فإذا تأملتَ حكمتَهُ -سبحانه وتعالى- فيما ابتلى به عبادَه وصفوتَه بما ساقهم به إلى أجلِّ الغاياتِ وأكملِ النهايات، التي لم يكونوا يعْبُرون إليها إلا على جِسرٍ من الابتلاءِ والامتحان، وكان ذلك الجسرُ لكمالهِ كالجسرِ الذي لا سبيلَ إلى عبورِهم إلى الجنةِ إلا عليه، وكان ذلك الابتلاءُ والامتحانُ عَيْنَ المنهجِ في حقِّهم والكرامة، فَصورتُه صورةُ ابتلاءٍ وامتحان وباطنُه فيه الرحمة والنعمة والمنة، فكم لله من نعمةٍ جسيمة ومِنَّةٍ عظيمة تُجنى من قطوفِ الابتلاءِ والامتحانِ.
فتأمل حالَ أبينا آدم -على نبيِّنا وعلية الصلاة والسلام- وما آلت إليه محنتُه من الاصطفاءِ والاجتباءِ والتوبةِ والهدايةِ ورِفعةِ المَنزِلة, ولولا تلكَ المحنةُ التي جَرَت عليه، وهى إخراجُه من الجنة وتوابعُ ذلك؛ لَمَا وصلَ إلى ما وصل إليه, فكم بين حالتهِ الأولى وحالتهِ الثانية في نهايتِه.
وتأمل حالَ أبينا الثاني نوحٍ -صلى الله عليه وسلم- وما آلت إليه مِحنتهُ وصَبْرُهُ على قومه تلك القرون كلَّها، حتى أقرَّ اللهُ عينَه وأغرقَ أهلَ الأرضِ بدعوته، وجعل العالَمَ بعده من ذريتِه، وجعلَه خامسَ خمسةٍ، وهم أولو العزمِ من الرُّسل، الذين هم أفضل الرُّسل، وأمرَ رسولَهُ ونبيه -محمد صلى الله عليه وآله وسلم- أنْ يصبرَ كصبرهِ، وأثنى عليه بالشكر؛ فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، ووصفه بكمالِ الصبرِ والشكر.
ثم تأمل حالَ أبينا الثالث إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إمامِ الحُنفاء وشيخِ الأنبياء وعمودِ العالم وخليلِ ربِّ العالمين من بني آدم, وتأمل ما آلت إليه محنتُهُ وصبرهُ وبذلهُ نفسه لله تعالى، وتأمل كيف آلَ به بَذْلُهُ للهِ نفسَهُ ونَصْرُهُ دينَه إلى أنْ اتخذه الله خليلًا لنفسه, وأمرَ خليله ورسولَه مُحمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتَّبَعَ ملته.
وأُنَبِّهُكَ على خصلةٍ واحدة مما أكرمه الله تعالى به في محنتهِ بذبحِ وَلَده, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- جازاه على تسليمِهِ ولده لأمر الله؛ بأنْ باركَ في نسلِه وكَثَّرَه حتى ملأ السهل والجبل, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يتكرمُ عليه أحدٌ، وهو أكرم الأكرمين, فمن تركَ لوجهه أمرًا أو فعلَهُ لوجهه؛ بَذَلَ الله له أضعاف ما تَرَكَهُ من ذلك الأمرِ أضعافًا مُضاعفة، وجازاه بأضعافِ ما فَعَلَهُ لأجله أضعافًا مضاعفة.
فلما أُمِرَ إبراهيم بذبحِ ولده، فبادر بأمرِ الله، ووافق عليه الولدُ أباه، رضاءً منهما وتسليمًا، وعَلِمَ اللهُ منهما الصدق والوفاء؛ فداهُ بذبحٍ عظيم وأعطاهما ما أعطاهما من فضلِهِ، وكان من بعض عطاياه؛ أنْ بارك في ذريتهِما حتى مَلئوا الأرض, فإنَّ المقصود بالولدِ إنما هو التناسلُ وتكثيرُ الذرية؛ ولهذا قال إبراهيم {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].
فغايةُ ما كان يَحذرُ ويَخشى من ذبحِ ولده؛ انقطاعُ نسْله, فلما بذلَ ولدهُ لله، وبذل الولدُ نفسَهُ، ضاعفَ اللهُ النسلَ وباركَ فيه وكَثُر حتى ملئوا الدنيا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته خاصة، وأخرجَ منهم محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثم تأمل حالَ الكليمِ مُوسى -عليه السلام- وما آلت إليه مِحنتُه من أوَّلِ ولادتِه إلى مُنتهى أمرهِ، حتى كَلَّمُه الله مِنُه إليه تكليمًا، وكَتب له التوراة بيدهِ، ورفعه إلى أعلى السماوات، واحتملَ له ما لا يَحتَمِلُ لغيره، فإنه رَمَى الألواحَ على الأرضِ حتى تكسَّرت، وأَخَذَ بلحيةِ نبيِّ الله هارون وجَرَّهُ إليه، ولَطَمَ وَجْهَ مَلكِ الموتِ؛ ففقعَ عينه وخاصمَ ربَّهُ ليلة الإسراء في شأن محمدٍ -رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-، وربهُ يحبُّهُ على ذلك كله، ولا سقطَ شيءٌ منه من عينِه، ولا سقطت منزلتهُ عنده, بل هو الوجيهُ عند الله، القريب, ولولا ما تقدمَ له من السوابق وتحمُّلِ الشدائدِ والمِحنِ العظامِ في الله ومقاساةِ الأمرِ الشديد بين فرعونَ وقومِه، ثم بني إسرائيل وما آذَوه به وما صبرَ عليهم لله, لولا ذلك؛ لم يكن ذلك.
ثم تأمل حال المسيحِ -صلى الله عليه وسلم- وصَبْرَهُ على قومِهِ واحتمالَهُ في الله ما تحملَّهُ منهم، حتى رفعَهُ اللهُ إليه، وطهَّره من الذين كفروا، وانتقم من أعداءه، وقطَّعهم في الأرضِ ومزَّقهُم كل مُمزَّقٍ، وسَلَبَهم مُلْكَهم وفَخرَهُم إلى آخر الدَّهرِ.
فإذا جئت إلى النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وتأملت سيرتَه مع قومهِ وصبرَهُ في الله، واحتماَلهُ ما لم يحتملُه نبيٌّ قبله، وتلُّونُ الأحوال عليه من سِلْمٍ وخوف، وغنىً وفقر، وأمنٍ وإقامةٍ في وطنه، وظعنٌ عنه وتركه لله، وقتْل أحبائه وأوليائه بين يديه وأذى الكفار له بسائرِ أنواع الأذى من القولِ والفعل والسحرِ والكذب والافتراءِ عليه والبهتان, وهو مع ذلك كلِّهِ صابرٌ على أمْرِ الله, يدعو إلى الله، فلم يُؤذَى نبيٌّ ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يُعطَ نبيٌّ ما أُعطى.
فرفع اللهَ له ذِكره وقَرَنَ اسمَهُ باسمه، وجعله سيد الناس كُلِّهم، وجعله أقربَ الخلق إليه وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمعَهم عنده شفاعةً, وكانت تلك المِحنُ والابتلاء عينَ كرامتِه، وهى مما زاده الله بها شرفًا وفضلًا، وساقه بها إلى أعلى المقامات.
وهذا حالُ ورَثتِه من بعده الأمثلِ فالأمثل، كلٌّ له نصيبٌ من المحنة يسوقه الله به إلى كماله بحَسبِ متابعته له، ومنْ لا نصيب له من ذلك؛ فحظُّه من الدنيا حظ من خُلِقَ لها وخُلِقت له، وجُعِل خَلاقُه ونصيبُه فيها، فهو يأكُل منها رغدًا، ويتمتع فيها حتى يناله نصيبه من الكتاب, يُمتَحَن أولياء الله وهو في دَعَةٍ وخَفْضِ عَيْش, ويخافون وهو آمن, ويحزنون وهو وأهله في سرور, لهم شأنٌ ولهم شأن, وهو في واد وهم في واد, همه ما يقيم به جاهه ويَسلمُ به مالُه وتُسمعُ به كلمتُه, لَزِمَ من ذلك ما لزم ورَضي من رَضي وسَخِط من سَخِط.
وهمَّهُم إقامةُ دينِ الله، وإعلاءُ كلمته، وإعزازُ أوليائه وأن تكون الدعوة له وحده، فيكون هو وحده المعبود لا غيره، ورسوله المطاعَ لا سواه.
فلله سبحانه من الحِكَمِ في ابتلائه أنبيائَهُ ورسلهُ وعبادَهُ المؤمنين؛ ما تتقاصرُ عقولُ العالمين عن معرفته, وهل وَصَلَ مَن وَصَلَ إلى المقاماتِ المحمودة والنهاياتِ الفاضلة إلا على جسرِ المحنة والابتلاء.
كذا المعالي إذا ما رُمتَ تدركها *** فاعبر إليها على جسرٍ من التعبِ
إنَّ الله -جلَّ وعلا- يبتلي بالسرَّاء والضرَّاء, وبالغنى والفقر, وبالصحةِ والمرض, ومهما كان حالُ العبدِ في حالِ ابتلاءٍ، وهو لا يَنفكُّ عن حالِ الابتلاء أبدًا, فيجبُ عليه أن يكون خائفًا من الله، راجيًا له، راغبًا راهبًا، إنْ نظرَ إلى ذنوبِه وعدل الله وشدةِ عقابه؛ خشيَ ربَّه وخافَه، وإنْ نظرَ إلى فضلِه العام والخاص وعفوهِ الشامل رجا وطمع، إنْ وُفِّقَ لطاعةٍ رجا من ربه تمام النعمةِ بقبولها، وخافَ من ردِّهِا بتقصيره في حقِّها، وإن اُبتلي بمعصيته رجا من ربِّه قبولَ توبته ومحوَها، وخشيَ بسببِ ضعفِ التوبةِ والالتفاتِ للذنب أنْ يُعَاقَبَ عليها.
وعند النِّعَمِ واليسار يرجو الله دوامَها والزيادةَ منها والتوفيق لشكرها، ويخشى بإخلالهِ بالشكرِ من سَلْبِها، وعند المكارهِ والمصائب؛ يرجو الله دفعَها وينتظر الفرج بحلِّها، ويرجو أيضًا أن يُثيبَه الله عليها حين يقومُ بوظيفة الصبر، ويخشى من اجتماعِ المصيبتين؛ فواتِ الأجر المحبوب، وحصول الأمر المكروه إذا لم يُوَفَّق للقيام بالصبر الواجب.
فالمؤمنُ الموحد في كل أحوالهِ ملازمٌ للخوف والرجاء, وهذا هو الواجبُ وهو النافع، وبه تَحصُل السعادة، ويُخشى على من العبد خُلَقين رذيلين:
أحدهما: أن يستوليَ عليه الخوف حتى يقنطَ من رحمة الله ورَوْحِهِ.
الثاني: أن يتجارى به الرجاء حتى يأمن مكر الله وعقوبته , فمتى بلغت به الحال إلى هذا فقد ضيَّع واجب الخوف والرجاء، الَّذين هما من أكبر أصول التوحيد وواجبات الإيمان .
وللقنوط من رحمةِ الله واليأسِ من رَوحه سببان محذوران:
أحدهما: أن يُسرفَ العبدُ على نفسه، ويتجرأ على المحارم فيصبر عليها ويُصمم على الإقامة على المعصية، ويقطع طمعه من رحمة الله لأجل أنه مقيمٌ على الأسباب التي تمنع الرحمة، فلا يزال كذلك حتى يصيرَ لهُ هذا وصفًا وخُلقًا لازما , وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد، ومتى وصلَ إلى هذا الحدِّ؛ لم يُرجى له خير إلا بتوبةٍ نصوح وإقلاعٍ فوريٍّ .
الثاني: أن يَقوى خوفُ العبدِ بما جنت يداه من الجرائم، ويَضعُفُ عِلْمه بما لله من واسع الرحمة والمغفرة، ويظنُّ بجهله أنَّ الله لا يغفر له ولا يرحمه ولو تاب وأناب، وتَضْعُف إرادته؛ فييأس من الرحمة، وهذا من المحاذير الضارة الناشئة من ضعف علمِ العبد بربه وما له من الحقوق ومن ضعفِ النفسِ وعجزهِا ومهانتِها, فلو عَرَفَ هذا ربَّه ولم يخلُد إلى الكسل؛ لعَلِمَ أنَّ أدنى سعي يوصله إلى ربه وإلى رحمته وجوده وكرمه .
وللأمن من مكر الله أيضًا سببان مُهلكان :
أحدهما: إعراض العبد عن الدين وغلفته عن معرفة رب العالمين وما له من الحقوق وتهاونه بذلك، فلا يزالُ مُعرضًا غافلًا مقصرًا عن الواجبات، مُنهمكًا في المحرمات، حتى يضمحلَّ خوفُ الله من قلبه، ولا يبقى في قلبه من الإيمان شيء؛ لأن الإيمان يحملُ على خوفِ الله وخوف عقابه الدُنْيَوِيِّ والأخْرَوِيِّ.
والسبب الثاني: أن يكون العبد عابدًا جاهلا معجبًا بنفسه مغرورًا بعمله، فلا يزالُ به جهلُه حتى يُدِلَّ بعمله ويزول الخوف عنه، ويرى أنَّ له عند الله المقامات العالية؛ فيصيرُ آمنًا من مكرِ الله مُتَّكِلًا على نفسه الضعيفة المَهينة ومن هنا يُخذل, يُخذلُ ويُحالُ بينه وبين التوفيق إذ هو الذي جني على نفسه.
وهذه الأمور من الأمن من مكر الله -جلًّ وعلا- ومن اليأس من رَوحه والقنوط من رحمته, هذه الأمور منافيةٌ لتوحيدِ الله -جلَّ وعلا-, واليأسُ من رَوْح الله والقنوطُ من رحمتِه من كبائرِ الذنوب وعظائم الإثم .
قال المُناوي: ((اليأسُ: القطعُ بأنَّ الشيءَ لا يكون واليأسُ ضد الرجاء)).
وقال العِزُّ: ((اليأس من رحمة الله: هو استصغارٌ لسعةِ رحمته -عزَّ وجل- ولمغفرته وذلك ذنبٌ عظيم وتضييقٌ لفضاء جوده))
اليأس انقطاع الرجاء.
وقال الراغب: ((هو انتفاء الطمع))..
وقال ابن الجوزي: ((القطعُ على أنَّ المطلوب لا يتحصلُ لتحقق فواته)).
فهذا هو اليأس.
وقد ذكر بعض المفسرين أن اليأس في القرآن العظيم على وجهين:
فقد قال أبو هلال العسكريِّ: ((الفرق بين اليأس والقنوط والخيبة:
أنَّ القنوطَ: أشدُّ مبالغةً من اليأس.
وأمَّا الخيبة: فلا تكون إلا بعد الأمل؛ إذ هي امتناع نَيْلِ ما أُمِلَّ.
وأما اليأس: فقد يكون قبل الأمل وقد يكون بعده)).
والرجاء واليأس نقيضان يتعاقبان تعاقب الخيبة والظفر, ويُستفاد مما ذكره ابن حجر: ((أنَّ اليأس ألا يأمُلَ في وقوعِ شيءٍ من الرحمة، وأنَّ القنوطَ تصميمٌ على عدم وقوعها)).
وقد عدَّ ابن حجر اليأس من رحمته تعالى من الكبائر مستدلًا بقوله سبحانه: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وبعد أنْ ذكرَ عددًا من الأحاديث المُبشِّرةِ بسَعةِ رحمته -عزَّ وجل- قال: ((عَدُّ هذا كبيرةً هو ما أجمعوا عليه ، وهو ظاهرٌ لما فيه من الوعيد الشديد)).
فاليأس من رَوح الله والقنوط من رحمة الله عزَّ وجل من كبائر الإثم ومن عظائم الذنوب.
القنوط: مصدر قولهم قَنَطَ يَقْنُطُ إذا يأس يأسًا شديدًا، وهو مأخوذٌ من مادة (ق ن ط) التي تدلُّ على اليأس من الشيء؛ يُقال: قَنَطَ يَقْنِطُ قُنُوطَا مثلُ جلس يجلِس جلوسًا، وكذلك قَنَطَ يَقْنُطُ مثل قعد يقعُد فهو قانِطٌ، وفيه لغةٌ ثالثة: قَنِطَ يَقْنَطُ قَنَطا مثل تعِبَ يتعب تعبا، وقَناطةً فهو قَنِطْ.
قال تعالى: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55]، أي اليائسين من الولد.
وكان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قد يئسَ من الولد لفَرْطِ الكِبَر، وأمَّا قَنَطَ يَقْنَطُ بالفتح فيهما وقَنِطَ يَقْنِطُ بالكسر فيهما؛ فإنَّما هو على الجمعِ بين اللّغتين.
قال ابن الأثير: ((القنوطُ هو أشدُ اليأس من الشيء)).
وقيل القنوط: اليأس من الخير.
وقيل: أشدُّ اليأس من الشيء.
وقيل: شرُّ الناس الَّذين يُقَنِّطون الناس من رحمةِ الله -أي يؤيسونهم-.
في فتح المجيد: ((القنوط هو استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله ، وكلاهما ذنب عظيم وينافيان كمال التوحيد)).
قال المناوي: ((القنوط: هو اليأس من الرحمة)).
وقال العز: ((القنوط استصغار لسعة رحمة الله -عزَّ وجل- ومغفرته، وذلك ذنب عظيم وتضييق لفضاء جُوده تعالى)).
وأما حكم القنوط:
فقد قال ابن حجر: ((سوءُ الظن بالله تعالى والقنوط من رحمته من الكبائر". واستدل بقوله -جلَّ وعلا- في القنوط: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجر: 56].
وقال: عدُّ سوء الظن والقنوط كبيرتين مغايرتين لليأس هو ما ذهب إليه الجلال البُلقيني وغيره، والظاهر أن القنوط أبلغ من اليأس، للترقي إليه في قوله تعالى: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
وقد اتفقوا على أنَّ الشخص الَّذي يئس من وقوع شيء من الرحمة له مع إسلامه، فاليأسُ في حقهِ كبيرة اتفاقًا، ثم هذا اليأس قد ينضم إليه حالةٌ هي أشدُّ منه، وهي التصميمُ على عدم وقوع الرحمة له وهو القنوط، ثم قد ينضم إلى ذلك أنَّ اللهَ يُشدِّد عقابه له كالكفار وهذا هو المراد بسوء الظن هنا)).
فهذا هو الفرق بين اليأسِ والقنوط وسوءِ الظن بالله -جلَّ وعلا-:
اليأسُ: انقطاع الأمل, وانتفاء الطمع, يُقال: يَئِسَ منه يأسًا ويآسةً؛ أي انقطع أمله منه وانتهى طمعه فيه, فهو يائِسٌ ويَؤُسٌ ويَئِسْ, ومِثْلُ يئِسَ: أَيِسَ أَيَسًا وإياسًا فهو آيسٌ وِأيِسْ.
والقنوط: أشد اليأس يقال قَنِطَ يِقْنَطُ قُنُوطًا وقَنَاطةً, وهو انقطاع الأمل وفقْدُ الرجاء وانتفاء الطمع, وهذه الحال إذا تعلقت بالله -عزَّ وجلَّ- كانت معصية كبيرة واعتقادا باطلًا لأنها تَنِمُّ عن سوء الظن بالله -عزَّ وجل-، وتشير إلى نسبة العجز إليه تعالى، وهذا ضلالٌ مبين, لذلك نهى عنه الدين وأخبر القرآن أنه لا يصدرُ إلا من كافر قال الله -جلَّ وعلا-: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
ورَوحُ الله هنا رحمته , رحمتهُ التي وسعت كل شيء، فلا يجوز الوقوفُ منها موقف اليأس والقنوط مهما اشتدت بالإنسان المِحَنْ وتكالبت عليه الرزايا؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- قادرٌ على خلقِ الفرج وتفريج الكَرْب وتبديد الخطوط، والشكُ فى ذلك مدعاةٌ لنسبة النقص والعجز إلى الله تعالى, واعتقادُ ذلك بالله عزَّ وجلَّ كفرٌ بجلالهِ وكمالهِ وعظيمِ سلطانه.
ولقد نهى الله -عزَّ وجلَّ- عن هذا اليأس وذلك القنوط مهما كانت الحالُ التي وصل إليها العبد واستقرت فيها الشدة.
لقد ذكر الله عزَّ وجلَّ أحوالًا لعباده بلغ فيها بعضُهم مبلغ الحرج وكادوا فيها أن يستسلموا لليأس فجَاءهم بعد ذلك الفرج وأنعم الله عليهم بتبديد الشدائد وإزالة الكُرَبْ.
بعد هذا الزلزال الذي مَلأَ قلوب المؤمنين وبعد تلك البأساء والضراء التي ركِبتهم من كلِّ جانبٍ؛ جاء نصرُ الله، والله على كلِّ شيءٍ قدير, فأمام هذه القدرة الربانية لا يجوز أن يتسرب إلى النفوس اليأس ولا أن يستحكمَ فيها القنوط ما دامت قدرة الله -عزَّ وجلَّ- أقوى من كل الشدائد والمِحَنْ، وما دام سلطانه فوق كل هذا الوجود: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
يخبر -تبارك وتعالى- أنه لابد أن يَمتحنَ عبادَه بالسرَّاءِ والضرَّاءِ والمشقة , لابد من هذا الامتحان كما فعَلَ بمن قَبلهم فهي سنتهُ الجارية التي لا تتبدل ولا تتغير؛ أنَّ من قام بدينه وشرعه لابد أنْ يبتليَه, فإنْ صبرَ على أمر الله ولم يبالي بالمكاره الواقفة في سبيلهِ؛ فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالَهَا، ومن السيادة آلتَهَا.
ومَن جعلَ فتنةَ الناس كعذاب الله، بأنْ صدتُّه المكاره عن ما هو بصدده، وثَنَته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان؛ فإنه ليس الإيمان بالتحلي وليس الإيمان بالتمني ومجرد الدعاوى، حتى تُصدِّقه الأعمال أو تكذِّبه، فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر اللهُ عنهم {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاءُ} أي الفقر والأمراض في أبدانهم، {وَزُلْزِلُواْ} بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطئوا نصر الله مع يقينهم به ولكن لشدة الأمر وضيقه قال: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ}، فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.
فهكذا كلُ من قام بالحقِ فإنَّه يُمْتَحن، فكلما اشتدتْ عليه وصعبتْ، إذا صبر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنةُ في حقه مِنحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء، وشفاءِ ما في قلبه من الداء.
وقد بينََّ الله -سبحانه وتعالى- في موضعٍ أخر من كتابه الحالَ التي أدركت أصحابَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يوم حاصرَهم الأحزابُ في المدينةِ، وهم عند الخندق الذي حفروه للدفاع عن وجودِهم وحمايةِ بلدِهم من تألُّبِ الأعداء عليهم، وبيَّنَ لوامعَ البِشْر، ومسالك النصر الذي آتاهم الله -عزَّ وجل- قال الله -جلَّ وعلا-: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].
قال الله تعالى في تبديد هذه المخاوف وكسْرِ عصا هذه الجموع: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]. وقال أيضًا في هذا الشأن: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25-27].
فالزلزلةُ والاضطراب والخوفُ وبلوغُ الرعب والشدة قلوب العباد جائزٌ على العباد, أما اليأس والقنوط من رحمة الله ومن إدراك عبادهِ بالفرج فحرامٌ غيرُ جائز؛ لأن حالَ العبد غير حالُ الرب -جلَّ وعلا-, فما يعجِزُ عنه العباد لا يعجِزُ عنه خالقهم، وهو القاهر فوق عباده وهو القادر القدير على كل شيء.
يخبرُ اللهُ عبادَه المسرفين بوسيع كرمهِ وسعةِ رحمته، ويحثُّهُم على الإنابةِ قبل ألا يُمكنهم ذلك، فقال جلَّ وعلا-: قُلْ يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة إلى دين الله -جلَّ وعلا- مخبرًا للعباد عن ربهم: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب والسعي في مساخط علام الغيوب، {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}: لا تيأسوا منها فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة وتقولوا قد كثُرَت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يُزيلها ولا سبيلٌ يصرفها فتبقون بسبب ذلك مُصرين على العصيان مُتزودين ما يُغضِب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعًا من الشرك والقتل والزنا والربا والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار.
{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: أي وصفْه المغفرة والرحمة وصفان لازمان ذاتيان لا تنفك ذاته عنهما أبدًا ، ولم تزل آثارهما ساريةً في الوجود، مالئةً للموجود، تسِّح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجَهار ، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبَتْه.
ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب، إنْ لم يأتي بها العبد؛ فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمُها وأجلها، بل لا سبب لها غيره؛ الإنابة إلى الله بالتوبة النَصوح والدعاء والتضرع، والتأله والتعبد، فهَلُمَ إلى هذا السبب الأجلّ، والطريق الأعظم .
ولهذا أمر تعالى بالإنابة إليــه، والمبادرة إليهــا، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَــى رَبِّكُــــمْ} بقلوبكم، {وَأَسْلِمُـــوا لَــــهُ} بجوارحكم، إذا أُفـردت الإنابة؛ دخلت فيــها أعمـال الجوارح، وإذا جُمع بينهما كما في هذا الموضع؛ كـــان المعنـــى كمــا مرَّ.
وفــي قــولــه: {إِلَى رَبِّكُـمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} دليــلٌ عـــلى الإخلاص، وأنـه مــــن دون إخــلاص لا تفيــدُ الأعمال الظاهرة والباطنة شيئًا، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ} مجيــئًا لا يُــدفــــع، {ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 54]، فكأنــــه قيـل: ما هي الإنابة والإسلام؟ وما جزئياتُها وأعمالها؟
فأجــاب تعـــالى بقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} [الزمر: 55]، ممـا أمركم مـــن الأعمال الباطنة كمحبةِ اللّه وخشيتهِ وخوفهِ ورجائهِ، والنصـحِ لعبـــاده، ومحبةِ الخير لهم، وتركِ ما يُضـاد ذلك، ومـن الأعمـــالِ الظــاهــرة كالصلاةِ والزكاةِ والصيام والحـج والصدقة وأنواع الإحسان ونحو ذلك مما أمر اللّه به، وهو أحسن ما أُنزل إلينا من ربنا، فالمتتبع لأوامــر ربــه فـي هــذه الأمــور ونحوها هو المنيب المسلـــم، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].
وكلُّ هـذا حثٌّ على المبادرة وانتهاز الفرصة.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- سُئل عن الكبائر، فقال: ((الشرك بالله, واليأس من رَوح الله, والأمن من مكر الله)).
أخرجه البزار وابن أبي حاتم وهو حديثٌ حسن, أخرجه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب ابن بِشر عن عِكرمة عن ابن عباس ورجاله ثقاتٌ إلا شبيب ابن بشر؛ فقال ابن معين: ثقة وليَّنه أبو حاتم, وقال ابن كثير: ((في إسناده نظر))، والأشبه أن يكون موقوفًا على ابن عباس -رضي الله عنهما-.
قوله ((الشرك بالله)): هو أكبر الكبائر.
قال الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ((الشرك بالله هضمٌ للربوبية وتنقُّصٌ للإلهية، وسوءُ ظنٍّ برب العالمين)).
ولقد صدق ونصح -رحمه الله تعالى-.
قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
*وقوله: ((واليأس من رَوْحِ الله)): أي قطعُ الرجاءِ والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه، وذلك إساءةُ ظن بالله -جلَّ وعلا- وجهلٌ به وبسعةِ رحمته وجوده ومغفرته.
*وقوله: ((والأمن من مكر الله)): أي من استدراجه للعبد وسلْبهِ ما أعطاه من الإيمان -نعوذ بالله من ذلك-، وذلك جهل بالله وبقدرته، وثقةٌ بالنفس وعُجْبٌ بها.
وهذا الحديث لم يُرِدْ به حصر الكبائر في الثلاث المذكورة؛ بل الكبائر كثيرة، وهذه الثلاثُ من أكبرِ الكبائر المذكورة في الكتاب والسُّنة.
وضابطها ما قاله المحققون من العلماء: ((كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنةٍ أو غضبٍ أو عذاب)).
وزاد شيخ الإسلام -رحمه الله-: ((أو نفي الإيمان ومن برئ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو قال: ((ليس منا من فعل كذا))، فهذه كلُّها من الكبائر)).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ((هي إلى سبعمائة أقرب إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار)).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله)).
رواه عبد الرزاق والطبري في ((التفسير)) والطبراني في ((الكبير)) وهو حديث صحيح موقوفٌ عليه -رضي الله تعالى عنه-.
إلاَّ أنه لا ينبغي لنا أن يؤدي بنا الخوفُ إلى القنوطِ من رحمة الله -تبارك وتعالى-, مع أنَّ الخوفَ من الله من أجلِّ منازل السائرين إلى رب العالمين.
قال الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ((منزلة الخوف من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهي من أجلِّ المنازل وأنفعِها للقلب , والخوف من الله فرضٌ على كل أحد.
قال الله -عزَّ وجل-: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41].
وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
وعلى قدرِ العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال النبي: ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)): وفى رواية ((خوفا)).
وقال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصُّعدَات تجأرون إلى الله تعالى)).
فصاحب الخوف: يلتجئ إلى الهرب والإمساك، وصاحبُ الخشية: يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، ومثَلُهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجئ إلى الحِميةِ والهرب، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء.
قال أبو حفص: ((الخوف سوطُ الله يُقوِّمُ الله به الشاردين عن بابه)).
وقال: ((الخوف سراجٌ فى القلب به يُبصِرُ ما فيه من الخير والشر)).
وكلُّ أحدٍ إذا خِفْتَه هربتَ منْهُ إلاَّ الله، فإنك إذا خِفْتَه هربتَ إليه، فالخائفُ هاربٌ من ربِّه إلى ربِّه.
كلُّ أحدٍ إذا خِفْتَه هربتَ منْهُ إلاَّ الله، فإنك إذا خِفْتَه هربتَ إليه، فالخائفُ هاربٌ من ربِّهِ إلى ربه.
وما فارق الخوفُ قلبًا إلا خَرِب.
قال إبراهيم ابنُ شَيبان: ((إذا سكن الخوف القلوبَ أحرق مواضعَ الشهواتِ فيها و طرد الدنيا عنها)).
الناس على الطريق ما لم يزُل الخوف، فإذا زالَ عنهم الخوف ضلُّوا الطريق.
لا تغترَّ بمكانٍ صالح فلا مكان أصلحُ من الجنة ولقيَ آدمُ فيها ما لقي، ولا تغترَّ بكثرةِ العبادة فإنَّ إبليس بعد طولِ العبادة لقيَ ما لقي، ولا تغترَّ بكثرةِ العلم فإنَّ بَلعامَ لقيَ ما لقيَ وكان يَعرف الاسم الأعظم كما رُوى في تلك القصة، ولا تغترَّ بلقاءِ الصالحين ورؤيتهم، فلا شخص أصلحُ من النبي -صلي الله عليه وسلم- ولم ينتفع بلقائِه أعدائُهُ والمنافقون.
والخوفُ ليس مقصودًا لذاته؛ بل هو مقصودٌ لغيرِهِ قصدَ الوسائل، ولهذا يزول بزوال المَخوف، فإنَّ أهلَ الجنة لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
الخوفُ يتعلقُ بالأفعال والمحبةُ تتعلق بالذات والصفات؛ ولهذا تتضاعف محبةُ المؤمنين لربِّهم إذا دخلوا دارَ النعيم ولا يلحقهم فيها خوف؛ ولهذا كانت منزلةُ المحبة و مقامُها أعلى وأرفع من منزلةِ الخوفِ ومقامه.
والخوف المحمودُ الصادقُ ما حَالَ بين صاحبه و بين محارم الله -عزَّ وجل-، فإذا تجاوز ذلك؛ خيفَ منهُ اليأس و القنوط.
الخوف المحمودُ الصادق ما حال بين صاحبه و بين محارم الله عزَّ وجل، فإذا تجاوز ذلك خيفَ منهُ اليأس و القنوط.
قال أبو عثمانَ -رحمه الله-: ((صِدقُ الخوف هو الورعُ عن الآثامِ ظاهرًا وباطنًا)).
قال الإمامُ العلامةُ ابن القيم -رحمه الله-: سمعتُ شيخَ الإسلام -قدَّسَ اللهُ روحَه- يقول: ((الخوف المحمود ما حجزك عن محارمِ الله)).
فاعلم أيها الأخُ الحبيب أنَّ الخوفَ واجبٌ، يجبُ عليك أنْ تخافَ مِنْ الله، والخوفُ المحمودُ الصادق مَا حَجَزَكَ عن محارمِ الله، إنْ لم تأتِ بهذا الخوف على هذا النَّحو؛ عُوقبتَ؛ لأنك لم تأت بواجبٍ أوجبهُ اللهُ عليك وفَرَّطتَ في حقٍ أحقَّهُ اللهُ عليك.
واعلم أيها الأخ الحبيب أنَّ اليأس مِنْ رَوحِ الله وأنَّ القنوطَ مِن رحمتهِ مِنْ كبائرِ الذنوبِ و مِنْ عظائمِ الإثم، فإنْ تورطتَ في ذلك تورطتَ في كبيرةٍ مِنْ كبائرِ الإثمِ وعظيمةٍ مِنْ عظائمِ الذنوب.
فنسألُ اللهَ أنْ يُعلمنا ديننا و أنْ يُمَسَّكَنا به، إنَّه تعالى علي كل شيءٍ قدير وصلي اللهم وسلم علي نبينا محمدٍ وعلي آله وأصحابه أجمعين.