الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعلي آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:
فقد قال الله جلَّ وعلا إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم
المحاربونَ للهِ ورسولهِ هُم الذين بارَزوه بالعداوة وأفسدوا في الأرضِ بالكُفرِ والقتلِ وأخْذِ الأموالِ وإخافةِ السُبُل، والمشهورُ أنَّ هذه الآيةَ الكريمة في أحكامِ قُطَّاع الطريق الذين يَعْرِضونَ للناسِ في القرى والبوادي، فيَغْصبونهم أموالَهم ويقتلونهم ويُخيفونهم فيمتنعُ الناسُ مِنْ سلوكِ الطريق التي هُم بها، فتنقطعُ بذلك.
فأخبرَ اللهُ أنَّ جزاءَهُم ونَكَالَهُم عند إقامةِ الحدِّ عليهم أن يُفعلَ بهم واحدٌ مِنْ هذه الأمور.
واختلف المفسرون: هل ذلك على التخيير، وأنَّ كلَّ قاطعِ طريقٍ يَفعلُ به الإمامُ أو نائبهُ ما رآه المصلحةَ مِن هذه الأمور المذكورة في الآية؟ وهذا ظاهرُ اللفظ، أو أنَّ عقوبتَهم تكون بحَسِبِ جرائمهم؟، فكلُّ جريمةٍ لها قسطٌ يقابلها كما تدلُّ عليه الآية بحكمتِها وموافقتِها لحكمةِ الله تعالي وأنهم إنْ قتلوا وأخذوا مالًا تَحتَّم قَتْلُهم وصَلْبُهم حتى يُشتهروا ويُرتدعَ غيرُهم، وإنْ قتلوا ولم يأخذوا مالا تحتَّم قتْلُهم فقط، وإنْ أخذوا مالًا ولم يقتلوا تحتَّم أن تُقطَّعَ أيديهم وأرجلُهم مِن خِلاف، اليد اليمنى والرِجْل اليسرى.
وإنْ أخافوا الناس ولم يَقتلوا ولا أخذوا مالًا نُفوا منْ الأرض، فلا يُتركون يأوون في بلدٍ حتى تظهرَ توبتهم، وهذا قولُ ابن عباس رضي الله تعالي عنهما وكثيرٍ مِنْ الأئمة على اختلافٍ في بعض التفاصيل.
ذَلِكَ أى: ذلك النكالُ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا أى: فضيحةٌ وعار، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ ، فدلَّ هذا علي أنَّ قطْعَ الطريقِ مِنْ أعظمِ الذنوب، مُوجِبٌ لفضيحةِ الدنيا وعذابِ الآخرة، وأنَّ فاعلَهُ أي أنَّ قاطعَ الطريقِ محاربٌ للهِ ولرسولهِ، وإذا كان هذا شأنَ عِظَمِ هذه الجريمة، عُلِم أن تطهيرَ الأرض من المفسدين وتأمينَ السُبُلِ والطرقِ عن القتلِ وأخْذِ الأموالِ وإخافةِ الناس؛ عُلِم أنَّ هذا مِن أعظم الحسنات وأجلِّ الطاعات، وأنهُ إصلاحٌ في الأرضِ كما أنَّ ضدَّهُ إفسادٌ في الأرض.
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ }أي من هؤلاء المحاربين، { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}: أي فيسقطُ عنه ما كان للهِ مِن تَحَتُّمِ القتلِ والصَلْبِ والقطعِ والنفي، ومِنْ حقِّ الآدمي أيضًا إنْ كان المحاربُ كافرًا ثم أسلم، فإنْ كان المحاربُ مُسلمًا فإنَّ حقَّ الآدمي لا يسقطُ عنه مِن القتلِ وأخذِ المال.
ودلَّ مفهوم الآية على أنَّ توبةَ المحاربِ بعد القدرةِ عليه أنها لا تُسقِط عنه شيئًا والحكمةُ في ذلك ظاهرة، وإذا كانت التوبةُ قبل القدرةِ عليه تمنعُ مِن إقامةِ الحدِّ في الحِرابة فغيرُها من الحدودِ إذا تاب من فِعْلِها قبل القدرةِ عليه من باب أولي.
فقَطْعُ الطريقِ وترويعُ الآمنين والسابلة وإخافةُ الناس وتخريبُ المنشآت وتفجيرُ الأبراج الكهربائية والأكشاك والاعتداءُ علي الممتلكاتِ العامة والخاصة؛ كلُّ ذلك مِنْ الحرابة؛ مِنْ الإفسادِ في الأرض مما يستحق صاحبهُ العارَ والشَنَارَ في الدنيا مع ما لهُ مِن العذابِ الأليم العظيم في الآخرة.
ويدخلُ في الإفسادِ في الأرض وفي المحاربة لله تعالي ولرسوله ؛ الاتّجار في المُخدراتِ والمُفتَّرِات، وكلِّ ما من شأنهِ أن يُغيِّبَ الوعيَ أو يُذْهْبَه أو يُضْعفَ العقلَ أو يحجبَه، بل يدخل المتعاطي للمُخدراتِ بأي شكلٍ من أشكالِها، وبأي ضربٍ من ضروبِها في الإفسادِ في الأرض والمحاربةِ للهِ ورسولهِ، ذلك باعتبارِ ما يؤولُ إليه أمْرُهُ ويصيرُ إليه حاله، إذ يُضيِّعُ المُدمنُ نفسَهُ ويُضيِّعُ مَنْ يعول بل يُضيِّع حقَّ دينه وحقَّ وطنهِ ويُهدرُ طاقاته ويُبدِّدُ ثرْواتِهِ ويُفرِّطُ في عرضهِ وشرفهِ ويظلمُ مَنْ له حقٌّ عليه وكيف لا يفعل وقد ظَلَمَ نفسَهُ؟!.
فمِنْ الإفسادِ في الأرض ومِنْ المحاربةِ لله ورسوله تضييعُ شبابِ الأمةِ وشِيبها، وإهدارُ ثرواتها ومُقدَّراتِها وتضييعُ الذُريةِ والأهل والتفريط في حقِّ الدينِ وحقِّ الوطن.
يدخلُ في الإفسادِ في الأرض وفي المحاربةِ لله تعالي ورسولهِ تخريبُ المنشآت وتحريقُ الممتلكات والاعتداءُ علي الحُرُمات وتبديدُ ثرْوات الأمةِ ومُقدراتِها.
وكلُّ هذا يترتبُ عليه حدُّ الحرابةِ والإفسادِ في الأرض كما بيَّنهُ الله جلَّ وعلا في كتابهِ العزيز، وكما طبَّقَهُ النبي صلي الله عليه وآله وسلم علي مَنْ استحقه.
يدخلُ في الإفسادِ في الأرض وفي المحاربةِ للهِ تعالي ورسولهِ عدمُ تطهيرِ الوزارات والمُديريات والإدارات مِن الإخوانِ المسلمين ومِنْ القطبيين الذين ينْخَرون كالسوسِ في جسدِ تلك المؤسسات، والذين لا يُحاربون إلا أهلَ الحق، والذين لا يترصدونَ إلا لأهلِ الصدق والذين لا يَعملون بما أنزل اللهُ عز وجل مما أوجبَ عليهم مِن حقِّ الأمة عليهم في القيامِ بما أوجبهُ اللهُ مِن المسئولية التي نيطت بأعناقِهم فيكونون خائنين للهِ ولرسولهِ، خائنين لترابِ هذا الوطن، مساعدين لأعدائه علي التَمَكُّنِ مِنه؛ لأنهم منتشرون كالخلايا السرطانية في الجسدِ الذي اُبتلي بالسرطان يُفسِدُ في تلك الأعضاءِ إفسادَه حتي يصيرَ شيئًا لا قيمةَ له، حتى يصيرَ عالةً علي مَنْ حَولَه، عالةً علي الأمة، ويكون حينئذ ذَهابُهُ خيرًا من بقائهِ، يكون موتُهُ خيرًا من حياتهِ، فيكون عالةً علي هذه الأمة، لأنه يساعدُ المفسدين في الأرضِ علي الإفساد؛ فهو مُفسدٌ في الأرض أيضًا، لأن المُتسبب كالمباشر ولأنَّ المتواطئَ كالمتسبب، كل أولئك في حزمةٍ واحدة مِن المفسدين في الأرض الساعين في الأرضِ الفساد، الذين لا يريدون للأمة أن تنهضَ من كبوتِها، ولا أنْ تقومَ مِن عثْرِتِها، فإلي الله المشتكي وهو حسبنا ونِعمَ الوكيل.
الفساد: مصدرُ فَسَدَ يَفْسُدُ فسادًا، وهو ضدُّ الإصلاح، قال ابن فارس: الفاء والسين والدال كلمةٌ واحدة.
فسدَ الشئُ: يفسُدُ فسادًا، وهو فاسدٌ وفسيد، قال الليث: الفسادُ نقيضُ الصلاح، والفِعْل فسدَ يفسُدُ فسادًا، ولغةٌ آخري فَسَدَ فسودًا، واستفسد السلطانُ قائدَه: إذا أساءَ إليه حتي استعصي عليه.
وقيل الفسادُ في الأرضِ مأخوذٌ مِن فَسَدَ اللحم.
قال ابنُ جرير رحمه الله في معني قوله تعالي {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد}[البقرة:205]، اختلف أهلُ التأويل في معني الإفساد الذي أضافه الله عزوجل إلي هذا المنافق، فقال: تأويلهُ ما قُلنا فيه من قَطْعِهِ الطريق وإخافتهِ السبيل، وقال بعضُهم: بل معني ذلك قطْعُ الرحم وسفكُ دماءِ المسلمين، وقد يدخلُ في الإفسادِ جميعُ المعاصي، وذلك أنَّ العملَ بالمعاصي إفسادٌ في الأرض، فلمْ يُخصِّص اللهُ وَصْفَهُ ببعضِ معاني الإفساد دون بعض.اهـ
وقال القرطبي رحمه الله في قوله تعالي { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد}[البقرة:205]
قال العباسُ بنُ الفضيل: الفسادُ هو الخراب، والآية بعمومِها تضُمُّ كلَّ فسادٍ في أرضٍ أو مالٍ أو دين وهو الصحيحُ إنْ شاء الله تعالي.
قيل معني { لاَ يُحِبُّ الفَسَاد}: أي لا يحبُّهُ مِنْ أهلِ الصلاح أو لا يُحبُّه دينًا، ويُحتملُ أنْ يكونَ المعنى: لا يأمر به.
والفسادُ في قوله تعالي { لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا }[القصص:83]، معناه: أخْذُ المالِ ظلمًا بغيرِ حق،
أما قولهُ تعالي {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }[الروم:41] فالفسادُ هنا: الجدْبُ في البرِّ والقحْطُ في البحرِ.
قال ابن منظور: وفسد يفْسُد يفْسِد، وفَسُد فسادًا وفسودًا فهو فاسدٌ وفسيدٌ فيهما ولا يُقال انفسد وأفسدتُهُ أنا، وقوله تعالي {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا }، نصب فسادًا لأنه مفعول له، أراد يسعون في الأرض للفساد، وتفاسد القوم: تدابروا وقاطعوا بعضُهم بعضًا أو أنهم قَطَّعوا أرحامَهم.
والمفسدةُ خِلافُ المصلحة، والاستفساد خِلافُ الاستصلاح، وقالوا: هذا الأمر مفسدة لكذا، أي فيه فساد، قال الشاعر:
إنَّ الشباب والفراغ والجِدَة...مفسدةٌ للعقلِ أيُّ مفسدة، وأما الفسادُ في الاصطلاح؛ فقد قال الراغب: الفسادُ خروجُ الشيء عن الاعتدالِ قليلًا كان الخروجُ عليه أو كثيرًا.
ويُستعمل في النفسِ والبدن والأشياءِ الخارجةِ عن الاستقامة.
وقال المُناويُّ: الفسادُ هو انتقاضُ صورةِ الشيء، وفسادُ البيوع عند الفقهاء: ما كان مشروعًا بأصلهِ غير مشروعٍ بوصفهِ وهو يرادفُ البُطلان عند الشافعية وضده الصحة، ويَشكِّلُ قِسمًا قائمًا برأسهِ عند الأحناف، فالشيءُ عندهم إما صحيحٌ وإما باطلٌ وإما فاسد.
وقال ابن الجوزى: والفسادُ تَغيُّرُ الشيء عما كان عليه من الصلاح، وقد يُقال في الشيء مع قيامِ ذاتهِ ويُقال فيه مع انتقاضِها ويُقال فيه إذا بطَلَ وزال.
ويُذكر الفسادُ في الدين كما يُذكر في الذات، فتارةً يكونُ بالعصيان وتارةً بالكفران.
ويُقال في الأقوال إنها فاسدة إذا كانت غيرَ منتظمة وفي الأفعال إذا لم يُعتدّ بها.
وأما الفسادُ في الأرض: فمِنْ الفساد فيها ما أشارت إليه الآية الكريمة "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا"، ويكونُ هذا الفسادُ بقَطْعِ الطريقِ وإخافتِها، وقيل بقطعِ الرحم وسفْكِ دماءِ المسلمين وقد يدخل في هذا ارتكاب جميع المعاصي.
قال الكفوي: الإفسادُ هو جعل الشيء فاسدًا خارجًا عما ينبغي أن يكون عليه وعن كَونهِ منتفعًا به، وهو في الحقيقة إخراجُ الشيء عن حالةٍ محمودةٍ لا لغرضِ صحيح.
يقول ابنُ حجرٍ الهيتمي بعد أنْ ذكر الآية الكريمة "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا"، كما ذكرَ اللهُ تعالي تغليظَ الإثم في قتْلِ النفسِ بغير حق والإفسادَ في الأرض أتبعَهُ ببيان نوعٍ من أنواعِ الفسادِ في الأرض،
وذكر أن عدَّ هذا الفساد كبيرة هو ما صرَّح به جَمْعٌ وصرَّح بعضهم أنه بمجرد قطع الطريق وإخافة السُبل تُرتكبُ الكبيرة، فكيف إذا أخذ المال أو جرح أو قتل أو فعل كبائر؟! فكلُّ هذه من الكبائر المُغلَّظة.
قطعُ الطريق، ترويعُ السابلة، تعطيلُ المصالح، التظاهرُ والاعتصامُ والعصيانُ المدنيّ؛ كلُّ ذلك من كبائرِ الإثمِ وعظائمِ الذنوب.
قال الكفويُّ: الفسادُ أعمُّ من الظلم، لأنَّ الظلمَ النقصُ، فإنَّ مَنْ سرق مال الغير مثلًا فقد نَقصَ حقَّ الغَير.
أما الفسادُ فيقعُ علي ذلك وعلي غيرهِ كالابتداعِ واللهوِ واللعِب.
وأما الفرق بين الفاسد والباطل، فقال رحمه الله: الفاسد ما أمكن الانتفاع به رغمًا عن رداءتهِ، مِن قولِهم فسدَ اللحمُ إذا أنتن، والباطل ما لا يمكن أن يُنتفع به، مِن فسدَ اللحم إذا دَوَّدَ و سوَّس بحيث لا يمكن الانتفاع به.
وقد وردت كلمةُ الفساد بمشتقاتها في القرآن العظيم علي معان منها المعصية ومن ذلك قوله تعالي "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ".
ومنها الهلاك ومنه قوله تعالي " لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا".
ومنها الخراب ومنه قولهُ تعالي "إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا".
ومنها المُنكر ومنه قوله تعالي "أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ".
ومنها السِحر ومنه قوله تعالي "إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ".
قال الإمامُ ابن القيم رحمه الله في قولهِ تعالي "وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها "؛ قال أكثرُ المفسرين: لا تُفسدوا فيها بالمعاصي والدعاءِ إلي غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعْثِ الرُسل وبيانِ الشريعة والدعوةِ إلى طاعة الله، فإنَّ عبادةَ غيرِ الله والدعوةَ إلى غيرِه والشِركَ به هو أعظمُ الفسادِ في الأرض، بل فسادُ الأرض في الحقيقة إنما هو بالشركِ ومخالفةِ أمرهِ تعالي.
فالشِركُ والدعوةُ إلى غيرِ الله وإقامةُ معبودٍ غيرَه ومُطاعٍ مُتَّبعٍ غيرَ رسولِ الله صلي الله عليه وآله وسلم هو أعظمُ فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، وتكون الدعوةُ له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسولهِ ليس إلا، وغيرُه إنما تجبُ طاعتهُ إذا أمَرَ بطاعةِ الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، فإذا أمر بمعصيتهِ وخِلافِ شريعتهِ فلا سمعَ ولا طاعة، ومن تدبر أخبار العالم وجد كلَّ صلاحٍ في الأرض سببُهُ توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكلُّ شرٍ في العالم وفتنةٍ وبلاءٍ وقحط وتسليطِ عدو وغيرِ ذلك فسببُهُ مخالفةُ رسوله والدعوةُ إلي غيرِ اللهِ ورسولِه.
قال الله جلَّ وعلا " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون "
يقول تعالى " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا " أي أيَّ مَثلٍ كان " بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاحِ الحق, واللهُ لا يستحي مِن الحق.
وكأنَّ في هذا جوابًا لمن أنكر ضربَ الأمثالِ في الأشياء الحقيرة، واعترضَ على اللهِ في ذلك، فليس في ذلك محلُّ اعتراض، بل هو مِن تعليمِ الله لعبادهِ ورحمتهِ بهم، فيجب أن تُتلقى بالقبولِ والشُكر، ولهذا قال: " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ " فيفهمونها ويتفكرون فيها، فإنْ علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل؛ ازداد بذلك عِلْمُهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق وما اشتملت عليه حق، وإنْ خَفيَ عليهم وجه الحق فيها، لعِلمهم بأنَّ الله لم يضربها عبثا بل لحكمةٍ بالغة ونعمةٍ سابغة.
" وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا " فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كُفرًا إلى كُفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانًا إلي إيمانِهم، ولهذا قال: " يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا "، فهذه حالُ المؤمنين والكافرين
عند نزولِ الآيات القرآنية.
قال تعالى " وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ "، فلا أعظمَ نعمةً على العباد مِن نزولِ الآيات القرآنية، ومع هذا تكونُ لقومٍ محنةً وحَيرةً وضلالة وزيادةَ شرٍّ إلى شرِّهم ولقومٍ منحةً ورحمةً وزيادةَ خيرٍ إلى خيرِهم.
فسبحان مَنْ فاوت بين عباده; وانفرد بالهداية والإضلال.
ثم ذكر حكمتَه وعدلَه في إضلالِ من يُضلّ فقال: " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ " أي: الخارجينَ عن طاعةِ الله; المعاندينَ لرُسُل الله; الذين صارَ الفِسقُ وصفَهُم; فلا يبغون به بدلا،
فاقتضت حكمتُه تعالى; إضلالهم; لعدمِ صلاحيتهم للهُدى.
كما اقتضى فضلُه وحكمته; هدايةَ من اتصف بالإيمان; وتحلَّى بالأعمال الصالحة.
والفسقُ نوعان: نوعٌ مُخرجٌ من الدين; وهو الفسق المقتضِي للخروج من الإيمان; كالمذكورِ في هذه الآية ونحوِها.
ونوعٌ غيرُ مُخرجٍ من الإيمان كما في قولهِ تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا " الآية.
ثم وصفَ الفاسقين فقال " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ " .
وهذا يعمُّ العهدَ الذي بينهم وبين ربِّهم; والذي بينهم وبين الخَلْق; الذي أكدَّه عليهم بالمواثيقِ الثقيلة والإلزامات،
فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها; ويتركون أوامرَه ويرتكبون نواهيَه; وينقضونَ العهود التي بينهم وبين الخلق،
" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ " وهذا يدخلُ فيه أشياءُ كثيرة، فإنَّ اللهَ أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به; والقيامِ بعبوديته، وما بيننا وبين رسولهِ; بالإيمانِ به; ومحبتهِ; وتعزيره; والقيامِ بحقوقهِ، وما بيننا وبين الوالدين والأقاربِ والأصحابِ وسائرِ الخلق بالقيام بحقوقهم التي أمر الله أنْ نَصِلَها.
فأما المؤمنون; فوصلوا ما أمر الله به أن يُوصَلَ مِن هذه الحقوق; وقاموا بها أتمَّ القيام.
وأما الفاسقون; فقطعوها; ونبذوها وراءَ ظهورِهم; معتاضين عنها بالفِسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفسادُ في الأرض،" فَأُولَئِكَ " أي: مَنْ هذه صفته " هُمُ الْخَاسِرُونَ " في الدنيا والآخرة، فحصَرَ الخَسارةَ فيهم; لأن خُسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوعٌ من الرِبح; لأنَّ كلَّ عملٍ صالح; شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له; لا عمل له; وهذا الخَسارُ هو خَسارُ الكُفر، وأما الخَسارُ الذي قد يكون كُفرًا; وقد يكون معصيةً; وقد يكون تفريطًا في تركِ مستحب المذكور في قوله تعالى " إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ " فهذا عام لكلِّ مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقتهُ فواتُ الخير الذي كان العبد بصددِ تحصيلهِ وهو تحت إمكانه.
الله جلَّ وعلا بيَّن وصفَ المفسدين في الأرض "أولئك الذين فسقوا" والفسقُ في أصل اللغة الخروج، ومنه فسقت الرُطَبة أي خرجت من قشرها، ومنه سُميت الفأرة فويسقة لخروجها علي الأعراف كلها.
فمطلق الفاسقِ: مَنْ خرج علي أوامر الله، قد يكون فِسقه فسقًا أكبر يُخرج من المِلَّة، وقد يكون فسقه فسقًا أصغر لا يُخرج من المِلة، ولكن هو من المفسدين في الأرض.
كلُّ مَنْ اُسترعي رعيةً، كلُّ مَنْ حُمّل أمانةً فلم يرْعها حقَّ رعايتها ولم يؤدها حقَّ أدائِها فهو مِن المفسدين في الأرض، مِن المحاربين لله ورسوله، من الساعين في الأرض الفساد، كل من لا يقوم بالحياطةِ على من استرعاه اللهُ إياهم من مرؤوسيه حتى لا يعيثوا في الأرضِ الفساد، حتى لا يتخذَهم أعداءُ هذا الدين وأعداءُ هذا الوطن وسيلةً للوصولِ إلى أغراضِ المنحرفين الفاسدين المُفسدين في الأرض، ومِن المعلوم أنَّ هؤلاء المفسدين قد استشرَوا في المصالحِ كلِّها، في المؤسساتِ جميعِها، ينخرونَ في قواعدِها كالسُوس ويعملون في الجسدِ الحي كالخلايا السرطانية المميتة، وهم يُضلِّلون رؤساءهم ويرفعون إليهم كذبًا وزورًا ما ليس له حقٌّ ولا حقيقة، لأنهم منحرفون منتمون انتماءً باطلًا بِدعيًا ظالمًا، يحاربُ الدينَ ويحاربُ الوطن، يَسْعَون في الأرضِ الفساد ويتستَّرون على المفسدين الذين يُخَرِّبون ويُدمِّرون ويُحرِّقون ويُريقون الدماءَ المعصومة بالإيمان وبالأمان ويُبدِّدون ثروات الوطن المكلوم الذي ابتُلي بهم وصاروا كَلًّا عليه ووباءً له ومرضًا فيه، نسأل اللهَ عزوجل أن يستأصلَ شأفتَهُم وأن يأخذهم أخذَ عزيزٍ مُقتدر وأنْ يَكبتَهم وأنْ يُذلَّهم وأنْ يُرِي المؤمنين فيهم آية تقرُّ بها أعينُهم إنه تعالى على كل شيء قدير، وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وأصحابه أجمعين.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَينِ مُتَلَازِمَينِ إِلَى يَومِ الدِينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فقد قال الله جلَّ وعلا "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)"
هذا شروعٌ في ابتداءِ خَلْقِ آدمَ عليه السلام أبي البشر, شروعٌ في بيانٍ فضلهِ, وأنَّ الله تعالى - حين أراد خلْقَه - أخبر الملائكة بذلك, وأنَّ اللهَ مُستخلفُه في الأرض.
فقالت الملائكةُ عليهم السلام: " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا " بالمعاصي " وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ", وهذا تخصيصٌ بعد تعميم, لأنَّ سفكَ الدماءِ مِن الإفسادِ في الأرضِ بالمعاصي؛ مَن يفسدُ فيها بالمعاصي ويسفكُ الدماء تخصيصٌ بعد تعميم لبيانِ شدةِّ مفسدةِ القتل، وهذا بحَسبِ ظنِّهم أنَّ الخليفةَ المجعولَ في الأرض سيحدثُ منه ذلك, فنزَّهوا الباري عن ذلك, وعظَّموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادةِ الله على وجهٍ خالٍ من المفسدة فقالوا " وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ " أي: نُنزِّهك التنزيه اللائقَ بحمدِك وجلالِك،" وَنُقَدِّسُ لَكَ " يُحتملُ أنَّ معناها: ونُقدِّسُك؛ فتكونُ اللامُ مفيدةً للتخصيصِ والإخلاص، ويُحتملُ أنْ يكون؛ ونُقدِّسُ لك أنفُسَنَا؛ أي: نُطهِّرُها بالأخلاقِ الجميلة, كمحبةِ الله وخشيتهِ وتعظيمهِ وإجلالِه, ونُطهِّرُها مِنْ الأخلاقِ الرذيلة.
قال الله جلَّ وعلا للملائكة: " إِنِّي أَعْلَمُ " مِنْ هذا الخليفة " مَا لَا تَعْلَمُونَ "، لأنَّ كلامَكم بحَسَبِ ما ظننتم, وأنا عالمٌ بالظواهرِ والسرائر, وأعلمُ أنَّ الخيرَ الحاصلَ بخَلْقِ هذا الخليفة أضعافُ أضعافِ ما في ضمنِ ذلك منْ الشرِّ، فلو لم يكن في ذلك إلا أنَّ اللهَ تعالى أراد أن يجتبيَ مِنهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين, ولتظهرَ آياتُهُ للخلق, ويحصلُ من العبوديات التي لم تكن تحصلُ بدون خلقِ هذا الخليفة, كالجهادِ وغيرِه, وليظهرَ ما كَمُنَ في غرائزِ المُكلفين من الخيرِ والشرِّ بالامتحان, وليتبينَ عدوهُ من وليِّه, وحزبُه من حَرْبِهِ, وليظهرَ ما كَمُن في نفسِ إبليسَ منْ الشر الذي انطوى عليه واتصف به, فهذه حِكمٌ عظيمة يكفي بعضُها في ذلك.
ثم لمَّا كان قولُ الملائكةِ عليهم السلام فيه إشارةٌ إلى فضلِهم على الخليفةِ الذي يجعلُه اللهُ في الأرض, أراد اللهُ تعالى أنْ يُبيَّنَ لهم من فضلِ آدمَ ما يعرفون به فضلَه, وكمالَ حكمةِ اللهِ وعِلمِه " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " أسماء الأشياء, ومَنْ هو مُسمىً بها، فعلَّمهُ الاسمَ والمُسمَى, أي: الألفاظَ والمعاني, حتى المُصغَّرَ من الأسماء والمُكبَّر, كالقصعةِ والقُصَيعَة،
" ثُمَّ عَرَضَهُمْ " أي: عرض المسمياتِ " عَلَى الْمَلَائِكَةِ " امتحانًا لهم, هل يعرفونها أو لا؟.
" فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " في قولِكم وظنِّكم, أنكم أفضلُ مِن هذا الخليفة.
" قَالُوا سُبْحَانَكَ " أي: نُنزِّهك من الاعتراضِ منَّا عليك, ومخالفةِ أمرك.
" لَا عِلْمَ لَنَا " بوجهٍ من الوجوه " إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا " إياه, فضلًا منك وجودًا.
" إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " العليمُ الذي أحاط عِلمًا بكلِّ شيء, لا يغيبُ عنه, ولا يَعْزُبُ عنه مثقالُ ذرةٍ في السماواتِ والأرض, ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبر.
الحكيم: مَنْ له الحكمةُ التامة, التي لا يخرجُ عنها مخلوق, ولا يشِذُّ عنها مأمور، فما خلق شيئا إلا لحكمة, ولا أمرَ بشيءٍ إلا لحكمة.
والحكمة: وضعُ الشيء في موضعهِ اللائق به.
فأقرُّوا واعترفوا بعلم الله وحكمته, وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافِهم بفضل الله عليهم; وتعليمِه إياهم ما لا يعلمون.
في أولِّ ما ذَكر ملائكةُ جلَّ وعلا لله عندما أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة، ذكروا إفسادَه في الأرض، وما يكون من سفك الدماء فيها ـ يستعلمون يستوضحون لا يعترضون حاشا لله أن يعترضوا وإنما هم عبادٌ مُكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمرهِ يعملون ممتثلين لأمرِ الله جلَّ وعلا، لا يستحسرونَ عن عبادتهِ ولا يكلّون ولا يتعبون ـ فقالوا: إنه سيُفسد في الأرض، الإفسادُ في الأرض يتخذُ صورًا شتي؛ منها: ما مرَّ ذِكْره من الاتّجار في المخدرات، من الاتّجار في المُفَتِرات، من الاتّجار في كل ما يُذْهِبُ العقلَ أو يُغيِّبُه وفي كل ما يحجُب الوعيَ أو يُذهبُه.
فكل هذا من الإفساد في الأرض، وفي المملكة عقوبةُ مَن ضُبط مُتّجرًا في المخدرات وثبت ذلك عليه أن يُقصَّ، عقوبته أن يُقْتَل، أن يُقْتَّل، لأنه من المفسدين في الأرض، وقد بيَّن الله رب العالمين جريمةَ مَنْ أفسدَ في الأرض وحارب الله تعالي ورسوله.
من الإفسادِ في الأرض: التخريبُ والتحريقُ وإراقةُ الدماء والاعتداءُ علي الممتلكاتِ العامةِ والخاصة، فكلُّ ذلك مِن الإفساد في الأرض، يقوم به من يقوم من المنتمين إلي الجماعات المنحرفة مِن الإخوان المسلمين ومِن التكفيريين مِن القطبيين وغيرهم، مِن المفسدين في الأرض المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض بالفساد والإفساد الباغين لهذا الوطنِ الضياع والسقوط في هاويةٍ لا قرارَ لها.
الذي يُفكِّر بعقلهِ ينبغي عليه أن يكونَ ناظرًا إلي المآلات، وأما الذي لا ينظر إلا تحت قدميه فهذا حريٌّ به أن يسقطَ في هُوةٍ بلا قرار وأن يَذهبَ غير مأسوفٍ عليه.
الذي ينظر إلي المآلات هو الذي يُعمِلُ عقلُهُ حقًا.
الآن عندنا في مصر طائفةٌ مِن الناس تقول: إنها تريد الشرعية ، تقول: إنها تريد تطبيق الشريعة في أرض الله رب العالمين في أرض الكنانة.
حسنٌ. كيف يصلون إلى هذا الأمر الكبير ؟! وما الوسيلة إلى هذه الغاية الشريفة ؟
يقولون : لابد من إزالة النظام القائم!!
كيف ؟ بالمصادمة له ؟! بالطريقة التي سقط بها نظامٌ سبق ؟! أو بالنظام الأسبق الذي سقط ؟! فهذا كله لن يكون.
لقد خرج القوم قديما عندما قلقلوا القاعدةَ الشعبية ، يقولون: سلمية سلمية ، لا سلمية بعد اليوم ، وإنما هي دموية دموية.
هؤلاء الإخوان المسلمون يريدون إسقاط الدولة اقتصاديا.
في الأسابيع التي مرت خسرت البورصة تسعين مليارا من الجنيهات بسبب الأعمال التخريبية، وبسبب توقع ردود أفعال دمويةٍ تخريبيةٍ إرهابية على بعض الأحكام القضائية ، فهم يردون التخريب.
أنت تريد أن تطبق الشريعة ، ما ذنب القوم الذين تقطع عنهم التيار الكهربائي ؟! طلبة يذاكرون دروسهم يستعدون لاختباراتهم ، جراحون يجرون جراحاتهم لمرضاهم تحت مشارطهم ومباضعهم ، أطفال مبتسرون في حضاناتهم ، أقوام في العناية المركزة في العناية الفائقة ، تقطعون عنهم التيار الكهربائي ... لم ؟!
هذه وسيلة لتطبيق الشريعة ؟!!
تريدون تطبيق الشريعة بمخالفة الشريعة ؟!!!
تريدون شرع الرحمن باتباع الشيطان ؟!!!!
لماذا يُفَجَر برج كهربائي ؟! تكلفته تزيد على مليون جنيه.
هذه تكلفةٌ ظاهرة مباشرة ، وأما التيار عندما يُقطع عن مصانع ، عندما يُقطع عن مراكز إنتاج ، عندما يُقطع عن موظفين وفَعَلة ، عندما يُقطع عن قوم يَجِدِّون ويكْدحون من أجل أن يُحَصِّلوا لقمة العيش فهي خسارة أيضا ولكنها غير محسوبة؛ لأنها غير ظاهرة. ترويع الناس ، تخويفهم ، إدخال الإحساس بالمخافة على قلوبهم وعقولهم وأرواحهم من أجل تفشي اليأس بين جموعهم ،، كل هذا لا يُحسب أيضا.
عندما يُفَجر في أسبوع واحد ما يزيد على خمسة أبراج من أبراج الكهرباء وتُحبط محاولات عندما يُقتل من يُقتل من أبناء هذا الوطن ودمه معصوم بالإيمان وبالأمان ، بأي ذنب قُتل ؟
هؤلاء لماذا يُقتلون ؟
من أجل تطبيق الشريعة !!!
ما ذنبهم ؟ وما جدوى قتلهم في تطبيق الشريعة ؟ أي شريعةٍ هذه ؟
على كل حال؛ هؤلاء يريدون إدخال هذا البلد إدارةً وشعبًا في الإرباك الذي يؤدي إلى استنزاف القوى والإنهاك ، ثم يريدون إدخالَ الشعبِ والإدارة في المصادمات والمشاحنات والمهاترات من أجل أن تسقطَ هذه الدولة اقتصاديًا؛ لتحدث الفوضى بالثورة المنشودة التي يريدون الوصولَ إليها ، يقيسون على ما كان! لأنهم حمقى طبع الله على قلوبهم ، هم يقيسون على ما كان .
لن تخرج جموعُ الشعب معهم ، بل سيخرج كثير من أبناء هذا الوطن ليحاربَهم ، ليكون ضدهم ، ثم إن الفاعل الرئيس في هذه المعادلة ـ وهو الجيش ـ سيكون حائطَ صد ، لن يصلوا إلى مبتغاهم إلا إذا أزالوه أو فككوه.
وكل عاقل يفكر قليل تفكير يعلم أن ذلك لو وقع بعضه ـ لا كله ـ فمعناه: أن تدخل مصر في الفوضى ، وأن تسيل الدماء كالأنهار في الشوارع والأزقة في الحواري ، وأن تنتثر الجثث هاهنا وهنالك، وأن يكون القتل على الهوية، وأن تُخرب مقدرات هذا الوطن، وأن يُمَكَن منه أعداؤه ، وأن يقع الاحتراب الداخلي، وألا يُرفعَ في مصر في مسجد أذان ، وألا تُقامَ في مسجد جماعةٌ ولا جمعة ، وألا يأمنَ الناس على أرواحهم ولا أعراضهم ولا حريمهم ولا على أنفسهم ولا على مستقبل أبنائهم وحفدتهم.
يريدون إدخال مصر في الفوضى.
ما الذي استفادته الدول التي فعلوا فيها ذلك؟
لقد كانوا الفاعل الرئيس مع كل الخونة في الداخل والخارج في تلك البلدان ... ما الذي استفادته تلك البلدان من الوقوع في الفوضى ؟
تقدمت خطوة على طريق مؤامرة التقسيم!!
ليبيا تُقسم إلى ثلاث دول: إلى شرق وغرب وجنوب.
اليمن: إلى دولة رافضية في الشمال؛ لتكون خنجرا في الحرم في ظهره؛ لأنهم يريدون إزالتَه ونقلَه بعد ذلك إلى مواطن الشيعة الروافض في العراق أو إيران. يريدون نبشَ قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. دولة رافضية في شمال اليمن ، ودولة شيوعية في جنوبه، ودولة سنية هنا أو هنالك
العراق : دولة سنية ، دولة رافضية ، دولة كردية.
سوريا : دولة شيعية رافضية نُصيرية علوية ـ كما يدعون ـ ، ودولة كردية ودولة سنية ،والجولان وقدر آخر من الأراضي السورية لليهود.
وماذا عن السعودية ؟
الشمال الشرقي فيه من الشيعة ما الله بهم عليم ، يريدون مناهج في المقررات على ما يريدون ، يريدون حياة رافضية كما يحبون وإليه يتطلعون. يرفضون كلَّ ما يأتي من الدولة الأم ، يريدون الانفصال عنها.
وأما البحرين : فيدعون أنهم صاروا فيها أكثرية ولو فوق النصف بقليل ، وكل هذا من أجل أن تدعم إيران الرافضية الصفوية المجوسية أولئك الروافض في الأرض العربية الإسلامية.
وأنتم .. ما الذي يراد بكم ؟
يراد هنا في مصر أن تدخل مصر في الفوضى ، أن يقتتل أبناؤها على خلفيةٍ طائفيةٍ عقدية ،،، لماذا يسعى القوم لإحداث ذلك ؟
لماذا لا يُنَبَهون إلى مخاطر هذا المخطط الملعون وهو ما زال ساريا.
أتحسبون أن أصحاب المؤامرة قد استـناموا عنها أو تركوها ؟ أبدا.
وإنما يسعون جاهدين من أجل الوصول إلى ما أرادوا الوصول إليه ولو على جسر من الأشلاء على بحر من الدماء .
ألا تفيقوووون ؟ ألا تنتبهووون ؟
علموا الناس ، بيِّنوا لهم حقيقة ما يراد بهم.
من الإفساد في الأرض ، والخيانة لله ولهذا الدين: ألا يُتَكلمَ في أمثال هذه الأمور ، في كل محفلٍ ، في المساجد ، في المؤسسات ، في المصالح ، في المنتديات، في الفضائيات.
نبهوا الناس ، علموهم. كاد الزمام أن يُفلت ، الإخوان قادمون ، التكفيريون راجعون لأن هنالك من الخونة في الإدارات المختلفة في المديريات في الوزارات في المؤسسات ، من يُضللون رؤساءهم ، يكمموا أفواه أهل الحق حتى لا يتكلموا به ، ليتكلمَ في المقابل الإخوان المجرمون ، خُوَان المسلمين ، وليتكلم التكفيريون من القطبيين وغيرهم ، المؤامرة مكشوفة ، ولكنها لا تُعامَل إلا بالتخاذل ـ التخاذل المقيت .
فأين الخونة ؟ فوق أم تحت ؟ أين هم ؟ ماذا يصنعون ؟ أما والله إنهم لمكشوفون ظاهرون.
نسأل الله أن يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، وأن يحفظَ هذا الوطن من عوادِ السوء، وأن يُجنِّبُهُ كل المخاطر ظاهرة وباطنة.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك المُثلي: أن تهيئ لهذه الأمة أمرَ رشد يُعزُّ فيه أهل الطاعة، ويُذلُّ فيه أهل المعصية، ويُقضي بكتابك، وسُنة نبيك صلي الله عليه وآله وسلم إنك علي كل شيءٍ قدير وبالإجابة جدير وصلي الله وسلم علي نبينا محمد وعلي آله وأصحابه أجمعين.