وفيه مع ذلك حماقةٌ ظاهرة، ولكنها ليست فيه بمعناها في الحمقى، بل بمعناها فيه هو، من: تواثُبِ الأفكار وتزاحمها في تواردها على العقل، فإذا تواثبت وتزاحمت؛ كان أمرُها إلى أن يُنسي بعضُها بعضًا.
فلا ينطلقُ منها إلا القويُّ، الأحمقُ -حقَّ حماقته- فيجيء كالمُنْقَطِعِ مما قبله، فيُحسبُ ذلك حماقةً، وما هو بها.
وقد رُوِّينا أن رجلاً كان ثَرِيًّا، غنيًّا، وعُمِّرَ حتى أدركه الخَرَفُ، فجاءه كاتبُه يومًا يستعينه على تجهيز أمه -وقد ماتت-، فدفعَ الثَرِيُّ إلى غلامٍ له دنانيرَ يشتري بها كَفَنًا، ودنانيرَ أخرى يتصدقُ بها عند القبر، ثم قال لغلامٍ آخر: امضِ إلى صاحبنا، وغاسِل موتانا فلان، فادعُه يُغَسِّلها.
قال الكاتبُ: فاستحييتُ منه، وقلتُ: يا سيدي، ابعثْ خَلْفَ فلانة، وهي جارةٌ لنا تُغَسِّلها.
قال: يا فلان؛ ما تدعُ عقلكَ في حُزْنٍ ولا فَرَح؟! كيف نُدْخِلُ عليها مَن لا نعرفه؟!
قال الكاتبُ: نعم، تأذنُ بذلك.
قال: لا، والله ما يُغَسِّلها إلا فلان.
فضاقَ الكاتبُ بهذا الحُمْقِ، وقال: يا سيدي؛ كيف يُغَسِّلُ رجلٌ امرأةً وليس لها ببَعْلٍ؟!
قال: وإنما أُمُّكَ امرأة؟!! واللهِ لقد أُنْسِيتُ!
ومَثَلُ ((أبي الفتن)) كمَثَلِ رجلٍ وَرِثَ نصفَ دارٍ، ففكَّر طويلاً؛ كيف تَخْلُصُ الدار كلها له؟ ثم اهتدى إلى الوسيلة، فذهبَ إلى رجلٍ وقال له: أريد أنْ أبيعكَ حصتي من الدار؛ لأشتري بثمنها النصفَ الباقي؛ لتصيرَ الدارُ كلُّها لي.
الرجلُ ثَرْثَارةٌ يتكلم كثيرًا ولا يقول شيئًا! وهو مُقْبِلٌ على الحياةِ بلا مُبَرِّر!
الحماقةُ تَقدَّمَ الطبُّ في علاجها، ولعلَ من أعظم ما وُصفَ لها: أن تُؤخَذَ مِلْعَقةٌ صغيرةٌ من العسل الأبيض على نصف كوبٍ من عصير البِرْسِيم المُرَكَّزِ الطازِج!! ويُؤخذُ ذلك على غِيَارِ الرِّيقِ في كل يوم لمدة أسبوعين، فإنْ نبتَ ذيلٌ!! أو طالتِ الأُذنانِ!! فليُوقَف العلاج مباشرةً، وإلا فإنّ العاقبةَ من أسوأ ما يكون.
لقد أرادَ ((أبو الفتن)) أنْ يتخابث، فراحَ يُؤصِّلُ الأصولَ الفاسدةَ في الخروج على الحاكم الجائر، وراحَ يُمْسِكُ العصا من وسطها؛ ليُعجبَ الثوّارَ ليَغِيظَ بهم مُقَدِّمَ البرنامج، وليستبقي مَن يُحسن الظن به من طلاب العلم، وليُظهرَ مَن يردُّ عليه أباطيلَه في صورة المدافع عن الجَور، المُنافِح عن الظلم، الحاطِب في هوى الحاكمين.
وهي صورةٌ محقورةٌ؛ محقورٌ صاحبها عند العَوَام؛ المساكين، وهم في الجملة جُهّالٌ، وأكثرهم لا يعلمون.
ومَثَلُهُ في هذا كَمَثَلِ الرجل، الذي كان في إحدى القرى عالِمَها، وإمامَها، ومُستشارَها، وكاتبَ عقودِها، ومُفتيَها، ومَأْذُونَها، وكلَّ شيءٍ فيها!! تجمعت الوظائفُ كلها في شخصه، وكلُّ وظيفة من هذه الوظائف كانت مَوْرِدَ رزقٍ، ومصدرَ كَسْبٍ.
ومَنَّ اللهُ على أحد سكان القرية بغلامٍ، فأحسنَ تربيته، وعلَّمه القرآنَ، وأوفده إلى المدينة -العاصمة-، فمكثَ فيها اثني عشر عامًا يطلبُ العلمَ، حتى نالَ العالِمية، ثم آبَ إلى قريته، فاحتفلَ أهلُها بقدومه احتفالاً رائعًا.
ووسوسَ الشيطانُ في صَدر العالِم القديم، أنَّ العالِم الجديدَ سيحتلُّ مكانَه، ويَفُلُّ عرشَه؛ ففكَّر في الكَيد له، وإسقاطِه من أعين مواطنيه من أول يومٍ يجلسون فيه إليه.
واجتمعَ أهلُ القريةِ في ساحتِها؛ ليرحِّبوا بعالِمهم الجديد، وقد جلس بينهم، وتبوأَ منهم مَقْعَدًا، والتفوا حوله مُعجَبين به، مُكْبِرينَ له، وانضمَّ إليهم العالِمُ القديم.
وإنهم لكذلك في حُبُورهم ينعمون؛ إذا ببقرةٍ تمرُّ بهم، وتروثُ تحيةً لهم!
وسألَ العالِمُ القديمُ العالِمَ الجديد، يا فضيلة الشيخ: أهذا الرَّوَثُ جَوهرٌ أم عَرَض؟
الجَوهرُ في لغة العِلم: ما قامَ بنفسه، والعَرَضُ: ما قامَ بغيره.
وأما الجَوهرُ عند العامة: فالشيءُ النفيسُ والحَجَرُ الكريم.
لم يفطُن العالِمُ الجديد للشَّرَك الشيطانيّ الذي نصبه له العالِمُ القديم، فأجاب بلغة العِلم: هذا جَوهرٌ يا عمَّاه، وأشارَ إلى رَوَث البقرة.
فقال العالِمُ القديم للناس: أسمعتم ما يقول؟! أهذا الذي اجتمعنا لنحتفي ونحتفلَ به، وقد قضى في طلب العِلم اثني عشر عامًا، أنفق عليه فيها أبوه كلَّ ما حصَّل في زهرة شبابه، ثم عادَ الآن ليقول: إنَّ هذه الأقذارَ جواهرٌ!! فانفضَّ الناسُ ساخطين.
أرادَ ((أبو الفتن)) أن يتخابث، فأوقعه اللهُ في الحفرة التي حفر، وصار كالشَّاةِ العَائِرَة بين الصفين، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
ويبقى الأمرُ على حاله، فليُجب عن الأسئلةِ التي وجهتها إليه بلا حَيدةٍ ولا تزييف، وعلى رأس قائمتها: السؤالُ عن مغامرة الصحيفة في أوكار الدعارة، ومَرَاتِع الخَنا، ومَباءات الخطيئة.
ثم ليُبَيِّن لنا كيف يردُّ المُجْمَلَ إلى المُفَصَّلِ في سَبِّ الأنبياء وشتْمِهم؟! وفي سَبِّ الصحابة ورَمي بعضهم بالنفاق الأكبر؟ وفي تفسير القرآن بقواعد الموسيقى وآليات المسرح؟ وفي تأويل العَرش -لا الاستواء- بالهيمنة والسيطرة؟ وتأويل الميزان بإقامة الحق والعدل؟ وفي القول بخلق القرآن، ووَحْدَة الوجود؟! وفي تكفير المجتمعات؟! إلى غير ذلك مما سألته عنه.
وهذا أَجْدَى من شَغْلِ الناس بما يضرهم ولا ينفعهم، و أَجْدَى من إثارة الفتن بين الناس وتشتيت قواهم، وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم.
الإسلامُ: هو الاستسلامُ لله بالتوحيد، والانقيادُ له بالطاعة، والبراءةُ من الشِّركِ وأهلِه.
وشهادةُ ((لا إلهَ إلا الله)): نَفْيٌ وإثبات، ولا تقومُ الشهادةُ إلا بالبراءة من الشرك وأهلِه، والكُفر بكل ما يُعبدُ من دون الله -جلّ وعلا-.
وشهادةُ أنّ ((محمدًا رسولُ الله)) -صلّى الله عليه وآله وسلّم-:
تتحقق بتصديقه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما أخبر، وطاعتِه فيما أمر، واجتنابِ ما نهى عنه وزَجَر، وألا يُعبدَ اللهُ إلا بما شرع، وليس بالأهواءِ والبدع.
فلا تقومُ شهادةُ أنَّ ((محمدًا رسولُ الله)) إلا بالبراءة من البدع والمبتدعين، كما أنَّ شهادةَ ((لا إلهَ إلا الله)) لا تقومُ إلا بالبراءة من الشرك والمُشركين؛ نَفْيٌّ وإثبات.
فلابد من البراءة من البدع والمبتدعين، ولابد من اجتناب سبيل أهل الأهواء الزَّائغين.
وقد روى المَرْوَزِي في ((السُّنة)) عَنْ أَبِي الدَرْدَاءِ -رضي الله عنه-، قَالَ: ((اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ، إِنَّكَ أَنْ تَتَّبِعَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَبْتَدِعَ، وَلَنْ تُخْطِئَ الطَّرِيقَ مَا اتَّبَعْتَ الْأَثَرَ)).
وروى البَيْهَقِيُّ في ((السنن))، والمَرْوَزِي في ((السُّنة)) عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: ((إِنَّ أَبْغَضَ الْأُمُورِ إِلَى اللهِ الْبِدَع)).
وروى أبو داود عن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ)).
وأخرجَ اللالكائيُّ عن ابن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قال: ((إِنَّا نَقْتَدِي وَلَا نَبْتَدِي , وَنَتَّبِعُ وَلَا نَبْتَدِعُ , وَلَنْ نَضِلَّ مَا تَمَسَّكْنَا بِالْأَثَرِ)).
وروى عنه -رضي الله عنه-، قال: ((الِاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ)).
وقال الإمامُ أحمد -رحمه الله تعالى- في أول ما ذَكَرَ في ((أصول السُّنة)): ((أصُول السّنة عندنَا التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُول الله –صلى الله عليه وسلم-، والاقتداءُ بهم، وَتركُ الْبدع، وكلُّ بِدعَةٍ فَهِيَ ضَلَالَة، وَتركُ الخصومَات والجلوسِ مع أصحاب الأهواء، وتركُ المِراء والجدال والخصومات فِي الدّين)).
وروى اللالكائيُّ في ((أصول الاعتقاد)) عن الْأَوْزَاعِي -رحمه الله تعالى-، قال: ((نَدُورُ مَعَ السُّنَّةِ حَيْثُ دَارَتْ)).
والتحذيرُ من أهل الزَّيْغِ، والبدع، والهوى؛ أصلٌ من أصول ديننا الحنيف؛ حفظًا للشريعة الغَرّاء، وحمايةً للمسلمين من العقائد الفاسدة، والأهواء المُرْدِيَة.
ومجالسةٌ أهل البدع فيها مفسدتان:
فمفسدةٌ هي: سماعُ المُنكَر بمجالسة أهل البدع.
ومفسدةٌ أخرى تزيد على هذه المفسدة؛ وهي: أنه تُتَّخَذُ حالُه هذه سبيلاً لإيقاع الشبهات في قلوب الأغرار الأغمار، وفي أفئدة العوام من المسلمين؛ فيُقال: إنّ فلانًا يجالسنا، وهو معنا، ونحن جميعًا على كلمةٍ واحدةٍ، والخلافُ بيننا مما يَسُوغُ، فلماذا تجانبوننا؟ ولماذا تقاطعوننا؟ فيقعُ زَيْغٌ كبيرٌ.
وقد حذَّر العلماءُ من مجالسة أهل البدع ومخالطتهم، وأقوالُهم في هذا الأصل من أصول منهاج النبوة كثيرةٌ جدًا.
هذا أصلٌ من أعظم أصول أهل السُّنة والجماعة: مجانبةُ أهل الأهواء، وعدم مُجالستهم، وعدم مُعاشرتهم، مع البُعْدِ الكامل عنهم، والحذرِ من سماع مقولاتهم الزائغة، وأقوالهم المُرْدِيَة.
أهلُ الأهواء آفةُ أمّة محمدٍ –صلى الله عليه وسلم-؛ إنهم يذكرون النبي –صلى الله عليه وسلم- وأهلَ بيته، فيتصيدون بهذا الذِّكر الحَسَنِ؛ الجُهّالَ من الناس، فيقذفون بهم في المهالك، فما أشبههم بمَن يسقي الصبرَ باسم العسل، ومَن يسقي السُّمَّ القاتلَ باسم التَّرياق.
فَأَبْصِرهم؛ فإنك إنْ لم تكن أصبحت في بحر الماء، فقد أصبحت في بحر الأهواء، الذي هو أعمقُ غَوْرًا، وأشدُّ اضطرابًا، وأكثرُ صواعقًا، وأبعدُ مذهبًا من البحر وما فيه.
فَفُلْكُ مَطِيَّتِكَ التي تقطع بها سفرَ الضلال؛ اتّباعُ سنّة النبي المختار -صلّى الله عليه وآله وسلّم-، وإلا ضلَّت بكَ سفينتُكَ في بحر الأهواء، وعصَفَت بكَ عواصفها، وابتلعتكَ أمواهُها بَعْدُ، وهو الضياع الذي ليس بعده إلا الضياع.
مجالستهم ممرضةٌ للقلوب، وهُم أعظمُ من السُّراق الذين يسرقون الأموال؛ فالأموالُ تُستدرك، وأما هؤلاء فيسرقون قلوبَ العباد، وهذه لا تُردُّ ولا تُستدركُ.
والعقلاء من جميع الأمم -حتى من عُبَّاد الأوثان- مُطْبِقُونَ على أنَّ المعاشرةَ والمُخالطةَ يحدثُ فيها سَرِقَةُ الطباع، هذا أمرٌ مُقَرَّرٌ -حتى في أساطير الأوَّلِين-.
فعند ((اليونان))؛ أنَّ عابدًا كان في قمة الجبل، يُقال له: ((سَافو))، وكان تلامذته يصعدون إليه في قمة الجبل، وأما في السَّفْحِ فكانت امرأةٌ لَعُوبٍ، تبيعُ جسدَها، وهي من أجمل الناس وجهًا وجسدًا، يُقال لها: ((تايِيس))، فكان أهلُ الهوى وأصحابُ الغواية يَؤُمُّون مجلسها؛ فيؤذي ذلك أصحاب العابد في قمة الجبل؛ لأنهم يمرون بهم ذاهبين وآيبين.
فشكا أصحابُ العابدِ إلى العابدِ، وشكا أصحابُ الغانيةِ أصحابَ العابدِ إلى الغانية.
قال العابدُ لنفسه: لأنزلنَّ إليها لهدايتها، فما هو إلا أنْ أُكلمها، حتى أستلبَ قلبَها؛ لتصيرَ على الجادة.
وأما هي فقالتْ: هذا رجلٌ معزولٌ عن الناس، لم يرَ الدنيا قط، فلو أني صعدتُّ إليه لأغويته بمجرد النظر.
فصعِدتْ، ونزلَ، فالتقيا في منتصف الطريق، فكلَّمها، فصدعَ قلبَها، وأغوته؛ فأغرته، فتحوَّلَ إلى غانية، وتحولت هي إلى عابد!!
ما لكَ ولهم؟! لِمَ تجلسُ إليهم؟! النظرُ في وجوههم يُقَسِّي القلوبَ، فلِمَ تحرصُ عليهم؟! أيحتاجُ قلبُكَ إلى قسوةٍ إضافيةٍ؟! كفاهُ ما به!!
عن أبي زُرْعَةَ -رجلٌ من بني عِجْلٍ- عن أَبِيهِ، قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ بِالْبَصْرَةِ؛ كَأَنَّهُ بَعِيرٌ أَجْرَبُ يَجِيءُ إِلَى الْحِّلَقِ، فَكُلَّمَا جَلَسَ إِلَى حَلْقَةٍ قَامُوا وَتَرَكُوهُ، فَإِنْ جَلَسَ إِلَى قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَهُ، نَادَاهُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ الْأُخْرَى: عَزْمَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ)).
بالرفعِ على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وبالنصبِ على التحذير: ((عَزْمَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ)).
ذكر البربهاريُّ -رحمه الله- في ((شرح السُّنة)) عن الْفُضَيْلِ بن عِيَاض -رحمه الله-، قال: ((مَنْ عَظَّمَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ؛ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ، ومَن تَبَسَّمَ في وجه مُبتدِعٍ؛ فقد استخفَّ بما أنزلَ اللهُ -عزّ وجلّ- على محمدٍ -صلى الله عليه وآله و سلم-، ومَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ مُبْتَدِعٍ؛ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَها، ومَن تَبِعَ جنازةَ مُبتدِعٍ؛ لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حتى يرجع)).
وقال الْفُضَيْلُ بن عِيَاض -رحمه الله-: ((لَا تَجْلِسْ مَعَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ , فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكَ اللَّعْنَةُ)).
وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيَّ -رحمه الله-: ((مَنْ أَصْغَى إِلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ خَرَجَ مِنْ عِصْمَةِ اللَّهِ, وَوُكِلَ إِلَيها –يعني: إلى البدع-)).
وقال الْفُضَيْلُ -رحمه الله-: ((مَن جلسَ مع صاحبِ بدعةٍ في طريقٍ؛ فَجُزْ في طريقٍ غيرِه)).
وعلى هذا المسلك الذي حذّرنا النبي -صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيه من أهل البدع، وأمرنا -صلّى الله عليه وآله وسلّم- بسلوكه عليه سارَ الخلفاءُ الراشدون المَهْدِيُّون.
في المجتمعِ المسلم الذي يلتزمُ منهاج النبوة، ويَلْزَمُ منهجَ السلف الصالحين، ويتَّبعُ الكتابَ والسُّنة بفهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ومَن تَبِعهم بإحسان، تكونُ الحصانةُ قائمةً، تكون الحصانة قائمة للمُتَّبِعين.
فإنّ عُمَرَ -رضي الله عنه-؛ بعد أن اعترفَ صَبِيِغٌ بما اعترفَ به -وهي قصةٌ طويلةٌ تجدها عند ابن وَضّاحٍ في ((البدع والنهي عنها))، وكذلك تجدُ أطرافَها عند الآجري في ((الشريعة))، وكذلك عند اللالكائيّ، وعند غير هؤلاء من العلماء، الذين دوَّنوا العقيدةَ الصحيحة أثرًا وحديثًا- أمرَ عُمَرُ بسَجنه، ثم تذكَّرَ فقال: عَلَيَّ به، فلما جاءَ ضربه، ثم أمرَ بسَجنه، فلمّا جِيء به؛" ضربه حتى شَجَّه، قال: يا أميرَ المؤمنين قد والله ذهبَ عني الذي أجدُ؛ فإنْ كنتَ قاتلي فاقتلني قتلًاجميلًا، وإلا فقد ذهبَ عني ما أجدُ، فتركه، وكتبَ إلى أمير البصرة: ألا يجلسنَّ إليه أحدٌ!
فانظر إلى فعل هذا الخليفة الراشد -رضي الله عنه- والذي صنعَ.
ويأتي خليفةٌ راشدٌ، هو: عليٌّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه-، يذهب ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- بإذنه من أجل أنْ يُناقشَ الخوارجَ، والذين لم يرجعوا منهم حاربهم عليٌّ -رضي الله عنه- وقاتلهم، بعد أن أُقيمتْ الحُجةُ عليهم في مناظرة ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-.
وكان -رضي الله عنه- يقول: ((سيأتي قومٌ يجادلونكم، فخذوهم بالسُّنن؛ فإنّ أصحابَ السُّنن أعلمُ بكتاب الله)).
لقد تعبَّد اللهُ -جلّ وعلا- العبادَ؛ بردِّ الباطلِ، وقَمْعِ المبتدعين، والتحذير منهم، ومن بِدَعِهم.
وأما النظرُ في الحسنات والسيئات؛ فهذا إلى الله -تعالى- وحده، قال -تعالى-: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
والنبيُّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- لم يُرْشِدْنا إلى هذه الموازنات، ولم يستعملها، بل كان عند النصيحةِ وعند التحذير؛ لا يذكرُ حسنةً أبدًا.
وهذا هو منهجُ أهل السُّنة، فمَن خالفه؛ فهو مُجانِبٌ لأهل السُّنة، مُوافِقٌ لأهلِ البدعة، غاشٌّ لأمة محمدٍ -صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم-.
والواجبُ على الوعَّاظِ والدُّعاةِ في كل مكانٍ أنْ يتقوا اللهَ -تبارك وتعالى- في أنفسِهم، وفي دينِهم، وفي شبابِ الأمة، وأنْ يَدْعوا هؤلاء الشباب إلى دين الله -تبارك وتعالى- مُجرَّدًا، وأنْ يأخذوا الكتابَ والسُّنةَ بفهم سلف الأمة.
وليعلم هؤلاء الدعاةُ أنه لا عُذْرَ لهم، فلا يُقبلُ أنْ يَخرجوا على الناس؛ ليُخرجوهم من المعصية التي ليست ببدعة إلى البدعة، التي هي أحبُّ إلى إبليسَ من المعصية.
هم يقولون: نُتَوِّبُ الناسَ، فيهم سَرَقَة، وفيهم زُناة، وفيهم شَرَبَة للخمور، إلى غير ذلك من الشرور.
هم يقولون: نحن نُخرجهم من هذا، إلى ماذا؟!
ذكرَ شيخُ الإسلام -رحمه الله تعالى- طَرَفًا من مناظرته بعضَ أهل البدع، فقال -رحمه الله-:
((فقال لي -يعني: المُبتدعَ الذي كان يناظره-: البدعةُ مِثْلُ الزنا، وروى حديثًا فيه ذَمِّ الزنا.
قال شيخُ الإسلام: فقلتُ: هذا حديثٌ موضوعٌ على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والزنا معصيةٌ، والبدعةُ شرٌّ من المعصية)).
كما قال سُفيان الثوري: ((البدعةُ أحبُّ إلى إبليسَ من المعصية؛ فإنّ المعصيةَ يُتابُ منها، وأما البدعةُ فلا يُتابُ منها)).
وكان قد قال بعضُهم - يقول شيخُ الإسلام-: ((نحن نُتَوِّبُ الناس.
قال: فقلتُ: من ماذا تُتَوبونهم؟
قال: مِن قطع الطريق، والسرقة، ونحوِ ذلك.
قال: فقلتُ: حالُهم قبل تَتْوِيبكم، خيرٌ من حالِهم بعد تَتْوِيبكم!
فإنهم كانوا فُسّاقًا يعتقدون تحريمَ ما هم عليه، ويرجون رحمةَ الله، ويتوبون إليه أو ينوون التوبةَ، فجعلتموهم بتتويبكم؛ ضالين، مشركين خارجين عن شريعة الإسلام: يُحبون ما يُبغضه الله، ويُبغضون ما يُحبه الله، وبيّنتُ أنّ هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شرٌّ من المعاصي)).
فلابدّ أن يُنظر من ماذا يُتَوِّبُ القومُ الناسَ؟ وإلى أي شيءٍ يصيرُ إليه الناسُ؟
فأما من المعصية التي ليست ببدعة إلى البدعة التي هي عَينُ المعصية، فهذا لا يجوزُ كما هو ظاهرٌ في قواعد الشريعة، وكما قال شيخُ الإسلامِ -رحمه الله- للمبتدع الذي كان يناظره: ((حالُهم قبل تتويبكم، خيرٌ من حالِهم بعد تتويبكم؛ فإنهم كانوا فُسّاقًا يعتقدون تحريمَ ما هم عليه، ويرجون رحمةَ الله، ويتوبون إليه أو ينوون التوبةَ، فجعلتموهم بتتويبكم؛ ضالين، مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يُحبون ما يُبغضه الله، ويُبغضون ما يُحبه الله)).
كان يشربُ الخمرَ -وهو يعلمُ حُرْمَته-، وينوي التوبةَ منها مُجاهدًا.
كان يقعُ في الفاحشة -وهو مُعْتَقِدٌ لحُرمتها-، ويجتهدُ في الإقلاعِ عنها، أو ينوي التوبةَ منها.
فَأُخِذَ ببيده -إلى شيءٍ أضربه مثلاً حتى لا يُزايدَ عليّ-، فأُخذ بيده إلى الذبح لغير الله، وإلى عبادة الأضرحة والقبور، وإلى طلب ما لا يُطلبُ إلا من الله من الأموات ومن الأحياء، الذين يَدَّعي أنهم من الأولياء، ويعتقدُ ذلك مخلِصًا، فأيُّ الفريقين أحسنُ حالاً، وأزكى مآلاً؟!
فأما هذا فَشِرْكٌ لا يغفره الله، والذبحُ لغير الله -تعظيمًا- شِرْكٌ أكبر، وسؤالُ المَقْبِورِ شيئًا إنما هو شِرْكٌ لا يغفره الله؛ لأنه لا يَملكُ ذلك، سواءٌ كان ما سُئِلَه مما يقدرُ عليه إلا الله، أو مما يقدرُ عليه مَن يقدر عليه من البشر.
لأنَّ الميتَ لا يقدرُ على شيء، فإذا طُلبَ منه شيءٌ؛ فهذا شِرْكٌ في الربوبية، والتوجه بتلك العبادة إليه؛ شِرْكٌ في الألوهية، ولكنْ هو يعتقدُ فيه نَوعًا من أنواع التصرف لا يكونُ إلا لله.
فلبقاءِ مَن كان باقيًا على ما كان عليه من معصيته -مهما عَظُمَتْ- خيرٌ من مصيره إلى هذا الشِّرْكِ الأكبر، أفلا يعقلون؟!
إخراجُ الناس من المعصية التي يعتقدونها معصية إلى البدع التي يعتقدونها قُرْبَةً وطاعةً، وفي ذاته من أكبر الذنوب وأعظم الآثام؛ لأنه في حقيقته دعوةُ إلى البدعة، وتزيينٌ لها في قلوب المسلمين، وهو صدٌّ عن سبيل الله، وتحريفٌ لدينه، وطمسٌ لمعالمه.
فليتقِ اللهَ هؤلاء، وليقوموا لله مَثْنَى وفُرادَى ثم يتفكروا فيما يصنعون.
وليعلموا أنَّ مَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مِثْلُ آثامِ مَن أضلهم، ومَن دعا إلى البدعة والضلالة، فهو من دعاة الضلالة، ومن قُطَّاع الطريق -طريقِ الجنة- والله المُستعان.
وليعلم هؤلاء؛ أنهم صاروا دعاةً للبدعة، وأنّ توبتهم تتطلبُ شرطًا لابدَّ منه في توبةِ المبتدعِ الداعي إلى بدعته، وهو أن يُصلِحَ بدَلَ إفساده، وأن يعتصم بالله بدل اعتصامه بالمبتدعة وأهل الأهواء، وأن يُبيَّن أنَّ ما كان يدعو إليه بدعةٌ وضلالة.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: ((مِن شروط توبة الداعي إلى البدعة أن يُبيَّن أنَّ ما كان يدعو إليه بدعةٌ وضلالة، وأنَّ الهُدى في ضده، كما شرط -تعالى- في توبة أهل الكتاب، الذين كان ذنبُهم كتمانَ ما أنزل الله من البينات والهُدى؛ ليضلوا الناس بذلك، أنْ يُصلِحوا العمل في نفوسهم، ويُبينوا للناس ما كانوا يكتمونه إياهم، فقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}) [البقرة: 159-160].
وقال -رحمه الله-: ((كما شرط الله -تعالى- في توبة المنافقين الذين كان ذنبهم إفسادَ قلوب ضعفاء المؤمنين، وتحيزَهم، واعتصامَهم باليهود والمشركين -أعداء الرسول الأمين –صلى الله عليه وسلم-، وإظهارَهم الإسلام رياءً وسمعة، أنْ يُصلِحوا بدل إفسادهم، وأنْ يعتصموا بالله بدل اعتصامهم بالكفار من أهل الكتاب والمشركين، وأن يُخلصوا دينهم لله بدل إظهارِهم رياءً وسمعة؛ فهكذا تُفهم شرائطُ التوبة وحقيقتُها، والله المستعان)). انتهى كلام العلامة ابن القيم -رحمه الله-.
أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- لما فَاءَ في مرحلةٍ من مراحله إلى منهج السلف، وما كان عليه الإمام المُبَجَّل أحمد بن محمد بن حنبل، صعد المنبر، وَنَضا عنه ثوبه، وقال: ((أما إني قد خرجت مما كنتُ فيه -يعني: من اعتزاله، وما كان عليه من البدعة-، وصرتُ إلى اعتقاد الإمام المُبَجَّل أحمد بن محمد بن حنبل، خَرجتُ مما كنتُ فيه كما أخرجُ من ثوبي هذا)).
فليفعلوا ذلك، ولن يُصابوا بالبرد؛ فإنَّ الاستوديوهات مُكَيَّفَةٌ.
واسمعْ هذا، وهو من كلامِ الشيخ بكر بن أبي زيد -رحمه الله- الذي يتعلق القومُ بكتابيه: التصنيف، وأُكْتُوبَتِه -وليست بكتاب المسماة ((بالخطاب الذهبي))-، يتعلقون بهذا، ولا يلتفتون إلى ((الرد على المخالف))، ولا يلتفتون إلى ((براءة أهل السنة))، ولا إلى ((هجر المبتدع)).
وهذا مبحثٌ من مباحث ((هجر المبتدع))، قال فيه -ليسمعوه لو كانوا من المُنْصِفِين-:
((عقوبةُ مَن والى المبتدعة:
كما أن!َ المتكلمَ بالباطل شيطانٌ ناطق، فالساكتُ عن الحق شيطانٌ أخرس، كما قال أبو عليٍّ الدَّقَّاقُ -رحمه الله-: ((ومن السنن الثابتة قولُ النبي –صلى الله عليه وسلم: ((المرءُ مع مَن أَحَب))، وقد قال أنسٌ -رضي الله عنه-: ((فما فَرِحَ المسلمون بشيءٍ بعد الإسلام فرحَهم بهذا الحديث)).
وقد شدد الأئمة النكير على مَن ناقض أصل الاعتقاد؛ فتركَ هجر المبتدعة.
وفي معرَض رد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على الاتحادية، قال: ((ويجب عقوبة كل مَن انتسب إليهم، أو ذَبَّ -أي: دافع- عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظَّم كُتبهم، أو عُرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كَرِهَ الكلام فيهم، أو أخذَ يعتذر لهم بأنَّ هذا الكلام لا يُدرى ما هو؟ أو مَن قال إنه صنَّف هذا الكتاب وكتبَ هذا الكلام؟
وأمثالُ هذه المعاذير، التي لا يقولها إلا جاهلٌ أو منافق، بل تجب عقوبة كل مَن عرف حالهم، ولم يُعاوِن على القيام عليهم؛ فإنَّ القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقولَ والأديان على خَلْقٍ من المشايخ، والعلماء، والملوك، والأمراء، وهم يَسعوْن في الأرض فسادًا ويصدُّون عن سبيل الله)).
قال الشيخ بكر-غفر الله له-: ((فَرَحِمَ الله شيخ الإسلام ابن تيمية، وسقاه من سلسبيل الجنة، آمين، فإنَّ هذا الكلام في غاية الدقة والأهمية، وهو وإنْ كان في خصوص مظاهرة ((الاتحادية))، لكنه ينتظم جميعَ المبتدعة، فكلُّ مَن ظاهرَ مبتدعًا فعظَّمه، أو عظَّم كُتبه، ونشرَها بين المسلمين، ونفخَ به وبها، وأشاع ما فيها من بدعٍ وضلال، ولم يكشفه فيما لديه من زيغٍ واختلاف في الاعتقاد.
إنَّ مَن فعل ذلك؛ فهو مفرطٌ في أمره، واجبٌ قَطْعُ شرِّه؛ لئلا يتعدى شره إلى المسلمين)).
قال: ((وقد ابتُلينا بهذا الزمان بأقوامٍ على هذا المنوال يُعظِّمون المبتدعة، وينشرون مقالاتهم، ولا يُحذِّرون من سَقْطَاتِهم وما هم عليه من الضلال؛ فاحذروا أبا جهلٍ المبتدع هذا)).
هذا كلام الشيخ بكر: ((نعوذُ بالله من الشقاء وأهلِه)).
فهذا من عنده -لا من عندي- حتى لا يقولنّ أحدٌ: يُكَفِّرُ الناسَ!! هذا كلامُه، يقول: ((فاحذروا أبا جهلٍ المبتدع هذا». غفرَ الله -تعالى- له.
هذا طرفٌ من منهاج النبوة ومنهج السلف، ودَعُوكُم من بُنَيَّات الطريق.
أسأل الله أن يجمع شمل المسلمين، وأن يُوَحِّدَ قلوبَهم على الاعتقاد الحق، وأبدانهم على العبادة الصحيحة ووجهتهم على منهاج النبوة، إنه على كل شيء قدير،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين
أما بعد:
فإنَّ توحيدَ مصدر التلقي، وتوحيد مصدر الفهم؛ سببُ الاتحاد، والاجتماع، والائتلاف، والتَّحَاب؛ لأنه يجعل الدين واضحًا بيِّنًا، لا لَبْسَ فيه ولا غموض، وبدون ذلك يقع الاختلاف والافتراق في الدين، وتحدث الرغبة عنه، والنفور منه.
لقد حذَّر الله-جلّ وعلا- من طريقة أهل الكتاب في لَبْسِ الحق بالباطل، وتحريف الكَلِم عن مواضعه؛ فقال-جلَّ وعلا-: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 78].
طريقةُ السلف في التعاملِ مع كُتُبِ أهلِ الأهواء والكُتُب المشتملة على البِّدع؛ أنْ يُتركَ النظرُ فيها، وأنْ يُحذَّرَ منها، مع الحُكمِ بوجوب إتلافها.
واتِّباعُ سبيل السلف في التعامل مع كُتب أهل الأهواء؛ سبيلُ السلامة من انحرافِ القصد عن جادة الحق، وطريقُ النجاة من الوقوع في تبديل الشرع وتحريفِ الدين ومَسْخِ معالم المِلَّة.
لأنَّ تَرْكَ تلك الكُتب بين أيدي الناس مَدْعَاةٌ لبثِّ سموم أهل الأهواء بين الناس، خاصةً إذا كانوا ممن يحسنون عرض ما لديهم، ويُزَيِّنُون الباطل بالأساليب الحسنة والعبارات الرائقة.
والأصلُ في هذا الباب: حديثُ جابر -رضي الله عنه- أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- أَتَى النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَغَضِبَ وَقَالَ: ((أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى -عليه السلامُ- كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)).
أخرجه أحمد في ((المسند))، وحسَّنه الألباني في ((الإرواء))، وأخرجه مختصرًا ابن أبي عاصم في ((السنة))، وحسّنه الألباني في ((ظلال الجنة)).
في الحديث: التحذيرُ من النظر في كُتب الضلال، والكُتب التي فيها ضلال.
قال ابن القيم -رحمه الله-: ((رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- بيد عُمَر كتابًا اكْتَتَبَهُ من التوراة، وأعجبه موافقته للقرآن المجيد؛ فَتَمَعَّرَ وجهُه -أي: رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَتَمَعَّرَ وجهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ذهب به عُمَر إلى التَّنُّور فألقاه فيه».
فكيف لو رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما صُنِّفَ بعده من الكُتب، التي يُعَارَضُ بها ما في القرآن والسُّنة، والله المستعان.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في ((الزاد)) عند قَول كعب بن مالك -رضي الله عنه-: ((فَتَيَمَّمْتُ بالصحيفة التَّنُّورَ، وهي: الصحيفة التي أرسل بها إليه مَلِكُ غَسَّان، يُغريه بالمصير إليه؛ إذ قد جفاه صاحبه،كما زعم- فَتَيَمَّمَ -أي: قصد- بتلك الصحيفة التَّنُّور -أي: النارَ- مُوقَدَةً في فُرْنِها، فألقى الصحيفةَ في النار)).
قال ابن القيم: ((فيه المبادرة إلى إتلاف ما يُخشى منه الفسادُ والمضرَّة في الدين، وأنَّ الحازمَ لا يَنتظر به ولا يُؤخره، وهذا كالعصير إذا تخمَّر، وكالكتاب الذي يُخشى منه الضررُ والشر، فالحزمُ المبادرةُ إلى إتلافه وإعدامه)).
و قال الذهبي -رحمه الله-: ((تقرر الكفُّ عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم -رضي الله عنهم أجمعين- وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكنَّ أكثر ذلك منقطِعٌ وضعيفٌ وبعضُه كَذِب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا.
فينبغي طَيُّه وإخفاؤه بل إعدامه؛ لتصفوَ القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمانُ ذلك مُتَعَيَّنٌ عن العامة وآحاد العلماء)).
وقال ابنُ مُفْلِحٍ -رحمه الله- وذكر المُوَفَّقُ -رحمه الله- في المنع من النظر في كُتب المبتدعة، فقال: ((وكَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ، وَالِاسْتِمَاعِ لِكَلَامِهِمْ)).
لأنَّ كثيرًا من الناس يظن أنه يسمع كلامهم؛ من أجل أن يكشف عوارَهم، وأن يعرفَ خبيئة أمرهم، وهُم ما يزالون يحركون فيه حماسةً كامنة بنيرانها، ويُأججون فيه نيرانَ حياطةٍ للدين بلَظاها، حتى يصير على شاكلتهم، وإلى الله المشتكى وهو المستعان.
ذكر ابن القيم -رحمه الله- حُكمَ إتلاف كُتب أهل البدع والضلال، فقال: ((لا ضمانَ في تحريق الكتب المضلِّة وإتلافها)).
قال المَرُّوزِيُّ: ((قلتُ لأحمدَ: استعرتُ كتابًا فيه أشياءُ رديئة، تَرَى أنْ أُخَرِّقَه، أو أُحَرِّقَه؟
قال: نَعم)).
والمقصودُ أن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة، يجب إتلافُها وإعدامُها، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف وإتلاف آنية الخمر؛ فإن ضررَها أعظمُ من ضرر هذه، ولا ضمانَ في كسر أواني الخمر وشَقِّ زِقَاقِه.
قال عبدالله بن أحمد: ((سمعتُ أبي يقول: سَلاَّمُ بن أبي مُطِيع من الثقات، حدثنا عنه ابن مَهْدِيّ، ثم قال أبي: كان أبو عَوانَة وضع كتابًا فيه يعيبُ أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفيه بلايا،
فجاء سَلاَّمُ بن أبي مُطِيع، فقال: يا أبا عَوانَة؛ أعطني ذاك الكتاب فأعطاه؛ فأخذه سَلاَّمٌ فأحرقه.
قال أبي: وكان سَلاَّمُ من أصحاب أيوب، وكان رجلاً صالحًا)).
وعن الفضل بن زياد أن رجلاً سأله عن فِعل سَلاَّمِ بن أبي مُطِيع، فقال لأبي عبدالله: أرجو ألا يضره ذاك شيئًا -إن شاء الله-.
فقال أبو عبدالله: يضره؟ بل يُؤجر عليه -إن شاء الله-.
وقال محمد بن أبي حاتم: ((وسمعتُ أبي، وأبا زُرْعَة يأمران بهجران أهل الزيغ والهوى، يُغَلِّظَان في ذلك أشدَّ التغليظ، ويُنكران وَضْعَ الكتب برأيٍ في غير آثار، ويَنهيان عن مجالسة أهل الكلام، والنظر في كُتب المتكلمين، ويقولان: لا يُفْلِحُ صاحبُ كلامٍ أبدًا)).
وقال سعيد بن عمرو البَرْذَعِيُّ: ((شهدتُ أبا زرعة سُئل عن الحارث المحاسبي وكتبه؛ فقال للسائل: إياك وهذه الكُتب، هذه كُتب بدعٍ وضلالات)).
وقال ابن مفلح: ((ويحرم النظر فيما يُخشى منه الضلال والوقوع في الشك والشبهة، ثم قال: ونصَّ الإمام أحمد -رحمه الله- على المنع من النظر في كتب أهل الكلام والبدع المضلَّة، وقراءتها، وروايتها)).
وقال الفضل بن زياد: ((سألتُ أبا عبدالله -يعني: أحمد بن حنبل- عن الكَرَابِيسيّ وما أظهرَ، فَكَلَّحَ وجهه، ثم قال: إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، وتركوا آثارَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب)).
قال ابن قدامة في لُمعَة الاعتقاد: ((ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، وكلُّ مُحدثة في الدين بدعة)).
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن ذكر أن كل ما رغَّب في المعصية ونهى عن الطاعة فهو من معصية الله -تعالى-، قال: ((ومن هذا الباب سماعُ كلام أهل البدع، والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك، ويدعوهم إلى سبيله، وإلى معصية الله)).
قال الذهبي -رحمه الله- في ((السير )) -وقد ذكر بعض كتب الضلال-: ((فالحذار، الحذارَ من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شُبَه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمَن رام النجاة والفوز؛ فليلزم العبودية، وليُدمن الاستعانة بالله، وليبتهل إلى مولاه؛ في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين والله الموفق)).
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله-:
يا مَن يظنُّ بأننا حِفْنَا عليهم
كُتْبِهم تُنْبِيكَ عن ذا الشَّانِ
فانظر ترى لكن نرى لكَ تركَها
حَذَرًا عليكَ مصايدَ الشيطانِ
فشِبَاكُها -واللهِ- لم يَعْلَق بها
مِن ذي جناحٍ قاصر الطيرانِ
إلاّ رأيتَ الطيرَ في قفص الرَّدَى
يبكي، له نَوْحٌ على الأغصانِ
ويظل يَخْبِطُ طالبًا لخلاصه
فيضيقُ عنه فُرْجَةُ العِيدَانِ
والذنبُ ذنبُ الطير أَخْلَى
طَيِّبَ الثمرات في عالٍ من الأفنانِ
وأتى إلى تلك المزابل يبتغي
الفضلات كالحشرات والديدانِ!!
فمَن وقع في أسر تلك الكتب، فلا يلومنَّ إلا نفسه.
هجرانُ أهلِ البدع، وتَرْكُ مُجالستهم، وتَركُ السماع لهم، وتركُ النظر في كتبهم، وإتلافُ ما تحصَّل من تلك الكتب لديك، هذا كلُّه من منهاج النبوة، ومن منهج السلف، وعلى ذلك أئمةُ الإسلام من المتقدمين -رحمة الله عليهم-.
فهذا مالك -رحمه الله- يقول: ((لا تجوز الإجارة في شيء من كتب أهل الأهواء والبدع والتنجيم، وذكر كتبًا، ثم قال: وكُتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتُفسَخ الإجارة في ذلك، وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن وما أشبه ذلك)).
قول ابن عبدالبر في الجامع يروي طرفًا مما قال مالك، ويزيد عليه شارحًا.
هذه الكتب المُضلَّة هي التي حرفت المسلمين عما كانوا عليه من الصراط المستقيم، أصلَّ فيها المبتدعة أصولَهم الفاسدة، ودسُّوا فيها سُمَّهُم في عسلِها من: ألفاظها الرائقات، وعباراتها الواضحات؛ فانطلت وراجت عند كثير من المسلمين الأغمار الأغرار، فصاروا منافحين عن البدعة؛ مُعْتَقِدِينَها، وهم يحسبون أنهم على الصراط المستقيم.
و يتعين على ولي الأمر إحراقُ هذه الكتب؛ دفعًا للمفسدة العامة، ويتعين على مَن كانت عنده؛ التمكينُ منها للإحراق، وإلا فلينزِعها منه وليُّ الأمر، وليؤدبه على معارضته على منعها؛ لأنَّ ولي الأمر لا يُعارض في المصلحة العامة.
وقال السَخَّاوي في ترجمة الحافظ: ((ومن الاتفاقات الدالة على شدة غضبه لله ورسوله، أنهم وجدوا في زمن الأشرف ((بِرِسْبَاي)) شخصًا من أتباع الشيخ نسيم الدين التِّبْرِيزيّ، وشيخِ الخَرُوفِيَّةِ المقتول على الزندقة سنة عشرين وثمانمائة، ومعه كتابٌ فيه اعتقاداتٌ مُنكرَة، فأحضروه، وأحرق الحافظُ الكتابَ الذي معه، وأراد تأديبه، فحلف أنه لا يعرف ما فيه، وأنه وجده مع شخص، فظن أنَّ فيه شيئًا من الرقائق، فأُطلقَ بعد أن تبرأ مما في الكتاب المذكور، وتشهَّد والتزم بأحكام الإسلام)).
هذا ذكره السَّخَّاوِيُّ في ترجمة الحافظ -رحمه الله-.
وقال الشيخ الصالح محمد بن صالح بن عثيمين: ((ومن هجران أهل البدع: تركُ النظر في كتبهم خوفًا من الفتنة بها، أو ترويجها بين الناس؛ فالابتعادُ عن مواطن الضلال واجب لقوله –صلى الله عليه وسلم- في الدجال: ((مَن سَمِعَ به؛ فَلْيَنْأَ عنه، فوالله إنَّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمنٌ فَيَتَّبِعُه مما يبعث به من الشبهات)).
لكنْ -يقول الشيخ -رحمه الله-: إنْ كان الغرض من النظر في كتبهم معرفةَ بدعتهم للرد عليها، فلا بأس بذلك لمَن كان عنده من العقيدة الصحيحة ما يتحصَّل به، وكان قادرًا على الرد عليهم، بل ربما كان واجبًا؛ لأن رد البدعة واجبٌ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)).
هذه نُقُولٌ ووراءها نُقُول في منهاج أهل السنة ومنهجهم تجاهَ كتب أهل البدع.
وقد أتينا طالبَ العلم الذي يجعل الإنصافَ دَيْدَنَه، والنجاةَ سبيله؛ بأقوال أهل العلم الكبار، وهي -كما مَرَّ- مُؤسسةٌ على قال اللهُ، قال رسولُه، قال الصحابة.
فلنستعرها منه، عسى اللهُ أنْ يكتبَ له أجر ذلك ويرده إلى الحق.
وإنا لنحب له أن يتوب على العامة، ولا نطالبه بأن يَنْضُو عنه ثوبه، بل عباءته تكفي؛ فإن البردَ شديدٌ!!
والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأفوِّض أمري إلى الله، إنَّ الله بصيرٌ بالعباد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.