فالله –سبحانه وتعالى- بعث أنبيائه بإثباتٍ مُفصَّلٍ ونفيٍ مُجمل، فأثبتوا له الأسماء والصفات، ونفَوا عنه مماثلة المخلوقات، ومَن خالفهم من المُعطلة المتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية؛ فجاءوا بنفيٍ مُفَصَّل وإثباتٍ مُجمل، يقولون: ليس كذا، ليس كذا، ليس كذا، فإذا أرادوا إثباتَهُ؛ قالوا: وجودٌ مُطلَقٌ بشرط النفي وبشرط الإطلاق.
وأما الرُّسل –صلوات الله وسلامه عليهم- فطريقتهم طريقة القرآن، قال –سبحانه وتعالى- {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 182:180].
والله تعالى يخبر في كتابه أنه حيٌ قيوم، عليمٌ حكيم، غفورٌ رحيم، سميعٌ بصير، عليٌّ عظيم، خلَقَ السموات والأرض وما بينهما في ستةِ أيامٍ ثم استوى على العرش، كلَّم موسى تكليما، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا، يَرضى عن المؤمنين، ويغضبُ على الكافرين، إلى أمثال ذلك من الأسماء والصفات.
ويقول في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
ويقول –جلَّ وعلا-: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
ويقول –سبحانه-: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
ويقول -جلَّ شأنه-: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22].
فنفى بذلك أن تكون صفاته كصفات المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء، لا في نفسهِ المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في شيءٍ من صفاته ولا أفعاله، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44،43].
فالمؤمنُ يؤمن بالله وما له من الأسماءِ الحسنى ويدعوه بها، ويجتنب الإلحاد في أسمائه وآياته، ويدعو الله وحده ويعبده وحده، لا يُشرك بعبادة ربِّه أحدًا، ويجتنب مع ذلك طريق المشركين.
ومَن لم يُفرِّق بين أولياءِ الله وأعدائه، وبين ما أمر به وأحبَّهُ من الإيمان والأعمال الصالحة، وما كرِههُ ونهى عنه وأبغضه من الكُفر والفسوق والعصيان، مع شمول قدرتهِ ومشيئتهِ وخلْقِهِ لكلِّ شيء؛ إلا وقع في دين المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 148].
والقدرُ يُؤمنُ به ولا يُحتجُ به، القدر يُؤمنُ به ولا يُحتجُ به، بل العبدُ مأمورٌ أنْ يرجعَ إلى القدرِ عند المصائب، ويستغفر اللهَ عند الذنوب والمعائب، فالعبدُ دائرٌ بين القدر والشرع، يُسلِّم للهِ ربِّ العالمين فيما أجرى عليه من مقاديره، ويذكرُ القدرَ عند المصيبة، ويلتزم أمره ويجتنب نهيَه؛ فيكون ممتثلًا لشرعه، فهذا هو العبدُ حقًا، وهذا هو المؤمنُ صِدْقًا.
ولا ينفي الشرع من أجل إثبات القدر، ولا يلتفتُ إلى الشرعِ مع نفي القدر، وإنما يذكر القدرَ عند المصائب، ويجتهدُ في الاستغفارِ والتوبةِ عند الوقوع في المعاصي والمعائب.
وعلى المؤمن أنْ يجتهدَ في تحقيقِ العِلم والإيمان، وليتخذَ اللهَ هاديًا ونصيرًا وحاكمًا ووليًّا، فإنه نِعْمَ المولى ونِعم النصير، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
فيا مَن عزم السفرَ إلى اللهِ والدارِ الآخرة, قد رُفِعَ لك عَلَمٌ فشمِّر إليه, فقد أَمْكَن التشمير، واجعل سَيْركَ بين مُطالَعة مِنَّتِهِ, ومشاهدة عيبِ النفس والعملِ والتقصير، فما أبقى مشهدُ النعمةِ والذنب للمُحسن من حَسَنَةٍ؛ يقول: هذه مُنجِيَتي من عذاب السعير، وما المُعَوَّلُ إلا على عفوهِ ومغفرتهِ؛ فكلُّ أحدٍ إليها فقير، أبوء لك بنعمتك عليَّ, وأبوأ بذنبي, فاغفر لي, أنا المُذنِب المُسكِينُ وأنت الرحيم الغفور.
ما تساوى أعمالُك لو سَلِمَت مما يُبطلها أدنى نعمةٍ من نعمه عليك، وأنت مُرتَهنٌ بشكرها من حين أَرسَل بها إليك، فهل رَعيتها باللهِ حَق رعايتها، وهى في تَصرِيفِكَ وطَوْعَ يديك؟!
فتعلَّق بحبل الرجاء، وادخل من باب التوبة والعمل الصالح، إنه غفورٌ شكور.
نَهَجَ للعبدِ طريقَ النجاة وفتح له أبوابَها، وعَرَّفهُ طُرقَ تحصيل السعادة وأعطاهُ أسبابَها، وحذَّره من وَبَالِ معصيته وأشهده على نفسهِ وعلى غيره شُؤمَها وعِقابَها، وقال: إنْ أَطَعتَ فَبفَضلِي وأنا أشكر، وإنْ عصيتَ فبقضَائي وأنا أغفر، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
وأزاح عن العبدِ العِلَل، وأمَرَهُ أن يستعيذ به مِن العجزِ والكسل، ووَعدَه أنْ يشكر له القليلَ من العمل، ويغفر له الكثيرَ من الزَّلَلِ، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
أعطاهُ ما يشكرُ عليه, ثم يشكرُه على إحسانه إلى نفسه؛ لا على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أنْ يُحسنَ جزاءه ويقرِّبُه لديه، وأن يغفرَ له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحهُ بين يديه، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
وَثِقَتْ بعفوهِ هفواتُ المذنبين فوسِعَها، وعَكَفت بكرمه آمالُ المحسنين فما قطعَ طَمعَها، وخرَّقت السبعَ الطباق دعوات التائبين والسائلين فسَمِعَها، ووسِعَ الخلائقَ عفُوهُ ومغفرتُه ورزقُه, فما مِن دابةٍ في الأرضِ إلا على الله رزقُها، ويعلمُ مُستقرها ومُستودعها, إن ربي لغفورٌ شكور.
يَجُودُ على عبيدهِ بالنوالِ قبل السؤال، ويُعطى سائلَهُ ومُؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال، ويغفرُ لمن تاب إليه ولو بلغت ذنوبُهُ عددَ الأمواج والحصى والتراب والرمال، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
أَرحَمُ بعباده من الوالدةِ بولدها، وأَفرَحُ بتوبةِ التائب مِن الفاقد لراحلته؛ التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المُهلِكةِ إذا وجدها، وأَشكَرُ للقليلِ من جميعِ خلْقِه, فمن تقرب إليه بمثقال ذرةٍ من الخير شَكرَها وحَمِدَهَا؛ إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
تَعَرَّفَ إلى عبادهِ بأسمائه وأوصافهِ، وتحَبَّبَ إليهم بحِلْمِهِ وآلائهِ، ولم تمنعه معاصيهم بأنْ جاد عليهم بآلائِه، وَوَعَدَ مَن تاب إليه وأحسن طاعتَه؛ بمغفرةِ ذنوبه يوم لقائِه، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
السعادةُ كلُّهَا في طاعتهِ، والأرباحُ كلُّها في معاملتهِ، والمِحَنُ والبَلَايَا كلُّها في معصيتهِ ومخالفتهِ، فليس للعبدِ أنفعُ من شكرهِ وتوبتهِ، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
أفاضَ على خَلْقِهِ النعمة، وكتبَ على نفسهِ الرحمة، وضَمَّنَ الكتاب الذي كتبه؛ إنَّ رحمته تغلب غضبه، إن ربنا لغفورٌ شكور.
يُطَاع فيُشْكَرُ؛ وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصَى فيَحْلُمُ؛ ومعصيةُ العبدِ من ظلمه وجهلهِ، ويتوب إليه فاعلُ القبيح فيغفرُ له, حتى كأنه لم يكن قَطُّ من أهله، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
الحسنةُ عنده بعشرةِ أمثالِهِا أو يُضاعفها بلا عددٍ ولا حُسبان، والسيئةُ عنده بواحدةٍ ومصيرُها إلى العفوِ والغفران، وبابُ التوبةِ مفتوحٌ لديه منذ خلق السماوات والأرض إلى آخرِ الأزمان، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
بابُهُ الكريم مُنَاخُ الآمالِ ومَحَطُّ الأوزار، وسماءُ عطاياه لا تُقلِعُ عن الغيث؛ بل هي مِدْرَار، ويمينهُ مَلْأَى لا تغيضها نفقةٌ سَحَّاءُ الليل والنهار، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
لا يَلقى وصايَاه إلا الصابرون، ولا يفوزُ بعطايَاه إلا الشاكرون، ولا يَهلِكُ عليه إلا الهالكون، ولا يَشقى بعذابهِ إلا المتمردون، إنَّ ربنا لغفورٌ شكور.
فإياك أيها المُتمردُ أن يأخذكَ على غِرَّةٍ فإنه غيور، وإذا أقمْتَ على معصيته وهو يَمُدُّكَ بنعمته فاحذر، فاحذر! فإنه لم يُهملك لكنه صبور، وبُشْرَاك أيها التائب بمغفرته ورحمته، إنه غفورٌ شكور.
مَن عَلِمَ أنَّ الربَّ شكور تنوع في معاملتهِ، ومَن عَلِمَ أنه واسعُ المغفرة تعلَّق بأذيالِ مغفرته، ومَن عَلِمَ أن رحمته سبقت غضبَهُ لم ييأس مِن رحمته، إن ربنا لغفورٌ شكور.
حياةُ القلوب في معرفتهِ ومحبته، وكمالُ الجوارح في التقرب إليه بطاعته, والقيام بخدمته، وكمالُ الأَلْسِنَةِ بذكره والثناء عليه بأوصاف مَدحه، فأهلُ شُكره أهلُ زيادته، وأهلُ ذِكرهِ أهلُ مُجَالَسَتِهِ، وأهلُ طاعته أهلُ كرامته، وأهلُ معصيته؛ لا يُقَنِّطَهُم من رحمته، إنْ تابوا؛ فهو حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فهو طَبِيبُهُم، يبتليهم بأنواع المصائب ليُكَفِّرَ عنهم الخطايا، ويُطهِّرَهم من المعائب، إنه غفورٌ شكور.
مَن تعلق بصفةٍ من صفاته أخذَته بيده حتى تُدخِلَه عليه، ومَن سار إليه بأسمائه الحُسنى وَصَلَ إليه، ومَن أحبه؛ أحب أسمائه وصفاتِه وكانت آثَرَ شيءٍ لديه.
والأسماء الحسنى والصفات العلا مُقتضيةٌ لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكلِّ صفةٍ؛ عبودية خاصة: هي من موجباتها ومقتضياتها –أي: من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها- وهذا مُطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلبِ والجوارح.
فعلم العبد بتفرد الربِّ تعالى بالضُّرِ والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، يُثمرُ له عبودية التوكُّل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا.
وعِلْمُه بسمعهِ تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقالُ ذرة في السموات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنةَ الأعين وما تخفى الصدور، يُثمر له حفظ لسانه وجوارحهِ وخطراتِ قلبه عن كلِّ ما لا يُرضى الله، وأنْ يجعلَ تعلُّق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه؛ فيُثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويُثمرُ له الحياءُ اجتنابَ المحرمات والقبائح .
ومعرفتهِ بغناه وجوده وكرمهِ وبرِّهِ وإحسانهِ وواسع رحمته، تُوجب له سَعة الرجاء ويُثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسَبِ معرفته وعلمه.
وكذلك معرفته بجلال الله وعظمتهِ وعزِّه، تثمرُ له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة؛ هي موجباتها، وكذلك عِلمه بكماله وجماله وصفاته العُلى؛ يُوجب له محبة خاصة بمنزلةِ أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلُّها إلى مقتضى الأسماء والصفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها.
فخَلْقُه سبحانه وأمرُه هو موجبُ أسمائه وصفاته في العالَم وآثارها ومقتضياتها؛ لأنه لا يتزينُ من عبادهِ بطاعتهم، ولا تَشينهُ معصيتُهم، وتأمل قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث الصحيح الذي يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني))، ذكر هذا عَقب قوله: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفرُ الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)).
فتضمن ذلك أن ما يفعله تعالى بهم؛ من غفران زلَّاتِهم وإجابة دعواتهم، وتفريج كُرَباتهم، ليس لجلبِ منفعة منهم ولا لدفع مضرة يتوقعها منهم؛ كما هو عادةُ المخلوق الذي ينفع غيره ليكافئه بنفعٍ مِثله، أو ليدفع عنه ضررًا، فالرب تعالى لم يُحسن إلى عباده ليكافئوه، ولا ليدفعوا عنه ضررًا.
فقال –جلَّ وعلا-: ((لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني))، إني لستُ إذا هديت مُستهديكم، وأطعمت مُستطعمكم، وكسوت مستكسيكم، وأرويت مُستسقيكم، وكفيت مُستكفيكم، وغفرت لمستغفركم، بالذي أطلب منكم أن تنفعوني أو تدفعوا عني ضرراً، فإنكم لن تبلغوا ذلك وأنا الغني الحميد، فكيف والخلقُ عاجزون عما يقدرون عليه من الأفعال إلا بإقداره وتيسيره وخلْقه، فكيف بما لا يقدرون عليه؟ فكيف يبلغون نفع الغني الصمد الذي يمتنع في حقه أنْ يستجلب من غيره نفعًا، أو يستدفع منه ضررًا، بل ذلك مستحيل في حقه؟!
ثم ذكر بعد هذا قوله: ((يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد منكم؛ ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً)).
فيُبين –سبحانه- أن ما أمرهم به من الطاعات وما نهاهم عنه من السيئات؛ لا يتضمن استجلاب نفعِهم ولا استدفاع ضررِهم كأمرِ السيد عبده، والوالد ولده، والإمام رعيته بما ينفع الآمر والمأمور، ونهيِهِم عما يضرُّ الناهي والمنهي، فبيَّن تعالى أنه المُنزَّه عن لحوق نفعِهم وضُرهم به في إحسانه إليهم بما يفعله بهم وبما يأمرهم به، ولهذا لمَّا ذكر الأصلين بعد هذا، وأن تقواهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم؛ لا يزيد في ملكه شيئاً، ولا ينقصه، وأنَّ نسبة ما يسألونه كلهم إياه؛ فيعطيهم إلى ما عنده؛ كلا نسبة، فتضمن ذلك أنه لم يأمرهم ولم يُحسن إليهم بإجابة الدعوات، وغفران الزلات، وتفريج الكربات؛ لاستجلاب منفعة، أو لاستدفاع مضرة، وأنهم لو أطاعوه كلُّهم؛ لم يزيدوا في ملكه شيئاً، ولو عصوَه كلهم؛ لم ينقصوا من مُلكه شيئاً، وأنه الغني الحميد.
ومن كان هكذا فإنه لا يتزين بطاعة عباده ولا تَشينُه معاصيهم، ولكنْ له من الحِكم البوالغ في تكليف عباده وأمرِهم ونهيِهم ما يقتضيه مُلكه التام وحمده وحكمته، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجبُ من عباده شُكر نعمه التي لا تُحصى، بحسبِ قواهم وطاقتهم، لا بحسبِ ما ينبغي له، فإنه أعظمُ وأجلُّ من أن يقدر خَلْقُهُ عليه، ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمح به طبائُعهم وقواهم، فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم، ولا أنفع للعبد منه.
ولقد عَلِم اللهُ ربُّ العالمين أنَّ العباد لن يقوموا بتوفية حقه في الحمد على حسبِ ما هو له، فحَمِد نفسه بنفسه؛ فقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].
ومن الناس من يعرف الله بالجود والإفضال والإحسان، ومنهم من يعرفهُ بالعفو والحِلم والتجاوز، ومنهم من يعرفه بالبطشِ والانتقام، ومنهم من يعرفهُ بالعلم والحكمة، ومنهم من يعرفهُ بالعزة والكبرياء، ومنهم من يعرفه بالرحمةِ والبرِّ واللُطف، ومنهم من يعرفه بالقهر والملك، ومنهم من يعرفه بإجابة دعوتهِ، وإغاثة لهفتهِ، وقضاء حاجتهِ.
وأعم هؤلاء معرفة من عَرفه من كلامهِ، فإنه يعرف ربًا قد اجتمعت له صفاتُ الكمال، ونعوتُ الجلال، مُنزَّهٌ عن المِثال، بريءٌ من النقائصِ والعيوب، له كلُّ اسمٍ حسن، وكل وصف كمال، فعالٌ لِما يريد، فوق كل شيء، ومع كل شيء، وقادر على كل شيء، ومقيمٌ لكل شيء، آمرٌ ناه، متكلمٌ بكلماته الدينية والكونية، أكبرُ من كل شيء، وأجمل من كل شيء، أرحم الراحمين، وأقدر القادرين، وأحكمُ الحاكمين، فالقرآن أُنزل لتعريف عباده به، وبصراطه المُوصل إليه، وبحال السالكين بعد الوصول إليه.
فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقربّ إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل له، وجمعِ الفكر على معاني آياته، فإنها تُطلع العبد على معالمِ الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهِما وأسبابهِما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلِهما، وتتلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتُثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتُشيدُ بنيانه وتوطِّدُ أركانه، وتُريه صور الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتُحضِرَهُ بين الأمم، وتُريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتُشهِدَه عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يُحبه وما يُبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول إليه والقدومِ عليه، وقواطعَ الطريقِ وآفاتها، وتُعرِّفُه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتُعرِّفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهَم وأحوالهَم وسيماهُم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسامَ الخلق واجتماعَهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقَهم فيما يفترقون فيه .
وبالجُملة تُعرِّفه الربَّ المُدعوَّ إليه، وطريقَ الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قَدم عليه، وتعرِّفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانةِ والعذابِ بعد الوصول إليه .
فهذه ستةُ أمورٍ ضرورية للعبد معرفتها، ومشاهدتُها ومطالعتُها، فتُشهِدَه الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتُميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالَم، فتُريه الحق حقًا، والباطل باطلًا، وتعطيه فرقانًا ونورًا يُفرِّق به بين الهُدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة، وسعة وانشراحًا وبهجة وسرورًا، فيصير في شأن والناس في شأن آخر .
فإنَّ معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما يتنزه عنه من سمات النقص، وعلى الإيمان بالرُّسل، وذِكْر براهين صِدقهم، وأدلة صحة نبوتهم، والتعريف بحقوقِهم، وحقوقِ مُرسلِهم، وعلى الإيمان بملائكته، وهم رُسُلُه في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جُعلوا عليه من أمرِ العالَم العلوي والسفلي، وما يختص بالنوع الإنساني منهم، من حين يستقر في رحمِ أمه إلى يوم يوافي ربَّهُ ويَقْدُمُ عليه، وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعدَّ الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق، التي لا يشوبها ألمٌ ولا نكدٌ ولا تنغيص، وما أعدَّ لأعدائهِ من دار العقاب الوبيل، التي لا يخالطها سرورٌ ولا رخاءٌ ولا راحةٌ ولا فرح، وتفصيل ذلك أتم تفصيل وأبينَه، وعلى تفاصيلِ الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات في خلقه وأمره.
فلا تزال معانيه –يعني: معاني القرآن العظيم- تُنْهِضُ العبدَ إلى ربه بالوعد الجميل، وتُحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثهُ على التضمُّر والتخفف للقاء اليوم الثقيل، وتَهديه في ظُلَم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النِّعم بشكر ربه الجليل، وتُبصره بحدود الحلال والحرام، وتقفهُ عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتُثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتُسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل، وتُناديه كلما فترت عزماته وونى في سيره؛ تقدم الركب وفاتك الدليل.
فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل، وتحدو به وتسيرُ أمامه سيْرَ الدليل، وكلما خرج عليه كمينٌ من كمائن العدو، أو قاطعٌ من قُطَّاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعتصم بالله، واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل .
وفي تأمل القرآن وتدبُّرِه، وتفهمه، أضعاف أضعاف ما مرَّ ذكره من الحكم والفوائد .
وبالجملة فهو أعظم الكنوز، طِلِّسْمه الغوصُ بالفكر إلى قرار معانيه.
نزِّه فؤادك عن سوى روضاته فرياضه حِلٌ لكل منزه
والفهمُ طِلِّسْمٌ لكنز علومه فاقصد إلى الطِلِّسْمِ تحظَ بكنزه
لا تخش مِن بدعٍ لهم وحوادثٍ مادمت في كَنَفِ الكتاب وحِرزهِ
من كان حارسُه الكتابُ ودِرعه لم يخش من طعن العدو ووخزهِ
لا تخش من شُبهاتهم واحمل إذا ما قابلتك؛ بنصره وبعزه
والله ما هاب امرؤٌ شبهاتهم إلاّ لضعفِ القلب منه وعجزهِ
إنه القرآن المجيد، وإنها السُّنة المُطهَّرة، على مراد الله –جلَّ وعلا-، وعلى مراد رسوله –صلى الله عليه وآله سلم-، وهو منهاجُ النبوة ومنهج السلف، لا تقف أمامهُ شُبهات المُشبهين ولا بِدع المبتدعين، ولا آراء الذين يريدون لهذه الأمة أنْ تضل عن الصراط المستقيم.
والنبيُّ عند رأسه؛ يقول: يا عمَّاه؛ قل: لا إله إلا الله، هي كلمةٌ أُحَاجُّ لك بها عند الله، فيقول له شيطانُ الإنس: أتدَعُ دينَ عبد المطلب وتدخلُ في دينِ مُحَمَّد، فكان آخر ما قال؛ أنه على دينِ عبد المطلب؛ فدخل النار.
فهل كان أضر على أبي طالب عند الوفاة، أضرَّ من قُرناء السُّوء، لم يزالوا به حتى حالوا به بينه وبين كلمةٍ واحدة، تُوجب له سعادة الأبد.
فاحذر أهل زمانك، وأقلِل من المخالطة على قَدْرِ وسعك؛ إلا أنْ يكون حقًا تؤديه؛ من رحمٍ تَصِلُهُ أو برٌّ تصلُ به إلى مستحقيه، وماعدا ذلك فالزم قعر بيتك وأقبِل على ربِّك كما أمر بذلك نبيك –صلى الله عليه وآله وسلم-، وعليك بخاصةِ نفسك و دَع عنك أمر عامتهم، فإنهم من أضرِّ ما يكونُ من أمرٍ عليك.
فَإِنْ أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِيرُ عَنْ ذَلِكَ، فَلْيَسُلَّ قَلْبَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ كَسَلِّ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ، وَلْيَكُنْ فِيهِمْ حَاضِرًا غَائِبًا، قَرِيبًا بَعِيدًا، نَائِمًا يَقْظَانًا، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُبْصِرُهُمْ، وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَلَا يَعِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ قَلْبَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَرَقَيَ بِهِ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، يُسَبِّحُ حَوْلَ الْعَرْشِ مَعَ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ الزَّكِيَّةِ، وَمَا أَصْعَبَ هَذَا وَما أَشَقَّهُ عَلَى النُّفُوسِ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَبَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ؛ أَنْ يَصْدُقَ اللَّهَ رَبَّه، وَيُدِيمَ اللُّجْأَ إِلَيْهِ، وَيُلْقِيَ نَفْسَهُ عَلَى بَابِهِ طَرِيحًا ذَلِيلًا،وَلَا يُعِينُ عَلَى هَذَا إِلَّا المَحَبَّةٌ الصَادِقَةٌ، وَالذِّكْرُ الدَّائِمُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَتَجَنُّبُ الْمُفْسِدَاتِ الْأَرْبَعِ –التي ينبغي على الإنسان أن يجتنبها، من مفسدات القلب جميعها، وهو أمرٌ كالبحر الذي لا ساحل له، مع أنه البحر الذي يركبه مفاليس العالم، يُضيِّعون أعمارهم ويُبددون رأس مالهم ويزجون أوقاتهم في أمور لا تنفعه؛ لا في دنياهم ولا في أُخراهم.
أسأل الله أن يجمع قلوبنا على طاعته وأن يجمع أفئدتنا عليه، حتى يكون أحب ما يكون إلينا ويكون أحب إلينا من كل شيء، إنه –تبارك وتعالى- على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فما أشدَّ وأشقَّ وحشة التفرد:
لمَّا كان طالب الصراط المستقيم طالب أمرٍ؛ أكثر الناس ناكبون عنه، مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة، والنفوسُ مجبولةٌ على وحشة التفرد، وعلى الأُنس بالرفيق –لما كان ذلك كذلك-، نبَّه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا، فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له، وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزولَ عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة التفرد عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترثُ بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: ((عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين))، وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغُض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.
وهذان مثالان؛ فليكونا منك على بال
المثل الأول: رجلٌ خرج من بيته إلى الصلاة، لا يريد غيرها، فعرضَ له في طريقه شيطانٌ من شياطين الإنس، فألقى عليه كلامًا يؤذيه، فوقف وردَّ عليه، وتماسك، فربما كان شيطان الإنس أقوى منه؛ فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد، حتى فاتته الصلاة، وربما كان الرجلُ أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول وكمال إدراك الجماعة، فإنْ التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما فتَرَت عزيمته، فإن كان له معرفة وعلم؛ زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوْت الصلاة أو الوقت؛ لم يبلغ عدوه منه ما شاء .
فلا تلتفت، عرفت طريقك فالزمه، وأنت على رأس الصراط المستقيم فلا تحِد عنه ولا تلتفت، لِما؟
للمثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعُف سعيُهُ، فيدركه الكلب فيأخذه.
فاحذر أن تلتفت؛ لأن الظبي إذا التفت؛ أدركه الكلب، والكلاب النابحات من مذموم الصفات ومخذولِ العادات، مع الأهواءِ والبدعِ والشهوات، كل ذلك ينبُحك على دربك ويريد تعويقك عن صراطك، قد عرفت فالزم، فما تريد بعد؟
ألم يَهدِك؟ ألم يُنعم عليك؟ ألم يُجزل لك العطاء ويوصِّل لك الجمال والجلال والبهاء في الآيات البينات والأحاديثِ النيرات وما جاء عن السلف الصالحين؟ فماذا تريد بعد؟
في ذِكر هذا الرفيق ما يُزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم،
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: ((اللهم اهدني فيمن هديت))، أي: أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
الله –جل وعلا- يختص برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاءُ، وهو المحمود على هذا، فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضلهِ ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه ونقمته، ولكل واحدٍ قسطُه من الحكمة والابتلاءِ والامتحان.
وكلٌّ مستعملٌ فيما هو له، مُهيأَ وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به، ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقسمته، فكذلك لا تضرُّهم الأدواءُ ولا السموم، بل متى وسوس لهم العدو واغتالهم بشيءٍ من كيده، أو مسهم بشيء من طيفه؛ تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغيِّ ثم لا يُقصرون، وإذا واقعوا فى معصية صغيرة أو كبيرة عاد ذلك عليهم رحمة، وانقلب فى حقهم دواء، وبُدِّل حسنة بالتوبة النصوح والحسنات الماحية، لأنه –سبحانه- عرَّفهم بنفسه وبفضله، وبأن قلوبهم بيده وعصمتهم إليه، حيث نقض عزماتهم، وقد عزموا ألا يعصوه، وأراهم عزته فى قضائه، وبرَّه وإحسانه فى عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقصِ والظُّلم والجهل، وأشهدهم حاجتهم إليه وافتقارهم إليه، وذلهَّم لديه، وأنه إن لم يعُف عنهم ويغفر لهم؛ فليس لهم سبيلٌ إلى النجاة أبدًا، فإِنهم لما أعطوا من أنفسهم العزم ألا يعصوه، وعقدوا عليه قلوبهم ثم عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم اقتداره وجميل سَتره إياهم وكريمَ حِلمه عنهم وسعة مغفرته لهم، وبرد عفوه وحنانه وعطفه ورأْفته، وأنه حليمٌ ذو أناة لا يعجل، ورحيمٌ سبقت رحمته غضبه، وأنهم متى رجعوا إليه بالتوبة وجدوه غفورا رحيمًا، حليمًا كريمًا، يغفر لهم السيئات ويُقيلهم العثرات ويودَّهم بعد التوبة ويحبهم.
فتضرعوا إليه حينئذٍ بالدعاء، وتوسلوا إليه بذُلِّ العبودية وعزِّ الربوبية، فتعرف سبحانه إليهم بحُسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه؛ فى أنْ ألهمهم دعاءه ويسَّرهم للتوبة والإنابة، وأقبلوا بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه، ولم تمنعه معاصيهم وجناياتهم من عطفهِ عليهم، وبرِّه لهم وإحسانه إليهم، فتاب عليهم قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، فلما تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه؛ تعرف إليهم تعرُّفًا آخر؛ فعرَّفهم رحمته وحُسن عائدته وسِعة مغفرته وكريم عفوه وجميلَ صفحه وبره وامتنانه وكرمه، ومبادرته قبولهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرور وشدة النفور والإيضاع فى طرق معاصيه، وأشهدهم مع ذلك حمده العظيم وبره العميم، وكرمه فى أن خلَّى بينهم وبين المعصية فنالوها بنعمته وإعانته، ثم لم يُخلّ بينهم وبين ما توجبه من الإهلاك والفساد، الذى لا يُرجى معه فلاح، بل تداركهم بالدواء الثاني الشافي، فاستخرج منهم داء لو استمر معهم لأفضى إلى الهلاك، ثم تداركهم برَوْح الرجاء، فقذفه فى قلوبهم وأخبر أنه عند ظنونهم به، ولو أشهدهم عَظيم الجناية وقُبح المعصية وغضبه ومقته على من عصاه؛ لأورثهم ذلك المرضَ القاتل أو الداءَ العُضال من اليأْس من رَوْحِهِ والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم، ولكن؛ رحمهم قبل البلاء، وجعل تلك الآثار التى تُوجبها المعصية من المحن والبلاء ومن الشدائد -وما يكون في ذلك سائرًا وفي فلكهِ دائرًا- جعل ذلك رحمة لهم وسببًا إلى علو درجاتهم، ونيْل الزُّلفى والكرامة عنده، فأشهدهم بالجناية عزة الربوبية وذلَّ العبودية، ورقَّاهم بآثارها إلى منازل قُربه ونَيْل كرامته، فهُم على كل حال يربحون عليه، ويتقلبون فى كرمهِ وإحسانه، وكلُّ قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خيرٌ له، يسوقه إلى كرامته وثوابه، وكذلك عطاياه الدنيوية؛ نِعمٌ منه عليهم، فإذا استرجعها أيضًا منهم وسلبهم إياها، انقلبت من عطايا الآخرة كما قيل: إن الله يُنعم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت عطايا الآخرة، والرب –سبحانه- قد تجلى لقلوب المؤمنين العارفين وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه ومُضِّي مشيئته وعظيم سلطانه وعلو شأْنه وكرمه وبره وإحسانه وسعة مغفرته ورحمته، وما ألقاه فى قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية، ووراءه ما لا يُمكن أن تتحمله قواهم ولا يخطرُ ببال ولا يدخل في خَلدٍ مما لا نسبة لما عرفوه إليه.
لقد ذكر الحسن البصري في كتابه إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حقيقةَ هذه الدنيا، حتى يعلمها مَن غفلَ عنها، وحتى يلزم الجادة من ضلَّ عنها.
وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها، فتأمل حالَ عاشقٍ فانٍ في حب معشوقه، وكلما رام قُربا من معشوقه نأى عنه، ولا يفي له ويهجره ويصل عدوه، فهو مع معشوقه في أنكد عَيْش، يختار الموت دونه، فمعشوقه قليلُ الوفاء، كثيرُ الجفاء، كثيرُ الشركاء، سريعُ الاستحالة، عظيمُ الخيانة، كثيرُ التلون، لا يأمنُ عاشقه معه على نفسه ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلًا إلى سلوةٍ تُريحه، ولا وصالٍ يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذابٌ إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حِيلَ بينه وبين لذاته كلِّها، وصار مُعذبًا بنَفْسِ ما كان ملتذا به على قدر لذته به، التي شغلته عن سعيه في طلب زاده، ومصالح معاده؟
لأنَّ الله رب العالمين جعل من سُننهِ في خلْقه؛ أنَّ من أحب شيئًا دونَهُ؛ عُذِّب بمن أحب ولا محالة، فأحبب من شئت، فإن الله –جل وعلا- جعل هذا القانونَ ساريًا، وجعل هذه السُّنة الكونية في خلْقِه فاعلة، كلُّ من أحب غير الله –عز وجل- عُذِّب بمن أحب ولا محالة.
فإذا كان يومُ المعاد؛ ولَّى الحكَم العدل سبحانه كلَّ مُحبٍّ ما كان يحبه في الدنيا، فكان معه؛ إما مُنعَّمًا أو مُعذَّبًا –إما مُنعَّما إنْ أحب الرسول –صلى الله عليه وسلم- والصحابة والصالحين، وأحب أولياء اللهِ رب العالمين؛ يكون معهم، وإذا أحب أعدائه كان معهم، إما مُنعَّما أو مُعذَّبا-
ولهذا يُمَثَّلُ لِمُحب المَالِ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَأْخُذُ بِلِهزمَتَيه –يعنى: شدقيه-، يقُولُ: أنَا مَالُكَ، أَنَا كَنزُكَ، وَيُصَفَّحُ لَهُ صَفَائحَ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنبهُ وَظَهْرُهُ كما في الصحيحين.
وكذلك عاشقُ الصور، إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله –عز وجل-، جمع الله بينهما في النار، وعُذِّبَ كلٌّ منهما بصاحبه.
قال الله –جلَّ وعلا-: {الأخِلاءُ يَوْمَئذٍ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ عَدُو إلا المُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
فافهم حقيقةَ الدين، ودَعْك مِن هذا الخلْطَ الذي تَحيا فيه، وضَع يدكَ على ما جاء به نبيُّك –صلى الله عليه وسلم- من الحقِّ المُبين، تأمل فيه وأَعْمِل فيه فِكْرَك، وأسلِمه زمام قلبك، وسِر إلى ربك وكفى به هاديًا ونصيرًا، ودَع عنك التخليط، ودَع عنك أقوال الناس وأقاويلَهم، واحذر البدع والأهواء والزم الجادة المستقيمة، وسترى في خلْقِ الله ربِّ العالمين ما تقرُّ به عينُك إذا لَزِمْتَ الصراط المستقيم، سترى مصارع القوم، فاحمد الله ربَّك، أنْ هداك إلى ما هداك إليه من الحقِّ والصراط المستقيم، واسأل الله العافية، وإياك أن تشارك في فتنة أو أنْ تكون قادمًا على محنة، أمسك لسانك وطهِّر جنانك وأحسِن بيانك، واعقل بنانك إلا عن الحقِّ في سبيل الحق داعيًا إلى الحق.
والله يرعاك ويسدد خُطالك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.