الدعاء لولي الأمر

للاستماع للمحاضرة

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:

فمن علامات أهل البدع اتباع الهوي، وقد جعل الله تعالي اتباع الهوي قسيمَ الاستجابة لرسول الله صلي الله عليه وعلي آله وسلم، وكل من لم يستجب للرسول وذهب إلي قولٍ مخالفٍ لقول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم فإنه لم يذهب إلي هدي وإنما ذهب إلي هوي، والقسمة ثنائية؛ إما اتباع الرسول صلي الله عليه وعلي آله وسلم وإما اتباع الهوي، قال الله جل وعلا (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

 وفي الأمر بلزومِ جماعة المسلمين، قال في التعريفات للجرجاني (الهوى: ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعيةِ الشرع)، فاتباع الإنسان لما يهواه هو أخذُ القولِ والفعل الذي يحبه وردُّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدي من الله، وقد جاءت الشريعة الإسلامية ومن أكبر مقاصدها إخراج المكلف من داعية هواه حتي يكون عبدًا لله، حتي يكون عبدًا لله اختيارا كما هو عبدًا لله اضطرارا، فاتباع الهوي مضادٌ لاتباع الشرع، قال الله جل وعلا (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ)، وقال تعالي (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ )، وقال جل وعلا (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ)، ومن تأمل رأى أن الله تعالي لم يذكر الهوي في كتابه إلا في معرض الذم له ولمتبعيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذُكر الله الهوي في كتابه إلا ذمه.

وهل نشأت البدع والمعاصي إلا من تقديم الهوي علي ما يحبه الله ورسوله صلي الله عليه وآله وسلم، بل أصل الضلال اتباع الظن والهوي كما قال الله جل وعلا فيمن ذمهم (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى)، وقد وصف الله عز وجل الكفار بذلك وكل من له نصيبًا من هذا الوصف فله نصيبٌ من متابعة الكفار بقدر ذلك النصيب كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالي، ومن هنا سُمي أهل البدع: أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم وهم الذين في قلوبهم زيغٌ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ومن هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه منه وهم من أهل الزيغ كما قال الله جلا وعلا في كتابه العظيم، من هؤلاء الخوارج كما قال أبو إمامة رضي الله تعالي عنه، وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه ابن أبي شيبة في المصنف والآجروي في الشريعة إنه ذُكر له الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن فقال: يُؤْمِنُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيَضِلُّونَ عَنْد مُتَشَابِهِهِ وَقَرَأَ: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)، والأمثلة علي اتباع الخوارج للمتشابه وتركهم المحكم كثيرةٌ كثيرة ذكر بعضها العلامة الشاطبي في الاعتصام، وهذان مثالان:

الأول: استشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، فإن ظاهر الآية صحيحٌ علي الجملة وأما علي التفصيل فمحتاجٌ إلي بيان، وقد بيَّن ابنُ عباس رضي الله تعالي عنهما للخوارج أنَّ الحكم لله، تارةً بغير تحكيم وتارةً بتحكيم، لأنه إذا أمرنا الله تبارك وتعالي بالتحكيم  فالحكم به أي بالتحكيم حكمٌ بما أنزل الله وهو حكم الله جل وعلا، فالخوارج قطعوا قوله تعالي (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) عن قوله تعالي (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) ونحوِها من آيات التحكيم.

الثاني من المثاليين: استشهاد الخوارج علي كُفر الحاكم بقوله تعالي (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وهذا الاستشهادُ ليس وليد عصرنا، بل خوارج عصرنا رووه بالإسناد المتصل إلي شيوخهم الخوارج الأولين الذين خرجوا علي أمير المؤمنين عليًا رضي الله تعالي عنه (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

أخرج ابنُ وهب عن بُكير أنه سأل نافعًا: كيف رأْي ابن عمر في الحرورية؟ وهم الخوارج الذين خرجوا علي عليٍّ رضي الله تعالي عنه ونزلوا حروراء وهي بُليدة أو قريةٌ بالعراق فنُسبوا إليها، فقيل لهم الحرورية، فأخرج ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف رأْي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شِرار خلْقَ الله، إنهم انطلقوا إلى آياتٍ أُنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين، فُسُرَّ سعيد بن جبير من ذلك، فقال: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله جل وعلا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ويقرنون معها (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه، ومن عدل بربه فقد أشرك، فهذه الأمة مشركون، فهذا استدلالهم فيخرجون فيقتلون ما رأيت، لأنهم يتأولون هذه الآية، يعني علي هذا الوجه؛ وقد أخرج نحوه الآجروي في الشريعة من قول سعيد بن جبير وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد مقتصرًا علي الجملة الأولي، وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد بن حنبل (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قلت فما هذا الكفر؟ قال كُفر لا يُخرج من الملة، وسأله نحو ذلك بن هانئ فأجابه بذلك أيضًا، فهذا ما عليه السلفُ قاطبةً في تفسيرِ هذه الآية، وهو ثابتٌ بالأسانيد الصحيحة عن حَبْرِ الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله تعالي عنهما، ومع صراحةِ ما جاء في تفسيرِ هذه الآية عن جماعات السلف ومن تَبعهم إلي يومنا هذا، إلا أن الخوارج يأبون التسليم للصحابة وتابعيهم رضي الله عنهم، يأبون التسليم لهم في ذلك فيُصرون علي تكفير الحاكم بهذه الآية، ويجادلون بالباطل، ويتعلقون بالمتشابهات، فما أعظم الهوي الذي ركبوه وما أسوء ما اعتقدوه (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

أخرج الخطيبُ في تاريخ بغداد أن رجلًا من الخوارج دخل علي المأمون فقال له المأمون: لِما تُكفِّرُنا؟ فقال الخارجيُّ: لآيةٍ في كتاب الله تعالي، أو بآيةٍ في كتاب الله تعالي، فقال المأمون: و ما هي؟ قال الخارجيُّ: قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) فقال المأمون: ما دليلك على أنَّ هذه الآية في كتاب الله جل وعلا؟  فتعجب الخارجيُّ جدًا وقال: إجماعُ المسلمين علي ذلك، أي: أجمع المسلمون علي أنها في كتاب الله جلَّ وعلا، فقال المأمون: كما رضيت إجماعهم في التنزيل فَارْضَ بإجماعهم في التأويل، ومع إجماعهم ذلك في التأويل والتفسير فهناك دلالةُ اللغة، وفي الآيات الثلاث (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، ( .... فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، ( ... فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، ولكن في الآيات الثلاث (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ .. )، فهذا فيه عمومٌ من وجهين:

الوجه الأول: أنها عامةٌ في جميعِ المسلمين سواءٌ كانوا حاكمين أو محكومين فتعمُّ الحاكم والقاضي، والأستاذ والمعلم، ورب البيت والزوجة وغيرهم، فتعمُّ جميع المسلمين (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ .. ) فالعموم الأول مُستفاد من قوله تعالي في الآيات الثلاث (وَمَنْ) فهذه من ألفاظِ العموم تعمُّ جميع المخاطبين.

العموم الثاني أو الوجه الثاني: من الآيةِ في العموم: قوله تعالي في الآيات الثلاث (بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) فمَا من ألفاظ العموم، فيشمل كل حُكمٍ في الدين ويدخل في ذلك الشُرب باليمين كما يدخل فيه إعفاء اللحية وإحفاءُ الشارب، فكل هذا مما أمر به الله ورسوله صلي الله عليه وسلم، فإذًا هو مما أنزل الله، علي فهم الخوارج يكون المخالف في ذلك كافرًا مرتدًا، فالذي يأكل بشماله علي فهم الخوارج للآية يكون خارجًا من الملة، ويُرتَّبُ عليه جميعُ أحكام المرتد، فتحرُم عليه امرأته وإذا مات لا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلي عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وتسقط ولايته عن حريمه وما أشبه، وإذا مات له أحدٌ يرثه قبل أن يُقام عليه ما يُقام علي المرتد بالقتل فإنه لا يرثه، وأيضًا هو إذا ما أُقيم عليه ذلك فإنه لا يرثه من يرثه ممن خلَّفه من المسلمين، فهؤلاء جميعًا يتناقضون هذا التناقضَ العظيم، وكلُّه إنما جاء بسبب ما هم عليه من الفهم المغلوط، يقول الله جل وعلا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ .. ) فههنا عموم من وجهين: عمومٌ في الحاكم وعمومٌ في المحكوم به، فيدخل فيها جميعُ انواع المخاطبين، وكذلك يدخلُ فيها كل أحكام الدين مما شرع الله رب العالمين في كتابه وعلي لسانِ نبيه صلي الله عليه وسلم، فمن قال بالكفر الأكبر المُخرج من المِلَّة الذي يكون رِدةً وخروجًا من الدين، فإنه ينبغي أن يُرتب على ذلك ما مر من اللازم الذي لا ينفك عنه، أنَّ كل من خالف في أمرٍ من أمور الشريعة مهما كان، سواء حلق لحيته، أو لم يأخذ من شاربهِ، أو أكل بشماله، فينبغي عليه أن يرتب على هذه المخالفات أحكام الكُفر الأكبر، وهل يقول بذلك عاقل، إذًا هو كُفرٌ دون كُفر.

الله رب العالمين أنزل هذا الكتاب المبين قرآنًا عربيًا، فأنزله بهذه اللغة الشريفة، وينبغي أن يُفهم القرآن العظيم بهذه اللغة التي أنزله اللهُ تبارك وتعالى بها، وعند التفسير؛ نُفسِّر القرآن بالقرآن، فإن لم نجد؛ فسرنا القرآن بالسُنة، فإن لم نجد ؛ نرجع إلى أقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن لم نجد؛ فإننا نصير إلى الحقيقة اللغوية في منتهى الأمر، وأما هؤلاء؛ فلا يلتزمون حقيقةً شرعية، ولا حقيقةً لغوية، ولا حقيقةً عُرفية، وأَلْزِموهم بهذا اللازم في العموم في الآيات التي يستدلون بها، وسوف تتنزل الآيات عليهم، عليهم هُم، فإننا لو حكمناهم لقانونهم ؛ لصاروا كافرين مرتدين!

هؤلاء الذين يُكفِّرون بالتأويل حكموا بغير ما أنزل الله .

هؤلاء الذين يعتدون على أبشارِ المسلمين وأرواحهم وأموالهم يحكمون بغير ما أنزل الله، وعندهم أنَّ كل من حكم بأمرٍ من الأمور خالف في هذا الأمر ما أنزل الله  فهو كافر كفرًا أكبر، فعليه؛ لو نزَّلنا عليهم؛ لكفرناهم كما كفَّروا عموم المسلمين ؛ ولكننا لا نفعل ذلك؛ لأنهم جُهال، جُهال لا يعلمون .

إذًا ؛ هؤلاء لا يُلتفت إلى كلامهم في دين الله جل وعلا .

ومما اتبع فيه الخوارج أهواءهم وأطاعوا فيه شياطينهم: الدعاء على ولاة الأمور. والدعاء من أعظم العبادات؛ بل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :{الدعاءُ هو العبادة }، أخرجه أبو داود والترمذيُّ وابن ماجة وغيرهم بإسنادٍ صحيح .

 { الدعاء هو العبادة }.

{ الدعاء العبادة }: جملة مُعرَّفةٌ الطرفين تفيد القصر: { الدعاء العبادة }، واستعمال ضمير الفصل يزيد القصر قصرًا: { الدعاء هو العبادة } .

وقد توعد الله جل وعلا من صرف هذه العبادة لغيره، توعده بجهنم مع الذلة والصغار؛ فقال ربنا جل وعلا: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي – يعني عن دعائي - سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  } أي أذلة صاغرين.

فهذا بعض ما ورد في شأن الدعاء.

قال في { معاملة الحكام } :

صلاح ولاة الأمر مطلب لكل مسلم غيور على دينه؛ إذ صلاحهم صلاح للعباد والبلاد، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته : اعلموا أن الناس لن يزالوا بخير ما استقامت لهم ولاتهم وهُداتهم .

أخرجه البيهقي في {السُنن} في { كتاب قتال أهل البغي }، في { باب : فضل الإمام العادل } بإسنادٍ صحيح .

وفيها – أي في السُنن – عن القاسم بن مخيمرة قال: إنما زمانكم سلطانكم، فإذا صلح سلطانكم صلح زمانُكم، وإذا فسد سلطانُكم فسد زمانُكم - إنما زمانكم سلطانكم .

وصلاح الولاة إلى الله تبارك وتعالى وحده، فهو وحده الذي يَقوى على إصلاح الفاسد، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فكان حقا على كل مؤمن بالله تعالى واليوم الآخر أن يدعو لولاة الأمر بالتوفيق والهداية، إلى طاعة الله جل وعلا والسير في مرضاته؛ لأن نفع ذلك يعود على كل مؤمن بالخير في الدين والدنيا .

ذكر ابن المُنيِّرِ المالكي رحمه الله تعالى في {الانتصاف} أنه نقل عن بعض السلف أنه دعا لسلطانٍ ظالم، فقيل له: أتدعو له وهو ظالم ؟! فقال: إي والله أدعو له، إنما يدفع الله ببقائه أعظم مما يندفع بزواله .

وأخرج البيهقي في {شُعب الإيمان} عن أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الواعظ الزاهد أنه قال بعد روايته لحديث تميمٍ الداري مرفوعًا: {الدين النصيحة} قال: {فانصح للسلطان، وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد بالقول والعمل والحُكم، فإنهم إذا صلحوا؛ صلح العباد بصلاحهم، وإياك أن تدعو عليهم باللعنة فيزدادوا شرًا، ويزداد البلاءُ على المسلمين؛ ولكن ادعُ لهم بالتوبة، فيتركوا الشر، فيرتفع البلاء عن المؤمنين }.

لقد اعتنى علماء المسلمين الذين هم علماءُ المسلمين، اعتنوا بهذه القضية، بقضيةِ الدعاء لولاة الأمر، اعتنوا بها عنايةً واضحة، وتجلَّت في صورٍ ناصعةٍ رائعة، منها:

أولا: إيداع الأمر بالدعاء للولاة؛ ولاة الأمور في مختصرات العقائد السلفية التي يُطالب المسلم باعتقاد ما فيها؛ لكونه مبنيًا على الحُجج الشرعية من كتاب الله وسنة نبيه وإجماع هذه الأمة المَرضية .

ثانيًا : تخصيص بعض علماء الإسلام والسُنة مؤلفًا في ذلك، فيصنف مصنفًا في الدعاء لولاة الأمور؛ فقد ألف الإمام العلامة المفتي المُحدث الرحال بقية السلف سيد المعمرين الأخيار عَلم السنة – كما وصفه بذلك الذهبي في معجم الشيوخ - يحيى بن منصور الحرانيُّ الحنبلي – المعروف بابن الحُبيشي – كتب كتابًا سماه : { دعائمُ الإسلام في وجوبِ الدعاء للإمام } .

وابن الحُبيشي هذا له مناقب جمَّة، عدَّد بعضها ابن رجب في {ذيل طبقات الحنابلة}، فكان منها: قولُ الحق، وإنكارُ المنكر على من كان، لم يكن عنده من المداهنةِ والمراءاة شيء أصلًا، يقول الحقَّ ويصدع به، وذلك ليُعلم أنَّ علماء الإسلام والسُنة يألِّفون في هذه الأمور، ويتكلمون فيها بعيدًا عن الأغراض الدنيئة الدنيوية، ألفوا في ذلك وتكلموا فيه ديانةً لله تعالى، وبيانًا لدين الله عز وجل، وخوفًا على الأمةِ من الاختلافِ المؤدي إلي الهرْجِ والخلاف على السلطان، لم يبتغوا بذلك عرضًا زائلًا، لم يبتغوا بذلك ظِلًا حائلًا، لم يتوصلوا بذلك إلى شيءٍ من متاع الدنيا الفانية، وإنما أدوا ما عليهم، يَدْعون إلى الله جلَّ وعلا، ويُبرؤون ذمتهم، ويحافظون على أمتهم .
فلا تغتر بأولئك المنافقين الذين يَنهون عن التأليف، بل عن الحديث في أمثال هذه الأمور، ويُرجفون بأن ذلك مداهنة، وأنه مراءاة؛ لا والله بل هو دينٌ وشرع .

وأما أولئك المنافقون من المرجفين؛ فإنهم يقولون: هؤلاء علماء السلطان ! يقولون : هؤلاء علماء ذيلِ بغلة السلطان! لأنهم يبيِّنون للناس أنه ينبغي عليهم أن يحترموا أمراءهم، وأن يحترموا علماءهم، والأمراء والعلماء هم أولوا الأمر في هذه الأمة، فينبغي أن يُطاعوا وألا تُسقط هيبتهم؛ حتى قرر الفقهاء كما هو معلومٌ في مظانه أنه لو قَطع إنسانٌ ذيلَ بغلةٍ من البِغال؛ فلا أرْشَ عليه، والأرْش كالتعويض، فجعلوا ذلك هَدَرًا إذا وقع في بغلةٍ لأحدٍ من عوام المسلمين من آحادهم إلا بغلة السلطان، فإن من قطع ذيل بغلة السلطان فعليه الأرش ؛ لماذا ؟

لأنه لو ركب بغلة بغير ذيل؛ لسقطت هيبته من أعين العوام، ولدخلوا عليه مجلس التقاضي وهم مُستخفون به؛ بل إن ألسنتهم تنطلق في حقه بما لا يليق، ويقول قائلهم: تُنظر قضيته عند ذلك القاضي الذي له بغلةٌ مقطوعة الذيل، ويتهكمون عليه، قالوا: لا، فإذا قطعَ ذيلَ بغلة السلطان فعليه الأرش .

لو أن إنسانًا قال هذا للمسلمين ليتقوا ربهم؛ فهل عليه من عابٍ أو عليه من تثريب ؟!

أما عند المُرجفين والمنافقين من الخوارجِ وغيرِهم؛ فيقولون: حزبُ ذيل بغلة السلطان!!

عبثٌ عابث، وضلالٌ مُضل، والله حسبنا ونعم الوكيل .
ثالثًا : جعل بعض العلماء المحققين علامة من كان سنيًا سلفيًا: الدعاءَ لولاة الأمر، وعكسه: من كان مبتدعًا ضالًا؛ دعا على ولاة الأمر. 
قال العلامة البربهاري – رحمه الله – في { شرح السُنة }:
وإذا رأيت الرجل يدعوا على السلطان؛ فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح؛ فاعلم أنه صاحب سُنة – إن شاء الله - .
فترى هذا الاهتمام القوي من السلف بالدعاءِ لولاة الأمر واضحًا جليًّا، وهُم في ذلك متبعون، سالمون من الهوى، مُقدِّمون لنصوص الشريعة على حظوظ النفس وما تهوى. 
وإليك جملة مما جاء عن أهل السُنة المرضيين في ذلك: 
أخرج الخلال في { السنة } عن أبي مسلم الخولاني – رحمه الله تعالى– أنه قال عن الأمير:  إنه مُؤمَّرٌ عليك مثلك، فإن اهتدى فاحمد الله، وإن عمل بغير ذلك؛ فادع له بالهدى، ولا تخالفه فتضل . 

أخرج ابن أبي عاصم في {السنة} بإسناد صحيح، والبيهقي في {الشعب} عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: « نهانا كبراؤنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم، ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا، فإنَّ الأمر إلى قريب » .

ومعلومٌ عند علماء أصول الفقه أنَّ النهي عند الإطلاق يقتضي التحريم .

قال الإمامُ الطحاويُّ رحمه الله :

"ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا وظلموا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزعُ يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعةِ الله عز وجل فريضة، ما لم يَأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة ".   
أخرج أبو نُعيم في {الحلية} قال: حدثنا محمد بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو يعلى الموصلي، قال: حدثنا عبد الصمد بن يزيد البغدادي – ولقبُه مردويه -، قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول  لو أن لي دعوة مستجابة ؛ ما صيَّرتها إلا في الإمام . 
قيل : وكيف ذلك يا أبا على  - وهي كنية الفضيل رحمه الله - ؟ 
قال : متي صيَّرتها في نفسي لم تعْدُني، لم تتجاوزني، ومتي صيرتها في الإمام – يعني : عمَّت -، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد، فقبَّل عبد الله بن المبارك جبهته وقال  يا مُعلم الخير‍ ومن يُحسن هذا غيرك ؟ 
وأخرج الخلال في {السنة} عن حنبل أن الإمام أحمد قال عن الإمام - عن المتوكل رحمه الله - : 

وإني لأدعو له بالتسديدِ والتوفيق في الليلِ والنهار والتأييد، وأري ذلك واجبًا عليّ.

يرى الدعاء له بالخير والتسديد والتأييد والتوفيق واجبًا عليه .
وأخرج أيضًا – يعني الخلال في السُنَّة - عن أبي بكر المروذي قال : سمعت أبا عبد الله وذكر الخليفة المتوكل – رحمه الله–، ولقبه : ناصر السُنة، فقال عندما ذكره الإمام أحمد قال : إني لأدعو له بالصلاح والعافية. 
وقال : لئن حدث به حدث؛ لتنظرن ما يحل بالإسلام .

لأنهم كانوا لا ينظرون إلا تحت أقدامهم، فقال : ارفعوا رؤوسكم، انظروا إلى بعيد، استشرفوا، انظروا إلى المستقبل القريب لا البعيد: { لئن حدث له حدث؛ لتنظرن ما يحلُّ بالإسلام } . 
قال أبو عثمان الصابوني في { عقيدة السلف أصحاب الحديث } :

ويرون – يريد أهل السُنة - الدعاء لهم – أي للأئمة للحكام - بالإصلاح والتوفيق والصلاح، وبسْط العدل في الرعية.
وقال أبو محمد البربهاري رحمه الله في {شرح السنة} :

 فأمرنا أن ندعوا لهم بالصلاح، ولم نُؤمر أن ندعو عليهم، وإن ظلموا وجاروا، لأن ظُلمهم وجورهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين 

وقال أبو بكرٍ الإسماعيلي في {اعتقاد أهل السنة}:

 ويرون الدعاء لهم بالصلاح والعطف إلي العدل – أي والميلِ إليه - .

 فحقيقٌ على كل رعية أن ترغب إلي الله جل وعلا في إصلاح السلطان، وأن تبذلَ له نصحه، وتخصه بصالح دعائها، فإنَّ في صلاحه صلاح العباد والبلاد، وفي فساده فساد العباد والبلاد .
قال الآجري في كتاب {الشريعة} :

وقد ذكرتُ من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغٌ لمن عصمه الله تعالى عن مذاهب الخوارج، ولم ير رأيهم، فصبر على جورِ الأئمة، ودعا للولاة بالصلاح، وحجَّ معهم، وجاهد معهم كل عدوٍ للمسلمين، فصلى خلفهم الجمعة والعيدين، فمن كان هذا وصفه؛ كان على الصراط المستقيم إن شاء الله .

فها أنت ترى علماءنا المتقدمين من سلفنا الصالحين يجعلون هذا في كُتب الاعتقاد، ويَدْعون المسلمين إلى الأخذ بهذا الأصل من أصول أهل السنة ؛ ليُجانبوا الخوارج وما هم عليه من الرأي المذموم والاعتقاد المرذول.

عندما تقول هذا الكلام الذي ورثته كابرًا عن كابر، عن علمائك المتقدمين الذين علوا ونهلوا من معينِ السنة الصافي مما جاء إليهم مُتحدرًا كالغمام بماءٍ طَهور من الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما تقول هذا؛ يقولون: هؤلاء عُباد الطاغوت، هؤلاء عبدةُ الطاغوت، هؤلاء أحذية السلاطين، تحملوا إذًا إثم الأعراض المنتهكة، والأبشار التي جُرحت، والأنفس التي أُزهقت، والأموال التي بُعثرت ونُهبت، والأرض التي سُلبت، والديار التي هُدَّمت، تحملوا إثم الخرائب التي تنعق عليها الغربان في نواحي ديارِ الإسلام، تحملوا إثمَ الفوضى، تحملوا ضياع بلدان المسلمين بعدما نَعِمَت في ظلِّ الإسلام بالتوحيد والسُنة، وإنْ شاب ذلك ما شابه، تحملوا إثم ضياعِها، ليستولي عليها أعداء الدين؛ الذين يُبغضون رسول الله صلي الله عليه وسلم، ويبغضون القرآن، ويُبغضونكم يا أهل السُنَّة، يقولون الديموقراطية؛ ولابد أن نقول رأينا وأن نُعبر عما يعتمل بين جوانحنا، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، يدَعون الدر ويلتقطون البَعْر، ماذا يصنعون؟! يتبعون شِرعة الغربيين مما أحدثوه من دين، ويتركون دينَ محمدٍ الأمين صلي الله عليه وآله وسلم.

سُأل العلامةُ ابن باز رحمه الله تعالى، وهو من المعاصرين، لأنَّ هذا الأمر مَضى من منشأه؛ من منبعه، وسيظل ماضيًا ساريًا كالماء الطَهور في نهره إلي مَصبهِ، حتي يرث الله الأرض وما ومَن عليها.

سُأل: هل من مقتضى البيعة حفظك الله تعالى الدعاءُ لولي الأمر؟

فأجاب بقولهِ:

من مقتضى البيعة النُصح لولي الأمر، ومن النُصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة، لأن من أسباب صلاح الوالي، ومن أسباب توفيق الله له، أن يكون له وزير صِدق يعينه علي الخير، ويُذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، هذه من أسباب توفيق الله تعالي له، فالواجب علي الرعية، وعلي أعيان الرعية، التعاون مع ولي الأمر في الإصلاح وإماتة الشر والقضاء عليه، وإقامة الخير بالكلام الطيب والأسلوب الحسن والتوجيهات السديدة التي يُرجى من ورائها الخير دون الشر، وكلُّ عملٍ يترتب عليه شر أكثر من المصلحة؛ لا يجوز، لأنَّ المقصود من الولايات كلها تحقيق المصالح الشرعية ودرءُ المفاسد، فأيُّ عملٍ يعمله الإنسان يريد به الخير ويترتب عليه ما هو شرٌّ مما أراد إزالته وما هو مُنكر؛ فعمله لا يجوز.

سُأل: ومن يمتنع من الدعاء لولي الأمر حفظك الله؟

قال: هذا من جهلهِ، وعدم بصيرته، لأن الدعاء لولي الأمر من أعظم القُربات، ومن أفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده، والنبي صلي الله عليه وسلم لما قيل له إنَّ دَوْسًا عَصَت وهُم كُفار، قال "اللهم اهدي دَوسًا وأتِ بهم، فهداهم الله وأتوا مسلمين".

فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطان أولي مَن يُدعى له، لأن صلاحه صلاحٌ للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء، ومن أهم النُصح، أن يُوفَّق للحق، وأن يُعان عليه، وأن يُصلح الله له بطانته، وأن يكفيَه الله شرَّ نفسه وشرَّ جلساء السوء، فالدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح القلب والعمل وصلاح البطانة من أهم المهمات، ومن أفضل القُربات، وقد رُوى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال "لو أعلم  أن لي دعوةً مستجابة لصرفتها للسلطان"، وهو مرويٌ عن الفضيل بن عياض أيضًا، رحم اللهُ سلفنا أجمعين.

وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وأصحابه ومَن تَبعهم بإحسان إلي يوم الدين.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَينِ مُتَلَازِمَينِ إِلَى يَومِ الدِينِ، أَمَّا بَعْدُ:

فإن علمائنا تأسيسًا علي نصوصِ ديننا من كتابِ ربنا وسُنَّة نبينا صلي الله عليه وآله وسلم، قرروا أننا ما أُصبنا بشرٍّ إلا من أنفسِنا، وأنه ما نزل بلاءٌ إلا بسبب ذنوبِنا، فما من بلاءٍ ينزل إلا بذنب، ولا يُرفع بلاءٌ إلا بتوبة، فعرفوا الطريق.

علمائنا نظروا إلي كلامِ ربنا وإلي سُنة نبينا، وتأملوا في حالِ الأمة، وفي حال الأمم السابقة، واستخرجوا لنا الدررَ من أعماق البحار، فمهما وجدتم من حُكامكم ما تكرهون، فاعلموا أنه بما قدَّمت أيديكم، فلماذا لا تُصلحون أنفسكم؟! وكما تكونوا يُولي عليكم، فينبغي علينا أن نعرف هذا معرفةً صحيحة، وأن نجتهد في إصلاح أنفسنا، وقد بيَّن اللهُ تبارك وتعالي لنا الطريق، فقال جلَّ وعلا " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، لم يَقُل ربنا حتي يغيروا ما بحكامهم، أو حتي يغيروا حكامَهم، وإنما قال " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".

الإخوان المسلمون سببُ البلاءِ والشر في الأمة في هذا العصر، يتلونون كالحرباء في كل عصرٍ ومَصْر، ومع كل نظامٍ وحُكم، لا يرقبون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذِمة، فتارةً يرون الديموقراطية كُفرًا ووبالًا ماحقًا بالأمة، وتارةً يقولون لم يصل العقلُ الإنساني في عصرٍ من العصور إلي مِثل الحكم الديموقراطي، وسنحتكم إلي الصندوق، ويأتي من يأتي مِنَّا بالصندوق، ونحتكمُ إلي الناخبين، حتي قال ضال من ضُلالهم الكبار، وهو عصامٌ العُريان زاده الله عُريًا، وقد قيل له: لو أنَّ الصندوق أتي ببوذىٍّ يحكم البلاد، فهل توافقون عليه؟ قال: مادام قد جاء بالصندوق، فنحن نوافق عليه، كما قال مرشدهم السابق أو الأسبق، اللهُ أعلم فيما يدور في الكهوف المظلمة وتحت الأرض، قال مهدي عاكف وهو عاكفٌ لا علي الهداية، وإنما علي ضدها، قال: إنَّا لنتعاون مع الشيطان من أجلِ مصلحة الجماعة.

يستنزلون اللعنات علي أهلِ الأرض، يضلُّ الضال بسبب ضلالهم، علَّموا الأمة كيف تخرجُ على الأئمة، وعلَّموا الشباب في هذا العصر مع الصليبيين من الأمريكيين وغيرِهم، فأُرسل الشبابُ في مؤسساتِ ومنظماتِ المجتمع المدني إلي صربيا، ليعودوا بحركة السادس من أبريل، الشعار هو الشعار، والمبادئ هي المبادئ، وآخرون يذهبون إلي منظماتِ المجتمع المدني الصهيونية في أمريكا نفسِها وفي غيرها، فعلموا الشباب كيف يصنع الثورات، ويخرج علي الحكام، ويعيثوا في الأرضِ الفساد، وهو شبابٌ في الجُملة لم ينتمي إلي أرض ولا عِرض ولا دينٍ ولا عقيدة، وإنما صنعوه علي أعينهم، فحُرِّك كما يشاءون ووصلَ إلي ما يريدون، " وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".

قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: «وتَأمَّلْ حِكمتَه تَعالى في أن جعَلَ مُلوكَ العِبادِ وأُمراءَهم ووُلاَتَهم مِن جِنس أَعمالِهم، بل كأنَّ أَعمالَهم ظهرَت في صُوَر وُلاَتهم ومُلوكِهم، فإن استَقامُوا استَقامَت مُلوكُهم، وإن عدَلوا عدَلَت علَيهم، وإن جارُوا جارَت مُلوكُهم ووُلاَتُهم، وإن ظهَرَ فيهم – أي في الرعية - المَكرُ والخَديعةُ فوُلاَتُهم كذَلكَ، وإن مَنَعوا حُقوقَ الله لدَيهم وبَخِلوا بها مَنعَت مُلوكُهم ووُلاَتُهم مَا لهم عندَهم مِن الحقِّ وبَخِلوا بها علَيهم، وإن أَخَذوا ممَّن يَستَضعِفونه مَا لاَ يَستَحقُّونه في مُعاملتِهم أَخذَت مِنهم المُلوكُ مَا لاَ يَستَحقُّونه وضَرَبَت علَيهم المُكوسَ والوَظائفَ، وكلُّ مَا يَستَخرِجونَه من الضَّعيفِ – أى في الرعية - يَستَخرِجُه الملوكُ مِنهم بالقوَّةِ، فعمَّالُهم ظهَرَت في صُوَر أَعمالِهم – عمالكم أعمالكم، فأحسنوا أعمالكم، اتقوا الله في أنفسكم؛ في دينكم، تمسكوا بعقيدتكم، اتبعوا نبيكم صلي الله عليه وآله سلم – قال: وليسَ في الحِكمةِ الإلهيَّةِ أن يُوَلَّى على الأَشرارِ الفجَّارِ إلاَّ مَن يَكونُ مِن جِنسِهم، ولمَّا كانَ الصَّدرُ الأوَّلُ خِيارَ القُرونِ وأبرَّها كانَت ولاَتُهم كذَلكَ، فلمَّا شابُوا شيبَت لهم الولاَةُ، فلمَّا شابُوا شيبَت لهم الولاَةُ، فحِكمةُ الله تَأبَى أن يُوَلَّي علَينا في مِثل هَذهِ الأَزمانِ –وهو من أبناء القرن الثامن – قال: فحِكمةُ الله تَأبَى أن يُوَلَّي علَينا في مِثل هَذهِ الأَزمانِ مِثلُ مُعاويةَ وعُمرَ بنِ عَبدِ العَزيز فَضلاً عن مِثل أبي بَكرٍ وعُمرَ، بَل ولاَتُنا على قَدْرنا، ووُلاَةُ مَن قَبلَنا على قَدرِهم، وكلٌّ مِن الأَمرَين مُوجبُ الحِكمةِ ومُقتَضاها، ومَن له فِطنةٌ إذَا سافَرَ بفِكرِه في هَذا البابِ رأَى الحِكمةَ الإِلهيَّةَ سائرَةً في القَضاءِ والقَدَر ظَاهرةً وبَاطنةً فيهِ، كما في الخَلقِ والأَمرِ سَواءً بسواء، فإيَّاكَ أن تظنَّ بظنِّك الفاسدِ أنَّ شَيئًا مِن أَقضيتِه وأَقدارِه عارٍ عن الحِكمةِ البَالغةِ، بل جَميعُ أَقضيَتِه تَعالى وأَقدارِه وَاقعةٌ على أتمِّ وُجوهِ الحِكمةِ والصَّوابِ، ولَكنَّ العُقولَ الضَّعيفةَ مَحجوبةٌ بضَعفِها عن إِدراكِها كما أنَّ الأَبصارَ الخُفاشيَّةَ مَحجوبةٌ بضَعفِها عن ضَوءِ الشَّمس، وهَذهِ العُقولُ الصِّغار إذَا صادَفَها الباطِلُ جالَتْ فيه وصالَتْ ونطقَتْ وقالَتْ، كما أنَّ الخُفَّاش إذَا صادَفَه ظلاَمُ اللَّيل طارَ وسارَ.

خَفافِيشُ أَعْشاهَا النَّهارُ بضَوئِهِ :::ولاَزَمَها قِطعٌ مِنَ اللَّيْل مُظْلِم».

هذه هي المسألة، فهلا تدبرها أهلُ الإسلام وشبيبته، هلا اتقوا الله عز وجل في أوطانهم ودينِهم ومستقبلِهم ومستقبلِ أبنائِهم وحفدتِهم، هلا اتقوا الله عز وجل في هذا الدين الذي حمَّلهم الله تعالي مسئوليته في هذا العصر، فالمسلمون يحملون مسئوليةَ الدين في هذا العصر.

عندما يضيعُ الإسلام، أو تضيع أرضُهُ، حاشا لله أن يضيعَ الإسلام، ولكن في هذا العصر أو في غيرِه، علي صورةٍ نسبيةٍ في بعض الأماكن والبلدان، ستأتي أجيال وسنمضي، نمضي تمامًا كالرمال تسفي بها الريح في يومٍ عاصف، تُمحقُ علي الجنبات والطُرقات، وتَعصف في جنبات فلواتها الرياح مدمدمةً كأنها زمزمة الجن الغاضب، سنمر ولن يَبقي منَّا أحد، لا من الحكام ولا من المحكومين، وأما ما سُطر في صحيفة الحسنات أو في صحيفة السيئات؛ فأحصاه اللهُ ونسوه.

وأما التاريخ فإنه في الجُملة شاهدٌ لا يرحم، وسيشهدُ بالذي يكون، ثم بعد حين يشهدُ بالذي كان، وتُستنزلُ اللعنات علي جيلٍ فاشلٍ ضعيفٍ لا رأي له، مُتهافتٍ لا يتماسك، علي جيلٍ صُنع علي أعين الأعداء، الرجالُ فيه كالأطفال، والشبابُ فيه كالنساءِ والبنات، لا عزمَ ولا همَّة ولا قوة تلاقي المُلمة، وإنما استسلامٌ خانع لأفكار كُفرية، ومواضعاتٍ شِركية، ويدَعون دينَ الحق الذي هَدي إلي الحق وإلي صراطٍ مستقيم.

يا أمتي أفيقي وانتبهي!!

يا أمتي اتقِ الله في دينكَ!!

واستعيني بالله علي يقينك!!

وسيري علي هَدْيٍ مِنه وهُدَى.

والله يرعاكِ ويتولاكِ، ويُسدِّدُ علي طريقِ الحقِّ خُطاكِ.

وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نَبِيِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجمَعِين.