المصريون والذئاب المنفردة

للاستماع للمحاضرة

الْخُطْبَةُ الْأُولَى

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَالإِمَامُ هُوَ وَلِيُ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ العَام فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ مِنْ أَقَالَيمِ الْمُسْلِمِين, الَّذِي عَرَفَهُ النَّاسُ عَامَّة, وَيَمْلِكُ جَيْشَ البِلَادِ وَقُوَّتَهَا, وَلَيْسَ هُوَ الإِمَامَ الَّذِي تَخْتَارُهُ كُلُّ جَمَاعَةٍ لِنَفْسِهَا, وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَا شَوْكَةٌ.

وَقَدْ سُئِلَ فَقِيهُ زَمَانِهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فَقِيلَ لَهُ:

مَا حُكْمُ مَنْ لَا يَرَى البَيْعَةَ لِوَلِيِّ الأَمْرِ إِذَا كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ خُرُوج؟

فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: ()الَّذِي لَا يَرَى البَيْعَةَ لِوَلِيِّ الأَمْرِ يَمُوتُ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِمَامٌ، وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ البَيْعَةَ تَثْبُتُ لِلإِمَامِ إِذَا بَايَعَهُ أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْدِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ البَيْعَةَ حَقٌّ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُمَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بَايَعُوا الخَلِيفَةَ الأَوَّلَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُمَّةِ، بَلْ مِنْ أَهْلِ الحَلِّ وَالعَقْدِ، فَإِذَا بَايَعَ أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْدِ لِرَجُلٍ وَجَعَلُوهُ إِمَامًا عَلَيْهِم صَارَ إِمَامًا، وَصَارَ مَنْ خَرَجَ عَنْ هَذَهِ البَيْعَة يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى البَيْعَةِ حَتَّى لَا يَمُوتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، أَوْ يُرْفَعُ أَمْرُهُ إِلَى وَلِيِّ الأَمْرِ لِيَنْظُرَ فِيهِ مَا يَرَى؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا خَطِيرٌ فَاسِدٌ يُؤَدِّي إِلَى الفِتَنِ وَالشُّرُورِ.

فَنَقُولُ لِهَذَا الرَّجُلِ نَاصِحِينَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ، وَاتَّقِ اللهَ فِي أُمَّتِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُبَايِعَ وَلِيَّ الأَمْرِ وَتَعْتَقِدَ أَنَّهُ إِمَامٌ ثَابِتٌ، سَوَاءٌ بَايَعْتَ أَنْتَ أَمْ لَمْ تُبَايِعْ –أَيْ:سَوَاءٌ أَبَاشَرْتَ أَنْتَ البَيْعَةَ مَعَهُ أَمْ لَمْ تُبَاشِرُهَا, وَإِنَّمَا بَاشَرَهَا أُولُوا الأَمْرِ -أُولُوا الحَلِّ وَالعَقْدِ-، إِذَنْ الأَمْرُ فِي البَيْعَةِ لَيْسَ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَلَكِنْ لِأَهْلِ الحَلِّ وَالعَقْدِ)).  

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ((مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَة مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

وَيَصِحُ فِي الاضْطِرَارِ بِتَعَدُّدِ البُلْدَانِ وَالأَقْطَارِ تَعَدُّدُ الأَئِمَّة, وَيَأْخُذُ كُلُّ إِمَام مِنْهُم فِي قُطْرِهِ وَبَلَدِهِ حُكْمَ الإِمَامِ الأَعْظَمِ, وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالَيْ الاضْطِرَارِ وَالإِخْتِيَارِ فَقَدْ جَهِلَ المَعْقُولَ وَالمَنْقُولَ.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّاب –رَحِمَهُ اللهُ-:

((الأَئِمَّةُ مُجْمِعُونَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى أَنَّ مَنْ تَغَلَّبَ عَلَى بَلَدٍ أَوْ بُلْدَانٍ لَهُ حُكْمُ الإِمَامِ فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ وَلَوْلَا هَذَا مَا اسْتَقَامَتْ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ قَبْلَ الإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى يُوْمِنَا هَذَا مَا اجْتَمَعُوا عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ, وَلَا يَعْرِفُونَ أَحَدًا مِنَ العُلَمَاءِ ذَكَرَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الأَحْكَامِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالإِمَامِ الأَعْظَمِ)).

وَقَالَ الإِمَامُ الصَّنْعَانِيُّ –رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا

((مَنْ خَرَجَ عَنْ الطَّاعَة, وَفَارَقَ الجَمَاعَة, وَمَاتَ فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

قَالَ: قَوْلُهُ: ((عَنْ الطَّاعَة))؛ أَيْ: طَاعَةِ الخَلِيفَةِ الَّذِي وَقَعَ الإِجْتِمَاعُ عَلَيْهِ, وَكَأَنَّ المُرَادَ خَلِيفَةُ أَيِّ قُطْرٍ مِنَ الأَقْطَارِ, إِذْ لَمْ يُجْمِعْ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ فِي جَمِيعِ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ العَبَّاسِيَّةِ, بَلْ اسْتَقَلَّ أَهْلُ كُلِّ إِقْلِيمٍ بِقَائِمٍ بِأُمُورِهِمْ, إِذْ لَوْ حُمِلَ الحَدِيثُ عَلَى خَلِيفَةٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الإِسْلَامِ لَقَلَّتْ فَائِدَتُهُ.
وَقَوْلُهُ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ((وَفَارَقَ الجَمَاعَة))؛ أَيْ: خَرَجَ عَنْ الجَمَاعَةِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى طَاعَةِ إِمَامٍ انْتَظَمَ بِهِ شَمْلُهُم, وَاجْتَمَعَتْ بِهِ كَلِمَتُهُمْ, وَحَاطَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ)).

وَقَالَ الإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ ((الأَزْهَارِ)): ((وَلَا يَصِحُّ إِمَامَانِ)):

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا القَوْل: ((وَأَمَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الإِسْلَامِ, وَاتِّسَاعِ رُقْعَتِهِ, وَتَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ, فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي كُلِّ قُطْرٍ أَوْ أَقْطَارٍ الوَلَايَةُ إِلَى إِمَامٍ أَوْ سُلْطَانٍ, وَفِي القُطْرِ الآخَرِ كَذَلِكَ, وَلَا يَنْعَقِدُ لِبَعْضِهِم أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فِي قُطْرِ الآخَرِ وَأَقْطَارِهِ الَّتِي رَجَعَتْ إِلَى وِلَايَتِهِ.
فَلَا بَأْسَ بِتَعَدُّدِ الأَئَمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ, وَيَجِبُ الطَّاعَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم بَعْدَ البَيْعَةِ لَهُ عَلَى أَهْلِ القُطْرِ الَّذِي يَنْفُذُ فِيهِ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيه, وَكَذَلِكَ صَاحِبُ القُطْرِ الآخَرِ, فَإِذَا قَامَ مَنْ يُنَازِعَهُ فِي القُطْرِ الَّذِي قَدْ ثَبَتَتْ فِيهِ وِلَايَتُهُ وَبَايَعَهُ أَهْلُهُ, كَانَ الحُكْمُ فِيهِ أَنْ يُقْتَلَ إِذَا لَمْ يَتُبْ –أَيْ: أَنَّ الخَارِجَ الَّذِي يَقُومُ لِمُنَازَعَتِهِ يُقْتَلُ إِذَا لَمْ يَتُبْ-.
وَلَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ القُطْرِ الآخَرِ طَاعَتُهُ, وَلَا الدُّخُولُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ؛ لِتَبَاعُدِ الأَقْطَارِ, فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى مَا تَبَاعَدَ مِنْهَا خَبَرُ إِمَامِهَا أَوْ سُلْطَانِهَا, وَلَا يُدْرَى مَنْ قَامَ مِنْهُم أَوْ مَاتَ, فَالتَّكْلِيفُ بِالطَّاعَةِ وَالحَالُ هَذَهِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاق.
وَهَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى أَحْوَالِ العِبَادِ وَالبِلَادِ.

فَاعْرِفْ هَذَا, فَإِنَّهُ المُنَاسِبُ لِلقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ, وَالمُطَابِقُ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الأَدِلَّة, وَدَعْ عَنْكَ مَا يُقَالَ فِي مُخَالَفَتِهِ, فَإِنَّ الفَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الوِلَايَةُ الإِسْلَامِيَّةُ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ, وَمَا هِيَ عَلَيْهِ الآن أَوْضَحُ مِنْ شَمْسِ النَّهَارِ, وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ مُبَاهِتٌ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُخَاطَبَ بِالحُجَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُهَا)).

فَهَذِهِ أَقْوَالُ ثَلَاثَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ المُجْتَهِدِينَ تُقَرِّرُ صِحَّة تَعَدُّدِ الأَئِمَّةِ فِي الدِّوَلِ وَالأَقْطَارِ فِي بَيْعَةِ الاضْطِرَارِ, مُعَوَّلُهَا عَلَى الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ, وَالقَوَاعِدِ المَرْعِيَّةِ, وَالمَصَالِحِ الكُلِّيَّةِ, وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى نَحْوِ هَذَا ثُلَّةٌ مِنَ العُلَمَاءِ المُحَقِّقِينَ.

وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِوُلَاةِ الأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ مُجْمَعٌ عَلَى وُجُوبِهِ عِنْدَ أَهْلِ السٌّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ, وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِمْ الَّتِي بَايَنُوا بِهَا أَهْلَ البِدَعِ وَالأَهْوَاءِ.

وَقَلَّ أَنْ تَرَى مُؤَلَّفًا فِي عَقَائِدِ أَهْلِ السٌّنَّةِ إِلَّا وَهُوَ يَنُصُّ عَلَى وُجُوبِ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلُاةِ الأَمْرِ وَإِنْ جَارُوا وَظَلَمُوا, وَإِنْ فَسَقُوا وَفَجَرُوا.

وَقَدْ نَقَلَ الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ حَرْبٌ الكِرْمَانِي -صَاحِبُ الإِمَامِ أَحْمَد- حَيْثُ قَالَ فِي ((العَقِيدَةِ)) الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ جَمِيعِ السَّلَفِ :
((وَالانْقِيَادُ لِمَنْ وَلَّاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمْرَكُم، لَا تَنْزِع يَدًا مِنْ طَاعَه، وَلَا تَخْرُج عَلَيْهِ بِسَيْف، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَلَا تَخْرُجْ عَلَى السُّلْطَانِ، وَتَسْمَعُ وَتُطِيع، وَلَا تَنْكُثْ بَيْعَتَهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلجَمَاعَةِ)).

قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- :

((هَؤٌلَاءِ -يَعْنِي المِلُوك- وَإِنْ رَقَصَتْ بِهِمْ الهَمَالِيج, وَوَطِئَ النَّاسُ أَعْقَابَهُم، فَإِنَّ ذُلَّ المَعْصِيَةِ فِي قُلُوبِهِم، إِلَّا أَنَّ الحَقَّ أَلْزَمَنَا طَاعَتَهُمْ، وَمَنَعَنَا مِنَ الخُرُوجِ عَلَيْهِم، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْتَدْفِعَ بِالتَّوْبَةِ وَالدُّعَاءِ مَضَرَّتَهُم، فَمَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا لَزِمَ ذَلِكَ، وَعَمِلَ بِهِ, وَلَمْ يُخَالِفَه)).

وَقَدْ بَيَّنَ العَلَّامَةُ صَدْرُ الدِّينِ السُّلَمِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: ((طَاعَةُ السُّلْطَان)) الحِكْمَةَ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبِ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلأَئِمَّةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ, وَتَحْذِيرِهِ الشَّدِيدِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِمْ كَذَلِكَ فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:

((وَقَدْ رُوِّينَا فِي الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ –أَوْ كَادَتْ أَنْ تَبْلُغَهُ- رُوِّينا أَمْرَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوَلِيِّ الأَمْرِ, وَمُنَاصَحَتِهِ, وَمَحَبَّتِهِ, وَالدُّعَاءِ لَهُ, مَا لَوْ ذَكَرْنَاهُ لَطَالَ الكَلَامُ, لَكِنْ اعْلَمْ -أَرْشَدَكَ اللهُ وَإِيَّايَ إِلَى الاتِّبَاعِ وَجَنَّبَنَا الزَّيْغَ وَالابْتِدَاعِ- أَنَّ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ المُطَهَّرَةِ وَالمِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ المُحَرَّرَةِ:

أَنَّ طَاعَةَ الأَئِمَّةِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ الرَّعِيَّةِ، وَأَنَّ طَاعَةَ السُّلْطَانِ مَقْرُونَةٌ بِطَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَأَنَّ طَاعَةَ السُّلْطَانِ تُؤَلِّفُ شَمْلَ الدِّينِ وَتَنْظِّمُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَنَّ عِصْيَانَ السُّلْطَانِ يَهْدِمُ أَرْكَانَ المِلَّةِ, وَأَنَّ أَرْفَعَ مَنَازِلِ السَّعَادَةِ طَاعَةُ السُّلْطَان، وَأَنَّ طَاعَةَ السُّلْطَانِ عِصْمَةٌ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ, وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ، وَأَنَّ طَاعَةَ السُّلْطَانِ عِصْمَةٌ لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهَا وَحِرْزٌ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا، وَبِطَاعَةِ السَّلَاطِينِ تُقَامُ الحُدُودُ, وَتُؤَدَّى الفَرَائِضُ, وَتُحْقَنُ الدِّمَاءُ وَتَأْمَّنُ السُّبُل، وَمَا أَحْسَنُ مَا قَالَت العُلَمَاءُ:

إِنَّ طَاعَةَ السُّلْطَانِ هُدَىً لِمَنْ اسْتَضَاءَ بِنُورِهَا، وَمَوْئِلٌّ لِمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِا.

وَإِنَّ الخَارِجَ مِنْ طَاعَةِ السُلْطَانِ مُنْقَطِعُ العِصْمَةُ, بَرِئٌ مِنَ الذِّمَّةِ, وَأَنَّ طَاعَةَ السُّلْطَانِ حَبْلُ اللهِ المَتِينِ وَدِينُهُ القَوِيمِ، وَجُنَّتُهُ الوَاقِيَةِ، وَأَنَّ الخُرُوجَ مِنْهَا خُرُوجٌ مِنْ أُنْسِ الطَّاعَةِ إِلَى وَحْشَةِ المَعْصِيَةِ، وَمَنْ أَسَرَّ غِشَّ السُّلْطَانِ ذَلَّ وَزَلْ، وَمَنْ أَخْلَصَ لَهُ المَحَبَّةَ وَالنُّصْحَ حَلَّ مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي أَرْفَعِ مَحَل.

وَقَدْ رُوِّينَا فِي الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ أَمْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوَلِيِّ الأَمْرِ, وَمُنَاصَحَتِهِ, وَمَحَبَّتِهِ, وَالدُّعَاءِ لَهُ, مَا لَوْ ذَكَرْنَاهُ, لَكَانَ بِمَا حَلَّهُ النَّاظِرُ وَسَأَمَهُ الخَاطِرُ، كَمَا تَقَدَّم فَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا أَوْرَدْنَاهُ وَاكْتَفَيْنَا بِمَا بَيَّنَّاهُ)).

وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حَقٌّ مَا دَامَ السُّلْطَانُ لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةِ اللهِ, فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَقَدْ حَرُمَتْ طَاعَتُهُ فِي تِلْكَ المَعْصِيَةِ بِعَيْنِهَا.

وَالتَّثْبِيطُ عَنْ وَلِيِّ الأَمْرِ لَهُ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْض, وَكَذَا إِثَارَةُ الرَّعِيَّةِ عَلَيْهِ.

فَإِذَا دَعَا رَجُلٌ إِلَى التَّثْبِيطِ أَوْ الإِثَارَةِ، فَإِنَّ لِوَلِيِّ الأَمْرِ إِيقَاعَ العُقُوبَةِ المُتَلَائِمَةِ مَعَ جُرْمِهِ؛ مِنْ ضَرْبٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ نَفْيٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّثْبِيطَ وَالإِثَارَةَ مِنْ أَعْظَمِ مُقَدِّمَاتِ الخُرُوجِ، وَالخُرُوجُ مِنْ أَشْنَعِ الجَرَائِمِ وَأَبْشَعِهَا؛ فَكَانَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ كَذَلِكَ.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ ((الأَزْهَار)):

((وَيُؤَدَّبُ مَنْ يُثَبِّطُ عَنْهُ أَوْ يُنْفَى، وَمَنْ عَادَاهُ فَبِقَلْبِهِ مُخْطِئٌ، وَبِلِسَانِهِ فَاسِقٌ، وَبِيَدِهِ مُحَارِبٌ)).

قَالَ: ((وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُؤَدَّبُ مَنْ يُثَبِّطُ عَنْهُ؛ فَالوَاجِبُ دَفْعُهُ عَنْ هَذَا التَّثْبِيطِ، فَإِنْ كَفَّ وَإِلَّا كَانَ مُسْتَحِقًّا لِتَغْلِيظِ العُقُوبَةِ، وَالحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ صَارَ يَسْعَى لَدَيْهِ بِالتَّثْبِيطِ، بِحَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِمُحَرَّمٍ عَظِيمٍ، وَسَاعٍ فِي إِثَارَةِ فِتْنَةٍ تُرَاقُ بِسَبَبِهَا الدِّمَاءُ، وَتُهْتَكُ عِنْدَهَا الحُرَمُ، وَفِي هَذَا التَّثْبِيطِ نَزْعٌ لِيَدِهِ مِنْ طَاعَةِ الإِمَامِ)).

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ نَزَعَ يَدَهُ مِنْ طَاعَةِ الإِمَامِ، فَإِنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ مُفَارِقٌ لِلْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهُ يَمُوتُ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٌ فِي ((تَبْصِرَةِ الحُكَّامِ)):

((وَمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ لِغَيْرِ مُوجِبٍ فِي أَمِيرٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَزِمَتُهُ العُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ، وَيُسْجَنُ شَهْرًّا, وَمَنْ خَالَفَ أَمِيرًا، وَكَرَّرَ دَعْوَتُهُ؛ لَزِمَتُهُ العُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ بِقَدْرِ اجْتِهَادِ الإِمَامِ)).

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الأَزْرَقِ بَعْضَ المُخَالَفَاتِ الَّتِي مِنَ الرَّعِيَّةِ فِي حَقِّ السُّلْطَانِ فَقَالَ:

((المُخَالَفَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعْنُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِلَافُ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ التَّجِلَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَقَدْ قِيلَ: مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِجْلَالُ السُّلْطَانِ، عَادِلًا كَانَ أَوْ جَائِرًا.

وَمِنْ كَلَامِ الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ: ((تَهَيُّبُ السُّلْطَانِ فَرْضٌ أَكِيدٌ، وَحَتْمٌ عَلَى مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد)).

الثَّانِي: أَنَّ الاشْتِغَالَ بِهِ سَبَبٌ لِتَسْلِيطِ السُّلْطَانِ، جَزَاءًا عَلَى المُخَالَفَةِ بِذَلِكَ، فَفِي بَعْضِ الكُتُبِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:

((إِنَّنِي أَنَا اللهُ، مَلِكُ المُلُوكِ، قُلُوبُ المِلُوكِ بِيَدِي، فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُم عَلَيْهِ نِعْمَة، وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُم عَلَيْهِ نِقْمَة، فَلَا تَشْتَغِلُوا بِسَبِّ المِلُوكِ، وَلَكِنْ تُوبُوا إِلَيَّ أَعْطِفْهُم عَلَيْكُم)).

المُخَالَفَةُ الثَّالِثَةُ: الافْتِيَاتُ عَلَيْهِ فِي التَّعَرُّضِ لِكُلِّ مَا هُوَ مَنُوطٌ بِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِهِ فَسَادًا تَغْيِيرُ المُنْكَرِ بِالقَدْرِ الَّذِي لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالسُّلْطَانِ، بِمَا فِي السَّمْحِ بِهِ وَالتَّجَاوُزِ بِهِ إِلَى التَّغْيِيرِ عَلَيْهِ.

وَمِنَ السِّيَاسَةِ تَعْجِيلُ الأَخْذِ عَلَى يَدِ مَنْ يَتَشَوَّقُ لِذَلِكَ، وَتَظْهَرُ مِنْهُ مَبَادِئُ الاسْتِظْهَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْجَحُ لَهُ سَعْيٌ وَلَا يَتِمُّ لَهُ غَرَضٌ)).

وَبِهَذَا يُعْلَمْ أَنَّ إِثَارَةَ الرَّعِيَّةِ عَلَى الوُلَاة, وَتَأْلِيبِ العَامَّةِ عَلَيْهِم دَاءٌ عُضَالٌ، تَجِبُ المُبَادَرَةٌ إِلَى كَيِّهِ, وَ وَرَمٌ خَبِيثٌ يَتَعَيَّنُ اسْتِئْصَالُهُ لِئَلَّا يَسْتَفْحِلَ فَيَخْرُجَ خَبَثُهُ، فَتَسْتَحْكِمَ البَلِيَّة، وَتَعْظُمَ الرَّزِيَّة، وَلَا يَنْفَعُ النَّدَمُ عِنْدَئِذٍ.

فَإِنَّ المُثِيَر وَالمُثَبِّطَ كَفَأْرَةِ السَّد إِنْ تُرِكَتْ أَغْرَقَتْ العِبَادَ وَالبِلَادَ وَأَشَاعَتْ فِي الأَرْضِ الفَسَاد.

فَيَتَعَيَّنُ عَلَى النَّاسِ عُمُومًّا: التَّكَاتُف لِدَفْعِ المُثِيرِ السَّاعِي إِلَى الفِتْنَةِ، وَعَزْلِهِ كَمَا تُعْزَلُ الجَرْبَاءُ، وَنَفْيِهِ مِنَ المُجْتَمَعِ كُلٌّ حَسَبَ جَهْدِهِ وَطَاقَتِهِ.

وَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ وَأَجَلِّ القُرَبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، إِذْ بِهِ يَنْدَفِعُ شَرٌّ عَظِيمٌ وَتُطْفَأُ فِتْنَةٌ عَمْيَاءٌ.

نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَجَنَّبُوا إِسْقَاطَ هَيْبَةِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا تَعَوَّدُوا عَلَى إِمْتِهَانِ السُّلْطَانِ, بِثَلْبِهِ وَسَبِّهِ ذَهَبَتْ هَيْبَتُهُ, وَأَيُّمَا سُلْطَانٍ ذَهَبَت هَيْبَتُهُ تَجَرَّأَتْ عَلَيْهِ رَعِيَّتُهُ, وَرَتَعَتْ فِي المُخَالَفَاتِ رَتْعَ مَنْ لَا يَخَافُ العَوَاقِبَ, كَمَا قِيلَ: مَنْ أَمِنَ العُقُوبَةَ أَسَاءَ الأَدَبَ.

فَعَنْ زِيَادِ ابْنِ كُسَيْبٍ العَدَوِيّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ:

فَقَالَ أَبُو بِلَال: ((انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الفُسَّاقِ))

فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:

((مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ الله)) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ, وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَيْهِ.

وَهَذَا المُعْتَرِضُ عَلَى أَمِيرِهِ, قَالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ فِي ((السِّيَرِ)):

((أَبُو بِلَال: هُوَ مِرْدَاسُ ابْن أُدَيَّةَ مِنَ الخَوَارِجِ)).

وَالشَّاهِدُ مِنَ القِصَّةِ: أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اعْتَبَرَ جَهْرَ هَذَا المُعْتَرِضِ عَلَى أَمِيرِهِ بِنَقْدِهِ غَيْرِ المُتَأَدَّبِ مِنْ إِهَانَتِهِ, وَلِذَلِكَ تَلَى عَلَيْهِ الحَدِيثَ الوَاضِحَ فِي أَنَّ هَذَا المُهِينَ هُوَ المُهَانُ فِي النِّهَايَةِ, لِأَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ.

وَهَذَا هُوَ السِّر فِي كَوْنِ الحَرَكِيينَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعَرُّضًا لِلإِهَانَةِ, فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ لَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى إِهَانَةِ السُّلْطَان عَلَى الرَّغْمِ مِنْ تَمَلُّقِهِم إِيَّاهُ, فَهُمْ فِي الجَلْوَةِ يَمْدَحُون, وَفِي الخَلْوَةِ يَقْدَحُونَ, وَاللهُ لَا يُحِبُّ التَّلَوُّنَ فِي الحَقِّ.

قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي ((تَحْرِيرِ الأَحْكَامِ)) فِي بَابِ (حُقُوقِ السُّلْطَان):

((الحَقُّ الرَّابِعُ: أَنْ يُعْرَفَ لَهُ عَظِيمُ حَقِّهِ, وَمَا يَجِبُ مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِهِ, فَيُعَامَلُ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الإِحْتِرَامِ وَالإِكْرَامِ, وَمَا جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الإِعْظَامِ, وَلِذَلِكَ كَانَ العُلَمَاءُ الأَعْلَام مِنْ أَئِمَّةِ الإِسْلَامِ يُعَظِّمُونَ حُرْمَتَهُمْ, وَيُلَبُّونَ دَعْوَتَهُمْ, مَعَ زُهْدِ أُولَئِكَ العُلَمَاءِ الأَعْلَام وَ وَرَعِهِمْ وَعَدَمِ الطَّمَعِ فِيمَا لَدَى السَّلَاطِين, وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ المُنْتَسِبِينَ إِلَى الزُّهْدِ مِنْ قِلَّةِ الأَدَبِ مَعَ الحُكَّامِ فَلَيْسَ مِنَ السٌّنَّةِ)).

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ-:

((إِنَّ مِنْ حُقُوقِ الرُّعَاةِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ: أَنْ يُنَاصِحُوهُمْ وَيُرْشِدُوهُم, وَأَلَّا يَجْعَلُوا مِنْ خَطَئِهِمْ إِذَا أَخْطَأُوا سُلَّمًا لِلْقَدْحِ فِيهِمْ, وَنَشْرِ عُيُوبِهِمْ بَيْنَ النَّاسِ, فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ عَنْهُمْ, وَكَرَاهَتَهُم, وَكَرَاهَةَ مَا يَقُومُونَ بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا, وَيُوجِبُ عَدَمَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ, وَإِنَّ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى كُلِّ نَاصِحٍ وَخُصُوصًا مَنْ يَنْصَحُ وُلَاةَ الأُمُورِ, أَنْ يَسْتَعْمِلَ الحِكْمَةَ فِي نَصِيحَتِهِ, وَأَنْ يَدْعُوَ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ)).

وَلِذَلِكَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ نَهْيَ وَلِيِّ الأَمْرِ بِاليَدِ إِفْتِيَاتٌ عَلَيْهِ, مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَلَ لِجُنْدُبِ الخَيْرِ فِي قِصَّةٍ صَحَّحَهَا التِّرْمِذِيُّ, وَالذَّهَبِيُّ, وَالأَلْبَانِيُّ, وَرَوَاهَا الحَاكِمُ عَنْ الحَسَنِ:

أَنَّ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الكُوفَةِ دَعَا سَاحِرًا يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيّْ النَّاسِ, فَبَلَغَ جُنْدُبَ فَأَقْبَلَ بِسَيْفِهِ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ, فَلَمَّا رَأَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ.

فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ, لَنْ تُرَاعُوا إِنَّمَا أَرَدْتُ السَّاحِرَ, فَأَخَذَهُ الأَمِيرُ فَحَبَسَهُ.

فَبَلَغَ ذَلِكَ سَلْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعَا, لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لِهَذَا وَهُوَ إِمَامٌ يُؤْتَمُّ بِهِ أَنْ يَدْعُوَ سَاحِرًا لِيَلْعَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ, وَلَا يَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يُعَاتِبَ أَمِيرَهُ بِالسَّيْفِ.

وَقَدْ رَأَى سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي لِجُنْدُبٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ, وَإِنْ كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ مُحَقَّقٍ؛ لِأَنَّ هَذَا العِتَابَ يُذْهِبُ هَيْبَةَ السُّلْطَانِ مِنْ قُلُوبِ الرَّعِيَّةِ, وَإِذَا ذَهَبَتْ الهَيْبَةُ ضَعُفَ السُّلْطَان, وَعَمَّتْ الفَوْضَى, وَتَزَعْزَعَتْ أَرْكَانُ الدَّوْلَةُ, كَمَا قِيلَ: ((سُلْطَانٌ تَخَافُهُ الرَّعِيَّةُ, خَيْرٌ لِلرَعِيَّةِ مِنْ سُلْطَانٍ يَخَافُهَا)) كَمَا فِي كِتَابِ ((السُّلْطَان)) لِابْنِ قُتَيْبَةَ.

وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَعِبَ هَذَا السَّاحِرِ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ تَخْيِلَاتٍ.

فَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيّ: أَنَّ سَاحِرًا كَانَ يَلْعَبُ عِنْدَ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَة, فَكَانَ يَأْخُذُ سَيْفَهُ فَيَذْبَحُ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّهُ, فَقَامَ جُنْدُبٌ إِلَى السَّيْفِ فَأَخَذَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ, ثُمَّ قَرَأَ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 3].

قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الضَّعِيفَةِ)): أَخْرَجَهُ الدَّارَقِطْنِيُّ وَعَنْهُ البَيْهَقِيُّ, وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي ((تَارِيخِ دِمَشْقٍ)) وَالسِّيَاقُ لَهُ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ هُشَيْمٍ بِهِ, وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ، صَرَّحَ بِهِ هُشَيْمٌ بِالتَّحْدِيثِ, وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى عِنْدَ البَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ:

أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَد: أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ كَانَ بِالعِرَاقِ يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَاحِر، وَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَ الرَّجُل ثُمَّ يَصِيحُ بِهِ, فَيَقُومُ خَارِجًا, فَيَرْتَدُّ إِلَيْهِ رَأْسُهُ, فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ الله, يُحْيِى المَوْتَى!!

وَرَآهُ رَجُلٌ مِنْ صَالِحِ المُهَاجِرِينَ فَنَظَرِ إِلَيْهِ, فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِّ, اشْتَمَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَذَهَبَ يَلْعَبُ لَعِبَهُ, فَاخْتَرَطَ الرَّجُلُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ, فَقَالَ: إِن ْكَانَ صَادِقًا فَلْيُحْيِّ نَفْسَهُ!!

وَأَمَرَ بِهِ الوَلِيدُ دِينَارًا صَاحِبَ السِّجْنِ -وَكَانَ دِينَارٌ رَجُلًا صَالِحًا- فَسَجَنَهُ, فَأَعْجَبَهُ نَحْوُ الرَّجُل,

فَقَالَ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَهْرَبَ؟

قَالَ: نَعَمْ

قَالَ: فَاخْرُجْ لَا يَسْأَلُنِي اللهُ عَنْكَ أَبَدًا.

قَالَ: قُلْتُ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِنْ كَانَ أَبُو الأَسْوَدَ أَدْرَكَ القِصَّةَ, فَإِنَّهُ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ.

وَالقِصَّةُ عِنْدَ البَيْهَقِيُّ, وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي ((تَاريِخِ دِمَشْق)), وَعِنْدَ المِزِّيِّ فِي ((تَهْذِيبِ الكَمَالِ)).

وَإِذَا بُدِيَ أُسْلُوبُ الفَظَاظَةُ فِي النُّصْحِ لِلسُّلْطَانِ, حَوَّلَهُ إِلَى أَسَدٍ هَصُورٍ.

كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:

((اتَّقِي غَضَبَ السُّلْطَانِ, فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَغْضَبُ غَضَبَ الصَّبِيِّ, وَيَأْخُذُ أَخْذَ الأَسَدِ)).

رَوَاهُ ابْنُ أًبِي الدُّنْيَا كَمَا فِي ((تَغْلِيقِ تَعْلِيقِ مُنْتَخَبِ كِتَابِ حِلْمِ مُعَاوِيَةَ)).

وَرَوَى الخَلَّالُ فِي كِتَابِهِ ((الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ المُنْكَرِ)) عَنْ اسْحَاقَ قَالَ:

((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ -يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَل- قُلْتُ: مَتَى يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ؟

قَالَ: لَيْسَ هَذَا زَمَانُ نَهْيٍّ, إِذَا غَيَّرْتَ بِلِسَانِكَ, فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِكَ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَان,

وَقَالَ لِي: لَا تَتَعَرَّض لِلسُّلْطَانِ فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ)).

فَهَذِهِ هِيَ سِيرَةُ مَنْ سَلَفَ, وَهِيَ تُعَدُّ إِلْتِزَامًا كَامِلًا بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ, وَاسْتِقَامَةً صَادِقَةً عَلَيْهَا, وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى شَفَقَتِهِمْ عَلَى الرَّاعِي, كَيْ لَا يُحَوِّلَ النُّصْحُ العَلَنِيُّ هَذَا الرَّاعِيَ إِلَى مُعَانِدٍ لَا يُرَاجِعُ الحَقّ, كَمَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى شَفَقَتِهِمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ, لِأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُدْخِلُوهُمْ فِي تَجَمُّعَاتٍ مَشْبُوهَةٍ, وَتَحَزُّبَاتٍ مَرْذُولَةٍ ضِدَّ السُّلْطَان, ثُمَّ فِي فِتَنٍ, ثُمَّ فِي دِمَاءٍ, ثُمَّ فِي تَسْلِيطِ ذَوِي الأَطْمَاعِ الدَّنِيئَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ وَالاسْتِقَامَةِ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ.

الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُسْقِطُوا النُّظُمَ، وَالنِّظَامَ المَصْرِيَّ خَاصَّةً، لَيْسَ عِنْدَهُمْ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ، هَذَا إِذَا كَانُوا يَمْلِكُونَ العَقْلَ أَصْلاًّ !!

وَعَلَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَتَصَوَّرُوا -فَقَطْ عَلَيْهِم أَنْ يَتَصَوَّرُوا- إِسْقَاطَ هَذَا النِّظَامَ لَا يَكُون إِلَّا بِتَفْكِيكِ الجَيْشِ، وَتَفْكِيكُ الجَيْشِ مَعْنَاهُ, أَنَّهُ لَنْ يَصِيرَ لِهَذَا الشَّعْبِ ظَهْر!

وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، بَلْ عَلَى كُلِّ مِصْرِيٍّ أَنْ يَتَخَيَّلَ - مُجَرَّدَ تَخَيُّلٍ- أَنَّ هَذَا الجَيْشَ قَدْ وَقَعَ فِي فِتَنٍ فِيمَا بَيْنَ جُنُودِهِ وَضُبَّاطِهِ!

أَوْ أَنَّهُ قَدْ تَمَزَّقَ فَصَارَ شِيَعًا!

وَتَفَرَّقَ فَكَانَ بِدَدًا! نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْصِمَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ القَدِيرُ.

عَلَى كُلِّ مِصْرِيٍّ أَنْ يَتَخَيَّلَ هَذَا، مَاذَا يَكُونُ بَعْد؟!

مَنْ الَّذِي يَحْمِي الحُرُمَات؟ وَيُدَافِعُ عَنْ الأَعْرَاضِ حَتَّى لَا تُنْتَهَك؟

مَنْ الَّذِي يَمْنَعُ إِرَاقَةَ الدِّمَاءِ؟

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الجَيْشَ إِذَا سَقَطَ؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ لِلشُّرْطَةِ المَدَنِيَّةِ أَثَرٌ.

فَمَاذَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُ المِصْرِيينَ فِي بَلَدِهِمْ؟!

تَصَوَّرُوا هَذَا وَتَخَيَّلُوهُ؛ لِتَعْلَمُوا مَدَى الجُرْمِ الَّذِي يَجْتَرِمُهُ أُولَئِكَ المُهَيِّجُونَ, الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا، يُرِيدُونَ لِلنِّظَامِ أَنْ يَسْقُطَ، فَمَاذَا بَعْد؟!!

إِنَّهَا الحَرْبُ الأَهْلِيَّةُ بَيْنَ المِصْرِيينَ، ثُمَّ يَدْخُلُ إِلَى الأَرَاضِي المِصْرِيَّةِ مِنَ الجِهَةِ الغَرْبِيَّةِ -مِنَ الحِدُودِ الغَرْبِيَّةِ- مَنْ يَسُومُوهُمْ سُوءَ العَذَابِ.

وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ إِلَى الأَرْضِ المِصْرِيَّةِ مِنَ الحِدُودِ الشَّمَالِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ مَنْ يَسُومُوهُمْ سُوءَ العَذَابِ.

وَيَدْخُلُ إِلَى الأَرْضِ المِصْرِيَّةِ مَنَ الحِدُودِ الجَنُوبِيَّةِ مَنْ يَسُومُ المِصْرِيينَ سُوءَ العَذَابِ.

سَتَنْتَشِرُ الجُثَثُ فِي الشَّوَارِعِ وَالأَزِقَّةِ وَالحَوَارِي!! تَنْتَفِخُ!! تُنْتِنُ!! لَا تَجِدُ مَنْ يَدْفِنُهَا.

سَيَكُونُ القَتْلُ عَلَى الهُوِيَّةِ، لَنْ يَجِدَ المِصْرِيُّ لُقْمَةَ العَيْشِ!!

هَؤُلَاءِ الحَمْقَى يُرِيدُونَ إِقَامَةَ نِظَامٍ إِسْلَامِيٍّ بِإِسْقَاطِ النِّظَامِ القَائِمِ!! فَلْيَتَصَوَّرُوا كَيْفَ يَكُون!!

إِنَّ الجَيْشَ لَنْ يَكُونَ عَلَى الحِيَادِ كَمَا مَرَّ، وَالشَّعْبِ قَدْ انْقَسَمَ عَلَى نَفْسَهِ بِالاسْتِقْطَابِ الَّذِي صَنَعَهُ المُتَأَسْلِمُون!

فَصَارَ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ كَمَا يَزْعُمُونَ! وَفُسْطَاطِ كُفْرٍ!

سَيَقُومُ أُولَئِكَ وَقَدْ مَلَكُوا السِّلَاحَ، وَتَرَبَّوْا فِي الكُهُوفِ يَتَدَرَّبُونَ عَلَيْهِ، بِقَتْلِ المُرْتَدِّينَ وَإِزَالَتِهِمْ مِنَ الوُجُودِ. مِنْ أَجْلِ مَاذَا؟! مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا فِي سُدَّةِ الحُكْمِ لِيَحْكُمُوا بِشَرْعِ اللهِ!!

فَهَذَا الَّذِي يَأْخُذُونَ بِهِ لَيْسَ مِنْ شَرْعِ اللهِ.

إِنَّهُمْ يَصْنَعُونَ الآنَ الصَّنِيعَ الَّذِي مَرَّ مِنْ قَبْلُ، قَبْلَ أَحْدَاثِ الخَامِسِ وَالعِشْرِينَ مِنْ يَنَايِر بِدَفْعِ قِطَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي المُجْتَمَعِ: كَالطَيَّارِينَ، كَعُمَّالِ النَّسِيجِ، كَعُمَّالِ الحَدِيدِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الفِئَاتِ الَّتِي تُطُالِبُ بِالمَكَاسِبِ الفِئَوِيَّةِ.

يَؤُزُّونَهُم, وَيَنْتَشِرُونَ بَيْنَهُم؛ مِنْ أَجْلِ الإِضْرَابِ عَنْ العَمَلِ، وَالاعْتِصَامِ فِي أَمَاكِنِهِ، وَمِنْ أَجْلِ التَّظَاهُرِ ضِدَّ النِّظَامِ, يَصْنَعُونَ مَا صَنَعُوا مِنْ قَبْل.

إِذَا تَفَكَّكَتْ عُرَى هَذَا المُجْتَمَعِ؛ فَلَنْ تَنْتَظِمِ بَعْدُ.

تَصَوَّرُوا هَذَا... تَأَمَّلُوا فِيهِ...

لِمَاذَا لَا تُفَكِّرُون؟! لِمَاذَا لَا تَتَصَوَّرُون؟! أَهَذَا أَمْرٌ يَعِزُ عَلَى التَّصَوُّرِ؟!

إِنَّهُم يَدْفَعُونَ النَّاسَ الآنَ, إِلَى مَا دَفَعُوا إِلَيْهِ النَّاسَ مِنْ قَبْلُ.

شَيَاطِينِ الإِنْسِ فِي كُلِّ فَجٍّ يَهِيمُونَ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الفَوْضَى، يَعْلَمُونَ أَوْ لَا يَعْلَمُون.

وَالمُغَرَّرُ بِهِمْ يَقْتُلُون...يَقْتُلُونَ المُرْتَدِّينَ, وَيَعِيثُونَ فِي الأَرْضِ فَسَادًّا...

تَأَمَّلُوا فِي هَذَا الَّذِي قُلْتُ... تَصَوَّرُوا مَا الَّذِي يُرِيدُونَ...

يُرِيدُونَ هَذَهِ الدَّوْلَةَ كَاليَمَن!! كَسُورِيَّا!! كَالعِرَاقِ!! كَلِيبْيَا!!

مَا الَّذِي هُنَاكَ؟ دِمَاءٌ وَأَشْلَاءٌ!!

مَا الَّذِي هُنَاكَ؟ فَزَعٌ وَرُعْبٌ!!

مَا الَّذِي هُنَاكَ؟ فَوْضَى مَاحِقَة! وَحَنَقٌ ظَاهِرٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ!!

لَنْ يَأْمَنَ وَاحِدٌ مِنْكُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عِرْضِهِ, وَلَا مَالِهِ وَلَا حَرِيمِهِ، وَلَا عَلَى دَمِهِ أَنْ يُرَاقَ بِكُلِّ سَبِيلٍ بِلَا مَرْدُودٍ!!

مَا الَّذِي يَحُوزُونَ؟ سَيَرْجِعُونَ بِقَبْضَةٍ مِنْ ذُبَابٍ!!

وَهَذَا الَّذِي يَدْعُونَ إِلَيْهِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ شَرْعِ اللهِ, وَلَيْسَ مِنْ شَرْعِ اللهِ فِي قَبِيلٍ وَلَا دَبِيرٍ.

إِنَّ الفِتْنَةَ وَالخُرُوجِ عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ, الخُرُوجُ فِي مُظَاهَرَاتٍ أَوْ اعْتِصَامَاتٍ فِي السَّاحَاتِ, أَوْ إِضْرَابَاتٍ عَنِ العَمَلِ أَوْ الطَّعَامِ, فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ طُرُقِ الإِنْكَارِ العَصْرِيَّةِ المُسْتَوْرَدَةِ مِنَ الكُفَّارِ الشِّيُوعِيينَ خَاصَّة.

هَذَا شَرْعٌ اللهِ الَّذِي يَدْعُونَ إِلَيْهِ!! يَأْخُذُونَ فِيهِ بمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَارْكِس! وَمَا عَلَيْهِ الشِّيُوعِيُّونَ!!

وَهَذِهِ الطُّرُقُ يَسْلُكُهَا أَصْحَابُهَا تَعْبِيرًا عَنْ سَخَطِهِمْ عَلَى دَوْلَتِهِمْ, وَطَلَبًا لِتَحْقِيقِ مَا يُرِيدُونَهُ مِنْهَا, وَالَّذِينَ يُؤَيِّدُونَ هَذَهِ الطَّرِيقَةَ, يَحْسَبُونَهَا مِنَ الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا وَسِيلَةٌ نَاجِعَة لِلضَّغْطِ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الأُمُورِ.

وَهُمْ عَادَةً يَسْلُكُونَهَا لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّجَاعَةَ الأَدَبِيَّةَ لِمُخَاطَبَةِ المَسْؤُلِينَ وَجْهًّا لِوَجْه, فَمِنْهُم مَنْ يَخَافُ بَطْشَ الدَّوْلَةِ بِهِ لَوْ وَاجَهَهَا عَلَى انْفِرَادٍ وَفِي سِتْرٍ؛ كَمَا المَأْمُولُ فِي النَّاصِحِينَ بِصِدْقٍ, فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَنْصَحُوا لَهَا عِنْدَهَا, مُتَحَمِّلِينَ فِي ذَلِكَ النَّتَائِجَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَهْمَا كَانَتْ, فَإِنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ الصِّيَاحَ مِنْ بَعِيدٍ, وَيُشْرِكُونَ مَعَهُمْ أَعْدَادَهُمْ الهَائِلَة, لِيَحْتَمُوا بِهَا أَوْ يَقْتَسِمُوا مَعَهَا الغُرْمَ لَوْ كَانَ ثَمَّ غُرْمُ.

فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الجِهَادِ؟ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر)).

أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

وَمِنْهُم مَنْ يَأْمَنُونَ بَطْشَهُم, لَكِنَّهُم يَخْشَوْنَ أَنْ تَخُونَهُم الصَّرَاحَةُ عِنْدَ اللِّقَاء, مَعَ إِنَّهُم يُزَمْجِرُونَ مِنْ بُعْدٍ زَمْجَرَةَ الأَسَدِ الهَصُورِ, وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا لَا يُحْصَى مِمَّا زَهَّدَنَا فِي تَصْدِيقِهِم إِدِّعَاءَ الجِهَادِ, وَالإِهْتِمَامَ بِهُمُومِ الأُمَّةِ.

إِنَّ الَّذِي يَقُولُهَا عِنْدَهُم وَحْدَهُ, لَوْ حَصَلَ لَهُ ضَرَرٌ فَلَنْ يَتَضَرَّرَ إِلَّا وَحْدَهُ, وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهَا فِي جَمْعٍ مِنَ المُتَظَاهِرِينَ أَوْ المُعْتَصِمِينَ, فَإِنَّهُ يُحَمِّلُ الشَّعْبَ كُلَّهُ تَبِعَةَ جُبْنِهِ, بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَصْحَبُ ذَلِكَ مِنْ إِثَارَةٍ وَتَرْبِيَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى التَّمَرُّدِ, وَخَلْخَلَةِ الأَمْنِ, وَتَهْيِيجِ الدَّوْلَةِ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ القِيَامَ بِالمُظَاهَرَاتِ فِي البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ فِتْنَة, لِأَنَّهَا تُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُه:

الأَوَّلُ: أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الخُرُوجِ عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ بِالتَّضَمُّن, لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمْيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ, فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا, مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي المُظَاهَرَاتِ خُرُوجٌ مِنَ السُّلْطَانِ بِأَلَافِ الأَشْبَارِ, بَلْ هِيَ عَادَةً تَحْرِيضٌ عَلَى الخُرُوجِ عَلَيْهِ.  

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فِي ((الفَتْحِ)) عَنْ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ أَنَّهُ قَالَ:

((المُرَادُ بِالمُفَارَقَةِ: السَّعْيُ فِي حَلِّ عَقْدِ البَيْعَةِ الَّتِي حَصَلَت لِذَلِكَ الأَمِير وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْء, فَكَنَّى عَنْهَا بِمِقْدَارِ الشِّبْرِ؛ لِأَنَّ الأَخْذَ فِي ذَلِكَ يَؤُولُ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ)).

الوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ بِوُقُوعِ الظُّلْمِ مِنْ بَعْضِ الوُلَاةِ, وَلَمْ يُرْشِد إِلَى هَذَهِ الوَسِيلَة.  

فَهَلْ هِيَ خَيْرٌ وَنَسِيَهُ رَسُولُ اللهِ أَوْ غَفَلَ عَنْهُ؟! فَجَاءَ الشِّيُوعِيُّونَ وَعَبَدَةُ الصُّلْبَانِ فَهَدَوْنَ إِلَيْهِ!!

حَاشَاهُ فَهُوَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ لِأُمَّتِهِ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُ رَبُّهُ, لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ وَسَائِلُهُ مُتَوَفِّرَةً فِي وَقْتِهِ وَلَمْ يَلْجَأْ إِلَيْهَا, فَهُوَ مِنْ أَبْيَنِ الأُمُورِ عَلَى عَدَمِ إِعْتِبَارِهَا, لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى الجَنَّةِ, إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ, وَلَا عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ, لَا يَسْتَبْطِئَنَّ أَحَدٌ مِنْكُم رِزْقَهُ, إِنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَام- أَلْقَى فِي رُوعِي, أَنَّ أَحَدًا مِنْكُم لَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ, فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا النَّاس, وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ, فَإِنْ اسْتَبْطَأَ أَحَدٌ مِنْكُم رِزْقَهُ, فَلَا يَطْلُبُهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ, فَإِنَّ اللهَ لَا يُنَالُ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَتِهِ)).

رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

فَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْرَفُ النَّاسِ بِالطُّرُقِ النَّاجِعَةِ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ, وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي تَبْلِيغِهَا أُمَّتِهِ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ قَبْلِي, إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُم, وَيُنْذِرَهُم شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ, وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذَهِ, جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا, وَسَيُصِيبُ أَخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا, وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا, وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ سَفْقَةَ يَدِهِ, وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ, فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ, فَإِنْ جَاءَ أَخَرُ يُنَازِعُهُ, فَاضْرِبُوا عُنُقَ الأَخَر)).

لَمَّا سَمِعَ عَبْدُ الرَّحمَن بْنُ عَبْدِ رَبِّ الكَعْبَة هَذَا الحَدِيثَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: فَدَنَوْتُ مَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ: أَنْشُدُكَ الله, آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟

فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي.

ثُمَّ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَن حَالَ أَحَدِ الأُمَرَاءِ, فَقَالَ مُسْتَفْتِيًا: يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا؟! وَاللهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللهِ, وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ المَصْلَحَةَ فِي هَذَهِ الطُّرُقِ مُلْغَاة؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَلْجَأْ إِلَيْهَا مَعَ تَوَفُّرِ وَسَائِلِهَا فِي وَقْتِهِ, وَقِيَامِ المُقْتَضَيِ لَهَا, إِذْ هِيَ تَرْتَكِزُ فِي وَسَائِلِهَا عَلَى الثَّرْوَةِ البَشَرِيَّةِ.

وَأَمَّا قِيَامُ المُقْتَضِي ِلَهَا؛ فَلِأَنَّ الرَّسُولَ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظُلِمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَيَّمَا ظُلْم, وَعُذِّبُوا وَقُتِّلُوا, وَحُوصِرُوا فِي الشِّعْبِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ, لَا يُتَعَامَلُ مَعَهُم فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ, حَتَّى تَرَدَّت حَالَتُهُم المَعِيشِيَّة إِلَى أَنْ يَبُولَ أَحَدُهُم عَلَى جِلْدِ بَعِيرٍ بَالٍ ثُمَّ يَأْخُذُهُ وَيَغْسِلُهُ لِيُحَاوِلَ إِسْكَاتَ بَعْضِ جُوعِهِ بِمَضْغِهِ.

وَأُخْرِجُوا مِنْ وَطَنِهِم, وَمُنِعُوا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَعِبَادَةِ رَبِّهِم عِنْدَ بَيْتِهِ, كَمَا فِي صُلْحِ الحُدَيْبِيَّة إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

فَلَمَّا لَمْ يَأْخُذْ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذِهِ الوَسِيلَة دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالمَصَالِحِ المُرْسَلَة.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي ((الاقْتِضَاء)):

((وَالضَّابِطُ فِي هَذَا -وَاللهُ أَعْلَم- أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَا يُحْدِثُونَ شَيْئًا إِلَّا لِأَنَّهُم يَرَوْنَهُ مَصْلَحَةً، إِذْ لَوْ اعْتَقَدُوهُ مَفْسَدَةً؛ لَمْ يُحْدِثُوه؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا دِينٌ)).

فَمَا رَآهُ النَّاسُ مَصْلَحَةً؛ نُظِرَ فِي السَّبَبِ المُحْوِجِ إِلَيْهِ:

فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ المُحْوِجُ إِلَيْهِ أَمْرًا حَدَثَ بَعْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنَّا؛ فَهَنُاَ قَدْ يَجْوزُ إِحْدَاثُ مَا تَدْعُو الحَاجَةُ إِلَيْهِ, وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ المُقْتَضِي لِفِعْلِهِ قَائِمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ وَلَكِنْ تَرَكَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمُعَارِضٍ زَالَ بِمَوْتِهِ.

وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْدُثْ سَبَبُهُ وَلَمْ يُحْوِجْ إِلَيْهِ سَبَبٌ، أَوْ كَانَ السَّبَبُ المُحْوِجُ إِلَيْهِ بَعْضُ ذَنُوبِ العِبَادِ, فَهُنَا لَا يَجُوزُ الإِحْدَاثُ.

فَكُلُّ أَمْرٍ يَكُونُ المُقْتَضِي لِفِعْلِهِ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوْجُودًا، لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً وَلَمْ يُفْعَل: فَلْيُعْلَم أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ.

إِذَنْ فَهَذَا مِنَ السُّنَنِ التَّرْكِيَّةِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ المُظَاهَرَات وَالاعْتِصَامَات, وَالاضْرَابَاتِ عَنِ العَمَلِ أَوْ الطَّعَامِ, عَمَلٌ مُسْتَوْرَدٌ مِنَ الكُفَّارِ, وَقَدْ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ مُوَافَقَتِهِم فِي هَدْيِهِم.

فَكَيْفَ يَكُونُ أَوْلَى بِالرَّسُولِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمَّتِهِ مَنْ يَتْرُكُ إِرْشَادَهُ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَسْتَرْشِدُ بِهَدْيِ الكُفَّارِ؟!

وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةِ غَيْرِنَا)).

رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ, وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الجَامِع)) وَغَيْرِهُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ التَّكْفِيرِيُّونَ مِنَ الإِخْوَانِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ غَيْرِهِمْ, يُؤَسِّسُونَهُ عَلَى كُفْرِ الحَاكِمِ, بَلْ إِنَّهُم يَسْحَبُونَ ذَيْلَ ذَلِكَ الحُكْمِ لِيَشْمَلَ أَيْضًا وَيُغَطِيَ المَحْكُومِينَ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَرْضَى بِالكُفْرِ كَافِر.

وَهُمْ يَقُولُونَ: كَفَرَ الحَاكِم وَرَضِيَتْ الرَّعِيَّة, فَهُوَ وَهُمْ مِنَ الكُفَّارِ المُرْتَدِّينَ!!

مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الحُكْمِ بِالطَّرِيقَةِ المَعْهُودَةِ المَعْرُوفَةِ ظَاهِرًا, وَبِالخِيَانَةِ وَالدَّسِّ, وَبِالخَدِيعَةِ وَالخَتْلِ, وَبِالخِدَاعِ وَالمَكْرِ بَاطِنًا.

مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الحُكْمِ وَقِيلَ إِنَّهُ إِسْلَامِيٌّ, أَتَتْ بِهِ الجَمَاعَةُ لِيَحْكُمَ بِدِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ, وَلِيُؤَسِّسَ لِلْخِلَافَةِ الإِسْلَامِيَّةِ فِي أَخِرِ الزَّمَانِ,لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ.

مَا الَّذِي صَنَعَ؟

لَا شَيْء, أَعَادَ فَرْضَ الضَّرَائِبِ عَلَى الخُمُورِ مَرَّةً أُخْرَى, وَنُشِرَتْ أَنْوَاعُهَا فِي الجَرَائِدِ؛ فَعَرَفَ النَّاسُ مِنْهَا مَالَمْ يَعْرِفُوهُ قَبْلُ؛ لِيَعُبُّوا وَيَنْهَلُوا, وَجَدَّدَ تَصَارِيحَ الرَّاقِصَاتِ وَجَعَلَهَا ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ بَدَلًا مِنْ سَنَتَيْن!!

لَا أَقَامَ حَدًّا, وَلَا صَنَعَ شَيْئًا, وَإِنَّمَا دَعَا إِلَى الاقْتِرَاضِ مِنَ البَنْكِ الدَّوْلِي, وَكَانَ قَبْلُ فِي مَجْلِسِ الشَّعْبِ يَعْتَرِضُ عَلَى الحُكُومَةِ القَائِمَةِ آنَذَاك؛ بِأَنَّهَا سَتُطْعِمُ الشَّعْبَ مِنَ الرِّبَا!!

ثُمَّ جَاءَ بَعْدُ فقَالَ: هَذَهِ مِنَ المَصَارِيفِ الإِدَارِيَّةِ!!

السُّؤَالُ المُطَابِقُ لِلوَاقِعِ هُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا حُكْمُ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ إِمَارَةُ بَلَدٍ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِشَرِيعَةِ اللهِ فِي أَكْثَرِ مَنَاحِي الحَيَاة؟ ثُمَّ هُوَ لَمْ يُغَيِّر ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ المُسْتَبْدِدِ؟

السُّؤَالُ المُطَابِقُ لِلوَاقِعِ هُو: مَا حُكْمُ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ إِمَارَةُ بَلَدٍ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِشَرِيعَةِ اللهِ فِي أَكْثَرِ مَنَاحِي الحَيَاة؟ ثُمَّ هُوَ لَمْ يُغَيِّر ذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ المُسْتَبْدِدِ؟

مَنْ عَرَضَ المَسْأَلَةَ مِنْ أَهْلِ العَدْلِ عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ كَانَ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخِلَافِ الوَاقِعِ, وَمَنْ كَفَّرَ هَذَا الحَاكِمَ بِلَا تَفْصِيلٍ كَانَ ظَالِمًا, وَيُوشِكُ أَنْ يُكَفِّرَ النَّجَاشِيَّ –رَحِمَهُ اللهُ-؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمْ يُغَيِّر الأَحْكَامَ النَّصْرَانِيَّةَ الَّتِي كَانَ يَحْكُمُ بِهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِ.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي ((المِنْهَاجِ)):

((وَالنَّجَاشِيُّ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ القُرْآنِ، فَإِنَّ قَوْمَهُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَثِيرًا مَا يَتَوَلَّى الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّتَارِ قَاضِيًا، بَلْ وَإِمَامًا، وَفِي نَفْسِهِ أُمُورٌ مِنَ العَدْلِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، بَلْ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ، وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)).

وَلَا يُقَالَ هَذَا مُحَامَاةً لِلْمُحَرِّفِينَ لِشَرِيعَةِ اللهِ؛ وَلَكِنَّهُ العَدْلُ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ وَلَوْ مَعَ المُخَالِف؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إِلَّا تَعْدِلُوا  اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي ((المِنْهَاجِ)):

((أَهْلُ السٌّنَّةِ يُخْبِرُونَ بِالْوَاقِعِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْوَاجِبِ، فَيَشْهَدُونَ بِمَا وَقَعَ، وَيَأْمُرُونَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ)).

إِنَّ وُجُودَ قَوَانِينَ وَضْعِيَّةٍ فِي بَلَدٍ مَا, لَا يَحْمِلُنَا عَلَى أَنْ نَنْسُبَ إِلَى أَمِيرِهِ وَضْعَهَا, بَلْ يَنْبَغِي النَّظَرُ فِي تَارِيخِهَا لِمَعْرِفَةِ وَاضِعِيهَا ,فَإِنَّمَا هُوَ مِيرَاثٌ وُرِّث, إِرْثٌ مَا زَالَ يَتَهَادَى حَتَّى سَقَطَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ وَلِّيَ.

ثُمَّ بَعْدَ تَصَوِّرِ المَسْأَلَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا يَحْكُمُ المُجْتَهِدُونَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَصْحَابِهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، إِذْ الحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي هَذَا البَاب مِنْ ذَوِي المَقَاصِدِ الحَسَنَةِ مَنْ لَا يُلَاحِظُ هَذَا، وَيُغَلِّطُ مَنْ يُغَلِّطُ فِيهِ مِنْ ذَوِي المَقَاصِدِ السَّيِّئَةِ مَنْ لَا يُحِبُ أَنْ يُلَاحِظَ هَذَا, وَيِجْتَهِدُ فِي اللَّعِبِ بِالمُصْطَلَحَات.

وَلِذَلِكَ تَجِدُ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ لَا يَتَجَاوَبُونَ مَعَ أَصْحَابِ هَذَا الطَرْح، بَلْ يَأْخُذُونَ كَلَامَهُمْ بِحَذَرٍ شَدِيدٍ، كَمَا فِي أَجْوِبَةِ العَلَّامَةِ الأَلْبَانِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَكَذَلِكَ فِي أَجْوِبَةِ العَلَّامَةِ ابْنِ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مُنَاسَبَاتٍ شَتَّى يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِمَسْأَلَةِ الاسْتِبْدَالِ, فَلَا يَزِيدُ عَلَى الجَوَابِ العَامِّ المَعْرُوفِ فِي كُتُبِ المُتَقَدِّمِينَ عَلَى آيَةِ الحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ.

وَمِنْ أَهْلِ العِلْمِ مَنْ كَانَ لَا يُجِيبُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ إِذَا شَمَّ مِنْ صَاحِبِهِ تَعَنُّتًا خَارِجِيًا، كَمَا فِي أجْوِبَةِ العَلَّامَةِ ابْنِ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- لَاسِيَّمَا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ, وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى فِطْنَةٍ نَادِرَةٍ عُرِفَ بِهَا هَذَا الطِّرَازُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ.

وَهَذَا يُشْبِهُهُ فِي الاحْتِرَازِ مِنْ أَغْرَاضِ أَهْلِ البِّدَعِ الدَّنِيئَةِ مَا رَوُاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ((تَفْسِيرِهِ)) وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ((تَفْسِيرِهِ)) وَأَبُو الشَّيْخِ فِي ((طَبَقَاتِ المُحَدِّثِينَ بِأَصْبَهَان)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَعْقُوبَ القُمِّيّ عَنْ جَعْفَرِ بنِ أَبِي المُغِيرَةِ عَنْ ابْنِ أَبْزَى، قَالَ:

((جَاءَهُ رَجُلُ مِنَ الخَوَارِجِ يَقْرَأُ عَلَيْهِ هَذَهِ الآيَةَ:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].

قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ؟

قَالَ: بَلَى!

قَالَ: فَانْصَرَفَ عَنْهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: يَا ابنَ أَبْزَى! إِنَّ هَذَا قَدْ أَرَادَ تَفْسِيرَ هَذَهِ غَيْرِ هَذَا؛ إِنَّهُ رَجُلٌ مِنَ الخَوَارِجَ!

فَقَالَ رُدُّوهُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَهُ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذَهِ الآيَة؟

قَالَ: لَا!

قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ، اذْهَبْ وَلَا تَضَعْهَا عَلَى غَيْرِ حَدِّهَا!))

وابْنُ أَبْزَى هُنَا هُوَ سَعِيدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبْزَى، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ رِوَايَةُ أَبِي الشَّيْخ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا فِي ((تَفْسِيرِهِ)) مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ القُمِّيّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي المُغِيرَةَ عَنْ ابْنِ أَبْزَى عَنْ عَلِيٍّ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((أَتَاهُ رَجُلٌّ مِنَ الخَوَارِجِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].

أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟

قَالَ: بَلَى!

فَانْصَرَفَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَليٌّ: ارْجِع! ارْجِع! أَيْ قُلْ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ؛ وَ هُمْ الَّذِينَ عَدَلُوا بِرَبِّهِم -يَعْنِي أَهْلِ الكِتَابِ-)). وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ.

قَالَ المُعَلِّقَانِ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ جَرَيرٍ:

((وَأَرَادَ السَّائِلُ مِنَ الخَوَارِجِ بِسُؤَالِهِ الاسْتِدْلَالَ بِالآيَةِ عَلَى تَكْفِيرِ أَهْلِ القِبْلَةِ فِي أَمْرِ تَحْكِيمِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ هُوَ رَأْيُ الخَوَارِج)).

عِنْدَنَا فِي كِتَابِ اللهِ فِي ثَلَاثَةِ مَواضِعَ, فِي ثَلَاثِ آيَاتِ مِنْ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-:

{وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].

{وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].

{وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].

هَلْ تَأَمَّلَ أَحَدٌ فِي هَذَهِ الآيَات؟

هَلْ حَاوَلَ أَنْ يَفْهَمَهَا عَلَى مُقْتَضَى النُّصُوصِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ السَّلَفِ –رَحِمَهُم اللهُ- مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ؟

هَلْ أَعْمَلُوا فِيهَا قَوَاعِدَ العَرَبِيَّة؟ قَوَاعِدَ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ؟

تَأَمَّلْ فِي هَذَهِ الآيَاتِ العِظَامِ وَانْظُرْ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ العَرَبِ الَّتِي هِيَ لُغَةُ القُرْآن، إِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ وَجَدَّتَ أَنَّهَا عَامَّةً مِنْ وَجْهَيْنِ.

هَذَهِ الآيَات لَمْ يَخُصَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِهَا الحُكَّام -كَمَا يُوهِمُ ذَلِكَ فِعْلُ التَّكْفِيرِيينَ الخَوَارِجَ، فِإِنَّهُم لَا يُنْزِلُونَهَا إِلَّا عَلَى الحُكَّامِ وَهِيَ تَشْمَلُهُمْ- هُمْ أَيْضًا دَاخِلُونَ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}, {هُمُ الظَّالِمُونَ}, {هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُسْلِمِين، سَوَاءٌ كَانُوا حَاكِمِينَ أَوْ مَحْكُومِينَ، تَعُمُّ الحَاكِمَ وَالقَاضِيَ وَالمُحْتَسِبَ, وَالأُسْتَاذَ وَرَبَّ البَيْتِ وَالزَّوْجَة وَهَكَذَا.

دَلَالَةُ هَذَا العُمُوم مَأْخُوذَةٌ مِنَ الآيَةِ نَفْسِهَا، وَمِنَ الآثَارِ الوَارِدَةِ مِنَ السَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فِي تَفْسِيرِهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {وَمَنْ} يَدُلُّ عَلَى العُمُومِ، إِذْ أَنَّ [مَنْ] إِحْدَى صِيَغِ العُمُومِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ, فَتَعُمُّ جَمِيعَ المُخَاطَبِينَ، وَمَنْ قَيَّدَهَا بِالحَاكِمِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا كَبِيرًا.

[مَنْ] مِنْ أَلْفَاظِ العُمُومِ، فَتَعُمُّ الجَمِيعَ.

{وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} مِنْكُم وَمِمَّنْ وَرَاءَكُمْ, وَمِنَ الحُكَّامِ وَالمَحْكُومِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ {فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.

وَالعُمُومِ فِي الشِّقِّ الثَّانِي هُوَ أَنَّ هَذَهِ الآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ أَحْكَامِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكُلُّ حُكْمٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا تَتَنَاوَلُهُ هَذَهِ الآيَةَ بِعُمُومِهَا {وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا}، وَ[مَا] مِنْ أَلْفَاظِ العُمُومِ.

فـَـــــ [مَنْ] مِنْ أَلْفَاظِ العُمُومِ، وَ[مَا] مِنْ أَلْفَاظِ العُمُومِ، فَيَدْخُل الجَمِيعُ فِي [مَنْ]، وَتَدْخُلْ الأَحْكَامُ كُلُّهَا فِي [مَا].

فَأَكْلُ الرِّبَا، وَشُرْبُ الخَمْرِ، وَالأَكْلُ بِالشِّمَالِ، وَإِسْبَالُ الثِّيَابِ، وَالتَّنَخُّمُ فِي المَسْجِدِ، وَوَطْءُ الحَائِضِ خِلَالَ حَيْضِهَا.

كُلُّ ذَلِكَ جَاءَتْ فِيهِ أَحْكَامٌ للهِ تَعَالَى، أَفَمَنْ خَالَفَهَا يَكُونُ كَافِرًا كُفْرًا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ؟

هُوَ دَاخِلٌ فِي العُمُومِ فِي [مَنْ].

{وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}, {مَا أَنزَلَ اللَّهُ} عَامَّةٌ فِي كُلِّ حُكْمٍ.

فَهَلْ  مَنْ تَنَخَّمَ فِي المَسْجِدِ وَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الخِطَاب {وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} وَهُوَ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ, فَتَـنَخَّمَ فِي المَسْجِدِ يَكُونُ كَافِرًا كُفْرًا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ؟ يَكُونُ مرتدًا؟

كُلُّ أَحْكَامِ اللهِ سَوَاءٌ مَا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ دَاخِلٌ فِي الآيَةِ، وَدَلِيلُ العُمُومِ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}, فـَـــ [مَا] مِنْ صِيَغِ العُمُومِ عَنْدَ أَهْلِ العِلْمِ.

فَقَوْلُهُ: {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} يَشْمَلُ كُلَّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ فِي الزِّنَا أَوْ كَانَ حُكْمُهُ فِي الشُّرْبِ بِالشِّمَالِ.

النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نَهَى المُسْلِمَ أَنْ يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ، وَحُكْمُهُ هُوَ حُكْمُ اللهِ، أَفَمَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ يَكُونُ كَافِرًا كُفْرًا يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ؟!

هُوَ لَمْ يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، فَمِنْ حُكْمِ اللهِ أَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ لَا بِشِمَالِهِ.

خَالَفَ حُكْمَ اللهِ وَأَكَلَ بِشِمَالِهِ، وَاللهُ يَقُولُ: {وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أَفَيَكُونُ كَافِرًا كُفْرًا أَكْبَرَ؟!

السَّلَفُ -رَحِمَهُمْ اللهُ- عِنْدَمَا فَهِمُوا هَذَهِ الآيَةَ عَلَى الوَجْهِ المَعْرُوفِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ العَرَبُ, بِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا كِتَابُ اللهِ، فَهِمُوا ذَلِكَ مِنَ الآيَةِ أَيْضًا, {فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَوا: كُفْرٌ دُونَ كُفْر.

كُفْرٌ دُونَ كُفْر، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ ((فَقَدْ كَفَرَ))، وَفِي رِوَايَةٍ ((فَقَدْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ)).

لَوْ قَالَ رَجُلٌ (وِالنَّبِي) أَوْ قَالَ (وِرَحْمَة أَبِيهِ) أَوْ حَلَفَ بِالكَعْبَةِ, تُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ المُرْتَدّ؟! وَيَكُونُ كَافِرًا كُفْرًا أَكْبَرَ؟!

النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)) ((فَقَدْ كَفَرَ))، ((فَقَدْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ)).

كُلُّهَا رِوَايَاتٍ, وَكُلُّهَا ثَابِتَة...أَيَخْرُجُ مِنَ المِلَّةِ؟! وَتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ المُرْتَدّ؟!

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((هِيَ بِهِ كُفْرٌ وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)).

هَذَا الآثَر أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنْ هَنَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الجَرَّاحِ، وَقَالَ: أَيْضًا حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا إِسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ عَنْ الحَبْرِ، حَبْرِ الأُمَّةِ، تُرْجُمَانِ القُرْآنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-.

اَّلِذينَ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نَأْخُذُ بِخُطَّةٍ مُمَنْهَجَةٍ مِنْ أَجْلِ اسْقَاطِ النِّظَامِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الإِخْوَانُ المُفْلِسُونَ.

يَقُولُونَ: لَابُدَّ مِنَ الإِرْبَاكِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الإِنْهَاكِ, ثُمَّ فِي النِّهَايَةِ يَكُونُ الحَسْمُ, وَقَدْ دَخَلُوا فِي مَرْحَلَةِ الصِّرَاعِ المًسَلَّحِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَإِزْهَاقِ الأَرْوَاحِ, لَا يَرْعَوُونَ.

هَؤُلَاءِ مَاذَا يُرِيدُونَ؟!

هُمْ يَقُولُونَ: نُرِيدُ شَرْعَ اللهِ, وَلَا يُطَبِّقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَرْعَ اللهِ.

دَعْكَ الآنَ مِنَ المُنْتَظِمِينَ فِي سِلْكِ الإِخْوَانِ المُفْلِسِينَ, فِي سِلْكِ خُوَّانِ الْمُسْلِمِينَ, وَمِنَ الَّذِينَ هُمْ مَعَ التَّكْفِيرِيِّينَ مِنَ القُطْبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ.

دَعْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الآنَ, أَلْقِهِمْ حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَمِ, ثُمَّ انْظُرْ إِلَى عُمُومِ هَذَا الشَّعْبِ, يَكْثُرُ فِيهِ مَعَ الوَقْتِ المُتَعَاطِفُونَ مَعَ خُوَّانِ الْمُسْلِمِينَ, وَمَعَ التَّكْفِيرِيِّينَ الخَوَارِج.

هَؤُلَاءِ المُتَعَاطِفُونَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الجَهَلَةِ, بَلْ كُلُّهُمْ مِنَ الجَهَلَةِ!!

الرَّجُلُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُنَاطِحُ النِّظَامَ وَلَا يُعْجِبُهُ النِّظَام, مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ كَثِيرًا مِنَ المَالِ, كَثِيرًا مِنَ العَتَادِ.

هَذَا يُرِيدُ مَاذَا؟ يُرِيدُ الشَّرِيعَةَ؟!

هُوَ لَا يُحْسِنُ يَسْتَنْجِيَ, لَوْ كَانَ صَادِقًا لَجَلَسَ فِي مَجَالِسِ العِلْمِ لِكَيْ يَتَعَلَّمَ دِينَهُ, وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ فَسَقَة, هَؤُلَاءِ خَوَارِجُ مِنَ القَعَدَةِ, هَؤُلَاءِ صَارُوا إِلَى ذَلِكَ المُعَسْكَرِ الخَائِنِ لِدِينِ اللهِ, وَلِهَذَا التُّرَابُ, هَذَا التُّرَابُ الطَّاهِرُ يُضَنُّ بِهِ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.

وَأَمَّا أُولَئِكَ الذِّئَابُ فِي خَارِجِ القُطْرِ، فَهَؤُلَاءِ يُهَيِّجُونَ فِي الدَّاخِلِ، وَالأَمْرُ جِدُّ خَطِيرٌ.

انْتَبِهُوا!! لَا تَنَامُوا!! لَا تَرْكَنُوا إِلَى الدَّعَةِ!! فَالأَمْرُ خَطِيرٌ خَطِير!! كَيْفَ؟

لَا تَنْظُرُوا إِلَى الخَرِيطَةِ نَظْرَةً جُزْئِيَّةً، أَنْتَ تَسْمَعُ مَثَلًا فِي كُلِّ يَوْمٍ أَنَّ انْفِجَارًا وَقَعَ فِي مَكَانٍ رَاحَ ضَحِيَّتَهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَان، أَوْ أَنَّهُ خَرَّبَ مُنْشَأَةً، أَوْ أَنَّهُ أَتْلَفَ مُؤَسَّسَةً، أَوْ أَنَّهُ قَطَعَ طَرِيقًا، أَوْ أَنَّهُ خَرَّبَ مُوَصِّلَةً مِنَ المُوَصِّلَاتِ العَامَّةِ، فَتَسْمَعُ هَذَا مُنْفَرِدًا!

لَا... اجْمَعْ هَذَا كُلَّهُ وَاجْعَلُهُ تَحْتَ عَيْنَيْكَ؛ لِتَعْلَمَ أَنَّ الأَمْرَ خَطِيرٌ, أَمْرٌ مُنْتَشِرٌ!!

إِيَّاكَ وَالنَّظْرَةَ الجُزْئِيَّةَ!! كُنْ صَاحِبَ نَظْرَةٍ كُلِيَّةٍ. انْظُرْ إِلَى المَجْمُوعِ.

فِي كُلِّ يَوْمٍ يَخْرُجُ عَلَيْنَا خَائِنٌ لِلدِّينِ، خَائِنٌ لِلقُرْآنِ، خَائِنٌ لِلرَّسُولِ، خَائِنٌ لِلأَرْضِ، خَائِنٌ لِلْعِرْضِ؛ لِيُفَجِّرَ, لِيَغْتَالَ, لِيَذْبَحَ كَالذِّئَابِ المُنْفَرِدَةِ.

وَهَذَا مُصْطَلَحٌ عِنْدَ أُولَئِكَ التَّكْفِيرِيِّينَ مِنَ الدَّاعِشِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، يَؤُزُّونَ الشَّبَابَ المِصْرِيَّ لِيَكُونُوا مُنْتَظِمِينَ فِي سِلْكِ الذِّئَابِ المُنْفَرِدَةِ.

اعْمَلْ وَحْدَكَ، وَحُزَّ رَقَبَةَ المُرْتَدِّ مِنَ الوَرِيدِ إِلَى الوَرِيدِ!!

صَادِقْهُ, صَاحِبْهُ, سَايِرْهُ فِي الطَّرِيقِ وَلَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ، حَتَّى إِذَا مَا انْفَرَدْتَ بِهِ؛ اذْبَحْهُ مِنَ الوَرِيدِ إِلَى الوَرِيدِ!!

اسْتَعْمِلْ مَا شِئْتَ مِنَ الأَسْلِحَةِ، وَيَقُولُونَ إِنَّ السِّلَاحَ الأَبْيَضَ هُوَ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الجَنَّةِ مِنْ أَقْصَرِ طَرِيقٍ! لِأَنَّهُ الَّذِي يُذْبَحُ بِهِ المُرْتَدُّونَ!!

أَفِيقُوا رَحِمَكُمْ اللهُ!!

قَبْلَ أَنْ تُذْبَحُوا, قَبْلَ أَنْ تُحَرَّقُوا.

قَبْلَ أَنْ تُهَدَّمَ عَلَيْكُم دِيَارُكُمْ, وَتُسْبَى نِسَاؤُكُمْ, وَتُنْتَهَكُ أَعْرَاضُكُمْ.

اتَّقُوا اللهَ,,, اتَّقُوا اللهَ فِي دِينِ اللهِ.

لَا تَغْفَلُوا, كُونُوا لَهُمْ بِالمِرْصَاِدِ.

تَلَاحَمُوا, تَآزَرُوا, تَعَلَّمُوا دِينَكُمْ, انْشُرُوهُ, عَلِّمُوهُ, اثْبُتُوا عَلَيْهِ, حَتَّى يَقْبِضَكُمْ اللهُ عَلَيْهِ.

وَاللهُ يَرْعَاكُمْ, وَيُسَدِّدُ خُطَاكُمْ, وَيَحْفَظُكُمْ, وَيَحْفَظُ هَذَا البَلَدَ حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى البَّشِيرِ النَّذِيرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.