فقد رُفِعَ إلى عمرَ -رضوان الله عليه- رجلٌ كان يتكلم في المُتشابِه -مُتشابِهِ القرآن-، يُقال له: صَبِيغُ بنُ عِسْل، فلمَّا جاءَهُ ولم يَكُن له مُثْبِتًا ولا لهُ عارفًا؛ قال: من أنت؟
قال: عبدُ اللهِ صَبِيغ.
قال عمر -رضوان الله عليه-: وأنا عبدُ اللهِ عُمر، عليَّ بالعَرَاجِينِ -عَرَاجِينِ النَّخْلِ-.
فأُتِيَ بها، فقام فما زال يَضْرِبُهُ بها على رأسِهِ حتى دَمَّاه -أي: أسالَ دِمَاه-.
وهو في ذلك يقول: حَسْبُكَ يا أميرَ المؤمنين؛ فوالله لقد ذَهَبَ عني الذي كنت أَجد -يعني: من شيطانِهِ وخيالاتِهِ وتصوراتِهِ.
يقول عمرُ -رضوان الله عليه-: نضربُ الرأسَ؛ فإنَّ الشيطانَ في الرأسِ -يعني: شيطانَ الُمتَشابِه الذي عشَّشَ في تَلَافِيفِ مُخِّهِ حتى أخرجه، ثم أَمَرَ به إلى الحبس فحُبِس، فلما طالَ عليه حَبْسُهُ؛ أرسلَ إلى عُمر -رضوان الله عليه- يُذَكِّرُه.
فقال عمر -رضي الله عنه-: والله لقد ذكَّرَني ما كنتُ ناسيًا؛ ائتوني به، فَجِيءَ به إليه، فقام إليه يضربُهُ بالعراجين حتى دَمَّاه.
يقول: حَسْبُك أميرَ المؤمنين، فوالله لقد ذَهَبَ عنِّي الذي أَجِدُ، ثم أَمَرَ به فَرُدَّ إلى حَبْسِه، ثم لمَّا طال عليه الحَبْسُ؛ أرسلَ إلى أمير المؤمنين -رضي الله عنه- يُذَكِّرُهُ.
فقال: والله لقد ذَكَّرَني ما كُنتُ له ناسيًا، اِئتُونِي به، فقام إليه.
فقال: يا أميرَ المؤمنينَ إنْ كنتَ قَاتِلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جميلًا، فوالله لقد ذهبَ عنِّي الذي كُنتُ أَجِد، فأَرْسَلَ عُمر -رضوان الله عليه- إلى وَالِيهِ في موطنِهِ ألَّا يُجَالسهُ أحد، ولا يكلِّمَهُ أحد، ولا يقترب منه أحد.
فكان صبيغٌ بعدُ إذا ما دَخَلَ المسجدَ الجامعَ وفيه مِنَ الحِلَقِ ما فيه، إذا ما ابتدرَهُ القومُ بأبصارِهم ورَأَوْهُ مُقْبِلًا؛ قاموا فانفضُّوا، يَتَطَايَرُون كما يتطاير الشَّعْرَاءُ عن البعيرِ إذا ما
انْتَفَضَ؛ يقولون: عَزْمَةُ أميرِ المؤمنين، عَزْمَةُ أميرِ المؤمنين؛ فَحَبَسهُ في جِلْدِهِ، لأن المجتمعَ المسلمَ إذا كان مجتمعًا صحيحًا؛ فهو عَازِلٌ لِمَا سواهُ مِن أمرِ الفسادِ والإِفساد بِمَرَّةٍ؛
كطَيْبَةَ الطَّيِّبَةِ مدينةِ الرسولِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، تَنْفِي خَبَثَهَا كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحدِيدِ.
أَلَا إِنَّ القلب في سَيْرِه إلى الرَّبِ كالطَّائِرِ له رأسٌ وجناحان، فإذا قُطِعَ رأسُ الطائرِ؛ هَلَكَ، واِذا هِيضَا جناحاه وكُسِرَا؛ صار عاجِزًا، وصار عُرْضَةً لِتَنَاوُلِ كلِّ صائدٍ وكاسِر، وأمَّا إذا
وإذا كُسِرَا جناحاهُ فذهب الخوفُ والرجاءُ؛ فكالطائرِ عُرْضَة لِكُلِّ صائِدٍ وكاسِرٍ، وعُرضَة لكل مُتَنَاوِلٍ مِنْ مُنَاوِشٍ مِنْ شيطانِ الإنسِ والجِنِّ على السواء.
عبد الله بن عمر -رضوان الله عليهما- رُفِعَ إليه يَوْمًا كوبٌ من ماء مُبَرَّدًا، فلمَّا شربَ بَكَى، فقيل: ما يُبْكيك؟
قال: ذَكَرْتُ آيةً في كتابِ الله –جلا- وعلا- -: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [سبأ: 54] قال: عَلِمْتُ لمَّا نظرتُ أنَّ أهلَ النارِ لا يشتهون سوى الماء، لأن اللهَ جلَّت قدرتُهُ
يقول في كتابه العظيم: ﴿وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 50].
قال: فتذكَّرتُ تِلك الشهوةَ لأهلِ النارِ في النار، وكيف حِيلَ بينهم وبين ما يشتهون، وهذا الماءُ لنا في الحياةِ مبذول، ثم يصيرُ المرءُ بكُفْرِهِ؛ بمعصيتِهِ إلى ما يَصِير، ثم ما زالَ يبكي
بُكَاءً شديدًا، يتأثَّرُ جَسدُهُ بِبُكائِهِ شيئًا فشيئًا، حتى مَرِض أيَّامًا وعِيدَ، وعِيدَ أيّامًا يعودُه المسلمون -رحمةُ اللهِ عليهم أجمعينَ ورضوانُه-.
يقولُ الحسن وقد بَكَى يومًا -رحمةُ اللهِ عليه-: «أمَا إنِّي لأخشى أنْ يَطْرَحَنِي في النارِ ولا يُبَالي».
إِي نعم، لا مُعَقِّب لحُكْمِه؛ يطرحُني في النار ولا يبالي؛ يفعل ما يشاء، وَيَحْكُمُ ما يريد، بيده مقاليدُ القُوَى والقُدَرِ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
إنَّ الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما أخرج البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال:
قال لي النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يومًا: «اقْرَأْ عليَّ القرآن».
قال: قلت: أَقْرَأُ عليك، وعليك أُنْزِل؟!
قال: «إنِّي أُحبُّ أنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غيرِي».
قال: فاستفتحتُ سورةَ النساء، حتى وصَلْتُ إلى قول الله –جلَّ وعلا-: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41].
قال: «حسْبُك الآن»، وكان صوتُهُ مُتَهَجِّجًا يغلبُهُ الانفعالُ، ويرتعُ في جَنَبَاتِ حروفِهِ البكاء.
قال: فالتَفَتُّ، فإذا عيناهُ تَذْرِفَانِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-
وعن مُطَرِّف بن عبد الله عن أبيه -رضي الله عنه- قال: جِئتُ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يومًا وهو في الصلاة –، ولِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِن البكاء-؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أعرَفُ الخَلْقِ بالله -جل وعلا-.
وهو يقْدُرُ اللهَ -جلَّت قدرتُهُ- حقَّ قَدْرِه، والنبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يسيرُ إلى ربِّهِ على جَنَاحَيْ الخوفِ والرجاء، وأمَّا المحبة؛ فَتَؤُزُّ القلبَ أزًّا في مسيرِهِ؛ بل في طَيَرانِه إلى مرضاةِ ربِّهِ -جلَّ وعلا-.
أخرج الإمامُ أحمد في «مسنده»، وكذلك ابنُ ماجه في «سُنَنِه»، والبخاريُّ في «تاريخه» -رحمة الله عليهم جميعًا-: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-، قال: كُنَّا مع النبي -صلى
الله عليه وعلى آله وسلم- يومًا، فَرَأَى جماعةً اجتمعوا ناحيةً، فقال: «عَلَامَ اجتمع هؤلاء؟»
فقيل: إنهم اجتمعوا على قبرٍ يحفُرونهُ، فَبَدَرَ مِنَّا نبيُّنا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مُسْرِعًا، حتى جاء إلى شفيرِ القبرِ، فجَثَا عنده على رُكْبَتَيْه، وأَقْبَلَ بوجهِهِ على القبرِ.
قال البراءُ -رضي الله عنه-: فقلتُ أَسْتَقْبِلُه من جهةِ وجهِهِ لأنظرَ ما يصنع، قال: فاستقبلتُهُ، فإذا هو يبكي، وما زال يبكي حتى بلَّ الثَّرَى -حتى بَلَّ الترابَ النَّدِيَّ بدموعه -صلى
الله عليه وعلى آله وسلم- المُتفجراتِ من قلبِهِ وفؤادِهِ.
قال: ثم الْتَفَتَ إلَيْنَا، فقال: «أَيْ إخواني؛ لِمِثْلِ هذا فأعِدُّوا».
يقول النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في مَلْمَحٍ عَمَلِيٍّ تطبيقِيٍّ واقِعِيٍّ مُبْصَرٍ مُشَاهَدٍ ملموسٍ محسوس؛ فإنَّ القبرَ كان يُعَدُّ لاستقبالِ ميِّتٍ، وقد فَتَحَ فاهُ، وفَغَر فِيهِ مِن أجلِ
أنْ يَلْتَقِمَهُ ليُغَيِّبَهُ في جوفِهِ يترمَّمُ يتجَيَّفُ، ثم يصيرُ بَعْدُ تُرابًا، وهنالك عذابٌ عظيمٌ أو نعيمٌ مكينٌ؛ لا يدري ذلك ولا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ ربُّ العالمين.
ويجثو النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على رُكْبَتَيْه عند القبرِ يبكي؛ عَلَام يَبْكِي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟!
ألم يَغْفِر له ربُّهُ ما تَقَدَّمَ من ذنبِهِ وما تَأَخَّرَ؟
بلى؛ قد فَعَلَ؛ ولكنَّ -النبيَّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يسيرُ إلى اللهِ ربِّ العالمين سَيْرَ العارفِ بجلالِ قَدْرِه، المُقَدِّرِ لعظيمِ سُلطانه، فما يزال يبكي حتى يَبُلَّ بدموعهِ
الترابِ، ثم يَلْتَفِتُ إلَيْهم وإلَيْنا معًا: «أَيْ إخواني؛ لِمِثْلِ هذا فاعملوا، أَيْ إخواني؛ لِمِثْلِ هذا فأَعِدُّوا، أَيْ إخواني؛ لِمِثْلِ هذا المَنْزِل فاسْتَعِدُّوا»، يقولُها نبيُّنا -صلى الله عليه
وعلى آله وسلم-؛ لأنَّهُ أَعْرَفُ الخَلْقِ بالله -جلَّ وعلا-.
والنبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في الحديثِ المتفقِ على صحتهِ من روايةِ جُملةٍ مِن أصحابِ نبيِّنا مُحمدٍ -صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وسلم-، منهم: عائشةُ، وأبو سعيد،
وأبو هريرة، وجابرُ بن عبد الله -رضوانُ اللهِ عليهم جميعًا-:
قال النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لن يَدْخُلَ أحدٌ مِنكم الجنَّةَ بعمَلِه».
قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟
قال: «ولا أنا؛ إلَّا أنْ يتغمَّدني اللهُ بفَضْلٍ مِنهُ ورحمةٍ، إلَّا أنْ يتغمَّدني اللهُ بفَضْلٍ منهُ ورحمةٍ، إلّا أنْ يتغمَّدني الله بفضلٍ منه ورحمةٍ» -قالها ثلاثًا-.
«لن يُدْخِلَ أحدَكم عملُه الجنةَ».
قالوا: ولا أنت؟
قال: «ولا أنا، إلَّا أنْ يتغمَّدني اللهُ بفضلٍ منه ورحمةٍ».
والنبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ يُقَرِّرُ هذا؛ لا يتعارضُ ما قرَّره مِنْ بيانِهِ وحقيقةِ ما أَتَى به مِنْ عِنْدِ ربِّهِ مع ما قالهُ ربُّنا -جلَّت قدرتُهُ- في كتابه العظيم: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: 72]، فهُنَا يُقَرِّرُ اللهُ -جلَّ وعلا- أنَّهم أُورِثُوا الجنةَ بما كانوا يعملون، وهنالك يقول المأمونُ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لن
يَدْخُلَ أحدٌ منكم الجنةَ بعملِهِ»؛ فكيف ذٰلك؟!
إنَّ الذي نفَاهُ النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حديثِهِ سِوى ما أَثْبَتَهُ اللهُ ربُّ العالمين في كلامِهِ؛ لأنَّ الباءَ في قولِ اللهِ -جَلَّ وعلا- هي باءُ السَّببِ، هي باء السّبَبِيَّة؛ وأما
الباءُ في قولِ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ فهي باء الثَّمَنِيَّة، هي باءُ العِوَضِ، ولا تكونُ الجنةُ ثَمَنًا لشيء؛ مهما غَلَا ومهما عَلَا، ومهما ابتذلَ الإنسانُ نفْسَهُ في مراضي
ربِّهِ -جلَّ وعلا-، لا تكونُ الجنَّةُ ثمنًا لشيءٍ ولا عِوَضًا من شيء.
وإنَّما العملُ الصالحُ ما هو إلَّا وسيلةٌ وسببٌ لدخولِ الجنة، وأمَّا الجنَّةُ من حَيْثُ العِوَضِ؛ فإِنَّها لا يُمْكِن أنْ تُقَدَّر بشيء ولا أنْ تكون نظيرًا لشيء.
ومعلومٌ أنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يُحَصِّلَ السَّبَبَ، ولا يَتَحَصَّلُ على المُسَبَّبِ؛ فَكَم مِن مُنْزِلٍ ماءَه في رَحِمِ امرأتِهِ، ثم لا يُرْزَقُ ولدًا؟!!
وكم مِنْ باذِرٍ حَبَّهُ في أرضِهِ وقد أعدَّها، فلا تُثْمِرُ شيئًا؟!! مع أنَّه عَقَدَ بالسَّبَبِ؛ إلَّا أنَّ السَّبَبَ تخلَّف؛ لأنَّهُ لا بُدَّ من وجودِ شرائط وانتفاءِ موانِع، فإذا وُجِدَت الشرائطُ وانتفت
الموانعُ؛ فحينئذٍ يُثْمِرُ السَّبَبُ ما يُسَبِّبُهُ، يُثْمِرُ السَّبَبُ مُسَبَّبَهُ، وأمَّا إذا ما تخلَّفَ شيءٌ من ذلك؛ فلا يُمكنُ أنْ يتَحَصَّل الإنسانُ على شيء.
النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يُخْبِرُنَا أنَّه لن يَدْخُلَ أحدٌ منَّا الجنَّةَ بعملِهِ، وإنَّما بفضلِ الله ورحمتِهِ، وأمَّا العملُ؛ فهو سببٌ يبذُلُهُ العبدُ بين يَدَيِ الربِّ، عسى أنْ يقبلَهُ.
تقول عائشةُ -رضوان الله عليها- كما في الحديثِ الثابتِ الصحيحِ عنها، أخرجهُ الترمذيُّ وأحمد وابنُ ماجه؛ تقول: قلتُ للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في هذه الآية:
قال: «لا يا بِنْتَ أبي بكر، لا يا بِنْتَ الصِّدِّيق، إنهم الذين يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدقونَ، ويخافونَ ألَّا يتقبل اللهُ ربُّ العالمين منهم»؛ لأنَّ العِبْرَةَ ليست بالعملِ في ذاتِهِ،
وإنَّمَا العِبْرَةُ كُلُّ العِبْرَةِ في تَصْفِيَةِ العملِ مِن شوائِبِهِ، في تَصْفِيَةِ العمل مِمَّا يُحْبِطُهُ، في تَنْقِيَةِ العمل مِمَّا يُكَدِّرُه؛ العِبْرَةُ كلُّ العِبْرَة في تَنْقيةِ العمل مِمَّا يُحْبِطُهُ، حتى يُرَدَّ على صاحبِهِ
كما يُرَدُّ الثَّوبُ الخَلِقُ يُضْرَبُ به وجْهُهُ، يُقَالُ له: ضيَّعَكَ اللهُ كما ضَيَّعتني؛ لأنَّ اللهَ ربَّ العالمين يَنْظُرُ في خَلَلِ الأعمالِ، في خِلَالِها، في مَطَاويِها، ينظرُ اللهُ ربُّ العالمين في ثنايا
الأعمالِ، يبحثُ اللهُ ربُّ العالمين عن الإخلاصِ.
اللهُ ربُّ العالمين ينظرُ إلى الإخلاصِ هنالك مِنْ وراءِ الأعمالِ في دوافعِها، في بواعثِها، في الحوافزِ التي حَفَزَت إلى الإِتْيَانِ بها،
وأمَّا الأعمالُ في ظاهرِها؛ فإنَّها لا تقومُ عند اللهِ ربِّ العالمين بغير ساقٍ مَتِينٍ يحْمِلُهَا من الإخلاصِ بالقصدِ الأوَّلِ للهِ ربِّ العالمين وَحْده.
والنبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يُخْبِرُ: «أنَّ أقوامًا يَأْتُونَ يومَ القيامةِ بأعمالٍ بيضاءَ عظيمة كأمثالِ جِبَالِ تِهَامَةَ -مِنْ صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ وحجٍّ وبِرٍّ ووَصْلٍ وغيرِ
ذلك مِنْ أمورِ الخير-، فَيَنْظُرُ اللهُ إليها، فَيَجْعَلُها هَبَاءً منثورًا».
فقال الأصحابُ -رضوانُ الله عليهم- وَجِلِين: مَنْ يكونُ هٰؤلاء؟
أليس عليك مِنْ سميعٍ يسمعُ هَمْسَ الضميرِ في الضميرِ للضميرِ بالإتيانِ بما يريد؟!! وَيْحَك، ألَا تَعْلَم بأنَّ اللهَ يرى؟!!
وَيْحَك، ألَا تَعْلَم أنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- هو السميع البصير!! يَعْلَمُ خائِنة الأعْيُن وما تخفي الصدور؟!!
اللهُ ربُّ العالمين يريدُ من الأعمالِ حقَائِقَها، وحَقَائِقُهَا لا تقومُ إلَّا على الإخلاصِ فيها.
والنبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هو الذي أَتَى بالإخلاص كُلِّه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وعَلَّم الأُمَّة كيف تكون مُخْلِصَة لرَبِّها؛ إذ تَجعَلُ القبرَ بِشَفِيرِهِ أمامَ
ناظِرَيْهَا، تنظرُ إلى فَتْحَةِ القبرِ يكاد يَبْتَلِعُ الأناسيَّ ابتلاعًا، وحتمًا يبتلعُهم؛ حتى لا يبقى من الأحياءِ أحد، وحتى يقولُ ربُّنا -جلَّت قدرتُهُ- عندما يُقِيمُ السَّاعَةَ: لِمَن المُلْكُ اليوم؟
فلا يُجِيبُه أحد، فَيُجِيبُ نفسَه بنفسِه: للهِ الواحدِ القهار.
يجعل النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- القبرَ بإزاءِ النَّظر ماثلًا قائِمًا؛ لأنَّ حقيقةَ القبرِ إنْ خالطت النَّفْسَ وامْتَزَجَتْ بالدماءِ؛ صارَ العبدُ للهِ ربِّ العالمين خالِصًا، ولم يَعُدْ
منه شيءٌ للدنيا أبدًا، وكيف؟ وهو قبرٌ مُتَحَرِّكٌ في أكفانِهِ.
وهو غادٍ ورائحٌ يَنْتَظِرُ أنْ يُحْمَلَ على الآلةِ الحَدْباء، التي ما مِنِ ابْنِ أُنثى إلَّا سيُحْمَل عليها من الدَّهْرِ يَوْمًا، حتى يُغَيَّبَ في ثراه.
وحتى يُوَارَى في لَحْدِه؛ في الوحشةِ، في الكُربةِ، في الوَحْدَة بين الهَوَامِّ الراتِعَاتِ في جسدٍ كان قَبْلُ مَصُونًا، إذا مسَّهُ الرِّيحُ تألَّم، وإذا عضَّهُ النسيمُ تأوَّهَ؛ واليومَ هو في حُفْرَتِهِ بين
أطباقِ الثَّرَى، مُغَيَّبٌ بين طبقاتِ الوحشةِ، وبين ما يُهَالُ عليه مِنَ الوَحْدةِ، مِنَ الكُربةِ، مِنَ الألمِ، من العذاب إنْ لم يَكُن صحيحًا في إيهاب، إنْ لم يَكُن مُقْبِلًا على ربِّ
الأرباب؛ فاللهم سلِّم وارحم، وأنت أرحمُ الراحمين.
«أَيْ إخواني؛ لِمِثْلِ هذا فأَعِدُّوا»، فَلِمَ يَغيبُ عن خاطرِك؟!
وَلِمَا يَرُوحُ عن بَالِكَ وأنت مُقْبِلٌ عليه إقبالًا؟!! وقد اقْتَرَبْتَ منه في المُناسَبة شهرًا، نعم؛ لقد خَطَوْتَ خُطْوَةً واسِعةً يا صاحبي، خُطْوَةٌ بشَهْرٍ مِنَ الزمانِ الباقي، والباقي من العُمُرِ
لحظة.
إذا ما قِيسَ الباقي على الماضي؛ فإنَّ الذي مَضَى قد مَضَى يَتَفَلَّتُ كَتَفَلُّتِ الماءِ من بينِ ثنايا الأصابعِ، فما الذي يتبقى؟!
قِسْ ما هو باقٍ على ما قد مضَى، ثم اجعل هذا لهذا؛ تَجِدْ أنَّ الأمرَ كلَّهُ قد مضى؛ فاللهم سلِّم وارحم، وأنت أرحمُ الراحمين.
إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبرنا كما في «الصحيحين» عن أبي هُرَيْرَة -رضوان الله عليه-: «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه».
وقال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في «الصحيحين» أيضًا عن أبي هريرة -رضوان الله عليه-: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبِهِ؛ ومَن قامَ
ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ»؛ إلَّا أنَّ الأمرَ ليس على ظاهرِهِ هكذا، وإنَّمَا لِمَن قام قِيَامًا صحيحًا، وصام صيامًا صحيحًا، مُحْتَسِبًا عَمَلَهُ للهِ ربِّ
العالمين، مُحتَسِبًا سَعْيَهُ وقَصْدَهُ لِمَراضي ربِّهِ الجليل، مُحْتَسِبًا تَرْكَهُ وكَفَّهُ وامتناعَهُ للقُربِ من ربِّ العالمين، لِمَن كان كذلك؛ فلَه ذلك.
وأمَّا مَنْ تَخَلَّفَتْ عنده العُدَّة، وأمَّا من تخلَّى عن السِّلاح وهو يذهبُ إلى الهَيْجَا ويُباشرُ المعركةَ مع الشيطانِ الرجيم: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر: 6]، فهي
معركةٌ إذن، وهي معركةٌ قائمةٌ بأسلحةٍ غيرِ منظورة، لأنَّ العدوَّ يَرْتَعُ في الدماءِ، ويجري في العروقِ مع الدماءِ السابحات، فهو سابحٌ في تلك الدماء يَصِلُ إلى بعيد، ويراك من
حيثُ لا تراه، فكيف يكون الشَّأن مع مثل هذا العدو؟!
وإنَّ أسلحتَهُ لَمَاضيةٌ، وإنَّ ما عنده من العُدَّة لَمِمَّا لا يُقَاوَمُ بادِيَ الرّأيِ، ولكنْ عندما يتَأَتَّى الإخلاصُ في القلبِ يَحْرِقُ كلَّ ذلك؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-
أخبرنا في هذا الوحي المُنَزَّلِ على قلبِهِ الشّريف: أنَّ الله ربَّ العالمين لا يريدُ أشباحًا ظاهِرة، وإنَّما يريد أرواحًا باطِنة، وأنَّ اللهَ ربَّ العالمين لا يريدُ قوالِبَ منصوبة، وإنَّما يريدُ
اللهُ ربُّ العالمين قلوبًا نَحْوَهُ مَصْبُوبَة.
اللهُ ربُّ العالمين لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالِصًا وأُرِيدَ به وجهُهُ.
اللهُ ربُّ العالمين أغنى الشركاءِ عن الشّرْك، فمن أشركَ معه غيرَهُ؛ وَكَلَهُ للذي أشركَ ولا يُبَالي.
اللهُ ربُّ العالمين يجعلُ المُنادي يُنادي يومَ القيامة على الخلائق في الموقفِ: «ألَا مَنْ كان عامِلًا شيئًا لغيرِ الله –جلَّ وعلا-؛ فَلْيَذْهَبْ إليه مِنْ أَجْلِ أنْ يُوَفِّيَهُ حقَّه».
أرأَيْت إنصافًا فوقَ هذا الإنصاف؟!!
أَسَمِعْتَ عن عدلٍ يُضَاهِي هذا العدلَ أو يُمَاثلُهُ أو يُقاربُهُ؟!!
حاشا وكلَّا.
إِنَّ اللهَ ربَّ العالمين لا يظلِمُ الناسَ شيئًا: كُنتم تعملون لغير وجهِهِ، وكنتم تعبدون سِواه؛ من الهوى المتبوع والآراء المُتَّبَعة؛ من تلك التصوُّراتِ الفاسدة، والأوهامِ الخائِبة،
والغرائِز الثَّخِينة، وتلك الأمورِ الغليظةِ في القلوبِ من أحاسيسِها التي لم تَرِقَّ على الدِّين بَعْدُ، كنتم تفعلون ذلك في الدنيا، فاليوم؛ لا ظُلْمَ اليوم؛ فليذهب كلُّ عاملٍ إلى مَن
كان يعملُ له حتى يُوَفِّيَهُ أجرَهُ، ولِيَنْتَصِبِ اليومَ للِه ربِّ العالمين قائمًا على ساقِ الإخلاصِ مَنْ كان يعملُ للهِ ربِّ العالمين وحده لِيُوَفِّيَهُ أجرَه، واللهُ ربُّ العالمين عطاؤُهُ لا حدَّ له؛
إذْ هو على قَدْرِ قُدْرتِه، وقُدْرَة اللهِ ربِّ العالمين لا حدَّ لها.
ومِن لدنهُ، مِن غيرِ ما عملٍ لأحدٍ من الخَلْقِ قطُّ، وإنَّما هو تغييبٌ للعملِ الصَّالحِ في ضميرِ الضميرِ، وفي غياهبِ المكنونِ من ثنايا النَّفْسِ؛ حتى إن استطاع الإنسانُ ألّا يُطْلِعَ
ذاتَهُ على عملِ ذاتِه فليفعل، لأنَّ النبيَّ قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «ورَجُلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها؛ حتى لا تعْلَمُ شمالُهُ ما أنفقت يمينُهُ».
فيُخفي ذاتَهُ عن ذاتِهِ، ويُغَيِّبُ ذاتَهُ في ذاتِهِ، ويجعلُ عملَهُ في حُجُبِ إخلاصِهِ؛ حتى لا يستطيع أحدٌ أنْ يطَّلِع عليه إلَّا اللطيفُ الخبيرُ، وأنْعِمْ به من مُعْطٍ وصاحبِ جزاء، لا الٰه
إلّا هو، على كلِّ شيء قدير.
«مَن قامَ ليلةَ القَدْرِ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِر له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»، «مَن قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا، مَن صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ».
ولكنْ هل هذا الغفرانُ على إطلاق؟
يقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في روايةِ مسلم -رحمه الله تعالى- يَرْفَعُها إلى النبيِّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «الصلواتُ الخَمْسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعة،
ورمضانُ إلى رمضان، مُكَفِّراتٌ لِمَا بينهُنَّ ما اجْتُنِبَت الكبائر».
ما اجْتُنِبَت الكبائرُ، وللعلماءِ فيها قولان:
أمَّا الأوَّل؛ فإنَّهُ لا تكفيرَ للصَّغائِر إلَّا مع اجتنابِ الكبائِر، يعني: لو صلَّى الصلواتِ الخَمْسَ، ولو أنَّه أتى الجُمُعة إلى الجُمُعة، ولو أنَّه صامَ رمضان إلى رمضان.
يفعلُ ذلك كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يَغْشَى الكبائِر؛ فإنَّ الصَّغائرَ أيضًا لا تُكَفَّرُ.
هذا قول.
وأمَّا القول الثاني -وهو الأظهرُ-؛ أنَّ ذلك يُكَفِّرُ الصغائِر، وأمَّا الكبائِر فلا بُدَّ لها من توبة، نعم، إلَّا حقوقَ العِباد؛ تَظْلِمُ وتَرْتَعُ في الأعراضِ بلسانك خابِطًا تذهبُ هاهنا
وهنالك في أعراضٍ مَصُونة، والمرءُ يَتَمَلْمَلُ يَتَلَدَّدُ لا يَدْرِي ما يقول؛ لأنَّ «التُّقَى مُلْجِمٌ»، ولأنَّ «التَّقِيَّ مُلْجَمٌ»؛ روايتان صحيحتان.
«التُّقَى مُلْجِمٌ» كأنَّه لِجامٌ يُجْعَل في فمِ التَّقِيِّ، و«التَّقِيُّ مُلْجَمٌ» كأنَّما قد أُلْجِمَ في فمِهِ لِجامًا؛ «التَّقِيُّ مُلْجَمٌ» و«التُّقَى مُلْجِمٌ»، فما يَصْنَعَ؟
يُبِيحُكَ مِنْهُ عِرْضًا لم يَصُنْهُ وَيَرْتَعُ مِنْكَ في عِرْضٍ مَصُونِ!!
بلاءٌ ليس يُشْبِهُهُ بلاء!! تَحْسَبُ أنَّ هذا يصيرُ هيِّنًا يومًا؟!!
حاشا وكلَّا، إنَّما هو حقوقُ العِباد، وليس ثمَّةَ دِرْهَمٌ ولا دينار، ولو صُمْتَ الدَّهرَ كلَّه فلم تُفْطِر، لا صباحًا ولا مساءً، ولم تَطْعَم شيئًا ولم تشْرَبْه؛ حتى تؤدِّيَ الحقوقَ إلى أربابِها.
تُغتَصبُ الأموالُ، ويُعتَدَى على الحقوقِ، وتُجْلَدُ الظُّهورُ، ويُعَذَّبُ الأناسيِّ، ثم غُفرانٌ؟!! أيُّ غُفران؟!!
إنَّما الغُفرانُ هاهنا لِمَا دون الكبيرة.
وعلى القولِ الأوَّلِ؛ فإنَّه لا يَتَحَصَّلُ عليه صاحبُ صغيرةٍ إلَّا إذا اجْتَنَب الكبيرة، وأمَّا الذين قالوا: إنَّ الغُفرانَ يَشْمَلُ الكبيرةَ والصغيرةَ بالإتيانِ بالأعمالِ التي دلَّ عليها النبيُّ -
صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ فهو فَتْحٌ لبابِ الرجاء؛ حتى لا يَقْنَطَ أحدٌ، وحتى لا يَيْأَسَ مُسْلِمٌ، وإنَّما هو الإقبالُ على الله -جلَّ وعلا-.
ولِمَ تُوَرِّطُ نَفْسَكَ؟!!
أنتَ في حِلٍّ، وأنت تَعْلَمُ أنَّ العبدَ المُجرمَ يأتي يومَ القيامةِ صائِحًا: «ربِّ ارجعون»، فأنت فيها، أنت فيها الآن؛ فلماذا تَطْلُبُها فلا تُعْطَاها؟!! ﴿كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن
يقولها العبد مُتَنَدِّمًا يوم الدِّين، يطلبُ الرجوعَ، ولاتَ حين مَنْدَمِ، يندم ولا ينفع النّدمُ، ويطلب الرجوع ولا يُلَبَّى، فأنت فيها، لِمْ تَرْحَلْ عنها بَعْدُ؛ فلِمَ لا تُقَدِّمُ توبةً نصوحًا للهِ
ربِّ العالمين؟!!
إنّ رمضان إنّما يكونُ ذا أثرٍ حَسَنٍ لِمَنْ تغيَّر به، لِمَن تفاعلَ به في ضميرِهِ وذاتِهِ، ولا عَجَب؛ فهو مدرسةٌ للتهذيبِ على مدى الأيّامِ والليالي؛ ليَتَزَوَّدَ العبدُ منه بتلك الرُّؤى
المُتألِّقاتِ في تصوُّره، وبذلك النورِ المُشِعِّ في قلبِهِ، وبذلك السلوكِ المُهَذَّبِ في حياتِهِ؛ نعم، لأنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جعل دُونَ الصيامِ الصحيحِ سياجًا
مضروبًا، مَن اخترقَهُ وَصَلَ ، ومَن هَتَكَ حِجَابَهُ؛ انكشف له ما هنالك من حقيقته.
إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبرنا أنْ مَن لم يَدَع الجهلَ، وهو السفاهةُ، وليس الجهل الذي هو ضدُّ العِلم، وإنَّما الجهلُ الذي هو ضدُّ الحِلْم، كقولِ الشاعر الأوَّل:
مِنَ الجهلِ الذي هو سَفَهٌ كلُّهُ، وليس هو بضدِّ العِلم، واِنَّما هو ضدُّ الحِلْمِ.
الذي طلَّقَهُ النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ورماهُ فجعلَهُ مزْجَرَ الكلبِ، لا يزيدُهُ جَهْلُ الجاهِل إلّا حِلْمًا، لا تزيدُهُ سفاهةُ السَّفِيهِ إلَّا رِفقًا -صلى الله عليه وعلى آله
وسلم-، «مَنْ لم يَدَع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أنْ يَدَعَ طعامَه وشرابه».
والآن تأمَّل رَجُلًا مَضَت عليه سحائبُ النهارِ جميعًا، ومضت عليه أماسيُّ الشَّهرِ كلُّها؛ مضى ذلك بذلك موصولًا، يُلْقَى مجموعًا على أُمِّ رأسِهِ كما يُجعَل على رأسِهِ مِن القَذَرِ
الماديِّ ما يُجعَل؛ لأنَّه هو الذي صنعَ بنَفْسِهِ ذلك، مَضَت أماسيّه، ومَضَت أصباحُهُ، ومَضَت أَضْحَاؤُهُ، مَضَى كلُّ ذلك عليه وهو خابِطٌ في الأعراضِ؛ والِغٌ في ذواتِ الخدورِ
بلسانِهِ، رُبَّمَا تَحَصَّلَ على أَمْرٍ كبيرٍ يَستَوْجِب حَدًّا في ظَهرِهِ ولا يُبَالي!! ثم يقول: مَن قامَ رمضان....مَن صامَ رمضان....!!
إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أَخْبَرَ أنَّ مَنْ لم يَخْرُجْ مِنَ الشَّهرِ مغفورًا له؛ فهو راغِمٌ -يعني: أَنْفُهُ في الترابِ-، فهو ذليلٌ، ذليلٌ إلى العام المُقْبِل إنْ أحياه ربُّهُ -جلَّ وعلا-.
مِن أَجْلِ ماذا؟
من أجلِ أنْ يُجدِّدَ له الفرصةَ؛ لِيَرْفَعَ عن كَتِفَيه آصَارَ هذا الذُّلِّ، ولِيَنْفُضَ عن قَلْبِهِ بِصَفْحَتِهِ غُبَارَ هذه المذلَّة، لِيَعُودَ لربِّهِ مُتألِّقًا، فإنْ لم يَفْعَلْ؛ اسْتَمَرَّ به ذُلُّهُ مُجدَّدًا.
وإذًا؛ فأنت الآن على عَتَبَةِ المُفارقة، أنت الآن على الحدِّ مِثْلَ ما يكون الرَّجُلُ على الصراط، أوَ حَالُكَ هو حالُ المغفور له؟
إنَّ الذي قد غُفِرَ له تَبْدُو على وجهِهِ أنوارُ مغفرتِهِ، وتتألَقُ في ثَنَايَا سلوكِهِ تلك التي أتت بها المغفرة مِنْ تلك العَلَائِمِ الدَّالَّاتِ على الصِّدقِ في السعي إلى ربِّ الكائنات، فإنْ لم
وإذا كان اللهُ ربُّ العالمين قد جَعَلَ في رمضان من أسبابِ المغفرةِ ما لا يُقَادَرُ قَدْرُهُ:
«مَن صامه إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه».
وكذا مَنْ قَامَهُ إيمانًا واحتسابًا؛ «مَن قام ليلة القَدْرِ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِر له ما تقدم من ذنبه».
«مَنْ فَطَّرَ فيه صائِمًا؛ كان له من الأجرِ مِثْلُ أجره من غيرِ أنْ يَنْقُصَ ذلك من أجره شيئًا».
«للهِ عندَ كلّ فِطْرٍ عُتَقاءُ من النَّارِ».
«الصائِمُ له فرحةٌ عندما يُفْطِرُ، وعندما يَلْقَى ربَّه -جلَّ وعلا-».
في أسبابِ المغفرةِ في هذا الشَّهرِ كمِثْلِ صدقةِ الفِطْرِ التي هي للصائِم، كسجدتَيْ السّهْوِ للمُصَلِّي؛ مِن أجل أنْ يَجْبُرَ الخللَ الواقِع في ثنايا صِيامه.
أمثالُ هذه الأمور تتأتّى بالمغفرة، بالرحماتِ من الربِّ الغفور، فإنْ لم تُهْتَبَل، وإنْ لم تُقْتَنَص، وإنْ لم يَتَحَصَّلْ عليها السَّالِكُ إلى اللهِ ربِّ العالمين -لا إلى شيطانِهِ، ولا إلى
شهواتِهِ-، إنْ لم يَتَحَصَّلْ عليها؛ فإنَّهُ خَرَجَ بإثْمٍ مُضَاعَف؛ لأنَّ الذي تُعْرَضُ عليه الفُرَصةُ فيُضَيِّعُها؛ هو أكبرُ إثمًا مِمَّن يَبْحَثُ عنها فلا يَجِدُها.
لا خلافَ أنَّ الذي تُعْرَضُ عليه الفُرْصَةُ فيَرُدُّها على ربِّهِ -جلَّ وعلا-، ولا يُفِيدُ منها شيئًا، وإنَّما يُهْدِرُها إِهْدَارًا، بل إنَّه يَتِّخِذُ ما هنالك مِنْ هذا الشَّهر بدعائِم الخير فيه مِنْ
أجلِ أَنْ يكونَ والِغًا في ملذَّاتِهِ على نحْوٍ أكبرَ، ومِنْ أجلِ أنْ يكونَ مْتَوَغِّلًا في نَزَوَاتهِ وشهَوَاته على مَدَىً أَبْعَدَ.
وأمَّا أنْ يَقِفَ مُتَأمِّلًا؛ فها هو قد مَضَى، وها هُوَ قد انْصَرَم، وها هُوَ ما يُسْتَقْبَلُ مِنْ أيّامِ العُمُر.
واللهُ ربُّ العالمين قد جَعَلَ لنا في أصحابِ نبيِّنا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مِثالًا تطبيقيًّا:
كانوا يَظَلُّون سِتَّةَ أشهرٍ يَدْعون اللهَ ربَّ العالمين أنْ يُبَلِّغَهم رمضان، فإذا ما جاء رمضان وبلغوهُ كما دَعَوْا ربَّهم الغفور؛ ظلُّوا سِتَّةَ أشهرٍ يَدْعُون اللهَ ربَّ العالمين أَنْ يُتَقَبَّل منهم.
ليس الشأنُ في العملِ، وإِنَّما الشأنُ في تصْفِيَة العملِ مِمَّا يَشوبُهُ، مِمَّا يُكَدِّره، مِمَّا يُحْبِطُهُ، مِمّا يجعلُهُ مردودًا على صاحبِهِ.
أَلَا إِنَّ الإِخلاصَ هو رُوحُ دينِ الإسلام، وأمَا إنَّ نبيَّكم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد حَضَّ عليه، ودلَّ عليه، وبيَّن أنَّ الإنسانَ لا يَتَحَصَّلُ مِنَ العملِ إلَّا على قَدْرِ نِيَّتِهِ،
البواعِثِ، في النِّيَّات، في الضمائرِ، في مكْنوناتِ القلوبِ، وفي مُغَيَّباتِ الصدورِ، في تلك الأَطْوَاءِ التي قد انطوَت على ما انطوت عليه، لا تريدُ أنْ تُذْهِبَ عنها الرَّانَ، ولا تريد أنْ
تَنفُضَ عن جَنَبَاتِها الأذى؛ فما الشَّأن إذَن؟!
إذا كان اللهُ ربُّ العالمين يُعْطِي ويَمْنَحُ، والنَّاسُ لا يَقبَلون، يرُدُّونَ على اللهِ ربِّ العالمين عَطِيَّته؛ ما الشأن إذَن؟!!
اللهم سلِّم وارحم، وأنت أرحمُ الراحمين.
نسأل اللهَ أنْ يرزقنا الإخلاص أجمعين، وأنْ يجمعنا مع النبي في الفردوسِ الأعلى من الجنة برحمتِهِ التي وسعت كلَّ شيء، وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ ربَّ العالمين لي ولكم.
فإنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- بَنَى لنا شريعتَهُ على نَحْوٍ هو أحْكَمُ الحِكْمة وأَكْمَلُ الكمال، وقد نَزَلَ النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- المدينةَ، فَوَجَدَهم يَحْتَفِلُونَ بيومين مِن أيامِ الجاهليةِ ليس فيهما خيرٌ، ولا يُلْتَفَتُ إليهما، ولا يُنْظَرُ إليهما؛ لأنَّهما كالجُثَّةِ الشَّوْهاءِ الرَّمِيم، فقال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «إنَّ اللهَ أبْدَلَنا خيرًا مِنهُما؛ يومَ الفِطْرِ ويومَ الأضحى».
يَخْرُجُ النّاسُ أفواجًا إلى المُصَلَّى، يَخْرُجُ النَّاسُ أفواجًا إلى العيد، وأين العيد؟!
إِنَّ العيدَ قد مضى ولن يعود؛ لأنَّ الأُمَّةَ المَكْلومةَ الجريح...الأُمَّةُ النازِفة....الأمَّةُ النازِفة التي تفجَّرَت فيها جِراحُ نَزْفِهَا حينًا بعد حين؛ كُلَّما الْتَأَمَ منها جُرْحٌ جَدَّ على التَّذْكارِ جُرْحٌ.
فما تزال جِراحها ناتئاتٍ، وما يزال بَنُوهَا يُعَرْبِدون، ما يزال بنوها لا يعودون، سادرون في غيِّهم لا يفيقون!!
أين هُم؟!!
أين هُمْ مِنَ العقيدةِ؟!! مِنَ الدين؟!! مِنْ حقيقتِهِ؟!!
إنَّما هُم أمْشاجٌ لم تُخَلَّق بعْدُ.
إنَّما هم نُطَفٌ شائِهَاتٌ ليس لها وزنٌ في حقيقةِ الإنسانية؛ فضلًا عن دينِ الإسلامِ العظيمِ.
أين هم أوْلئك الذين يُقال فيهم: أيها المؤمنون؛ أيها المُتّقون؛ أيها المُحْسِنون؟!!
إنَّ رمضانَ يُغَيِّر الأرواحَ، يُغّيِّر النُّفوسَ، مدرسةٌ مِن أجلِ إعادةِ الصِّيَاغةِ، فإذا ما خرجَ الإنسانُ من الجهةِ المُقَابِلة كشأنِهِ الأوَّلِ؛ فإنَّهُ لم يَدْخُلْ بَعْدُ، وإذا ما خَرَجَ شَائِهًا، وهو
حالُ الكثيرين، نسألُ اللهَ أنْ يعفو عنَّا أجمعين.
يَدْخُلُ على رَجَاءِ القَبول، ثم ما يزالُ راتِعًا في شهواتِ نَفْسِهِ، وما يزالُ خابِطًا في ملذَّاتِ ضميرِهِ!!
ولا أقولُ لك الآن: إنَّ الأمرَ يتعلقُ بالأجسادِ؛ فأَمْرُها يَسير.
نعم؛ إنَّ نبيَّكم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمَّا جاءَهُ الرجلُ شاربَ الخمرِ؛ قام إليه، وقام إليه الأصحابُ فضربوه، ثم ذُهِبَ به، فلَبَثَ ما شاء اللهُ أنْ يَلْبَثَ، ثم عادَ شارِبًا
فَحُدَّ، ثم عاد مرَّةً ومرَّةً، فقال قائِلٌ في المجلسِ مجلسِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-: لَعَنَكَ اللهُ؛ ما أَكْثرَ ما يُؤْتَى بِك؟!!
قال: «لا تَلْعَنْهُ؛ فإنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورسولَهُ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-».
وفي روايةٍ: «لا تُعِنِ الشيطانَ على أخيك».
هذا رجلٌ توَرَّطَ في شهْوَةِ نَفْسٍ لم يَسْتَطِعْ لها دَفْعًا، ولم يَسْتَطِعْ أَمامَها قِيامًا، فتَهَاوَى بُنْيانُه ولم يَتَمَاسَكْ.
ثم جِيءَ به إلى النبيِّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فكان ما كان مِنْ أَمْرِ الجَبْرِ مع الزَّجْرِ معًا؛ لأنَّ الحدودَ زَوَاجِرُ وَجَوَابِرُ في آنٍ.
الحدودُ زواجرُ وجوابِرُ في آنٍ.
فلمَّا كان الأمْرُ مُتَعَلِّقًا بهذا التَّهَدُّمِ أمامَ لَذَّةٍ عارِضةٍ وشَهْوَةٍ طارِئةٍ؛ سَرْعَانَ ما تَمَاسَكَ البُنْيَانُ بَعْدُ؛ ولكنْ يُؤْتَى بِصَبِيغِ بنِ عِسْلٍ يَتَكَلَّمُ في المُتَشابِه مُتَشابِهِ القرآنِ، في
الذَّارياتِ، في الصَّافاتِ، في تلك المُتَشابِهات، لا يَدْرِي لها بَيَانًا، ولا يَعْلَمُ لها خَبَرًا، ويَخْبِطُ فيها بغير عِلْمٍ، تُمِدُّ لسانَهُ حَمْأَةٌ مُنْتِنَةٌ بِمِدَّتِها وقَيْحِها في قلبِهِ، فَيَغْمِسُ لسانَهُ في تلك
الدَّوَاةِ؛ لِكَيْ يَخُطَّ حروفًا في الهواء؛ مِنْ أَجْلِ أنْ يُزَلْزِلَ تحتَ أقدامِ المؤمنين صُلْبَ الأرضِ، مِن أَجْلِ أنْ يَجْعَلَ الرَّاسِيَ مُهْتَزًّا، والقائِمَ مُنْتَكِسًا؛ وهَيْهَات، يقومُ له أميرُ المؤمنينِ عُمَرُ
هذا في قلبِهِ، وهذا في شهوةِ نَفْسِهِ، لا في حقيقةِ وجودِهِ.
هذا في تصَوُّرهِ، اِنْتُكِسَ فَانْعَكَس.
وأَمَّا هذا؛ فما زالَ مشهودًا له بخيرٍ على لِسانِ سيِّدِ الكائناتِ، يقول: «إنَّه يحبُّ اللهَ ورسولَهُ».
وكم مِمَّن لم يَشْرَبْ منها قَطْرَةً لم يَخْرُجْ بهذه الجائزة؟!!
وليست الجائزةُ على شُرْبِهِ، حاشا وكلَّا؛ فإنَّ العقابَ على الشُّرْبِ كان قائِمًا: «قوموا إليه فاضربوه»، يُضْرَبُ مَرَّةً ومَرَّةً ومَرَّةً؛ عِقابًا على المَعْصِية، وأمَّا القلبُ؛ فَفِي سِيَاجٍ مَتِينٍ،
وَعَسَى بَعْدَ حِينٍ أنْ يَنْتَفِضَ القلبُ انْتِفَاضَتَهُ، فإذا بذلك كلِّهِ مِنْ ذلك القَذَرِ قَدِ انْتَفَضَ بعيدًا عن ذاتِ القلب، وعادَ القلبُ إلى صَفَائِهِ وسَوَائِهِ.
يقولُ نبيُّكم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لكلِّ شيءٍ، وفي رواية: لكلِّ عملٍ شِرَّة -الشِّرَّةُ : النشاطُ والاندفاعُ في الأمورِ، والأخذُ للأمورِ بالعزمِ والجِدِّ المتين-.
لكلِّ عملٍ شِرَّةٌ، ولكلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كانت فَتْرَتُهُ إلى سُنَّتِي؛ فقد اهتدى، ومَن كانت فَتْرَته إلى غير ذلك؛ فقد هَلَكَ».
فَتْرَتُك التي تُقابِل نشاطَكَ ينبغي أنْ تصيرَ إلى السُّنَّة، لا أنْ يصيرَ نشاطُك إلى السُّنَّة.
أنت على السُّنَّة.
أمَّا إذا ما فَتَرْتَ؛ فأنت عائِدٌ إلى المُسْتَوى الأوّل؛ يقول عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «فمَن كانت فَتْرَتُهُ -وهو ضِدُّ نشاطِهِ-، فمَن كانت فَتْرَتُهُ إلى سُنَّتي؛ فقد اهتدى،
ومَن كانت فَتْرَته لغيرِ ذلك؛ فقد هَلَكَ».
انظر إلى أيِّ شيءٍ أرجعَكَ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟!!
وانظر كيف أَتَى بهذا الأمرِ حتى أوْجَعَك؟!!
نعم، انظر كيف أوْجَعَك؟!!
وانظر إلى ما أرجَعَك؟!! وإلَّا فقد هَلَكَ مَن هَلَكَ.
النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُرْجِعك في حالِ الفُتورِ إلى سُنَّتِهِ -سُنَّة البشيرِ النذير -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فكيف والقومُ في عالِي هِمَّتِهم....والقومُ في مَوْفُورِ نشاطِهم
لا يَصِلُون إلى شيءٍ من السُّنَّةِ أبدًا؟!! ما هذا الأمرُ المَعْكُوس؟!!
وأُمَّةٌ تَضِيعُ على مَذْبَحِ الفَراغِ لأبناءٍ تافِهِينَ، لا يَسْتَحِقُّونَ أنْ يَكُونُوا لها مُنْتَسِبين، أبناءٌ كهذا الذي تراه مِنْ هذا الذي تراهُ في الهواءِ ذَرًّا دقيقًا؛ كالسَّفَاسِفِ المُتَطَايِرِ هنالك مِنَ
الغُبارِ الذي يكونُ عندما تَطحَنُ المرأةُ الطَّحِينَ، فهي تُديرُ رَحَاها، يَتَعَالَى في الجوِّ ما يَتَعَالَى مِثْلُ ذلك الذَّرِّ الدقيقِ، لا حقيقةَ ولا قيمة، وتَحْسَبُ أنِّي أُجَبِّهُك؟!
حاشا وكلَّا، وإنَّما هو بيانُ نبيِّك -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «يوشِك أنْ تَتَدَاعى عليكم الأُمَم؛ كما تَتَدَاعى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها».
أَكَلَةٌ أَعَدُّوا ثريدًا، أعدُّوا خَبِيصًا، أَكَلَةٌ أعدُّوا طعامًا شَهِيًّا لذيذًا، يَتَدَاعُون...يَتَنَادُون...يدعو بعضُهم بعضًا: ألَا هلُمَّ ألا هَلُمَّ، ألا هَلُمَّ إلى الشَّهِيِّ من الطعامِ، إلى الحارِّ مِن هذا
الثَّريد، أَلَا هلُمَّ ألا هلُمَّ.
وكذلك يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الغُثَائِيَّةِ التي عمَّت فطمَّت فَطَمَتْ؛ حتى صارت كالسَّيْلِ لا يُلاحَقُ مِنْ أَوَادِيهِ شيءٌ، وإنَّما يَحْجُبُ عينَ الشَّمسِ، ولا حول ولا قوة
إلا باللهِ العليِّ العظيم.
رمضانُ!! وما رمضانُ أيُّها المسلمون!!
رمضانُ الذي يُهَذِّبُ....الذي يُنَقِّي....الذي يُصَفِّي.
هذا هو الذي تَعْرِفُهُ الشريعة.
وأمَّا رمضانُ الذي يَلْهُو فيه اللَّاهُون، ويَعْبَثُ فيه العابِثون، ويزدادُ على الحِقْدِ فيه الحاقدون، ويتزَوَّدُ فيه مِنَ الغِلِّ المُتَزَوِّدون؛ أيُّ رمضان هذا؟!!
إنَّما رمضانُ مَحْرَقَةٌ تَحْرِقُ كلَّ ما سِوَى الإيمانِ في حقيقةِ القلبِ.
إنَّ رمضانَ لَهُوَ الأَتُّون، يَدْخُلُ فيه الذَّهبُ المَشُوبُ؛ لكي يَخْرُجَ مِنَ الجِهَةِ المُقابِلةِ صُرَاحًا خالِصًا لا شائِبةَ فيه.
يقول نبيُّكم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا مُبَكِّتًا، وإنَّما مُعْلِمًا، فهي علامةٌ بدليلٍ مِنْ دلائِلِ نُبُوَّتِهِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، يقولون: يا رسول الله؛ ما هذا الذي
يَكُون؟! تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ علينا كما تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا؟!
أيُّ شيءٍ هذا؟! أَوَ مِنْ قِلَّةٍ نحنُ يومئذٍ يا رسول الله؟
وانظر إلى هذا المدِّ العارِض للسكون، يَجْعلُ الرَّاءَ مُرَقَّقَةً هكذا عند الأداء: «أنتم يومئذٍ كثير».
نعم.
النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَنْظُرُ من خِلَالِ الغَيْبِ، ويَعْلَمُ أنَّ مِنْ أمَّتِهِ مَنْ سَيَقِفُ على المنابِر يَوْمًا وفي المحافِل؛ يُعَلِّمُ النّاسَ الجهلَ، يقول قائِلُهم: أنتم يومئذٍ «كَسِير»!! ولا
يُخْرِجُ لسانَهُ في الثَّاءِ؛ ليكونَ الكَسْرُ قائِمًا!!
ألَا إنَّها آيةٌ بِعَلَامَةٍ بيِّنةٍ.
«أَنْتُمْ يَوْمِئِذٍ كَثِير؛ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ»، كما يَحْمِلُ الماءُ في انْدِفَاعِهِ في سَعْيِهِ...في هَيَجَانِهِ....يَحْمِلُ ما يَلْقاه هنالك مِنْ ذلك الذي يُحْمَلُ طافِيًا فوقَهُ مِنْ جُثَثِ
الحيوانات الحابِطة؛ مِنْ كلِّ أذىً وقَذَرٍ يُمْكِن أنْ يَطْفُوَ فَوْقَ السَّطْحِ، ليس له مِنْ جِذْرٍ يَؤُوبُ إليه وَإِلَيْهِ يعود، وإنَّما هو طَافٍ مع الدَّفْعِ الشّديدِ.
«غُثاءٌ كغُثاء السَّيْلِ»؛ لأنَّهُ لا يكون سَيْلًا إلَّا إذا انْدَفَعَ مِنْ قِمَّةِ الجَبَلِ نازِلًا، فَفِي هذه السُّرعة لا يُقاوِمُ إلَّا الصّخْرُ الصُّلْب والجَبَلُ الأشَمُّ، وأمَّا الغُثاء؛ فإنَّه يَنْدَفِعُ حيث ما
يُقَدِّرُ اللهُ ربُّ العالمين للسَّيْلِ أنْ يتَّجِه، وكذلك الشَّأنُ؛ أقوامٌ يسيرون، ولِمَ لا تَقِفُ مِنْ أجْلِ أنْ تُحَوِّلَ وِجْهةَ الزَّمانِ؟!
إنَّ هذه الأُمَّةَ قد وَقَفَتْ في بَدْءِ أمْرِها وقْفَةً حَوَّلَتْ فيها وجهَ الزَّمان، ولَوَتْ عِنَانَ الأَيَّامِ، وأَخَذَتْ بِمِقْوَدِ دابَّةِ العُمُرِ؛ مِنْ أَجْلِ أنْ تكونَ قائِمةً على الصراطِ المُستقيمِ، تَسْعَى نَحْوَ
هذه الأُمَّةُ فيها مِيزةٌ قائِمةٌ بذاتِها، إذا ما تَوَفَّرَ عليها أبناؤُها؛ قامت بهم قيامًا، وإلَّا فإنَّهم عِبْءٌ فَوْقَ العِبْءِ، وإنْ تَتَوَلَّوْا فلَنْ تَنْفَعُوا بَعْدُ، ولن يأتِيَ مِنْكُم نَفْعٌ أبَدًا؛ لأنَّكم
تَوَلَّيْتُم، ومتى ما تَوَلَّيْتُم فقد أعْطَيْتُم أَرْدَافَكُمْ وجَعَلْتُمْ أَعْجَازَكُمْ إلى الحقيقةِ، والأصلُ أنْ تُواجِهُوها فتتَّجِهوا إلَيْها:
لا شيء، الذي كان عاصِيًا ازدادَ على المعصية عِصيانًا، والذي كان طائِعًا لَم يَتَقَدَّمْ بالطاعةِ لَا قَلِيلًا ولا كثيرًا، خُنُوعٌ وخُضوعٌ وكسلٌ وإحباطٌ!!
يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «فمَن كانت فَتْرَتُه إلى سُنَّتِي؛ فقد اهْتَدَى».
وتأمَّلْ في ذَاتِكَ، وَدَعْ عنك بُنَيَّاتِ الطريق، ولا تَلْتَفِتْ لِأَحَدٍ؛ فإنَّك مسئولٌ عن نَفْسِكَ بنَفْسِكَ أمامَ ربِّك -جلَّ وعلا- قبل أنْ تُسْأَلَ عمَّن تعول، أنت أوَّلًا، أنت بذاتِك قبلُ،
أنت قَبْلَ كلِّ أحدٍ مسئولٌ عن ذاتِك؛ ففتِّش عن ضميرِك:
أوَ تَحَوَّل البُخْلُ لَدَيْكَ إلى سَخَاءٍ وعَطَاءٍ؟
أَعَادَ النَّظَرُ إلى المُحَرَّمَاتِ عِنْدَكَ إِمْسَاكًا عنِ الشَّهوات؟
قُل لنَفْسِكَ: هل كان أَكْلُ الحرامِ الذي ظلَّ ماضِيًا -حتى في الشَّهرِ-، هل هذا الذي كان مِن أَكْلِ الحرامِ جَاءَتْهُ وِقْفَةٌ بِتُؤَدَةٍ؛ مِنْ أجلِ النَّظرِ فيه والتفتيش في أطْوائِهِ؛ لِيَضَعَ الرَّجُلُ
اللُّقْمَةَ الحلالَ في فَمِهِ وفي فَمِ امرأتِهِ؟
لأنَّ النُّطْفَةَ تَتَخَلَّقُ مِنْ طَعَامِكَ.
نعم؛ إنَّهم أولادُ حرام.
نعم؛ أولادٌ خُلِقوا من الحرام، ولَمْ يُخْلَقُوا مِنَ الحلال؛ تَظُنُّ أنَّ الحرامَ هاهنا هو الزِّنا؟!
أبدًا، وإنَّما الحرام هاهُنا: هو هذا الذي يُخَلَّقُ مِنْه الكائِنُ الحيُّ، نُطْفَتُكَ إنَّما تَتَخَلَّقُ مِنْ حَاصِلِ طعامِك وشرابِك، وبُوَيْضةُ امْرَأَتِك إنَّما تَتَخَلَّقُ مِنْ حَاصِلِ طَعَامِهَا وشَرَابِهَا،
وأنت بيدِكَ في فَمِهَا تَدْفعُهُ، وأنتَ الذي به تُغَذِّيهَا.
وإذن؛ فَنُطْفَةٌ بِبُوَيْضةٍ، ثم تَصِيرُ الأَمْشَاجُ.....كلُّهُ مِنْ حرام.
عَمَلٌ لا يُؤَدَّي على الوجه، ثم راتِبٌ يُحَصَّلُ.....حرامٌ في حرام، وأكلٌ مِنْ حرام، وإِطْعَامٌ للذُّرِّيَّةِ مِنَ الحرام، ودِماءٌ لِلُّحومِ مِنَ الحرام.
إنَّ النّبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «سُتَدْعَوْنَ فَلَنْ يُسْتَجابَ لكم، يَرْفَعُ يديهِ إلى السماءِ؛ أشعثَ أَغْبَرَ يُطِيلُ السَّفر، يقول: يا رب، يا رب؛ ومَطْعَمُهُ حرامٌ، ومَشْرَبُهُ
حرامٌ، ومَلْبَسُهُ حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام».
قال: ومَطْعَمُهُ حرامٌ في بدءِ الكلامِ، فَلِمَ قال هـاهنا في آخِره: «وغُذِيَ مِنَ الحرام»؟!
لَعَلَّه يُشِيرُ إلى هذا الذي ذَكَرْتُ لك؛ غُذِيَ بالحرامِ نُطفةً؛ فهي حرامٌ في حرام، فأنَّى يَصِيرُ ذلك إلى الجنَّةِ والنبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: «وكلُّ لحمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ
فالنّار أوْلى به»؟!! -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
هل راجعتَ في هذا الشَّهْر وقد انقضى....هل راجعتَ فيه سُبُلَ العَيْشِ وتحصيلَ الكَسْبِ؟
هل راجعتَ فيه عداواتِك، وراجعتَ فيه مَوَدَّاتِك؛ من أجلِ أنْ تَفْحَصَها بدءًا على ضَوْءٍ جديدٍ وفي ضَوْئِه؟
هل راجعتَ صِلاتِك التي تَصِلُها، وصِلَاتِك التي قطعتَها من أجلِ أنْ تقولَ: هل اللهُ ربُّ العالمين وراءَها؟
وهل الدَّافِعُ مِمَّا آتِي وأتْرُك هو اللهُ ربُّ العالمين بِمَرْضاتِهِ؛ أمْ أنَّ الأمرَ ما زال مَبْنِيًّا على عِبادةِ الهوى؟!
ألا إنَّهُ ما زالَ مَبْنِيًّا على عبادةِ الهوى، وقَلَّ مَنِ انْتَفَعَ مِنْ هذا الشّهر، ولا جَرَمَ؛ فإنَّ ربَّك ذو رحماتٍ غامِرة، وذو فُيوضاتٍ باهِرة، يُعطي مَن يشاء ما يشاء، وهو على كلِّ شيءٍ قدير،
وعسى ربُّنا -جلَّت قدرته- أن يغفرَ لنا أجمعين ولا يُبالي، وهو على كل شيءٍ قدير.