، وسواءٌ عنده مَن أسرَّ القولَ ومَن جهرَ به، لا يشغلُهُ جَهْرُ مَن جَهَرَ عن سَمْعِهِ لصوتِ مَن أَسرَّ، ولا يشغلهُ سَمْعٌ عن سَمْعٍ، ولا تُغلِطُهُ الأصواتُ على كثرتِها واختلافِها واجتماعِها، بل هي عندَهُ كلُّها كصوتٍ واحدٍ، كما أنَّ خَلْقَ الخَلْقِ جميعِهم وبَعْثَهم عندهُ بمنزلةِ نَفْسٍ واحدة.
*وكذلك إذا شَهِدَ معنى اسمهِ (البصير) -جلَّ جلاله-: الذي يَرَى دَبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصَّمَّاءِ في حِندسِ الظلماءِ، ويَرى تفاصيلَ خَلْقِ الذَّرَّةِ الصغيرةِ ومُخَّها وعُروقَها ولحمَها وحركتَها، ويرى مَدَّ البعوضةِ جناحَها في ظُلمةِ الليل، وأعطى العبدُ هذا المشهدَ حقَّهُ من العبوديةِ بحَرْسِ حركاتِها وسَكَنَاتِها، وتَيقنَ أنها بمَرْأَى منه -تبارك وتعالى- ومُشاهدة، لا يغيبُ عنه مِنها شيء.
*وكذلك إِذا شَهِدَ مشهدَ (القيومية) الجامعَ لصفاتِ الأفعال: وأنه قائمٌ على كلِّ شيء، وقائمٌ على كلِّ نَفْسٍ بما كسبت، وأنه تعالى هو القائمُ بنفسهِ المقيمُ لغيرهِ، القائمُ عليه بتدبيرِهِ وربوبيتِهِ وقهرِهِ وإيصالِ جزاءِ المُحسنِ إليه وجزاءِ المُسيءِ إليه، وأنه بكمالِ قيوميتهِ لا ينام ولا ينبغي له أنْ ينام، يَخفِضُ القِسْطَ ويرفعُهُ، يُرفعُ إليه عملُ الليلِ قبلَ النهارِ وعَمَلُ النهارِ قبلَ الليل، لا تأخذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْم ولا يَضِلُّ ولا يَنْسَى، وهذا المشهدُ من أرفعِ مشاهدِ العارفين، وهو(مشهدُ الربوبية).
*وأعلى منه (مشهدُ الإلهية): الذي هو مشهدُ الرُّسُلِ وأتباعِهم الحُنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا هو، وأنَّ إلهيةَ ما سواه باطلٌ ومُحال، كما أنَّ ربوبيةَ ما سواه كذلك، فلا أحدَ سواه يَستحقُ أنْ يُؤَلَّهَ ويُعْبَدَ، ويُصَلَّى له ويُسْجَدَ، ويستحقُ نهايةَ الحُبِّ في نهايةِ الذُّلِّ لكمالِ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فهو المُطاعُ وحدهُ على الحقيقة، والمألوهُ وحده، وله الحُكْمُ وحدَهُ.
فكلُّ عبوديةٍ لغيرهِ باطلةٌ وعناءٌ وضلالٌ، وكلُّ محبةٍ لغيرهِ عذابٌ لصاحبِها، وكلُّ غِنَىً لغيرهِ فقرٌ وفاقةٌ، وكلُّ عِزٍّ بغيرِهِ ذُلٌّ وصَغَارٌ، وكلُّ تَكَثُّرٍ بغيرِهِ قِلَّةٌ وذِلَّةٌ، فكما استحالَ أنْ يكونَ للخلقِ ربٌّ غيرُهُ، فكذلك استحالَ أنْ يكونَ لهم إلهٌ غيرُهُ، فهو الذي انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطَّلبات، ويستحيلُ أنْ يكونَ معهُ إلهٌ آخر، فإنَّ الإلهَ على الحقيقةِ هو الغنيُّ الصَّمَدُ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، الذي حاجةُ كلِّ أحدٍ إليه ولا حاجةَ به إلى أحد، وقيامُ كلِّ شيءٍ به وليسَ قيامُهُ بغيرِه
ومِنْ المُحَال أنْ يَحْصُلَ في الوجودِ اثنانِ كذلك، ولو كان في الوجودِ إلهانِ؛ لفسدَ نظامُهُ أعظمَ فساد واختلَّ أعظمَ اختلال، كما أنه يستحيلُ أنْ يكونَ له فاعلان متساويان كلٌّ منهما مستقلٌّ بالفِعْل، فإنَّ استقلالَهما ينافي استقلالَهما، واستقلالَ أحدِهِما يمنعُ ربوبيةَ الآخر.
فتوحيدُ الربوبية أعظمُ دليلٍ على توحيدِ الإلهية، ولذلك وقعَ الاحتجاجُ به في القرآنِ أكثرَ مما وقعَ بغيرِهِ، لصحةِ دلالتِهِ وظهورِها، وقُبُولِ العقولِ والفِطَرِ لها، ولاعترافِ أهلِ الأرضِ بتوحيدِ الربوبية، وكذلك كان عُبَّادُ الأصنامِ يُقرَّون به ويُنكرون توحيدَ الإلهية ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهًا وَاحِدًا} [ص: 5]، مع اعترافِهم بأنَّ اللهَ وحدهُ هو الخالقُ لهم وللسمواتِ والأرضِ وما بينهما، وأنه المنفردُ بمِلْكِ ذلك كلِّهِ، فأرسل اللهُ تعالى الرُّسُل يُذَكِّرُ بما في فِطَرِهم الإقرارُ به من توحيدهِ وحدَهُ لا شريك له، وأنهم لو رَجَعوا إِلى فِطَرِهم وعقولِهم لدلَّتهم على امتناعِ إلهٍ آخر معه واستحالتِهِ وبُطلانهِ.
فمشهدُ الأُلوهية هو مشهدُ الحُنفاء، وهو مشهدٌ جامعٌ للأَسماءِ والصفات، ولذلك كان الاسمُ الدالُّ على هذا المعنى هو اسم ((الله)) -جلَّ جلاله-، فإِنَّ هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تُضافُ الأَسماءُ الحُسنى كلُّها إليه؛ فيُقال: الرحمنُ الرحيمُ العزيزُ الغفارُ القهارُ مِن أَسماءِ اللهِ –جلَّ وعلا-، ولا يُقال: اللهُ من أَسماءِ الرحمن، قال اللهُ –جلَّ وعلا-: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]
فهذا المشهدُ تجتمعُ فيه المشاهدُ كلُّها، وكلُّ مشهدٍ سواه؛ فإنما هو مشهدٌ لصفةٍ من صفاتِهِ، فمَن اتسعَ قلبُهُ لمشهدِ الإِلهية وقامَ بحقِّهِ من التَّعَبُّدِ، الذي هو كمالُ الحبِّ بكمالِ الذُّلِّ والتعظيم، والقيامُ بوظائفِ العبودية، فقد تَمَّ له غناهُ بالإِلهِ الحقِّ، وصارَ مِن أَغْنَى العباد، ولسانُ حالِ مِثْلِ هذا يقول:
غَنِيتُ بلا مالٍ عن الناسِ كلِّهمِ وإِنَّ الغِنى العالي عَن الشيءِ لا بِهِ.
فيا له من غِنَىً ما أَعظمَ خَطَرَهُ وأَجلَّ قَدْرَهُ، تضاءَلت دُونَهُ الممالكُ فما دونها؛ فصارت بالنسبةِ إِليه كالظِلِّ من الحاملِ له، والطَّيْفِ المُوافي في المنامِ الذي يأتي به حديثُ النَّفسِ ويطردُهُ الانتباهُ مِن النوم.
*فشهودُ العبدِ توحيدَ الربِّ وانفرادَهُ بالخَلْقِ، ونفوذَ مشيئتهِ، وجريانَ قضائهِ وقدرِهِ: يفتحُ له بابُ الاستعاذة، ودوامَ الالتجاءِ إليه والافتقارِ إليه، وذلك يُدنيه من عتبةِ العبودية، ويطرحُهُ بالبابِ فقيرًا عاجزًا مِسكينًا، لا يملكُ لنفسهِ ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
*وشهودُهُ أمْرَه تعالى ونَهْيَهُ، وثوابَهُ وعقابَهُ: يُوجبُ له الجِدَّ والتشمير وبَذْلَ الوِسْعِ، والقيامَ بالأمرِ، والرجوعَ على نفسهِ باللومِ، والاعترافَ بالتقصير؛ فيكونُ سَيْرُهُ بين شهودِ العِزَّةِ والحكمةِ والقدرةِ الكاملةِ والعِلمِ السابق، وبين شهودِهُ التقصيرَ والإساءةَ منه، وتَطَلُّبَ عيوبِ نفسِهِ وأعمالها، فهذا هو العبدُ المُوفَّقُ المُعَان، الملطوفُ به، المصنوعُ له، الذي أُقيمَ في مُقامِ العبودية وضُمن له التوفيق.
وهذا هو مشهدُ الرُّسل –صلوات الله وسلامه عليهم-:
*فهو مشهدُ أبيهم آدم إذ يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
*ومشهدُ أوِّل الرُّسلِ نوح إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
*ومشهد إمامِ الحُنفاءِ وشيخِ الأنبياء إبراهيمَ –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- إذ يقول:
وقال في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
فعَلِمَ –صلى الله عليه وسلم- أنَّ الذي يحولُ بين العبدِ وبين الشركِ وعبادةِ الأصنام هو الله؛ لا ربَّ غيرُهُ، فسَألَهُ أنْ يُجَنِّبَهُ وبَنيهِ عبادةَ الأصنام.
*وهذا هو مشهدُ موسى إذ يقولُ في خطابهِ لربِّهِ: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
أي: إنَّ ذلك ما هو إلا امتحانٌ، ما هو إلا اختبارٌ، كما يقالُ: فتنتُ الذهبَ: إذا امتحنتهُ واختبرته، وليس من الفتنةِ التي هي الفِعلُ المُسيء كما في قولهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، وكما في قولهِ تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39].
فإنَّ تلكَ فتنةُ المخلوق، فإنَّ موسى أعلمُ باللهِ أنْ يُضيفَ إليه تعالى هذه الفتنة، وإنما هي كالفتنةِ في قولهِ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، أي: ابتليناكَ واختبرناكَ وصرَّفناكَ في الأحوالِ التي قَصَّها اللهُ سبحانه علينا من لَدُن ولادتِهِ إلى وقتِ خطابهِ له وإنزالِ كتابِه عليه.
والمقصودُ أنَّ موسى –صلى الله عليه وسلم- شَهِدَ توحيدَ الرَّبِّ وانفرادَهُ بالخَلْقِ والحُكْمِ وفِعْلَ السُّفهاءِ ومباشرتَهم الشِّركِ، فتضرَّعَ إليه بعِزَّتِهِ وسُلطانهِ، وأضافَ الذنبَ إلى فاعلهِ وجانيِه، ومِن هذا قولهُ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}، قال تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16].
*وهذا المشهدُ هو مشهد ذي النون إذ يقول: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
فوَحَّدَ ربَّهُ تعالى ونَزَّهَهُ عن كلِّ عَيْبٍ وأضافَ الظُّلمَ إلى نَفْسِهِ.
*وهذا مشهدُ صاحبِ سيدِ الاستغفار؛ إذ يقولُ في دُعائهِ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أنْتَ».
أخرجه البخاريُّ.
فأقرَّ –صلى الله عليه وسلم- بتوحيدِ الربوبية المتضمنِ لانفرادِهِ سُبحانه بالخَلْقِ وعمومِ المشيئةِ ونُفوذِها، وأقَرَّ بتوحيدِ الإلهية المتضمنِ لمحبتهِ وعبادتهِ وحدَهُ لا شريك له، والاعترافِ بالعبوديةِ المتضمنِ للافتقارِ من جميعِ الوجوهِ إليه سُبحانه.
ثم قال: ((وأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ)): فتضمنَ ذلك التزامَ شرعهِ وأَمرهِ نَهيِه، وهو عَهْدُهُ الذي عَهِدَ إلى عبادِهِ، وتصديقُ وعدهِ وهو جزاؤه وثوابُهُ، فتضمنَ التزامَ الأمرِ والتصديقَ بالموعودِ، وهو الإيمانُ والاحتساب، ثم لمَّا علِمَ أنَّ العبدَ لا يُوفِّي هذا المقامَ حقَّهُ، الذي يَصْلُحُ له تعالى؛ علَّقَ ذلك باستطاعتِهِ وقدرتِهِ التي لا يتعداها؛ فقال: ((ما استطعت)) أي: أَلتزمُ ذلك بحَسَبِ استطاعتي وقدرتي.
ثم شَهِدَ المشهدَين المذكورَين؛ وهما مشهدُ القُدرةِ والقوةِ، ومشهدُ التقصيرِ من نفسهِ؛ فقال –صلى الله عليه وسلم-: ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ)): فهذه الكلمة تضمنت المشهدَين معًا، ثم أضافَ النِّعمَ كلَّها إلى وليِّها وأهلِها والمبتدئِ بها، والذنبَ إلى نفسهِ وعملهِ، فقال: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي))، فأَنْتَ المحمودُ والمشكورُ، الذي له الثناءُ كلُّهُ والإحسانُ كلُّهُ ومنه النِّعَمُ كلُّها، فلك الحمدُ كلُّه، ولك الثناءُ كلُّه، ولك الفضلُ كلُّه، وأنا المذنبُ المُسيء، المعترفُ بذنبِهِ، المُقِرُّ بخطئهِ، كما قال بعضُ العارفين: ((العارفُ يسيرُ بين مشاهدةِ المِنَّةِ مِن الله، ومطالعةِ عَيْبِ النَّفْسِ والعمل)).
فشهودُ الِمنَّة يُوجبُ له المحبةَ لربِّهِ سبحانه وحمدَهُ والثناءَ عليه، ومطالعةُ عَيْبِ النفسِ والعمل تُوجبُ استغفارَهُ ودوامَ توبتِهِ وتَضَرُّعَهِ واستكانتَهُ لربِّهِ سبحانه، ثم لمَّا قامَ هذا بقلبِ الداعي وتوسلَ إليه بهذه الوسائل قال: ((فَاغْفِرْ لِي فإِنه لا يغفر الذنوب إِلا أَنت)).
*وجماعُ الأمرِ في ذلك: إنما هو بتكميلِ عبوديتهِ لله –جلَّ وعلا- في الظاهرِ والباطن، فتكونُ حركاتُ نفسهِ وحركاتُ جِسمهِ كلُّها في محبوباتِ الله، فكمالُ عبوديةِ العبد موافقتُهُ للربِّ في محبتِهِ ما أحبَّ، وفي بذلِ الجُهدِ في فِعْلِهِ، وفي موافقتِهِ في كراهةِ ما كَرِهَهُ مع بذلِ الجُهدِ في تَرْكِهِ، وهذا إنما يكونُ للنَّفْسِ المُطمئنة, لا للأمَّارةِ ولا للوَّامةِ، فهذا كمالٌ مِن جهةِ الإرادةِ والعمل.
*وأما من جهةِ العلمِ والمعرفة: فأنْ تكونَ بصيرتُهُ مُنْفَتحةٌ في معرفةِ الأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ، له شهودٌ خاص في الأسماءِ والصفات مطابقٌ لِمَا جاءَ به الرسول –صلى الله عليه وسلم-، لا مُخالفٌ له، فإنه بحَسَبِ مخالفتِهِ له في ذلك؛ يقعُ الانحراف، ويكونُ مع ذلك قائمًا بأحكامِ العبوديةِ الخاصة، التي تقتضيها كلُّ صفةٍ بخصوصِها وهذا سلوكُ الأكياسِ الذين هم خُلاصةُ العالم، والسالكونَ على هذا الدربِ أفرادٌ من العالَمِ، طريقٌ سهل قريبٌ مُوصِل، طريقٌ آمن، أَكثرُ السالكينَ في غفلةٍ عنه، لكنْ يستدعي رسوخًا في العِلمِ ومعرفةً تامةً به، وإِقدامًا على ردِّ الباطلِ المُخالفِ له؛ ولو قاله مَنْ قاله، وليس عند أكثرِ الناسِ سوى رسومٌ تلقَوها عن قومٍ مُعظَّمين عندهم، ثم لإحسانِ ظَنِّهم بهم؛ قد وقفوا عند أقوالِهم ولم يتجاوزوها إلى غيرِها، فصارت حجابًا لهم وأَيُّ حجاب.
فمن فَتَحَ اللهُ بصيرةَ قلبهِ وإِيمانهِ، حتى خرَقَها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرةِ والعقل، فقد أُوتيَ خيرًا كثيرًا، ولا يُخافُ عليه مِن ضَعفِ هِمَّتِهِ، فإِذا انضافَ إلى ذلك الفتح هِمَّةٌ عالية؛ فذاك السابقُ حقًا، واحدٌ الناسِ بزمانِهِ، لا يُلحقُ شَأْوُه ولا يُشَّقُ غُبُارُهُ، فشتَّانَ ما بين مَن يتلقى أَحوالُهُ ووارداتِهِ عن الأَسماءِ والصفات وبين من يتلقاها عن الأوضاعِ الاصطلاحية والرسومِ، أو عن مجردِ ذَوْقِهِ ووَجْدِهِ، إِذا استحسنَ شيئًا قال: هذا هو الحق.
فالسيرُ إلى الله من طريقِ الأَسماءِ والصفات شأْنهُ عَجَب، وفَتْحُهُ عَجب، صاحبُهُ قد سَبَقَت له السعادة، وهو مُستلقٍ على فراشِهِ غَيرُ تَعِبٍ ولا مكدود، ولا مُشَتَّتٍ عن وطنهِ، ولا مُشَرَّدٍ عن سكنهِ:
وليس العجبُ من سائرٍ في ليلهِ ونهارهِ وهو في الثَّرَى لم يَبْرَح من مكانهِ، وإنما العجبُ من ساكنٍ لا يُرَى عليه أثرُ السفر، وقد قطعَ المراحلَ والمفاوز، فسَائِرٌ قد رَكِبْتهُ نفسُهُ، فهو حامِلُها، سائرٌ بها ملبوك، يعاقبُها وتعاقبُهُ، ويَجُرُّها وتَهْرُبُ منه، ويخطو بها خُطوةً إلى الأمام؛ فتجذبُهُ خطوتين إلى ورائِهِ، فهو معها في جَهْدٍ، وهي معه كذلك، وسائرٌ قد رَكِبَ نفسَهُ، وَمَلَكَ عِنَانَها، فهو يسوقُها كيف شاء وأين شاء، لا تلتوي عليه، ولا تنجذبُ ولا تهرُبُ منه، بل هي معه كالأسيرِ الضعيفِ في يدِ مالكِهِ وآسرِهِ، وكالدابةِ الرابضةِ المُنقادةِ في يدِ سائسِها وراكبِها، فهي مُنقادةٌ معه حيثُ قادَها، فإذا رامَ التقدُّمَ جَمَزَت به وأسرعت، فإذا أرسلَها سارت به وجَرَت في الحَلْبَةِ إلى الغاية، ولا يرُدُّها شيء، فتسيرُ به وهو ساكنٌ على ظهرِها، ليس كالذي نزلَ عنها وهو يَجُرُّها بلِجَامِها، ويَشْحُطُها ولا تَنْشَحِط، فشَتَّانَ ما بينَ المُسَافِرَيْن، فتأمل هذا المَثَلُ، فإنه مطابقٌ لحالِ السائرِيِن، واللهُ يختصُ برحمتهِ من يشاء.
وهاهنا سِرٌّ بديع؛ وهو: أنَّ مَن تعلقَ بصفةٍ من صفاتِ الربِّ تعالى؛ أدخلتهُ تلك الصفةُ عليه وأوصلتهُ إليه –جلَّ وعلا-:
والربُّ تعالى يُحبُّ أسمائَه وصفاته، ويحبُّ مقتضى صفاتهِ وظهورَ آثارِها في العبد، فإنه جميلٌ يُحبُّ الجمال، كريمٌ يحبُّ أهلَ الكَرَمِ، عليمٌ يُحبُّ أهلَ العِلمِ، وِتْرٌ يُحبُّ أهلَ الوِترِ، قويٌّ والمؤمنُ القويُّ أحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيف، صبورٌ يحبُّ الصابرين، شكورٌ يحبُّ الشاكرين، وهو –سبحانه وتعالى- رحيمٌ يحبُّ الرُّحماء، وإنما يرحمُ من عباده الرُّحماء، وهو سِتِّيرٌ يحبُّ مَن يسترُ على عبادِه، وعَفُوٌّ يحبُّ مَن يعفو عنهم، وغفورٌ يحبُّ من يغفرُ لهم، ولطيفٌ يحبُّ اللطيفَ مِن عبادهِ، ويُبغضُ الفَظَّ الغليظَ القَاسي الجعظريَّ الجَوَّاظ، ورفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ، وحليمٌ يحبُّ الحِلْم، وبَرٌّ يحبُّ البِرَّ وأهلَهُ، وعدلٌ يحبُّ العدلَ، وقابلُ المعاذيرِ يحبُّ من يَقبلُ معاذيرَ عبادِهِ، ويُجازي عبدَهُ بحَسَبِ هذه الصفاتِ فيه وجودًا وعدمًا.
فمَن عفا؛ عفا عنه، ومَن غفرَ؛ غفرَ له، ومَن سامحَ؛ سامحَهُ، ومَن حَاقَقَ؛ حاقَقَهُ، ومَنْ رَفَقَ بعبادِهِ؛ رَفَقَ به، ومَنْ رَحِمَ خَلْقَهُ رَحِمَهُ، ومَن أَحْسَنَ إليهم أَحسنَ إليه، ومَن جَادَ عليهم جَادَ عليه، ومَن نفعَهم نفعَهُ، ومَن سَتَرَهم سَتَرَه ومَن صَفَحَ عنهم صَفَحَ عنه، ومَنَ تَتَّبَعَ عورتَهم تَتَّبَعَ عورتَهُ، ومَنْ هتكَهم هَتَكَهُ وفَضَحَهُ، ومن مَنَعَهم خيرَه مَنَعَهُ خيرَهُ، ومَن شَاقَّ شَاقَّ اللهَ تعالى بِه، ومَن مَكَرَ مَكَرَ به، ومَنْ خَادَعَ خَادَعَهُ، ومَن عَامَلَ خَلْقَهُ بصفة عَامَلَهُ اللهُ تعالى بتلك الصفةِ بعَيْنِهَا في الدنيا والآخرة.
فاللهُ تعالى لعبدهِ على حَسَبِ ما يكونُ العبدُ لخَلْقِهِ، ولهذا جاء في الحديث: ((مَنْ سَتَرَ مُسلمًا سَتَرَهُ اللهُ تعالى في الدنيا والآخرة، ومَنْ نَفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً مِن كُرُبِ الدنيا نَفَّسَ اللهُ تعالى عنه كُربةً مِن كُرُبِ يوم القيامة، مَن يَسَّرَ على مُعسرٍ يَسَّرَ اللهُ تعالى حِسابُه، مَن أقال نادمًا أقالَ اللهُ تعالى عثرتَهُ، مَن أنظرَ مُعسرًا أو وضعَ عنه أظلَّهُ اللهُ تعالى في ظِلِّ عِرشهِ -لأنه لمَّا جعلهُ في ظِلِّ الإنظارِ والصبرِ، ونجَّاه مِن حَرِّ المُطالبةِ وحرارةِ تَكَلُّفِ الأداءِ مع عسرتِهِ وعِجْزِهِ؛ نَجَّاهُ اللهُ تعالى مِن حَرِّ الشمسِ يوم القيامة إلى ظِلِّ عرشهِ-)).
وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره عن النبي -صلى الله عليه و سلم- أنه قال في خطبته يومًا: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبَهُ لا تُؤذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبَعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَّبَعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَّبَعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَّبَعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلوَ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)).
اللهم إنك حليمٌ حييٌّ سِتِّير، فاسترنا بسِتركَ الجميل واجعل تحت السِترِ ما يُرضيك.
فكما تدينُ تُدان، وكُن كيف شئت، فإنَّ اللهَ تعالى لك كما تكونُ أنت له ولعبادِهِ، ولمَّا أظهرَ المنافقونَ الإسلامَ وأسرُّوا الكُفرَ؛ أظهرَ اللهُ تعالى لهم يوم القيامةِ نورًا على الصراط، وأظهرَ لهم أنهم يجوزونَ الصراط، وأَسَرَّ لهم أنْ يُطفئَ نورَهُم وأنْ يُحالَ بينهم وبينَ الصراطِ مِن جِنْسِ أعمالِهم، وكذلك مَن يُظِهُرُ للخَلْقِ خِلافَ ما يعلمهُ اللهُ منه؛ فإنَّ الله تعالى يُظِهُرُ له في الدنيا والآخرة أسبابَ الفلاحِ والنجاحِ والفوزِ ويُبطنُ له خِلافَها، وفي الحديث الذي رواه مسلم: ((مَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِه، ومَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ)).
فنسألُ اللهَ أنْ يرزقنا الإخلاصَ في القصدِ والنية والإحسانَ في القولِ والعمل، وأنْ يجعلنا مِن الخالصين المُخِلصين المُخلَصين.
إنه تعالى على كلِّ شيءٍ قدير وصلى اللهُ وسلم على نبيِّنا مُحمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعين.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ وَحدَهُ والصَّلاةُ والسلامُ على مَن لا نبيَّ بعدَه –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أَمَّا بَعْدُ:
فمِن المُتعينِ على من لم يُباشر قلبَهُ حلاوةُ هذا الخطابِ وجلالتُهُ ولُطفُ موقعِه، وجذبُهُ للقلوبِ والأرواحِ ومخالطتُه لها؛ أنْ يُعالِجَ قلبَهُ بالتقوى -فإذا سَمِعَ القرآنَ ولم يُباشِر قلبَهُ هذا الذي مَرَّ ذِكْرُه؛ فليُعالِج قلبَه بالتقوى-، وعليه أنْ يستفرغَ من قلبه المواد الفاسدة، التي حالت بينه وبين حظِّهِ من ذلك، وعليه أنْ يتعرضَ إلى الأسبابِ التي ينالُهُ بها؛ من صِدقِ الرغبة واللجأ إلى الله أنْ يُحيىَ قلبَه ويُزكيَّه، ويجعلَ فيه الإيمانَ والحكمة، فالقلبُ الميت لا يذوقُ طعمَ الإيمانِ ولا يجدُ حلاوتَه، ولا يتمتعُ بالحياةِ الطيبةِ في الدنيا ولا في الآخرة.
ومن أرادَ مطالعةَ أصولِ النِّعم؛ فليَسُم سَرْحَ الذِّكرِ في رياضِ القرآن، وليتأمل ما عدَّدَ اللهُ فيه من نِعمهِ، وتعرَّف بها إلى عبادهِ من أوَّلِ القرآنِ إلى آخره؛ حين خَلَقَ أهلَ النارِ وابتلاهم بإبليسِ وحِزبهِ، وتسليطِ أعدائِهم عليهم، وامتحانِهم بالشهواتِ والإراداتِ والهوى لتَعظُمَ النعمةُ عليهم بمخالفتِها وبمحاربتِها أعداءَ اللهِ على أوليائه وعبادهِ أتمَّ نعمةٍ وأكملِها في كل ما خَلَقَهُ من محبوبٍ ومكروه ونِعمةٍ ومِحنة، وفي كلِّ ما أحدثهُ في الأرضِ من وقائعِهِ بأعدائِهِ، وإكرامِهِ لأوليائِهِ، وفي كلِّ ما قضاه وقدَّرَه، وتفصيلُ ذلك لا تفي به أقلامُ الدنيا وأوراقُها ولا قُوى العباد، وإنما هو التنبيهُ والإشارة.
من استقرأ الأسماءَ الحسنى وجدَها مدائحَ وثناءً تَقصُرُ بلاغاتُ الواصفينَ عن بلوغِ كُنهِها، وتعجزُ الأوهامُ عن الإحاطةِ بالواحدِ منها، ومع ذلك فللهِ سبحانه محامدُ ومدائحُ وأنواعٌ من الثناء؛ لم تتحرك بها الخواطر، ولا هَجَسَت بها الضمائر، ولا لاحت لمتوَسِّم، ولا سَنَحَت في الفِكر.
ففي دعاءِ أعرفِ الخلقِ بربهِ، وأعلمِهم بأسمائِهِ وصفاتِهِ ومحامدِهِ: «أسأَلُك بكلِّ اسمٍ هو لكَ، سَمَّيتَ به نفسَك، أو أنْزَلتَه في كتابك، أو علمتهُ أحدًا مِن خَلقِك أَو استَأثَرْتَ به في عِلمِ الغيبِ عندَك؛ أنْ تجعلَ القرآن ربيعَ قلبي، ونور صدري وجَلاءَ حُزني وذَهاب همي وغمِّي».
وفي ((الصحيح)) عنه –صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة لمَّا يسجدُ بين يدي ربِّه قال: «فَيَفْتَحُ عَلَىَّ مِنْ مَحَامِدِهِ بِشَيْءٍ لَا أُحْسنُهُ الآن»، وهو رسول الله وأعرفُ الخلقِ بالله، وبأسمائهِ وصفاته ومحامدِهِ.
وكان يقول في سجوده: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ وَبِعَفْوك مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْك ، لا أُحْصِي ثَنَاء عَليك، أنْتَ كما أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».
فلا يُحصِي أحدٌ من خلْقِهِ ثناءً عليه البتة، وله أسماءٌ وأوصافٌ وحمدٌ وثناء؛ لا يعلمُهُ مَلَكٌ مُقرَّب ولا نبيٌّ مُرسل، ونِسبةُ ما يعلمُ العبادُ من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرةِ عصفورٍ في بحر!
وهذا القرآنُ المجيدُ عُمْدتُهُ ومقصودُهُ الإخْبارُ عن صفات الرَّبِّ -سبحانه- وأسمائهِ وأفعالهِ وأنواعِ حمدِه والثَّناء عليه، والإنباءِ عن عظمتِه وعزَّتهِ وحكمتِه، وأنواعِ صُنْعِه والتقدُّم إلى عبادهِ بأمرِه ونَهْيه على ألسِنة أنبيائِه ورُسله، وتصديقِهم بما أقامه من الشواهدِ والدلالاتِ على صِدْقِهم، وبراهينِ ذلك ودلائلَه وتبيينِ مرادِهِ من ذلك كلِّهِ.
وأنَّ أسمائَهُ تعالى الحُسنى وصفاتِهِ العُليا هي موضعُ الحمد، وأنَّ له المُلكَ التام الذي لا يخرجُ عنه شيءٌ من الموجودات؛ أعيانِها وأفعالِها، والحمدُ التام الذي وَسِعَ كلَّ معلوم، وشَمِلَ كلَّ مقدور، وله تعالى في كلِّ ما خَلَقَهُ وشَرَعَهُ حكمةٌ بالغة ونِعمةٌ سابغة، لأجلِها خَلَقَ وأَمَرَ، ويستحقُ أنْ يُثْنَى عليه ويُحمدَ لأجلِها، وكما يُثني عليه أعرفُ الخَلْقِ به –صلى الله عليه وآله وسلم-، ويَحْمَدُهُ لأسمائهِ الحسنى ولصفاته العُليا، فهو سبحانه المحمودُ على ذلك كلِّهِ أتمَّ حمدٍ وأكملَهُ؛ لِمَا اشتملت عليه صفاتهُ من الكمال وأسمائُهُ من الحُسْنِ وأفعالُهُ من الحِكَمِ والغايات، المُقتضيةِ لحَمدِه، المطابقةِ لحُكمِهِ، الموافقةِ لمَحابِّه، فإنه سبحانه كاملُ الذات، كاملُ الأسماءِ والصفات، لا يصدُرُ عنه إلا كلُّ فِعْلٍ كريمٍ مُطابقٍ للحِكمة، مُوجِبٍ للحَمْدِ، يترتبُ عليه مِن مَحابِّه ما فُعِلَ لأجلِه.
فاللهُ –عزَّ وجلَّ-؛ لا يُعرفُ إلا بأسمائهِ وصفاتهِ، ومَنْ ليست له مشاركة في هذا البابِ العظيم مِن أبواب التوحيد، والنوعِ الجليلِ منه؛ فلم يَعرف ربَّهُ، ومَن توَفَّرَ على هذا الباب؛ تَعَلُّمًا ومعرفة، وتَحَقُّقًا وتطبيقًا وتَعَبُّدًا ورِقًّا، مَن توفرَ على ذلك كذلك؛ فهو العبدُ حقًّا؛ لأنَّ اللهَ –جَلَّت قُدرتُهُ وتقدست أسمائُهُ- أخبرنا في مُحكمِ كتابِه: أنه خَلَق سبعَ سموات وخَلَق من الأرضِ مِثلهُنَّ، وجَعَلَ الأمرَ القدريَّ والأمر الشرعيَّ مُتنزَّلًا بينهن؛ لغاية ذَكَرَهَا اللهُ ربُّ العالمين؛ وهي أنْ نعرفَه –جلَّ وعلا- بأسمائِهِ وصفاتهِ.
فاللهُ ربُّ العالمين إنما خَلَق الخَلْقَ لهذه الغايةِ العظيمة، فإذا تحققت العبوديةُ الحَقَّة؛ فقد تحققت المعرفةُ الحَقَّةُ بالأسماءِ والصفات.
نسألُ اللهَ أنْ يفتحَ لنا في هذا النوعِ من أنواعِ التوحيد فتحًا مُباركًا وأنْ يرزقَنا المعرفةَ به والإقبالَ عليه وتحقيقَ العبوديةِ له –جلَّ وعلا-.
وبعدُ:
فقد كان الخوارجُ المُتقدمون أصدقَ الناسِ لهجةً وأبعَدَهم عن تَعمُّدِ الكذب؛ وذلك لأنهم يعتقدون أنَّ مرتكبَ الكبيرةِ كافرٌ كُفرًا أكبر، والكذبُ من الكبائر، فمَن كَذَبَ فهو عندهم كافر، لو مات على ذلك من غيرِ توبة؛ دخلَ النارَ خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا.
اعتقادُهم هذا من انحرافِهم عن الحقِّ وابتداعِهم في الدين، ولكنه حجزَهم عن الكذبِ ومَنَعَهُم من التَّخَرُّصِ، وهُم كلابُ النار، وقتلاهم شرُّ قتلى تحت أديمِ السماء، وهُم يمرقونَ من الدينِ كما يمرقُ السهمُ من الرَّميَّةِ، وأما الخوارجُ المعاصرون –خوارجُ العصرِ-، فهُم مِن أكثرِ كذبًا وأفحشِ الناسِ عقدًا، وأقذرِهم مَنْطِقًا.
لقد كان الخوارجُ المتقدمون مِن أكثرِ الناسِ شجاعةً وإقدامًا، وخوارجُ العصرِ مِن أكثرِ الناسِ جُبْنًا وإحجامًا، هؤلاء رؤوسُهم وقادتُهم وأُمرائُهم ومُرشدوهم سَابَقُوا النَّعامَ هربًا، ولاذوا بكلِّ خائنٍ ومُبغضٍ، وتركوا ورائَهم جُموعًا؛ يُحرِّكونهم باسمِ الدين لتَصْلَى نيرانَ الفتنةِ التي أشعلوها وفرُّوا منها هاربين وولَّوا عنها مُدبرين.
وهذه الجموعُ المخدوعةُ مِن أصحابِ الأغراضِ والأهواءِ، ومِن أهلِ الحماقةِ والغباء، مازالت تعتقدُ في أولئكَ الفارينَ من الخَونةِ والآثمين؛ اعتقادًا يدفعُها إلى تغذيةِ نيرانِ الفتنةِ بأجسادِها، وإشعالِ نيرانِها كلما خَمَدَت بأحقادِها، وإلا فهل في مصرَ كلِّهَا عاقلٌ مُمتَّعٌ بعقلهِ يلتفتُ إلى خَرَفِ القرضاويِّ –قرضَ اللهُ لسانَهُ- أو يُنْصتُ إلى هذيانِه.
على المصريين أن يعلموا أنَّ معركَتهم قائمةٌ على قدمٍ وساق، وأنَّ نَتيجتَها لا وسطَ فيها، فإمَّا أنْ يكونوا وإمَّا ألَّا يكونوا.
على المصريين أنْ يعلموا أنَّ معركَتهم قائمةٌ على قدمٍ وساق، لم تخبو نارُها، ولم ينطفئ أُوارُها، ونتيجتها لا وسطَ فيها، فإما أن يكونوا وإما ألا يكونوا.
على المصريين أنْ يتيقنوا أنَّ مستقبلَهم، لا؛ بل إنَّ وجودَهم في مهابِّ الرياحِ الأربع، فإما استقرارٌ وبناءٌ وتَقَدُّمٌ ونَمَاء، وإما فوضى وخراب واقتتالٌ ويَبَاب.
إنَّ الخَونةَ الذين أفرزتهم عقودٌ وعقود ونَمَّتهم أطماعُهم وأحقادُهم؛ قد رفعوا أعلامَ الخيانة، ونشروا للحربِ القذرةِ الراياتِ والبنود، وإنك لن ترى في أزمانٍ متطاولات؛ شريفًا يُعجزُك أنْ ترى في تاريخهِ ما يُسيءُ إليه أو يُؤخذُ عليه، في الوقتِ الذي تلوحُ تحت عينيك دلائلُ الخيانةِ من غيرهِ وعلائمُ الفُحْشِ في سواه.
يا أصحاب البَصائر التي غَشيَها الضبابُ الزاحفُ فيما غَشِي، عليكم بجِلاءِ أعينِ بصائرِكم؛ لتعرفوا الطريقَ أين يكون، ولكي يقومَ الجميعُ ببناء بلدهِ على أُسسِ الفضيلةِ، وهي حقيقةُ الدين يدعو إليها توحيدُ الخالقِ واتَّبَاعُ الرسولِ الكريم –صلى الله عليه وآله وسلم-.