عقيدة أهل الإسلام في حقوق الحكام

للاستماع للمحاضرة

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ  -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-،

وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

 فقد دلَّت النصوصُ من الكتابِ والسُّنة على أنَّ مِن أعظمِ أصولِ الدين: الاجتماعَ على الحق، والاعتصامَ بحبلِ الله تعالى.

فقد قال ربُّنا -جلَّ وعلا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وأخرج الآجريُّ في ((الشريعة)) واللالكائيُّ في ((أصول الاعتقاد)) عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((عليكم جميعًا بالطاعةِ والجماعة؛ فإنها حبلُ اللهِ الذي أمر به)).

وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إنَّ الله يرضى لكم ثلاثة ويكره لكم ثلاثة، فيرضى لكم أنْ تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبلِ اللهِ جميعًا و لا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال وكثرةَ السؤال وإضاعةَ المال)).

وروى الإمام أحمد في مسندهِ عن زيدِ بن ثابتٍ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((ثلاث خصال لا يُغِلُّ عليهن قلبُ مسلم أبدًا: إخلاصُ العملِ لله ومناصحةُ ولاة الأمر ولزومُ الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تحيطُُ مَن ورائهم)).

أخرجه الترمذي أيضا وابن ماجه وصححه ابن حجر والألباني وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في ((مجموع الفتاوى)): ((وهذه الثلاث –يعني التي مرَّ ذِكرُها في حديث زيد -رضي الله عنه- تجمعُ أصول الدين وقواعده وتجمعُ الحقوق التي لله ولعباده وتنتظمُ مصالحَ الدنيا والآخرة)).

وقال الإمام المُجدِّد -رحمه الله تعالى-: ((لم يقع خللٌ في دينِ الناس ودُنياهم إلا بسببِ الإخلالِ بهذه الثلاث أو بعضِها)).

قال ذلك في المسألة الثالثة من المسائل التي خالف فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهلَ الجاهلية.

وأخرج البخاريُّ ومسلم عن حذيفةَ -رضي الله عنه- قال: ((كان الناسُ يسألون رسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن الخير وكُنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني -فكان من نُصحه -صلى الله عليه وآله وسلم- لحذيفة-؛ أنْ قال له: تلزمَ جماعة المسلمين وإمامهم)).

وعن ابن عباس وابن عمر -رضي الله تعالى عنهم- أنهما قالا: ((يدُ اللهِ مع الجماعة)).

أخرجهُ الترمذيُّ بإسنادٍ صحيح.

وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((الجماعةُ رحمة والفُرقةُ عذاب)).

أخرجه عبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند))، وابن أبي عاصم في ((السُّنة)) بإسنادٍ حسن كما قال الألباني في ((تحقيقه على السُّنة)) لابن أبي عاصم.

وأخرج الآجريُّ واللالكائيُّ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((وما تكرهون في الجماعةِ خيرٌ مما تحبون في الفُرقة)).

قال الأوزاعيُّ -رحمه الله-: ((كان يُقال: خمسٌ كان عليها أصحابُ مُحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- والتابعون له بإحسان: لزومُ الجماعة، واتباعُ السُّنة، وعمارةُ المساجد، وتلاوةُ القرآن، والجهادُ في سبيلِ الله)) .
وقال عُمر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- لسُويد بن غَفَلَة: ((لا تُفارق الجماعة))؛ يعني: سواد المسلمين؛ لا الجماعة بالمعنى الذي ابتدعهُ أهلُ البدع والأهواء.

أخرجه الخلَّال في ((السُّنة)).

وفي ((تاريخ دمشق)) و((سير أعلام النبلاء)): ((أنَّ رجلًا كتب لابن عمر -رضي الله عنهما- أنْ اكتب لي العلم كله -اكتب إليَّ بالعلمِ كلِّه-، فكتب إليه: إنَّ العلم كثير، ولكن إنْ استطعت أنْ تلقى الله كاف اللسان عن أعراض المسلمين، خفيف الظهر من دمائهم، خميصَ البطن من أموالهم لازمًا لجماعتهم؛ فافعل)).

عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه جاء إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمرِ الحرَّة ما كان زمن يزيد بن معاوية –الحرَّةُ: أرضٌ بظاهرِ مدينة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها حجارة سُود كثيرة، وكانت بها وقعة في سنة ثلاث وستين من الهجرة.

وسبب تلك الوقعة التي كانت في الحرَّة: أنَّ أهل المدينة خلعوا بيعةَ يزيد بن معاوية لما بلغَهم ما يعتمدهُ من الفساد، فأمَّرَ الأنصارُ عليهم عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر، وأمَّرَ المهاجرون عليهم عبد الله بن مطيعٍ العدوي ، وأرسل إليهم يزيد بن معاوية مُسلمَ بن عقبة في جيشٍ كثير؛ فهزمهم وقُتل من الأنصار خلْقٌ كثيرٌ جدًا.

وابن عمر -رضي الله عنهما- ذهب إلى عبد الله بن مطيع ليُبيِّنَ له أنَّ ما يفعله خطأٌ مخالفٌ للسُّنة، وهو خروجٌ على الحاكم ونقضٌ للبيعة، فلا يجوز له ذلك واستدل عليه بحديثِ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمرِ الحرَّة ما كان زمنَ يزيدَ بن معاوية، فقال عبد الله بن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادةً فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأُحدِّثك حديثًا؛ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من خلع يدًا من طاعة؛ لقيَ اللهَ يوم القيامة لا حُجة له، ومن مات ليس في عنقهِ بيعة مات ميتةً جاهلية)).

لا حُجة له: أي لا حُجة له في فِعْلهِ ولا عذر له ينفعه.

وأخرج الشيخان عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم- : ((من كَرِه من أميرهِ شيئًا فليصبر فإنه من خرجَ من السلطان شبرًا مات ميتةً جاهلية)).

قال العلماء: ((مات مِيتةً جاهلية)): هي بكسر الميم مِيتةً؛ أي: على صفةِ موتِ أهلِ الجاهلية من حيث هم فوضى لا إمامَ لهم)).

وأخرج مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((من خرجَ من الطاعة وفارقَ الجماعة فماتَ؛ مات مِيتةً جاهلية)).

وأخرج أيضًا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم -يقول: ((من خلع يدًا من طاعة لقيَ اللهَ يوم القيامة لا حُجة له، ومَن مات ليس في عنقه بَيْعة مات مِيتةً جاهلية)).

مفارقةُ الجماعة ومحاولة تفريقها من كبائر الذنوب، والجماعةُ: السوادُ الأعظم؛ مجموع المسلمين، ليست الجماعة ما يريده أولئك الضُلَّال من أهلِ الأهواء والبدعة الذين يُؤمِّرون واحدًا منهم، وينعزلون ناحيةً عن جماعة المسلمين، وإنما الجماعة في هذه الأحاديث مجموعُ المسلمين وسوادُهم فمن فارقهم وحاول تفريقَهم؛ فإنه أتى أمرًا من كبائرِ الذنوب.

وقد بيَّنَ الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- حُكْمَ من ارتكبَ هذا الجُرم وما يُعامل به، فقد روى مسلم في صحيحه عن عرفجة الأشجعي -رضي الله تعالى- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ)).

وفي لفظ: ((مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ)).

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ((ومن لم يندفع فسادُهُ في الأرض إلا بالقتل؛ قُتل مثل المُفرِّق لجماعةِ المسلمين والداعي إلى البدع في الدين)).

وأخرج البخاري أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((خشيتُ أنْ أقولَ كلمةً تُفرِّق بين الجَمْع وتسفكُ الدم ويُحمل عني غير ذلك)).

مع أن ما سيقوله حق، لكن لمَّا رجحت مصلحة الإمساك على مصلحة الكلام؛ كفَّ لسانَه -رضي الله عنه- فليس كل ما يُعلم يُقال، لاسيما في أوقات الفتن .
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للأنصار:

((إنكم ستلقَوْن بعدي أثرة –أي: استئثارًا بالمال والدنيا والمُلك والإمارة- إنكم ستلقون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تلقَوْني وموعدكم الحوض)). أخرجه البخاري.

وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ستكونُ بعدي أَثَرَةٌ وأمور تنكرونها)).

قالوا : يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟

قال: ((تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)).

أخرجاه في الصحيحين.

قال النووي -رحمه الله-: ((هذا من معجزاتِ النبوة، وقد وقع الإخبارُ متكررا
ووُجد مَخبرَهُ متكررا، وفي الحديث الحثُّ على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالمًا عسوفًا، فيُعطى حقه من الطاعة ولا يُخرج عليه ولا يُخلع؛ بل يُتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه ودفع شره وإصلاحه)).

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((من كَرِهَ من أميرهِ شيئًا فليصبر عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس خرج من السلطان شبرًا؛ فمات عليه إلا مات ميتةً جاهلية)). أخرجاه في الصحيحين.

والمراد ب((خرج من السلطانِ شبرًا)): كنايةٌ عن معصيةِ السلطان ومحاربتهِ.

والمراد ب((الخروج)): السعيُ في حلِّ عقدِ البيعة التي حصلت لذلك الحاكم ولو بأدنى شيء، فكنَّى عنها بمقدار الشِّبر؛ لأن الأخذَ في ذلك يؤول إلى سفكِ الدماء بغير حق.

ولكن من الذي تنعقد له البيعة ويجب له السمع والطاعة بغير معصية؟
قال الشوكاني -رحمه الله- ((في السّيْلِ الجرَّار)): ((وأما بعد انتشارِ الإسلام واتساع رُقعتهِ وتباعدِ أطرافهِ؛ فمعلومٌ أنه قد صار في كل قُطرٍ أو أقطارٍ الولايةُ إلى إمامٍ أو سلطان، وفي القُطرِ الآخر أو الأقطار كذلك، ولا يَنْفُذ لبعضِهم أمرٌ ولا نهي في قُطرِ الآخر وأقطارهِ التي رجعت إلى ولايته.

فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعةُ لكلِّ واحدٍ منهم بعد البيعة له على أهل القُطر الذي يَنْفُذُ فيه أوامره ونواهيه كصاحب القُطر الآخر، فإذا قام من ينازعهُ في القُطر التي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهلُهُ؛ كان الحكم فيه أن يُقتلَ إذا لم يَتُب، ولا تجب على أهلِ القُطرِ الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايتهِ لتباعدِ الأقطار، فإنه قد لا يبْلُغُ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يُدرى من قام منهم أو مات، فالتكليفُ بالطاعةِ والحال هذه؛ تكليفٌ بما لا يُطاق وهذا معلومٌ لكلِّ من له إطلاع على أحوالِ العباد والبلاد، فاعرف هذا؛ فإنَّ المناسب للقواعدِ الشرعية هو هذا وهو المطابقُ لما تدلُّ عليه الأدلة.
ودَعْ عنك ما يُقال في مخالفته، فإنَّ الفَرْقَ بين ما كانت عليه الولايةُ الإسلاميةُ في أول الإسلام وما هي عليه الآن -في زمن الشوكاني -رحمه الله-، وما هي عليه الآن أوضحُ من شمسِ النهار، ومن أنكر هذا فهو مُباهتٌ لا يَستحقُ أن يُخاطبَ بالحجة لأنه لا يعقلُها)). انتهى كلامه -رحمه الله-.

 إذن؛ كلُّ قُطرٍ قام فيه إمامٌ ولو كان متغلبًا، فإنَّ له من الحقوق؛ حقوقَ الإمام الأعظم -حقوق أمير المؤمنين-، ومن المعلوم أنَّ هذا الكلام متجهٌ إلى البيعة التي تحصُل بالقهرِ والغَلَبة لا بالاختيار، وعلى هذا يثبُتُ لهؤلاء الأئمةِ المتعددين ما يثبُتُ للإمامِ الأعظم يوم أن كان موجودًا، فيقيمون الحدودَ ونحوَها ويُسمع ويُطاع لهم.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ((والسُّنة أنْ يكونَ للمسلمين إمامٌ واحد والباقون نوَّابُه، فإذا فُرِض أنَّ الأمةَ خَرجت عن ذلك لمعصيةٍ من بعضها وعجزٍ من الباقين أو غيرِ ذلك، فكان لها عدة أئمة؛ لكان يجبُ على كل إمامٍ أنْ يُقيمَ الحدودَ ويستوفيَ الحقوق)).

وقال الإمام المُجدِّدُ كما في ((الدُّرر السَّنية)): ((والأئمة مُجمعون من كلِّ مذ هبٍ على أنَّ مَن تغلَّب على بلدٍ أو بلدان؛ له حُكم الإمامِ في جميعِ الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا؛ لأنَّ الناسَ من زمنٍ طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا؛ ما اجتمعوا على إمام، ولا يعرفون أحدًا من العلماءِ ذكرَ أنَّ شيئًا من الأحكام لا يصحُّ إلا بالإمامِ الأعظم)).

وقد قال الإمام الصنعاني عند شرح حديث النبي: ((من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فمِيتته ميتةٌ جاهلية)).

قال: وكأن المراد خليفة أي قُطرٍ من الأقطار، إذ لم يُجمع الناسُ على خليفةٍ في جميعِ البلادِ الإسلامية من أثناءِ الدولةِ العباسية، بل استقل كلُّ إقليمٍ بقائمٍ بأمورِهم؛ إذ لو حُمل الحديثُ على خليفةٍ اجتمع عليه أهلُ الإسلام لقلَّت الفائدة)).

إذن؛ كلُّ حاكمٍ في قُطر له أحكامُ الإمام الأعظم: يُبايع ويُسمع له ويُطاع، ومَن خرج عليه وفارقَ الجماعة وفارقَ السلطان؛ فمات فمِيتته ميتة جاهلية، وإذا خرج عليه؛ فله أن يعاقبه على ما يأتي بيانه إن شاء الله -جل وعلا-.

وإذا خرج عليه فهو خارجيٌّ كما سيأتي من كلام الإمام البربهاري -رحمه الله تعالى-.

وله حقوق واجبةٌ له أوجبها الله -رب العالمين- في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيه الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- واجبة كما تجبُ عليك الصلاة وكما تجبُ عليك الزكاة، أوجبها الله في عُلاه، إذا تم تعيين الإمام بأحد الطريقين المُتفق عليهما وهما اختيار أهل الحلِّ والعقد أو استخلافه بولاية العهد له من الإمام قبله أو كان ذلك بطريق الغَلَبة واستتب له الأمر؛ وجبَ على المسلمين القيام بحقوق هذا الإمام، وحقوق الإمام حقوق نصَّ الله تعالى عليها في كتابه العزيز ونصَّ عليها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-.

وذلك ليعلمَ المسلمُ أنَّ هذه الحقوق من الأهمية في غاية ومن الخطورةِ في نهاية، فالقيام بها حَتْمٌ؛ لا يُسمح في التقصير فيها، ومن قصَّر؛ فقد رتَّبَ الشرعَ المُطهر له عقوبات زاجرة؛ منها عقوباتٌ تتعلق بالدنيا ومنها عقوبات في الآخرة.

وأما حقوقُ الإمام وأما حقوقُ الحاكم وأما حقوقُ السلطان وأما حقوقُ الرئيس؛ فقد بيَّنها الله وبيَّنها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-:

*أولُّها: البيعة له: فيبايعهُ أهلُ الحلِّ والعقد، ثم عمومُ المسلمين ممن تيسر حضورُهم، ويكون ذلك مُلزِمٌ لكلِّ مُسلم، ومعنى البَيعة: العهدُ على الطاعة؛ أي أنَّ المبايعين يُسلِّمون للإمامِ النظر في أمر أنفسِهم وأمور المسلمين، لا ينازعونه في شيءٍ من ذلك، ويُطيعه الجميع فيما يُكلِّفُهم به من أمر في المَنشط والمَكره، بشرطِ ألا يكون الأمرُ بمعصيةٍ لله، وتكونُ هذه البيعة بالمصافحةِ والكلام أو بالكلامِ وحده أو بالكتابة، ودليلُ وجوبِ البيعة: حديثُ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ومن مات وليس في عُنقهِ بَيْعة مات ميتةً جاهلية)).

أخرجه مسلم في صحيحه وأخرجه الحاكم في ((المستدرك)) بلفظ: ((من مات وليس عليه إمامُ جماعة فإن موتته موتةٌ جاهلية))، فأفاد الحديث: وجوبُ عقدِ البيعة للإمام القائم المسلم وأنَّ المُطالَبَ بها جميعُ المسلمين الذين تحت ولاية هذا الإمام وبيَّن الحديثُ العقوبةَ المترتبة على عدمِ وجودِ البيعة في عُنقِ المسلم وهي كَوْنهُ يموتُ كحالِ أهلِ الجاهلية على ضلالٍ والعياذ بالله -جل وعلا-، أما مَن نَقَضَ هذه البيعة، فإنَّ هذه العقوبة تنالهُ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن كَرِهَ مِن أميرهِ شيئًا فليصبر، فإنه مَن خرجَ من السلطانِ شبرًا مات ميتةً جاهلية)).

أخرجه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- بيانٌ لهذا الأمر كما مرَّ؛ تناله عقوبةُ القتل إذا خرجَ على الإمام لحديث عرفجة بن شُريح الأشجعي -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من آتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجلٍ واحد يريدُ أنْ يشقَّ عصاكم أو يُفرِّقَ جماعتَكم فاقتلوه)).

أخرجه مسلم في صحيحه.

فالحقُّ الأولُّ من حقوقِ الإمامِ أو الحاكم أو الرئيس أو السلطان على اختلاف هذه الأسماء،

الحق الأول: هو البيعةُ له.

*والحق الثاني: السمع والطاعة له في غير معصية الله –عز وجل-: وهذا الحقُّ أجمع عليه أهلُ السُّنة والجماعة وأودعوه في كُتبِ العقائد التي يُربُّون عليها الناسَ صغارًا وكبارًا، ذُكرانًا وإناثًا، وهو حقٌّ لم يترك الشارعُ استنباطه للناس، بل نصَّ عليه الله –عز وجل- في كتابه الكريم ونصَّ عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سُنتهِ حتى لا يبقى مجالٌ للخلاف فيه.

قال الله –جل وعلا-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وهُم الولاةُ والأمراء، ذهب إلى ذلك جماهيرُ السلفِ والخَلَفِ من المُحدِّثين والمُفسرين والفقهاء، وذهب إلى ذلك غيرُهم أيضًا، وهذا الأمرُ بطاعةِ أولي الأمر مُقيدٌ بعدمِ الطاعة في الأمر بالمعصية لله –عز وجل-.

قال الإمام حربٌ الكرمانيُّ -رحمه الله- في العقيدة التي نقلها عن جميع السلف: ((وإن أمركَ السلطانُ بأمرٍ فيه لله معصية؛ فليس لك أنْ تطيعَه البتة، وليس لك أنْ تخرجَ عليه ولا تمنعهُ حقه، فدلَّكَ على أمور:

الأمر الأول: أنه إذا أمركَ بأمرٍ فيه معصيةٌ لله؛ فلا تسمع في هذا الأمر بعَيْنِه ولا تُطع، ولكن إياك أنْ تخرجَ عليه، وإياك أن تمنعهُ حقَّه، وإياك أنْ تنزع يدُك من طاعتهِ.

وأما الأحاديثُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فقد بلغت حد التواتر،  الأحاديث في وجوب طاعة أولي الأمر بلغت حدَّ التواتر أو كادت أنْ تبلغَه فما أفاد ذلك ((صدر الدين السُّلَمَيُّ)) في رسالته ((طاعة السلطان)).

منها حديث عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((على المرءِ المسلم السمع والطاعة فيما أحبَّ وكَرِه إلا أن يُؤمر بمعصية، فإنْ أُمر بمعصيةٍ فلا سمعَ ولاطاعة)). أخرجه البخاري ومسلم.

قال العلامة المُطهَّر في شرح هذا الحديث: ((يعني سَمْعُ كلامِ الحاكمِ وطاعته واجبٌ على كلِّ مسلم، سواءٌ أمرَ بما يوافقُ طبعَه أو لم يوافقه؛ بشرط ألا يأمره بمعصية، فإنْ أمره بمعصية فلا تجوز طاعته، لكن لا يجوزُ له محاربةُ الإمامِ مع ذلك، ومثالُ الأمر بالمعصية؛ أنْ يؤمر المرءُ بأنْ يقتلَ نفسًا بغير حق، أو يُؤمر بأنْ يُرابيَ أو يشربَ الخمر، فلا طاعة للإمام في ذلك، ويُسمع ويُطاع له فيما عدا هذا الأمر بالمعصية)).

ومن الأحاديث حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: دعانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه فكان فيما أخذ علينا: ((أنْ بايَعَنا على السمعِ والطاعة في مَنشطِنا ومكرهِنا وعُسرِنا ويُسرِنا وأثرةٍ علينا وألا ننازعَ الأمرَ أهله)).

قال: ((إلا أنْ تروا كفرا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)). أخرجه الشيخان.
وقد رتَّب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثوابًا لمن التزم هذا الأمر ورتَّب عقابًا لمَن خالفَ هذا الأمر، ففي ((السُّنة)) لابن أبي عاصم بإسنادٍ صحيح عن أبي أُمامة الباهليِّ -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنه لا نبيَّ بعدي ولا أمةَ بعدَكم، ألا فاعبدوا ربَّكم وصلُّوا خَمْسَكم وصوموا شهرَكم وأدُّوا زكاةَ أموالِكم طيبةً بها نفوسُكم، وأطيعوا أمرائَكم تدخلوا جنَّةَ ربِّكم)).

وفي ((السُّنة)) لابن أبي عاصمٍ بإسنادٍ جيد عن معاوية -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ السامعَ المطيعَ لا حُجة عليه، وإنَّ السامع العاصي لا حُجة له)).

والمعنى: أنَّ الذي يسمعُ أوامرَ الإمام؛ فيطيع؛ لا حُجةَ عليه يوم القيامة؛ لأنه أدَّى ما عليه، وأنَّ الذي يسمعُ أوامرَ الإمام؛ فلا يطيع؛ فلا حُجة له تُقبل منه يوم القيامة في تخلُّفهِ عن طاعةِ الإمام، فيَهْلِك والعياذ بالله.

*ومما يجب على المسلمِ لإمامهِ: الصبر على جَوْرِهِ:

إذا اُبتلي المسلمونَ بإمامٍ جائر؛ فإنَّ الصبرَ على جَوره هو سبيلُ المؤمنين وطريقةُ أهلِ العلمِ والدين؛ لأنَّ الخروجَ عليه يُوجبُ من الظلمِ والفساد أكثرَ من ظُلمهِ، فيُصبرُ عليه كما يُصبرُ عند الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ على ظُلم المأمورِ والمنهيِّ لقوله تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: ].

وهذا الحقُّ للإمامِ بالنصوص المتواترة عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، منها حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَنْ رأى مِن أميرهِ شيئًا يكرههُ فليصبر؛ فإنه مَن فارقَ الجماعةَ شبرًا فمات؛ فمِيتةٌ جاهلية )).

أخرجه الشيخان، وفي لفظٍ لمسلم: ((من كَرِه من أميرهِ شيئًا فليصبر عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس خرجَ مِن السلطانِ شبرًا فمات عليه إلا ماتَ مِيتةً جاهلية)).

ومن الأحاديث حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنها ستكونُ بعدي أَثَرَة وأمورٌ تنكرونها)).

قالوا: يا رسول الله فما تأمرُنا؟

قال: ((تؤدون الحقَّ الذي عليكم وتسألون اللهَ الذي لكم )).

أخرجه الشيخان.

وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أَثَرَةٌ)): هي الانفرادُ بالشيء عمن له فيه حق وتعلُّقٌ بالأموال. وقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((وأمورٌ تُنكرونها)): أي من أمورِ الدين؛ إما بالتقصيرِ فيها أو بإحداثِ البِدع.

قال النووي في شرح الحديث: ((فيه الحثُّ على السَّمعِ والطاعة وإنْ كان المتولي ظالمًا عسوفًا، فيُعطى حقُّهُ من الطاعةِ ولا يُخرج عليه ولا يُخلع، بل يُتضرع إلى الله تعالى في كشف آذاه ودفعِ شره وإصلاحه)).

وبهذه النصوص أخذَ سلفُنا الصالح فأودعه في كتبِ العقائدِ؛ الأمرَ بالصبرِ على جَور الأئمة، فلا يكادُ يخلو مُؤلَّفٌ لهم من ذلك، وقد وردت آثارٌ كثيرة عن الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- تؤكد ذلك.

منها؛ ما أخرجه بن أبي شيبة في المُصَنَّف بإسنادٍ جيد عن سُويد بن غَفَلة قال: قال لي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ((يا أبا أُمية إني لا أدري لعلي لا ألقاك بعد عامي هذا، فإن أُمِّرَ عليك عبدٌ حبشيٌّ مٌجَدَّع، فاسمع له وأطِع، وإنْ ضربكَ فاصبر، وإنْ حرمكَ فاصبر، وإن أراد أمرًا يُنقصُ دينك؛ فقُل: سمعٌ وطاعةٌ؛ دمي دون ديني ولا تفارق الجماعة)).

ومنها: ما أخرجه التبريزي في ((النصيحةِ للراعي والرعية)) عن كعبِ الأحبار أنه قال:

((السلطانُ ظلُّ اللهِ في الأرض، فإذا عمِلَ بطاعةِ الله؛ كان له الأجرُ وعليكم الشُّكر، وإذا عَمِلَ بمعصية الله؛ كان عليه الوزر وعليكم الصَّبر، ولا يحملنَّك حبُّه على أنْ تَدخلَ في معصيةِ الله ولا بُغْضُهُ على أنْ تخرجَ من طاعتهِ)).

*ومما يجبُ على المسلم لإمامه: النُّصح له:

وهذا الحقُّ جاء منصوصًا في أحاديثَ كثيرة عن رسول الله ---صلى الله عليه وآله وسلم-، وقبل ذِكرِ بعضها نعرفُ معنى النُّصح لإمام المسلمين من كلام العلماء:

قال الحافظ بن رجب -رحمه الله-: ((وأما النصيحةُ لأئمةِ المسلمين؛ فحُبُّ صلاحِهم ورُشدِهم وعدلِهم، وحبُّ اجتماعِ الأمةِ عليهم، وكراهةُ افتراقِ الأمةِ عليهم، والتدينُ بطاعتِهم في طاعةِ الله -عز وجل-، والبُغضُ لمن رأى الخروج عليهم، وحبُّ إعزازِهم في طاعة الله –عز وجل-)).

وقال أبو عمر بن الصلاح -رحمه الله-: ((والنصيحةُ لأئمةِ المسلمين معاونتُهم على الحق وطاعتُهم فيه، وتذكيرُهم به وتنبيهُهم في رفقٍ ولُطْفٍ، ومجانبةُ الوثوبِ عليه، والدعاءُ لهم بالتوفيق، وحثُّ الأغيارِ على ذلك)).

ومن الأحاديث المؤكدة لذلك حديثُ تميم الداري -رضي الله عنه-: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الدين النصيحة)).

قلنا: لمن؟

قال: ((لله ولكتابهِ ولرسولهِ ولأئمةِ المسلمين وعامتهم)).

أخرجه مسلم في صحيحه.

فمن نَصَحَ لولاة الأمر؛ فقد أدَّى ما افترضَ اللهُ عليه، ومنْ لم ينصح لهم؛ فإنَّ قلبَهُ قد مُلئ غيظًا على أمةِ مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا لا ترى هذه الخصلةَ الذميمة -يعني الخروجَ على الحكام- إلا عند أهلِ البدعِ والأهواء؛ كما قال الإمام سهل بن عبد الله التَّستُري -رحمه الله تعالى-: ((هذه الأمة ثلاث وسبعون فِرقة، اثنتان وسبعون هالكة؛ كلُّهم يبغضُ السلطان، والناجيةُ هذه الواحدة التي مع السلطان)).

وهذا مأخوذٌ من قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ثلاثُ خِصال لا يُغِلُّ عليهن قلبُ مسلم أبدًا: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تُحيطُ مَن ورائَهم)). والحديث أخرجه أحمد في ((المسند)) عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره، وقد صححه ابن حجر والألباني وغيرهما.

وفي المسند وهو حديثٌ متواترٌ عند أهل العلم عن جُبير بن مُطعِم -رضي الله عنه- قال: ((قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخَيْفِ مِن مِنىً فقال: ((ثلاثُ لا يُغِلُّ عليهن قلبُ المؤمن إخلاصُ العمل والنصيحةُ لولي الأمر)).

وفي لفظٍ: ((طاعةُ ذوي الأمر ولزوم الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تكون من ورائهِ)).

فهذه الخِصالُ الثلاث لا توجدُ في قلبٍ إلا وهو قلبٌ طاهرٌ مِن الخيانةِ والدغلِ والشرِ والأهواءِ؛ لأنها خصالٌ تنفي الغلَّ والغِشَّ ومُفسدات القلوب، فمناصحةُ ولاةِ الأمور منافٍ للغلِّ والغِش؛ لأن النصيحةَ لا تُجامِعُ الغل ولا تُجامِعُ الغِش؛ إذ هي ضده، فمن نصحَ الأئمةَ والأمة فقد برئ مِن الغِل، ومن لم ينصح الأئمة فقد انغمسَ في الغلِّ و-العياذُ بالله تعالى-.

*مما يجب على المسلم لإمامه: توقيره واحترامه.

وهذا الحقُّ رعاه الشارعُ الحكيم؛ بأنَّ أمرَ به أيضًا ونهى عن ضده، فنهى عن سبِّ الأئمة وإهانتهم، وقصْدُ الشارعِ من ذلك ما أشار إليه القرافي -رحمه الله- في كتابه ((الذخيرة)) حيث قال: ((قاعدةٌ: ضبطُ المصالحِ العامة واجب: ولا تنضبط المصالح العامة إلا بعظمةِ الأئمةِ في نفوسِ الرعية، ومتى اختلفت عليهم أو أُهينوا تعذرت المصلحة)).

وقد سبقه إلى ذلك سهل بن عبد الله التَّستُري -رحمه الله- عندما قال: ((لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماء، فإنْ عظَّموا هذين؛ أصلحَ اللهُ دُنياهم وأُخراهم، وإنْ استخفوا بهذين؛ أفسدوا دُنياهم وأُخراهم)).

فالشارعُ الحكيم إنما راعى هذا الأمر؛ لأجل أنَّ المسؤوليات على الإمامِ كثيرةٌ وثقيلة ولا يمكن له أنْ يقومَ بذلك على الوجهِ الصحيح إلا إذا كانت النفوسُ موطَّنةً على احترامهِ وتقديره؛ موعودةً بالأجرِ على ذلك، مُتوعدةً بالوزرِ إنْ خالفت ذلك.

أما الأمرُ بتوقيرِ الإمام، فقد جاءت به نصوصٌ نبوية شريفة وعقدَ كبارُ العلماءِ في مؤلفاتِهم أبوابًا خاصة بذلك، ففي كتاب ((السُّنة)) لابن أبي عاصم باب في ذكر ((تعذير الأمير وتوقيره)) وفي كتاب ((الحُجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السُّنة)) لأبي القاسم الأصفهاني فصلٌ في: ((فضل توقير الأمير -يعني الحاكم؛ يعني الإمام؛ يعني الرئيس-))، وفي كتاب ((النصيحة للراعي والرعية)) باب: ((ذِكر النصيحة للأمراء وإكرام محلِّهم وتوقير رُتبهم وتعظيم منزلتهم)).

*ومن النصوص في ذلك ما أخرجه أبو داود في ((سننهِ في كتاب الأدب، باب: في تنزيل الناس منازلهم)) عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ من إجلالِ الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالِ فيه والجافي عنه وإكرامَ ذي السلطان المقسط)). حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
*ومن الأحاديث حديثُ معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خمسٌ مَن فعل واحدةً منهن كان ضامنًا على الله –عز وجل- وذكرَ منهن أو دخلَ على إمامهِ يريد تعذيرهُ أو توقيره)).

أخرجه أحمد في ((المسند)) وأخرجه الطبراني في ((الكبير)) وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)).

ومعنى ((كان ضامنًا على الله)): أي ضامنًا دخول الجنة.

*ومن الأحاديث؛ حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((السلطانُ ظِلُّ الله في الأرض فمن أكرمه؛ أكرمه الله، ومن أهانه؛ أهانه الله)).

وأخرجه ابن أبي عاصم في ((السُّنة)) وهو حديث حسن.

*أما النهي عن سبهم وإهانتهم: فقد جاءت به آحاديث وآثار عن السند، وعقد أهلُ العلم في مؤلفاتهم بابًا لذلك، ففي ((السُّنة)) لابن أبي عاصم ((باب: ما ذُكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمره بإكرام السلطان وزجره عن إهانته)).

وفي كتاب ((الحُجة)) لأبي القاسم الأصبهاني فصل في: ((النهي عن سبِّ الأمراء والولاة وعصيانهم)).

*ومما ورد في ذلك حديث عمر البكالي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا كان عليكم أمراء يأمرونكم بالصلاةِ والزكاة فقد حرَّمَ اللهُ عليكم سبَّهم وحلَّ لكم الصلاةُ خلفَهم )). أخرجه الطبراني في الكبير.

وجاء موقوفًا على عمرو البكالي من قوله، أخرجه البخاري في ((التاريخ الصغير)) وابن نصر في ((قيام الليل)) وابن منده وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة))، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في ((الإصابة)): ((سنده صحيح)).  

*ومن الأحاديث قول أنس بن مالك -رضي الله عنه- نهانا كبراءُنا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تسبُّوا أمراءَكم ولا تغشُّوهم ولا تُبغضوهم واتقوا اللهَ واصبروا فإنَّ الأمرَ قريب)).

أخرجه ابن أبي عاصم في ((السُّنة)) والبيهقي في ((شُعب الإيمان)) وغيرُهما بإسناد صحيح .

*ومنها قول أبي الدرداء -رضي الله عنه-: ((إنَّ أولَّ نفاقِ المرِء طعنهُ على إمامه )).

أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) وابن عبد البر في ((التمهيد)).

*ومنها قول أبي إسحاق السبيعي: ((ما سبَّ قومٌ إمامهم إلا حُرموا خيره)).

أخرجه ابن عبد البر في ((التمهيد)) وأبو عمر الداني في ((الفتن)).

*ومنها قول أبي إدريس الخولاني -رحمه الله-: ((إياكم والطعنَ على الأئمة، فإنَّ الطعنَ عليهم هي الحالقة؛ حالقةُ الدين ليس حالقةَ الشَّعرِ، ألا إنَّ الطعانين الذين يطعنون في الأئمة، ألا إنَّ الطعانين هم الخائبون وشِرارُ الأشرار)). أخرجه ابن زنجويه في كتاب ((الأموال)).
*ومنها قول معروف الكرخي -رحمه الله-: ((من لعنَ إمامَهُ حُرِمُ عدله)).

ذكره ابن الجوزي في ((مناقب معروف وأخباره)).  

فأما الغربيون وأتباعُهم، وأما الأخوان المسلمون والضُلَّالُ من أشياعِهم وأتباعِهم؛ فيقولون: تريدون تقديسَ البشر وعبادتَهم من دون الله -جلَّ وعلا-، إنما الرئيسُ أو الإمامُ أو وليُّ الأمر أو الحاكم عند -هؤلاء الضلال المنحرفين- موظفٌ ينبغي أن يُحاسَب وأنْ يُراجع في كل وقتٍ وحين، فليس بوليِّ أمرٍ، وعليه فليس للمسلمين على قولِهم ولي أمر وقد غاب: ((ومن مات وليس في عنقه بيعة فمِيتتهُ ميتة جاهلية)).

هؤلاء يقولون لابد أنْ نعاملَهُ معاملةً دقيقة وأن يحاسبَهُ كلُّ فردٍ من أفراد الرعية على ذلك النحو الذي ابتدعه الغربيون والخوارج من المسلمين الذين ينتمون إلى القبلة، وصارَ على ذلك خوارجُ العصر -عاملهم الله بعدله-.

هذا النهي ليس تعظيمًا لذواتِ الأمراء -النهي عن سبِّهم؛ عن الخروج عليهم؛ عن الطعن فيهم؛ عن شتمِهم، عن إهانتهم- النهيُ عن ذلك ليس تعظيمًا لذوات الأمراء، وإنما هو لعِظَمِ المسؤوليةِ التي وُكلت إليهم في الشَّرع، والتي لا يُقام بها على الوجهِ المطلوب مع وجودِ سبِّهم والوقيعة فيهم؛ لأن سبَّهم يُفضي إلى عدم طاعتِهم بالمعروف، وإلى إيغارِ صدورِ العامة عليهم، مما يفتح مجالًا للفوضى التي لا تعود على الناس إلا بالشرِّ المستطير، كما أنَّ نتيجتَهُ وثمرتَهُ سَبُّهم والخروجُ عليهم وقتالهم، وتلك هي الطامةُ الكُبرى والمصيبةُ العُظمى.

وقال شيخ الإسلام: ((ولعله لا يُعرف طائفةٌ خرجت على ذي سُلطان؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظمُ من الفساد الذي أزالته)).

وقال -رحمه الله-: ((وقلَّ مَن خرج على إمامٍ ذي سلطان إلا كان ما تولَّد على فِعلهِ من الشر أعظمَ مما تولَّدَ من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المُهَلَّبِ الذي خرجَ على ابنه بخراسان، وكأبي مسلمٍ صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصورِ بالمدينةِ والبصرة)).

وأمثال هؤلاء إلى هذا العصر من أصحاب ((الربيع الماسوني)) الذي ضرب الأمة الإسلامية في مقتل، نسأل الله أنْ يعافيها من هذا بمنِّهِ وفضله وهو على كل شيء قدير.

وقال شيخ الإسلام: ((ولهذا كان المشهورُ من مذهب أهل السُّنة: أنهم لا يرون الخروج على الأئمةِ وقتالَهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم كما دلَّت على ذلك الأحاديثُ الصحيحةُ المستفيضةُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ الفسادَ في القتالِ والفتنة أعظمُ من الفسادِ الحاصل بظُلمِهم بدون قتالٍ ولا فتنة، فيُدفعُ أعظمُ الفسادين بالتزام أدناهما)).

وقد نبَّه الإمام ابن القيم -رحمه الله- إلى خطورة مخالفة هذا الأصل وذكر ما يترتب على مخالفته، فقال في ((إعلام الموقعين)): ((الإنكارُ على الملوكِ والولاةِ بالخروجِ عليه أساسُ كل شرٍّ وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابةُ -رضي الله عنهم- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتال شرار الأئمة؛ فقال: ((ما أقاموا فيكم الصلاة –أي: لا تفعلوا ذلك ما أقاموا فيكم الصلاة-)).

قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف.

قال: ((لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة)). أخرجه مسلم.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن رأى مِن أميرهِ شيئًا يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا عن طاعة)).

ومن تأمل ما جرى على الإسلامِ في الفتنِ الكبار والصِّغار؛ رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على مُنكر؛ فطلبَ إزالتَه؛ فتولَّد منه ما هو أكبر منه)).

وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: ((شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته إيجابَ إنكارِ المنكر ليحصُل بإنكاره من المعروف ما يحبه اللهُ ورسولُه، فإذا كان إنكارُ المنكر يستلزمُ ما هو أنكر منه وأبغضُ إلى الله و رسوله؛ فإنه لا يسوغُ إنكارُهُ، وإن كان الله يُبغضه ويمقُت أهلَهُ، وهذا كالإنكارِ على الملوك والولاة بالخروجِ عليهم فإنه أساسُ كل شرٍّ وفتنة إلى آخر الدهر، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعةِ هذا الأصل وعدم الصبرِ على مُنكر فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه.

وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكةَ أكبرَ المُنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح اللهُ مكة وصارت دارَ إسلام؛ عزم على تغييرِ البيت وردِّهِ على قواعد إبراهيم، ومنعهُ من ذلك مع قدرتهِ عليه؛ خشيةُ وقوعِ ما هو أعظم منه؛ من عدمِ احتمال قريش لذلك؛ لقُربِ عهدِهم بالإسلام وكَوْنِهم حديثي عهد بكُفرٍ، ولهذا لم أذن في الإنكارِ على الأمراء باليد؛ لِما يترتب عليهم من وقوع ما هو أعظم منه)). كما قال العلامة الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-.

فهذه حقوقُ ولي الأمر الذي هو الإمام أو الحاكم أو الرئيس أو السلطان على اختلافِ الأسماء واتحاد المُسَمَّى، حقوقٌ أحقَّهَا اللهُ وشرعَها على لسانِ رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمَن خالفها فهو ضالٌ آثمٌ، وإذا ماتَ على ذلك ماتَ ميتةً جاهلية، وينبغي أن يُعادى وأن يُبغض في الله، وأن يُدلَّ عليه، وأن يُحاربَ بكلِّ سبيل، وألا يُترك لكي يعيثَ في الأرضِ فسادًا، فإنَّ الخطرَ الناجم عنه أكبرُ بكثير مما يُتصور، كما وقعَ وشاهده الناس ومازالوا يعانون من آثارِهِ.

فالله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد حدَّد الشرعُ عقوبات أُخروية وعقوبات دنيوية للخارج على الإمام:

وقبل أن نشرع ببيانها بحول الله وقوته من عقيدة أهل الإسلام فيما يجب للإمام؛

نعرف من هو الخارجي:

قال الإمام محمد البربهاري -رحمه الله- في ((شرح السُّنة)): ((ومن خرج على إمامٍ من أئمة المسلمين فهو خارجيٌ قد شقَّ عصا المسلمين وخالف الآثار ومِيتتهُ مِيتةٌ جاهلية)).

فكلُّ من خرج على إمامٍ من أئمة المسلمين؛ على حاكمٍ من حُكام المسلمين فهو خارجي، شقَّ عصا المسلمين ومِيتته ميتةٌ جاهلية وقد خالف الآثارَ والسُّنن.

والخروج كما يكون بالسيف؛ كما يكون بالسلاح؛ يكون بالكلام، والنبي -صلى الله عليه و آله و سلم- لمَّا تكلم عن أصلِ الخوارج وقال: ((يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أقوامٌ))، ونعتَهم، لم يكن قد فعلَ أكثر من أنْ تكلمَ عند رسول الله -صلى الله عليه و آله و سلم-.

فالبدءُ إنما يكونُ بالكلمة، والكلمةُ خُروج، فمن تكلم بسَبِّ الإمام، أو تكلمَ بإهانِته، أو تكلم بالتحريضِ عليه وإيغارِ صدورِ العوام عليه، وأخذ ينقدُه في المحافلِ والمجامع، وأخذ يسعى بين الناس من أجلِ أنْ يخرجوا عليه وألا يطيعوا أمره؛ فهذا خارجيٌّ وإنْ لم يرفع سلاحًا، وإن لم يسع إلى ذلك، بل إنَّ مَن هيَّجَ المسلمينَ على الخروج؛ فهو من قَعَدِ الخوارج وهم أردئُهم وأدناهم وأسفلُهم؛ وهم الذين يُهيِّجون الناس على الخروج ولا يخرجون، كأولئك الكبار في تلك الجماعات والدعوات الباطلة المنحرفة المبتدعة، هؤلاء كلهم قدَّموا أولادَ المسلمين وحرضُّوهم وهيَّجوهم ووعدوهم بالحورِ العِين في جنات النعيم، وأخرُّوا أبناءَهم وخبَّئوهم في الخُدورِ كبناتِ الخدورِ وكالنساءِ في خدورِهن، وقدَّموا المساكين من القُرى والنجوع من الأحياء والحارات أصحاب الجَلَدِ والمشقة، فقدَّموهم فكانوا زادًا لنيران الفتنة، وسارت النقمة حتى بلغت كل صَقْعٍ في القُطر، حتى بلغت كلَّ دارٍ فيه، وكلُّ ذلك بسببِ أولئك الخوارج من القَعَدة وهم أحطُّهم وأسفلُهم وأرداهم.

فهذا هو الخارجي: كلُّ مَن خرج على إمامٍ من أئمة المسلمين فهو خارجي، يعني لو اجتمع جماعةٌ من الضلال من أهل الأهواء على ((الشبكة العنكبوتية)) وكوَّنوا مجموعةً لنُصرةِ المظلوم في قرية مثلًا ك((سُبكِ الأحد))؛ هؤلاء خوارج وينبغي أن يُعاملوا معاملةَ الخوارج، وأنْ يُدلَّ عليهم، وأن يُرشدَ إليهم، وأن يُعاملوا بما يستحقونه من النَّكال والإزراء والهوان والصَّفعِ على الأقفية.

رتَّب الشارع الحكيم عقوبات صارمة منها ما هو أخروي ومنها ما هو دنيوي:

فأما العقوبة الأخروية فمن ذلك:

*أنَّ المفارق للجماعة قد خلع رِبقةَ الإسلامِ من عنقهِ؛ والمعنى أنَّ الإسلام كالطوق في العُنق، فإذا فارق المسلمُ جماعةَ المسلمين؛ انفلت الطَّوْقُ الذي كان محفوظًا به وأصبح كالدابةِ التي انفلتت من زِمامها؛ فكانت عُرضةً للهلاك والضياع، دليلُ ذلك: حديث الحارثُ الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من خرجَ من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقةَ الإسلام من عنقه إلى أن يرجع )). أخرجه أحمد في ((المسند)) وهو حديث صحيح.

((ومن مات خارجًا عن الطاعة مات ميتة جاهلية)): كحال أهل الجاهلية، جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة فتقدم منها حديث ابن عباس ومنها حديث ابن عمر: ((من خلع يدًا من طاعة؛ لقيَ اللهُ يوم القيامة لا حُجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتةً جاهلية)).

أخرجه مسلم.
عن معاوية -رضي الله عنه- يرفعه: ((من مات بغيرِ إمام مات مِيتةً جاهلية )). أخرجه أحمد.

*وأنَّ من فارق الجماعة فإنه لا يُسأل عنه؛ بمعنى أنه من الهالكين لحديث فَضَالة بن عبيد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ثلاثةٌ لا تَسألُ عنهم؛ رجلٌ فارقَ الجماعةَ وعصا إمامَهُ وماتَ عاصيًا))؛ كأولئك اللذين ولَّوا الأدبار وانتشروا في الأرضِ كالخلايا السرطانية في جسدِ الأمة؛ فمنهم من هو في قَطر ومنهم من هو في السودان ومنهم مَن هو في تركيا إلى غير تلك الديار التي آوت المُحْدِثين والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لعنَ اللهُ من آوى مُحدِثًا)).

فتتنزل اللعناتُ عليهم بدعوةِ رسول الله -صلى الله عليه و آله و سلم-، رجلٌ فارق الجماعة وعصا إمامه ومات عاصيًا.

*الخارج على الإمام لا حُجة له يوم القيامة، لا حجة له في فِعله ولا عذر له ينفعه، فهذا من العقوبة الأخروية للذي يخرج على الإمام.

وأما العقوبة الدنيوية:

*فهي القتل إنْ أصرَّ على هذا الجُرم ولم يرجع عنه؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنه ستكون هَنَاتٌ وهنات، فمن أراد أن يُفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف كائنًا من كان))، وفي روايةٍ: ((فاقتلوه))، وفي روايةٍ: ((من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحد يريد أنْ يشقَّ عصاكم أو يُفرقَ جماعتكم فاقتلوه)).

أخرجه مسلم في الصحيح عن عرفجة الأشجعي -رضي الله عنه-.

والقتلُ إنما يكون بيدِ ولي الأمر أو من يُنيبه في ذلك، لا تُطلَق أيدي الناس في دماء الناس ولا في أبشارهم.

قال النووي -رحمه الله-: ((فيه الأمر بقتال من خرج عن الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين أو نحو ذلك ويُنهى عن ذلك، فإن لم ينتهي قُوتل وإن لم يندفع شره إلا بقتلهِ؛ فقُتل؛ كان هدرًا)).

وقال الصنعاني -رحمه الله-: ((دلَّت الألفاظُ على أنَّ مَن خرج على إمامٍ قد اجتمعت عليه كلمةُ المسلمين -والمراد أهل قُطرٍ- فإنه قد استحق القتل؛ لإدخالهِ الضررِ على العباد)).

هذا إذا خرج عليه.

وأما المُثَبِّطُ عن الإمام فقد ألحق به علماء الأمة عقوبةً تتناسب مع حجم تثبيطه:
إذ التثبيطُ عن الإمام مقدمة للخروج عليه وقد مرَّ حكم الخروج عليه وعقوبة الخارج، فكل وسيلة أدت إلى الخروج فهي وسيلة سوء تستحق عقوبةً ملائمةً لسوءِ الخروج نفسه.

قال الشوكاني -رحمه الله-: ((الواجب دفعُهُ -يعني المُثبط عن الإمام- الواجب دفعه عن هذا التثبيط فإن كفَّ وإلا كان مستحقًا لتغليظِ العقوبة والحيلولةِ بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بحبسٍ أو غيرِه؛ لأنه مرتكبٌ لمُحرَّمٍ عظيم وساع في إثارة فتنة تُراق بسببها الدماء وتهتُّك عندها الحُرُم، وفي التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام)).

هذا هو منهاجُ النبوة، هذا هو منهجُ السلف، هذا ما عليه أهلُ السُّنة والجماعة دون ما عليه أهل الأهواء من الفِرق الضالة والجماعات المنحرفة وهؤلاء الشياطين من شياطين الإنس الذين يجتالون أهل الحقِّ عن حقِّهم ويحرفونَ المسلمينَ عن صراطهم.

فعلى كل مسلم أنْ يتعلمَ هذا وأنْ يعيَه، وأنْ يجتهدَ في تحقيقه، فإنَّ للإمام عليك حقًا أحقه الله -رب العالمين- عليك، وبيَّنه لك رسوله -صلى الله عليه و آله وسلم-، وما عُرف هذا الاستهتار في معاملة الأئمة إلا لما ظهرت تلك الجماعةُ الضالة الماسونية المنحرفة -جماعة الإخوان المسلمين-، فهي التي جَرَّأت المسلمين على الخروجِ على الأئمة، وهي التي سعت إلى إحداثِ الفوضى في الأرض، حتى وقع ما وقع في مصر ومازالت آثارهُ قائمة، ووقع ما وقع في ليبيا -سلمها الله من كل سوء-، ووقع ما وقع في سوريا، حتى إنَّ بعضَ المراقبين يقول :إن الذين قُتلوا تجاوزوا المليون من السوريين مع من اُنتهك من الأعراض ومع ما دُكَّ من البلدان؛ سُوِّيت بالأرض، ومع ما شُرِّدَ وهُجِّر؛ وقد بلغوا سبعة ملايين، ومع ما وقع في اليمن من تقسيمها إلى ست دويلات.

فماذا تنتظرون؟

خذوا على أيديهم، كونوا حازمين، كونوا حاسمين؛ وإلا ضاع وطنُكم وضِعتم، ودُمِّرت مكاسبُ الإسلام في مصر على مدار أربعة عشر من الزمان، ومصرُ –حَفِظَها- اللهُ هي واسطةُ العِقْدِ وحائطُ الصَّدِ، فإنْ انهارَ هذا الحائطُ انهارت الأمةُ إلا ما رَحِم ربك.

فاللهم سلِّمنا وسلِّم أوطاننا وجميع أوطان المسلمين وعليك بالخوارج الضالين المضلين.

اللهم أحصهم عددًا وأهلكهم بددًا ولا تُبقي منهم أحدًا.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .