فإنَّ الإنسانَ قد يُخفي ما لا يرضاهُ اللهُ -عز وجل-؛ فيُظهرُهُ اللهُ سبحانه عليه ولو بَعْدَ حِين، ويُنْطِقُ الألسنةَ به، وإنْ لم يُشاهدُهُ الناس.
ورُبَّما أوقعَ صاحبَهُ في آفةٍ يفضحُهُ بها بين الخّلْقِ؛ فيكونُ جوابًا لكلِّ ما أخْفَى مِن الذنوب، وذلك ليَعلمَ الناسُ أنَّ هنالك من يُجازى على الزَّلل، ولا ينفعُ مِن قَدَرِهِ وقُدرتِهِ حِجابٌ ولا استتار، ولا يُضاعُ لديه عَمَلٌ.
وكذلك يُخْفِي الإنسانُ الطاعة؛ فَتَظْهَرُ عليه، ويتحدثُ الناسُ بها وبأكثرَ مِنها، حتى إنهم لا يعرفونَ له ذَنْبًا، ولا يذكرونَهُ إلا بالمَحاسن؛ لِيَعْلَمَ أنَّ هنالك ربَّا لا يُضيعُ عَمَلَ عامل.
وإنَّ قلوبَ الناسِ لَتَعْرِفُ حالَ الشخصِ وتُحبُّهُ، أو تَأْبَاهُ وتَذمُّهُ، أو تمدحُهُ وَفْقَ ما يتحققُ بينه وبين اللهِ تعالى، فإنه يكفيه كلَّ همٍّ، ويدفعُ عنه كلَّ شرٍّ.
وما أصلحَ عبدٌ ما بينَهُ وبين الخَلْقِ دونَ أنْ ينظرَ إلى الحقِّ إلا انعكسَ مقصودُهُ، وعادَ حَامِدُهُ ذَامَّا.
والولايةُ أصلُها الحُبُّ، فلا موالاةَ إلا بحُبٍّ، كما أنَّ العداوةَ أصلُها البُغْض، واللهُ وليُّ الذين آمنوا وهُم أولياؤُهُ، فهم يوالونهُ بمحبتِهم له، وهو يواليهم بمحبتِهِ لهم، فاللهُ تعالى يُوالي عَبدَهُ بحَسَبِ محبتِهِ له .
ولهذا أَنْكَرَ سبحانه على مَن اتخذَ مِن دونِهِ أولياء، بخِلافِ مَن وَالَى أولياءَهُ، فإنه لم يتخذُهم أولياءَ مِن دونِهِ، بل موالاتُهُ لهم مِن تمامِ موالاتِهِ .
وَأَيْضًا فَمَطَالِبُكَ -بَلْ مَطَالِبُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا- لَدَيْهِ، وَهُوَ تعالى أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، إلى غيرِ ذلك مما أنعمَ اللهُ تعالى به على العبادِ مِن غيرِ استحقاقٍ منهم لشيئٍ مِن ذلك، وإنَّما هو مَحْض جُودِهِ وبِرِّهِ وعطاءِهِ ومَنِّهِ.
فَكَيْفَ لا تُحِبُّ الْقُلُوبُ مَنْ لا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ، وهو -تباركَ وتعالى-، أرحمُ بعبدِهِ مِن الوالدةِ بولدِهَا، وأشدُّ فَرَحًا بتوبةِ التائبِ مِن الفاقدِ لراحلتِهِ التي عليها طعامُهُ وشَرَابُهُ في الأرضِ المُهلِكةِ إذا يئسَ من الحياةِ ثم وَجَدَهَا.
وها هنا أمرٌ كبير هو أنَّ الكبيرةَ مِن كبائرِ الإثمِ قد يقترنُ بها مِن الحياءِ والخوفِ والاستعظامِ لها ما يُلْحِقُهَا بالصغائر، وقد يقترنُ بالصغيرةِ مِن قِلَّةِ الحياءِ، وعدمِ المبالاة، وتَرْكِ الخوفِ والاستهانة بها ما يُلْحِقُها بالكبائرِ، بل يجعلُها في أعلى رُتبِها، وهذا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ إلى ما يقوم بالقلب، وهو قَدْرٌ زائدٌ على مَجرَّدِ الفِعْلِ، والإنسانُ يعرفُ ذلك من نفسِهِ ومِن غيرِهِ.
وأيضًا فإنه يُعْفَى للمحبِّ ولصاحبِ الإحسانِ العظيمِ ما لا يُعْفَى لغيرِهِ، ويُسامَحُ بما لا يُسَامَحُ به غيرُهُ.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «انظر إلى موسى -صلوات الله وسلامه عليه- رَمَى الألواحَ التي فيها كلامُ اللهِ الذي كَتَبَهُ بيدِهِ فكَسَرَهَا، وجَرَّ بلحيةِ أخيه -نبيٍّ مِثْلِهِ ورأسِهِ وهو هارون-، وَلَطَمَ عينَ مَلَكِ الموتِ فَفَقَأَهَا، وعَاتبَ ربَّهُ ليلةَ الإسراءِ في محمَّدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وَرَفْعِهِ عليه، وربُّهُ تعالى يحتملُ له ذلك كُلَّهُ، ويحبُّهُ ويُكرمُهُ ويُدلِّلُـــهُ، لأنه قامَ للهِ تعالى تلك المقاماتِ العظيمةَ في مقابلةِ أَعْدَى عدوٍّ له، وصَدَعَ بأَمْرِهِ، وعالجَ أمَّةَ القِبْطِ و أمَّة بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشَّعرةِ في البحر.
وانظر إلى يونسَ بن متَّى حيث لم تَكُن له هذه المقامات التي لمُوسى -صلى الله عليه وسلم-، غاضَبَ ربَّهُ مرَّةً، فأخذَهُ وسَجَنَهُ في بطنِ الحوت، ولم يحتمل له ما احتملَ لموسى، وفَرْقٌ بين مَن إذا أتى بذنبٍ واحدٍ، ولم يكُن له من الإحسانِ والمحاسن ما يشفعُ له، وبين مَن إذا أتى بذنبٍ جاءت محاسنُهُ بكلِّ شفيعِ، كما قيل :وَإِذَا الحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ... جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ».
فالأعمالُ تشفعُ لصاحبِها عند الله وتُذَكِّرُ به إذا وقعَ في الشدائد.
قال تعالى عن ذي النون: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ]الصافات: 143-144[.
وفرعونُ لما لم تكن له سابقة خيرٍ تشفعُ له، قال تعالى ذَاكِرًا ما قاله: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾ ]يونس: 90[، قال له جبريل ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ ]يونس: 91[.
وفى المسند عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: أنه قال «إنَّ ما تذكرونَ مِن جلالِ اللهِ مِن التسبيحِ والتكبيرِ والتحميدِ يتعاطفنَ حولَ العرشِ، لهن دَويٌّ كدويِّ النحلِ يُذَكِّرنَ بصاحبهن، أفلا يُحبُّ أحدُكم أنْ يكونَ له من يُذَكِّرُ به». أخرجه أحمد وابن ماجه وغيرهما باسناد حسن.
ولهذا مَن رَجَحَت حسناتُهُ على سيئاتِهِ؛ أَفلحَ ولم يُعَذَّب ووُهِبَت له سيئاتُهُ لأجلِ حسناتِهِ، ولأجلِ هذا يغفرُ لصاحبِ التوحيدِ ما لا يغفرُ لصاحبِ الإشراكِ؛ لأنه قد قامَ به مما يُحبُّهُ اللهُ ما اقتضى أنْ يَغفرَ له ويُسامحُهُ ما لا يُسامح به المشرك، وكلما كان توحيدُ العبدِ أعظمُ؛ كانت مغفرةُ اللهِ له أَتَمَّ، فمَن لَقيَهُ لا يشرك به شيئًا البتَّة؛ غَفَرَ له ذنوبَهُ كلَّها كائنةً ما كانت ولم يُعذَّب بها، ولا يقولُ العلماءُ: إنه لا يدخل النارَ أحدٌ مِن أهلِ التوحيد، بل كثيرٌ مِن أهلِ التوحيدِ يدخلُ بذنوبِهِ ويُعذَّبُ على مقدارِ جُرْمِهِ ثم يخرجُ من النار، ولا تنافي بين الأمرين لِمَن أحاطَ عِلمًا بما مَرَّ.
وها هنا إيضاحًا لهذا المقامِ يوضحُ هذا الأمر الكبير: اعلم أنَّ أشعةَ لا إله إلا الله تُقطعُ من ضبابِ الذنوبِ وغَيْمِها بقَدْرِ قوةِ ذلك الشعاع وضَعْفِهِ، فلها نورٌ، وتفاوتُ أهلِ لا إله إلا الله في ذلك النور قوةً وضَعْفًا لا يحصيهُ إلا اللهُ تعالى، فمِن الناسِ: مَن نورُ هذه الكلمةِ الطيبةِ في قلبِهِ كالشمسِ ومنهم: مَن نورُها في قلبِهِ كالكوكبِ الدُّريِّ ومنهم: مَن نورها في قلبِهِ كالمِشْعلِ العظيم، وآخر: كالسراجِ المُضيء، وآخرُ كالسراجِ الضعيفِ، ولهذا تظهرُ الأنوارُ يوم القيامة بأيمانِهم وبين أيديِهم على هذا المقدارِ بحَسَبِ ما في قلوبِهم من نورِ هذه الكلمة عِلْمًا وعَمَلًا ومعرفةً وحالًا، وكُلما عَظُمَ نورُ هذه الكلمة -كلمة لا إله إلا الله- واشتدَّ؛ أَحْرَقَ مِن الشُّبُهاتِ والشهواتِ بحَسَبِ قوتِهِ وشِدَّتِهِ حتى إنه ربما وصلَ إلى حالِ لا يُصادفُ معها شُبهةً ولا شهوةً ولا ذنبًا إلا أحرقَهُ، وهذا حالُ الصادقِ في توحيدِهِ الذي لم يُشرك باللهِ شيئًا، فأيُّ ذنبٍ أو شهوةٍ أو شُبهةٍ دَنَت مِن هذا النورِ؛ أَحرَقَهَا، فسماءُ إيمانِهِ قد حُرِسَت بالنجومِ مِن كلِّ سارقٍ لحسناتِهِ، فلا ينالُ منه السارقُ إلَّا على غِرَّةٍ وغَفْلَةٍ لابد منها للبَشَرِ، فإذا استيقظَ وعَلِمَ ما سُرِق منه؛ استنقذَهُ مِن سارقِهِ أو حَصَّلَ أضعافُهُ بكَسْبِهِ، فهو هكذا أبدًا مع لصوصِ الجنِّ والإنسِ ليس كمَن فتحَ له خزانئنَهُ ووَلَّى البابَ ظَهْرَهُ.
وليس التوحيد مجرد لإقرارِ العبدِ بأنه لا خالقَ إلا الله وأنَّ اللهَ ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكَهُ كما كان عُبَّادُ الأصنامِ مُقرِّينَ بذلك وهم مشركون، بل التوحيدُ يتضمنُ مِن محبةِ اللهِ والخضوعِ له والذُّلِّ له وكمالِ الانقيادِ والطاعةِ وإخلاصِ العبادةِ له وإرادةِ وجهِهِ الأعلى بجميعِ الأقوالِ والأعمالِ والمنعِ والعطاءِ والحُبِّ والبُغضِ ما يحُول بين صاحبِهِ وبين الأسبابِ الداعيةِ إلى المعاصي والإصرارِ عليها، ومَن عَرَفَ هذا عَرَفَ قَوْلَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ على النارِ مَن قالَ: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وَجْهَ الله» وقَوْلَهُ: «لا يدخلُ النارَ مَن قال: لا إله إلا الله»، وما جاءَ مِن هذا الضَّرْبِ مِن الأحاديثِ التي أشكلت على كثيرٍ مِن الناسِ حتى ظَنَّهَا بعضُهم مَنْسوخة وظَنَّها بعضُهم قِيلت قَبْلَ ورودِ الأوامرِ والنواهي واستقرارِ الشرعِ وحَمَلَهَا بعضُهم على نارِ المشركين والكفار، وأَوَّلَ بعضُهم الدخولَ بالخلودِ وقال: المعنى لا يدخلُها خالدًا، إلى غيرِ ذلك مِن التأويلات المُسْتَكْرَهَة.
والنبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يجعل ذلك حاصلًا بمجرد قولِ اللسانِ فقط، فإنَّ هذا خِلافُ المعلومِ بالاضطرارِ مِن دينِ الإسلامِ، فإنَّ المنافقينَ يقولون: لا إله إلا الله بألسنتِهم وهُم تحتَ الجاحدينَ لها في الدَّرْكِ الأسفلِ مِن النارِ، فلابدَّ مِن قَوْلِ القلبِ وقَوْلِ اللسانِ.
وقَوْلِ القلبِ: يتضمنُ مِن معرفتِها والتصديقِ بها ومعرفة حقيقة ما تضمنتهُ من النفي والإثباتِ ومعرفة حقيقةِ الإلهيةِ المنفيةِ عن غيرِ اللهِ المُختصةِ به التي يستحيلُ ثبوتُها لغيرِهِ وقيام هذا المعنى بالقلبِ عِلْمًا ومَعرفةً ويقينًا وحالًا: ما يُوجبُ تحريمَ قائلِها على النارِ، وكلُّ قولٍ رَتَّبَ الشارعُ ما رَتَّبَ عليه مِن الثوابِ، فإنما هو القولُ التام كقولِهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: «مَن قال في يوم: سبحان الله وبحمدِهِ مائة مرة حُطَّت عنه خطاياهُ ولو كانت مِثْل زَبَدِ البحر» وليس هذا مُرتبًا على مجردِ القولِ اللسانِي، نَعَم مَن قالها بلسانِهِ غافلًا عن معناها مُعرِضًا عن تَدبُّرِها ولم يواطىء قلبُهُ لسانَهُ ولا عَرَفَ قَدْرَهَا وحقيقتَها راجيًا مع ذلك ثوابها؛ حُطَّت من خطاياه بحَسَبِ ما في قلبِهِ، فإنَّ الأعمالَ لا تتفاضلُ بصورِها وعددِها وإنما تتفاضلُ الأعمالُ بتفاضلِ ما في القلوبِ فتكونُ صورةُ العَمليْن واحدة وبينهما من التفاضلِ كما بين السماءِ والأرضِ، والرَّجلانِ يكون مقامُهما في الصفِّ واحدًا وبين صلاتيهما كما بين السماءِ والأرض.
وتأمل حديثَ البطاقة التي توضعُ في كِفَّةِ ويقابلُها تَسعةٌ وتسعون سِجلًّا، كلُّ سِجلٍّ منها مَدَّ البصرِ، فتَثْقُلُ البطاقةُ وتَطيشُ السِّجلَّات؛ فلا يُعَذَّبُ، وإذا في البطاقةِ مكتوب: لا إله إلا الله، ومعلومٌ أنَّ كلَّ مُوحدٍ فَلَهُ مِثْلَ هذه البطاقة وكثيرٌ منهم يدخلُ النارَ بذنوبِهِ، ولكنَّ السرَّ الذي ثَقَّلَ بطاقةَ ذلك الرَّجُل وطاشت لأجلِهِ السِّجِلَّات: لمَّا لم يحصُل لغيرِهِ مِن أربابِ البطاقاتِ؛ انفردت بطاقتُهُ بالثِّقَلِ والرَّزَانَةِ، وإذا أردت إيضاحَ المعني بزيادةِ إيضاحٍ؛ فانظر إلى ذِكْرِ مَن قلبُهُ ملآن بمحبتِك وذِكْرِ مَن هو مُعرِضٌ عنك غافلٌ سَاهٍ مشغول بغيرِك قد انجذبَت دواعي قلبِهِ إلى محبةِ غيرِك وإيثارِهِ عليك، هل يكونُ ذِكْرُهما لك واحدًا أمْ هل يكونُ ولداكَ اللذان هما بهذه المثابة أو عَبْدَاك عندك سواء؟!
وتأمل ما قامَ بقلبِ قاتلِ المائة مِن حقائق الإيمانِ التي لم تشغلهُ عند السياق عن السيرِ إلى القريةِ وحملتهُ وهو في تلك الحال على أنْ جَعَلَ ينوءُ بصدرِهِ ويعالجُ سكرات الموتِ، فهذا أمرٌ آخر وإيمانٌ آخر ولا جَرَمَ أُلْحِقَ بالقريةِ الصالحةِ وجُعِلَ من أهلِها.
وقريبٌ مِن هذا: ما قامَ بقلبِ البغيِّ التي رَأَت ذلك الكلب وقد اشتدَّ به العطشُ؛ يأكلُ الثَّرَى فقامَ بقلبِها ذلك الوقت -مع عدمِ الآلةِ وعدمِ المُعين وعدمِ مَن تُرَائيه بعملِها- قامَ بقلبِها، حين ذاك ما حَمَلَهَا على أنْ غَرَّرَت بنَفْسِها في نزولِ البِئرِ وملءِ الماءِ في خُفِّها ولم تعبأ بتعرُّضِها للتلفِ وحَمْلِها له بفِيها وهو ملآن حتى أَمْكَنها الرُقيُّ مِن البئرِ، ثم ما كان مِن تواضعِها لذلك المخلوق الذى جَرَت عادةُ الناسِ بضربِهِ وطَرْدِهِ؛ فأمسكت له الخُفَّ بيدِها حتى شَرِبَ مِن غيرِ أنْ ترجو منه جزاءً ولا شكورًا، فأحرَقَت أنوارُ هذا القَدْرِ مِن التوحيدِ ما تَقدَّمَ مِنها مِن البِغَاءِ فغُفر لها.
فهكذا حالُ الأعمالِ والعُمَّالِ عند اللهِ، والغافلُ في غفلةٍ من هذا الإكسير الذي إذا وُضِعَ منه مِثقالُ ذَرَّةٍ على قناطير مِن نُحاسٍ الأعمالِ؛ قَلَبَهَا ذَهَبًا خالصًا.
نسألُ اللهَ ربَّ العالمين أنْ يرزقنا محبتَهُ، نسألُهُ تعالى أنْ يرزقنا حُبَّهُ، وحُبَّ مَن يُحبُّهُ، وحُبَّ شيءٍ يُقَرِّبُنَا إلى حُبِّهِ.
وصلى اللهُ وسَلَّم على نبيِّنا مُحمد وعلى آله وأصحابِهِ أجمعين.
فلا تَظُن إنَّ قولَهُ تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ ]الانفطار: 13-14[ مُختصٌّ بيومِ المَعَادِ فقط، بل هؤلاء في نعيمٍ في دُورِهم الثَّلاثة، وهؤلاءِ في جحيمِ في دُورِهم الثَّلاثة، وأيُّ لَذَّةٍ ونعيمٍ في الدنيا أَطْيَبُ مِن بِرِّ القلبِ وسلامةِ الصَّدرِ، ومعرفةِ الربِّ تعالى ومحبتِهِ، والعملِ على موافقتِهِ بطاعتِهِ؟
وهل يعيشُ في الحقيقةِ إلَّا عَيْشَ القلبِ السليم وقد أَثْنَى اللهُ تعالى على خليلِهِ -عليه السلام- بسلامةِ قلبِهِ فقال: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ]الصافات: 83-84[.
وقال حاكيًا عنه أنه قال: ﴿يوم يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ]الشعراء: 88-89[.
والقلبُ السليمُ هو الذى سَلِمَ مِن الشِّركِ والغِلِّ والحِقدِ والحسدِ والشُّحِّ والكِبْرِ وحُبِّ الدنيا والرِّياسة، فَسَلِمَ مِن كلِّ آفةٍ تُبعدُهُ عن اللهِ، وَسَلِمَ مِن كلِّ شُبهةٍ تُعارضُ خبرَهُ، ومِن كلِّ شهوةٍ تُعارضُ أَمْرَهُ، وَسَلِمَ مِن كلِّ إرادةٍ تزاحمُ مرادَهُ، وَسَلِمَ مِن كلِّ قاطعٍ يقطعُ عن اللهِ، فهذا القلبُ السليمُ فى جَنَّةٍ مُعَجَّلَةٍ فى الدنيا وجَنَّةٍ فى البَرْزَخِ وفى جَنَّةٍ يومِ المعادِ.
ولا تَتمُّ له سلامتُهُ مُطلقًا حتى يَسْلَمَ مِن خمسة أشياء: مِن شِركٍ يُناقضُ التوحيدَ، وبِدعةٍ تُخالفُ السُّنَّةَ، وشهوةٍ تخالفُ الأمرَ، وغفلةٍ تناقضُ الذِّكْرَ، وهَوَىً يناقضُ التجريدَ والإخلاصَ، وهذه الخمسة حُجُبٌ عن اللهِ، وتحت كلِّ واحدٍ منها أنواع كثيرة تتضمنُ أفرادًا لا تنحصر، ولذلك اشتدَّت حاجةُ العبدِ بل ضرورتُهُ إلى أنْ يسألَ اللهَ أنْ يهديَهُ الصراطَ المستقيم، فليس العبدُ أحوج منه إلى هذه الدعوة، وليس شيءٌ أنفع له منها، فإنَّ الصراطَ المستقيم يتضمنُ عُلُومًا وإرادةً وأعمالًا وتُروكًا ظاهرةً وباطنةً تجري عليه كلَّ وقتٍ، فتفاصيلُ الصراطِ المستقيمِ قد يعلمُها العبدُ وقد لا يعلمُها، وقد يكونُ ما لا يعلمُهُ أكثرَ ممَّا يعلمُهُ، وما يعلمُهُ قد يَقْدِرُ عليه وقد لا يَقْدِرُ عليه وهو الصراطُ المستقيمُ وإنْ عَجَزَ عنه، وما يَقْدِرُ عليه قد تُريدُهُ نَفْسُهُ وقد لا تريدُهُ كَسَلًا وتهاونًا و لقيامِ مانعٍ وغيرِ ذلك، وما تُريدُهُ قد يفعلُهُ وقد لا يفعلُهُ، وما يفعلُهُ قد يقومُ فيه بشروطِ الإخلاصِ وقد لا يقوم، وما يقومُ فيه بشروطِ الإخلاصِ قد يقومُ فيه بكمالِ المتابعةِ وقد لا يقوم، وما يقومُ فيه بالمتابعةِ قد يَثْبُتُ عليه وقد ينصرفُ القلبُ عنه، وهكذا كلُّ واقعٍ في هذا السَّيْرِ العظيمِ إلى رَبِّ العالمين مُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ.
وليس فى طباعِ العبدِ الهدايةُ إلى ذلك، بل متي وُكِلَ إلى طباعِهِ حِيلَ بينهُ وبين ذلك كلِّهِ، وهذا هو الإركاسُ الذي أَرْكَسَ اللهُ به المنافقين بذنوبِهم فأَعَادَهُم إلى طباعِهم وما خُلِقَت عليه نفوسُهم مِن الجهلِ والظُّلمِ، والرَّبِّ -تباركَ وتعالى- على صراطٍ مستقيمٍ في قضائِهِ وقَدَرِهِ ونَهْيِهِ وأَمْرِهِ فيهدي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ بفَضْلِهِ ورحمتِهِ وجَعْلِهِ الهدايةَ حيثُ تَصْلُح، ويَصْرِفُ مَن يشاءُ عن صراطٍ مستقيم بعدلِهِ وحِكمتِهِ لعدمِ صلاحيةِ المَحَلِّ، وذلك مُوجَبُ صراطِهِ المستقيم الذي هو عليه.
فإذا كان يومُ القيامةِ نَصَبَ لخَلْقِهِ صِراطًا مُستقيمًا يُوصِلُهم إليه، فهو على صراطٍ مستقيم، ونَصَبَ لعبادِهِ مِن أَمْرِهِ صِراطًا مُستقيمًا دَعَاهُم جميعًا إليه حُجَّةً مِنْهُ وعدلًا، وَهَدَى مَن يشاءُ منهم إلى سلوكِهِ نِعمةً منهُ وفَضْلًا ولم يخرُج بهذا العدلِ وهذا القصدِ عن صراطِهِ المستقيم الذي هو عليه، فإذا كان يومُ لقائِهِ؛ نَصَبَ لخَلْقِهِ صِراطًا مستقيمًا يُوصِلُهُم إلى جَنَّتِهِ ثم صَرَفَ عنه مَن صُرِفَ عنه فى الدنيا، وأقامَ عليه مَن أقامَهُ عليه فى الدنيا، وَجَعَلَ نورَ المؤمنين به وبرسولِهِ وبما جاءَ به الذي كان فى قلوبِهم فى الدنيا نورًا ظاهرًا يسعى بين أيديِهم وبأيمانِهم فى ظُلْمةِ الحشرِ، وحَفَظَ عليهم نورَهُم حتى قطعوه كما حَفَظَ عليهم الإيمانَ حتى لَقَوْهُ، وأطفأَ نورَ المنافقين أَحْوَجَ ما كانوا إليه كما أَطفأهُ في قلوبِهم فى الدنيا، وأقامَ أعمالَ العُصاة بجَنَبَتي الصراطِ كلاليبَ وحَسَكًا تخطفُهم كما خَطَفَتْهُم فى الدنيا عن الاستقامةِ على الصراطِ المستقيمِ، وَجَعَلَ قوةَ سَيْرِهِم وسُرعتِهم عليه على قَدْرِ قوةِ سَيْرِهِم وسُرعتِهم إليه فى هذه الحياةِ الدنيا.
ونَصَبَ للمؤمنين حَوْضًا يشربونَ منه بإزاءَ شُرْبِهِم مِن شَرْعِهِ فى الدنيا، وحُرِمَ مِن الشُّربِ منه هنالك مَن حُرِمَ مِن الشُّربِ مِن شَرْعِهِ ودينِهِ ها هنا، فانظر إلى الآخرةِ كأنها رَأْى العَيْنٍ، وتأمل حكمةَ اللهِ سبحانهُ فى الدارين، تعلمُ حينئذٍ عِلمًا يَقينًا لاشك فيه أنَّ الدنيا مزرعة الآخرةِ وعنوانها وأُنموذجُها، وأنَّ منازلَ الناسِ فيها مِن السعادةِ والشقاوةِ على حَسَبِ منازلِهم فى هذه الدارِ في الإيمانِ والعملِ الصالحِ وضِدِّهما.
وما قَطَعَ العبدَ عن اللهِ تعالى سوى معاصيه، وهذه المعاصي يترتبُ عليها مِن العقوباتِ في الدنيا ما يترتب، وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ أو مغفرةٌ مِن اللهِ ربِّ العالمين وتجاوز.
ومِن عقوباتِ الذنوبِ أنها تُعْمِي القلوب، فإنْ لم تُعْمِي القلبَ؛ أَضْعَفَت بصيرتَهُ لابد، وقد تُضعفُهُ إلى الأبد، فإذا عَمِيَ القلبُ وضَعُفَ، فاتَهُ مِن معرفةِ الهُدى وقوتِهِ على تنفيذِهِ في نَفْسِهِ وفي غيرِهِ، بحَسَبِ ضَعْفِ بصيرتِهِ وقوتِهِ.
فإنَّ الكمالَ الإنسانيَّ مَدَارُهُ على أَصليْن: معرفةُ الحقِّ مِن الباطلِ، وإيثارُهُ عليه.
وما تفاوتت منازلُ الخَلْقِ عند اللهِ تعالى في الدنيا والآخرة إلَّا بِقَدْرِ تفاوتِ منازلِهم في هذين الأمرين.
وانقسمَ الناسُ في هذا المقامِ أربعةَ أقسامٍ، فهؤلاء أشرفُ الأقسامِ من الخَلْقِ وأَكَرَمِهم على الله.
*القسم الثاني: عكس هؤلاء، مَن لا بصيرةَ له في الدين، ولا قوة على تنفيذِ الحقِّ، وهُم أكثرُ هذا الخَلْقِ الذين رؤيتُهم قَذَىً العيون وحُمَّى للأرواحِ وسُقْمٌ للقلوب، يُضيِّقُونَ الديارَ ويُغْلُونَ الأسعارَ، ولا يُستفادُ بصُحبتِهِم إلا العَارُ والشَّنَار .
*القسم الثالث: مَن لهُ بصيرة بالحقِّ ومعرفة به، لكنَّهُ ضعيفٌ لا قوةَ له على تنفيذِهِ ولا الدعوةِ إليه، وهذا حالُ المؤمنِ الضعيف، والمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ تعالى منه .
*القسم الرابع: مَن له قوةٌ وهِمَّةٌ وعزيمة، لكنَّهُ ضعيفُ البصيرةِ في الدين، لا يكادُ يُميِّزُ بين أولياءِ الرحمن وأولياءِ الشيطان، بل يَحْسَبُ كلُّ سوداءَ تَمْرَة وكلَّ بيضاءَ شَحْمَة، يَحْسَبُ الوَرَمَ شَحْمًا والدواءَ النافعَ سُمًّا .
وليس مِن هؤلاء مَن يَصْلُحُ للإمامةِ في الدين، ولا هو موضعٌ لها سُوى القسم الأول، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ ]السجدة : 24 [.
فأخبرَ سبحانهُ أنه بالصبرِ واليقينِ نالوا الإمامةَ في الدين، وهؤلاء هُم الذين استثناهم اللهُ سبحانه من جُملةِ الخاسرين، وأقسمَ بالعَصْرِ -الذي هو زمنُ سَعْي الخاسرين والرابحين- على أنَّ مَن عَدَاهُم فهو مِن الخاسرين.
واللهُ -تبارك وتعالى- أَنْزَلَ على نبيِّنا -صلى الله عليه وآله وسلم- البيِّنَات والكتابَ المُنير، ودَلَّنَا به على الصراطِ المستقيم، وعلى العبدِ أن يُرَاجِعَ نَفْسَهُ، فإنَّ الأَجَلَ محسوبٌ لن يتقدمَ ولن يتأخر، إذا حُمَّ القضاء ونَفَذَ سَهْمُ الموتِ فلا مَرَدَّ لذلك؛ لأنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- قَسَّمَ الأرزاقَ وقَدَّرَ الآجالَ فلا زيادة في شيئٍ منهما بحالٍ مِن الأحوال.
«إنّ رُوحَ القُدُسِ قد نَفَثَ في رُوعِي: أنّه لنْ تَمُوتَ نفس حَتّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَها، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَها».
فلا أحدَ يموتُ قبلَ حينِهِ الذي قَدَّرَهُ اللهُ -تبارك تعالى- له، ولا أحدَ يتركُ شيئٍ مِن رِزْقِهِ: لا مِن الطعامِ، ولا مِن الشَّرَابِ، بل ولا مِن الهواءِ فهو رِزْقٌ يَرزقُهُ اللهُ -تبارك وتعالى- الأحياءَ.
وعلى الإنسانِ أنْ يقفَ وقفةً جادَّةً مع نَفْسِهِ وأنْ يتأملَ في الخَلْقِ مِن حَولِهِ ولينظر كيف أنَّ سهامَ الموتِ تُصيبُ مَن يُقَدِّرُ اللهُ -تباركَ وتعالى- إصابتَهُ، وقد تَرَى العينُ أنه بمَنْجَى مِن ذلك وبمَفازةٍ منهُ، ولكنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- فَعَّالٌ لِمَا يُريد.
وعلى الإنسانِ أنْ يتأملَ في ماضيِهِ كيف تَمُرُّ الأيامُ سِراعًا، وتزولُ السُّنون كأنْ لم تَكُن، وإذا هو أمامَ الموتِ كِفَاحًا لا يستطيعُ له رَدًّا ولا لهُ دَفْعًا.
وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين.