فإن نبيَّنا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- بَيَّنَ لنا طريقًا واحدًا يجب على المسلمين أنْ يسلكوه، وهو صراطُ اللهِ المستقيم، ومنهجُ دينِه القويم.
فالواجبُ على علماءِ المسلمين: توضيحُ الحقيقة، ومناقشةُ كلِّ جماعة، ونُصْحُ الجميع بأنْ يسيروا في الخطِّ الذي رسمه اللهُ تعالى لعباده، ودعا إليه نبيُّنا مُحمدٍ -صَلَّى اللهُ عَليه وعلى آلهِ وَسَلَّم-، ومَن تجاوز هذا بأنْ يسيروا في الخطِّ الذي خطَّهُ الشيطان لهم.
فأولئك الواجبُ التشهيرُ بهم، والتحذيرُ ممن عرفَ الحقيقة؛ حتى يتجنبَ الناس طريقَهم، وحتى لا يدخل معهم من لا يعرف حقيقةَ أمرِهم فيُضلُّوه، ويصرفوه عن الطريق المستقيم الذي أمرنا اللهُ –جلَّ وعلا- باتباعه.
ولا شك أنَّ كثرةَ الفِرَقِ والجماعاتِ في البلد المسلم مما يَحْرِصُ عليه الشيطانُ أولًا، وأعداءُ الإسلام من الإنس ثانيًا.
فما هو حُكم الشرع في تعددِ الجماعات والأحزاب والتنظيماتِ الإسلامية؛ مع أنها مختلفةٌ فيما بينها، في مناهجِها وأساليبِها، ودعواتِها وعقائدِها، والأُسسِ التي قامت عليها، وخاصةً أنَّ جماعةَ الحق واحدة، كما دلَّ الحديث الشريف على ذلك؟
والجواب: لا يَخفى على كلِّ مسلمٍ عارفٍ بالكتابِ والسُّنة وما كان عليه سلفُنا الصالح مِن الصحابةِ ومَن تَبِعَهم بإحسان أنَّ التحزُّبَ والتَّكتُّلَ في جماعاتٍ مختلفةِ الأفكارِ أولًا، والأساليبِ ثانيًا؛ ليس من الإسلامِ في شيء؛ بل نهى عنه ربُّنا –جلَّ وعلا- في أكثرَ مِنْ آيةٍ في القرآنِ المجيد، منها: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(32)﴾ [الروم:32،31].
ولا شكَّ ولا رَيْبَ أنَّ أيَّ جماعةٍ يريدون بحرصٍ بالغ وإخلاصٍ للهِ –عزَّ وجل-؛ يريدون أنْ يكونوا من الأمةِ المرحومة، فلا سبيلَ للوصولِ إلى ذلك، ولا إلى تحقيقِهِ عمليًا في المجتمعِ المسلم إلا بالرجوعِ إلى الكتاب، وإلى سُنَّةِ الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-، وإلى ما كان عليه سلفُنا الصالح –رضي الله عنهم-.
ولقد أوضحَ رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- المنهجَ والطريقَ السليم؛ بأنْ خَطَّ ذاتَ يومٍ على الأرضِ خطًّا مستقيمًا، وخَطَّ حوله خطوطًا قصيرة عن جانبي الخطِّ المستقيم.
لا شك أنَّ هذه الطرق القصيرة هي التي تُمثِّل الأحزاب والجماعات والتنظيمات العديدة؛ ولذلك فالواجبُ على كلِّ مسلمٍ حريصٍ على أنْ يكونَ حقًّا من الفرقةِ الناجية أنْ ينطلقَ سالكًا الطريقَ المستقيم، وألَّا يأخذ يمينًا ولا يسارًا.
وليس في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ ما يبيحُ الجماعاتِ والأحزابَ والتنظيماتِ؛ بل إنَّ في الكتابِ والسُّنةِ ذَمَّ ذلك.
ولا شك أنَّ هذه الأحزاب تنافي ما أَمَرَ اللهُ تعالى به؛ بل ما حَثَّ عليه في قولِهِ –جلَّ وعلا-: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:92].
وقال -جلَّ وعلا-: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة:7،6]، والذين أنعمَ اللهُ –جل وعلا- عليهم بَيَّنَهُمْ في قوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].
هؤلاء هم الذين أنعمَ اللهُ عليهم، وما عداهم من الجماعاتِ والفِرَقِ والتنظيماتِ مخالفونَ للكتاب؛ مُشَاقُّونَ للسُّنة، فإنهم لا اعتبارَ بهم؛ لأنهم يخالفونَ كتابَ اللهِ –جلَّ وعلا-، ويخالفون سُنةَ الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-.
وهؤلاء يختلفونَ في بُعْدِهِم عن الحقِّ وقُرْبِهِم منه، وكلُّ هذه الجماعات، وكلُّ هذه التنظيمات، وكلُّ هذه الفِرَق تحت الوعيد، وكلُّها في النارِ إلا واحدة، كما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-.
والجماعاتُ فِرَقٌ توجد في كلِّ زمان، وليس هذا بغريب؛ وقد قال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فِرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعينَ فِرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فِرقة؛ كلُّها في النارِ إلا واحدة».
فوجودُ الجماعات، ووجودُ الفِرق والتنظيمات أمرٌ واقع، وأخبرنا به رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-، وقال: «مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا»؛ ولكنَّ التي يجبُ السيرُ معها والاقتداءُ بها: هم أهلُ السُّنةِ والجماعة، وهم السوادُ الأعظم؛ لأن الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- لمَّا بيَّنَ هذه الفِرق؛ قال: «كلها في النار إلا واحدة».
قالوا: وما هي؟
قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
فهذا هو الضابط.
فالجماعاتُ والتنظيماتُ والفِرق إنما يجبُ الاعتبارُ بمَن كان منها على ما كان عليه الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم-، وما كان عليه أصحابُهُ من السلفِ الصالح، واللهُ –جل وعلا- يقول: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:100].
هؤلاء هُم مِن الجماعة، وهي جماعةٌ واحدة، ليس فيها تعددٌ ولا انقسام، مِنْ أوَّلِ الأمةِ إلى آخرِها، هم جماعةٌ واحدة؛ ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:10].
هذه هي الجماعةُ الْمُمْتَدَّةُ من وقتِ الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- إلى قيامِ الساعة، وهم أهلُ السُّنةِ والجماعة، وأما ما خالفهم من الجماعات، ومِنَ الفِرَقِ والتشكيلات والتنظيمات؛ فإنها لا اعتبارَ بها؛ وإنْ تَسَمَّتْ بـ(الإسلامية)!!
كلُّ ما خالف؛ لا يجوز لا لنا أن ننتميَ إليه، أو ننتسبَ إليه.
ليس عندنا انتماءٌ إلا للكتاب والسُّنة، إلا للتوحيدِ والسُّنة والاتباع؛ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾ [الفاتحة:7،6]، والذين أنعم اللهُ عليهم بَيَّنَهُمْ في قوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].
فهؤلاء هم المعتَبَرُون حقًّا، وما عداهم من الجماعاتِ والفِرق والتنظيمات؛ فإنه لا اعتبارَ بِهم؛ بل هي جماعاتٌ مخالفة، وتختلف في بُعْدِهَا عن الحق وقُرْبِهَا منه؛ ولكنْ كلُّها تحت الوعيد، كلها في النار إلا واحدة، نسأل الله العافية.
وكَوْنُها في النارِ لا يلزم منه الكفر، وإنما هو من باب الوعيد، ومن كانت فِرْقَتُهُ مُكَفِّرةً مُكَفَّرَةً؛ فهو خالد في النار، ومن كانت فرقتُه ضالةً؛ فهو مُتَوَعَّدٌ بالنار.
فهذه الجماعات، وهذه الفِرَقُ والتنظيماتُ تَدْخُلُ في الثِّنْتَيْنِ والسبعينَ فرقةً الهالكةِ؛ لأن كلَّ من خالفَ أهلَ السُّنةِ والجماعة ممن ينتسبون إلى الإسلامِ في الدعوة، أو في العقيدة، أو في شيءٍ من أصولِ الدين؛ فإنه يدخلُ في الاثنتين وسبعين فِرقة، ويشملُهُ الوعيد، ويكون له من الذمِّ والعقوبة بقدرِ مخالفته.
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: «فَأَمَّا الِانْقسام الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ خُرُوجٌ عَنْ الْجَمَاعَةِ والائتلاف إلَى الْفُرْقَةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِابْتِدَاعِ، وَمُفَارَقَةِ السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ؛ فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ –صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم-».
واللهُ –جلَّ وعلا- سمانا في كتابه: (المسلمين)، وثبت في مسندِ الإمام أحمد أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- قال: «مَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَهُوَ جُثَاءُ جَهَنَّمَ».
وهذه التسمية كانت في صدرِ الإسلام، ولا يُعْرَفُ الانتسابُ إلا إلى الإسلام آنذاك، فلمَّا فشت البدع، وانتشرت الأهواء، واتكأ كلُّ صاحبِ بدعةٍ على الإسلام؛ لم يجد سلفُنا الصالح بُدًّا من إظهارِ ألقابِهم الشرعية التي تميزوا بها عمن سواهم من المُضِلِّين، فَتَسَمَّوْا بالأسماءِ الواردةِ في النصوص؛ كـ(الفِرْقَةِ الناجيةِ)، و(الطائفةِ المنصورةِ).
كما تَسَمَّوْا أيضًا بما التزموا به من العمل بالسنة التي نَبَذَهَا وَخَالَفَهَا غيرُهم؛ كـ(السلفِ)، و(أهلِ الحديثِ)، و(أهلِ الأثرِ)، و(أهلِ السُّنةِ والجماعةِ).
وإنما آثَرُوا هذه الألقابَ وفَضَّلُوها وتَسَمَّوْا بها لِعِلَلٍ كثيرةٍ، منها: أنَّ هذه النِّسَبِ لم تنفصل عن الأمةِ الإسلامية منذ تَكَوُّنِهَا على منهاجِ النبوة.
ومنها: أنَّ هذه النِّسب تحوي كلَّ الإسلام.
ومنها: أنها القاب، ومنها ما هو ثابت بالسُّنةِ الصحيحة، ومنها ما لم يَبْرُزْ ولم يَظْهَرْ إلا في مواجهةِ أهلِ الأهواء في ردِّ بدعِهم وضلالاتِهم؛ للتميز عنهم، فتجد أنَّ البدعة لمَّا ظهرت؛ تميز أهلُ الحق بالسُّنة، فقالوا: نحن أهل السُّنة، ولَمَّا حُكِّمَ الرأيُ؛ تميزوا بالحديث والأثر، فقالوا: نحن أهلُ الحديثِ والأثر.
ومن ذلك: أنَّ هذه الألقاب لم تكن داعيةً لهم للتعصبِ لشخصٍ دونَ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-.
ومنها: أنَّ هذه الألقاب لا تُفْضِي إلى البدعةِ، ولا إلى معصيةٍ، ولا إلى عصبيةٍ لِشَخصٍ، ولا إلى عصبيةٍ لطائفة.
ومنها: أنَّ عَقْدَ الولاءِ والبراءِ، والموالاةِ والمُعاداةِ، إنما هو على الإسلامِ، لا غَيْر.
وهذه الجماعاتُ الإسلاميةُ التي قامت على الأُسُسِ البعيدةِ عن الكتاب والسُّنة، هي في الحقيقةِ انشقاقٌ عن المسلمين، وشرُّها وضررها أعظم بكثير من خيرِها، فهي لمَّا اختارت طريقًا لا ينتمي إلى الكتاب والسُّنة، ولا ينهل من سلفِ هذه الأمة؛ دَخَلَ عليها النقصُ من هذا الباب؛ فالحَذَرَ الحَذَرَ من هذه الجماعاتِ المشبوهة والتنظيماتِ المُحْدَثَةِ.
فلا تكونوا –أيُّها الشبابُ- ضحيَّةَ أمثالِها؛ فوالله ما حَلَّتْ في بلدٍ، وَنَفَثَتْ فيه سُمُومَهَا؛ إلا سَادَ فيه التفرقُ والاختلافُ، وبَرَزَتْ الشحناءُ والبغضاء بين أبنائها، وكانوا قبل ظهورها وبروزها في عافيةٍ وسِتر، وهي سبيلٌ لِشَرْذَمَةِ المسلمين، وقد قال الله –جل وعلا-: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46].
قال العلامة السَّعديُّ –رحمه الله-: «أي: ومَنْ يخالف الرسولَ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- ويُعَانِدْهُ فيما جاءَ به ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ بالدلائلِ القرآنية والبراهين النبوية، ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وسبيلُهم: طريقُهم في عقائدِهم وأعمالِهم؛ ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾ أي: نتركُهُ وما اختاره لنفسِهِ، ونخذُله، فلا نُوفِّقُهُ للخير؛ لكونه رأى الحق وعَلِمَه وتركه، فجزاؤه من الله عدلًا أن يُبْقِيَهُ في ضلاله حائرًا، ويزدادَ ضلالًا إلى ضلالِهِ، كما قال –جلَّ وعلا-: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5].
ويدلُّ مفهوم الآية على أنَّ مَن لم يشاقق الرسول، ويتبع سبيلَ المؤمنين، فإنْ كان قَصْدُهُ وَجْهَ اللهِ، واتباعَ رسولِه-صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-، ولزومَ جماعةِ المسلمين؛ فإنه إنْ صَدَرَ منه مِن الذنوبِ أو الهَمِّ بها ما هو مِن مقتضياتِ النُّفوس وَغَلَبَاتِ الطِّبَاعِ؛ فإنَّ الله لا يُوَلِّيهِ نفسَه وشيطانَه، بل يتداركُهُ بِلُطْفِهِ، ويَمُنُّ عليه بحفظِهِ، ويعصمُهُ من السوء.
كما قال تعالى عن يوسف -عليه السلام-: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف:24]، أي: بسبب إخلاصِهِ صَرَفْنَا عنه السوءَ، وكذلك كلُّ مُخْلَصٍ، كما يدلُّ عليه عموم التعليل.
وهذا الوعيد المرتَّبُ على الشِّقَاقِ ومُخَالَفَةِ المؤمنينَ مراتبُ لا يُحْصِيهَا إلا اللهُ بحسَبِ حالةِ الذنبِ صِغَرًا وَكِبَرًا، فمنهُ ما يُخَلِّدُ في النارِ، ويوجِبُ جميعَ الخِذلان، ومنه ما هو دون ذلك».
وتَرْكُ سبيلِ المؤمنينَ يَجْعَلُ القلوبَ مُتَنَافِرَةً ولو اتفقت الأبدان؛ قال –جلَّ وعلا-: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر:14].
قال شيخُ الإسلام –رحمه الله-: «قلوبُهم مُتَوَادَّةٌ متواليةٌ ما دامَ الغرضُ الذي يؤمِنُون به مُشْتَرَكًا بينَهم، ثم يتخلى بعضُهم عن بعض، بخلافِ المؤمن؛ فإنه يحبُّ المؤمنَ، وينصرُه بظَهْرِ الغيب، وإنْ تناءت بينهم الديار وتباعدَ الزمان».
والسؤال: إضافةً لحالةِ التَّرَدِّي تعيشُ الأمةُ الإسلاميةُ حالةَ اضطرَابٍ فِكْرِيٍّ؛ خصوصًا فيما يتعلق بالدين، فقد كثرُت الفرق والجماعات والتنظيمات الإسلامية التي تَدَّعِي أنَّ نَهْجَهَا هو النهجُ الإسلامي الصحيح الواجبُ الاتباع، حتى أصبحَ المسلم في حَيْرةٍ من أمره؛ أيها يتبع؟! وأيُّها على الحق؟!
والجواب: التفرُّقُ ليس من الدين؛ لأن الدينَ أمرنا بالاجتماع، وأنْ نكونَ أمةً واحدةً على عقيدةِ التوحيدِ، وعلى متابعةِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-.
ومعلومٌ أنَّ البنيانَ وأنَّ الجسدَ شيءٌ واحد متماسك، ليس فيه تفرُّق؛ لأن البنيان إذا تفرق سقط، كذلك الجسم، إذا تفرق فَقَدَ الحياةَ؛ فلا بد من الاجتماع، وأنْ نكونَ أمةً واحدةً، أساسُها التوحيد، ومنهجُها دعوةُ الرسول -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-، ومَسَارُها على دينِ الإسلامِ العظيم.
فهذه الجماعاتُ والتنظيماتُ والفِرَقُ، وهذا التفرُّقُ الحاصلُ على الساحةِ اليوم لا يُقِرُّهُ دينُ الإسلام؛ بل ينهى عنه أشدَّ النهي، ويأمرُ بالاجتماعِ على عقيدةِ التوحيد، وعلى منهجِ الإسلام، جماعةً واحدةً، وأمةً واحدةً، كما أمرنا اللهُ –جلَّ وعلا- بذلك.
والتفرُّقُ وتعددُ الجماعات إنما هو من كيدُ شياطين الجنِّ والإنس لهذه الأمة؛ فما زال الكفار والمنافقون من قديمِ الزمان يَدُسُّونَ الدَّسَائِسَ لِتَفْرِيقِ الأمةِ؛ قال اليهودُ مِنْ قَبْلُ: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران:72]، أي: لعلَّ المسلمين يرجعون عن دينِهم إذا رأوكم رجعتم عنه.
وعلماءُ الإسلامِ وعلماءُ السنةِ في السابق واللاحق لا يُجِيزُونَ هذا التفرقَ، ولا هذا التحزبَ، ولا هذه الجماعاتِ المختلفةَ في مناهِجِها وعقائِدِها، ولا هذه التنظيماتِ في أهدافِها وغاياتِها؛ لأنَّ الله قد حَرَّمَ ذلك، وكذلك رسولُه -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-، والأدلةُ كثيرةٌ على ذلك، وقد ظَهَرَ ذلك في أقوالِ العلماءِ في حكمِ الاختلاطِ بأهلِ البدع؛ من المنتسبينَ إلى تلك الفِرقِ والجماعات، ومِن غيرِهم.
قال الفضيل –رحمه الله-: «مَنْ عَظَّمَ صاحبَ بدعةٍ؛ فقد أَعَانَ على هَدْمِ الإسلامِ، ومَنْ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِ مبتدعٍ؛ فقد اسْتَخَفَّ بما أَنْزَلَ اللهُ -عز وجل- على محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم-، ومَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ –أي: ابنتَه- مِنْ مبتدعٍ؛ فقد قَطَعَ رَحِمَهَا، ومَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مبتدعٍ؛ لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حتى يَرْجِعَ».
ذكره البربهاريُّ في «شرح السُّنة».
وقال الشاطبيُّ –رحمه الله- في «الاعتصام»: «فَإِنَّ تَوْقِيرَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مَظِنَّةٌ لِمَفْسَدَتَيْنِ تَعُودَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْهَدْمِ:
وفي «تاريخ دمشق»: «عن عُقبة بن علقمة، قال: كنت عند أَرْطَأَةَ بْنِ المنذِرِ، فقال بعضُ أهلِ المجلس: ما تقولون في الرَّجُلِ يجالِسُ أهلَ السنةِ ويُخَالِطُهُم، فإذا ذُكِرَ أهلُ البدعِ قال: دَعُونَا مِنْ ذِكْرِهم، لا تذكروهم؟
قال أرطأة: هو منهم، لا يُلَبَّسُ عليكم أمرُه.
قال: فأنكرتُ ذلك مِنْ قولِ أَرْطَأَةَ، فَقَدِمْتُ على الأوزاعي، وكان كَشَّافًا لهذه الأشياءِ إذا بَلَغَتْهُ.
فقال: صَدَقَ أَرْطَأَةُ، والقولُ ما قال، هذا يَنْهَي عن ذِكْرِ أهل البدع، ومتى يُحْذَرُوا إذا لم يُشَدْ بِذِكْرِهِم؟!!».
وقال شيخ الإسلام –رحمه الله- فيمن يوالي الاتحاديةَ -وهي قاعدة عامة في جميع أهل البدع، والاتحاديةُ هم الذين يقولون بالاتحاد، وهذا شركٌ في حقيقةِ الأمر؛ بل هو خروج من الملة- قال –رحمه الله- في هؤلاء -وهي قاعدة عامة في جميع أهل البدع-:
وفي «طبقات الحنابلة»: قال أبو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ –رحمه الله-: «قلت لأبي عبد اللَّه –يريد أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رحمه الله-: أَرَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ البيت مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدْع؛ أَتْرُكُ كَلامَهُ؟ قَالَ: لا، أو تُعْلِمُهُ أَنَّ الَّذِي رَأَيْتَهُ مَعَهُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ، فَإِنْ تَرَكَ كَلامَهُ؛ وَإِلا فَأَلْحِقْهُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ –رضي الله عنه-: الْمَرْءُ بِخِدْنِهِ».
ونحن هاهنا في مصرَ نُعَانِي من مشكلة جُلَّى، وهي: أنَّ أكثرَ الناس يتكلمون فيما لا يُحسنون؛ بل يتكلمون فيما هُم به جاهلون، ويَعُدُّونَ –بل يعتقدون- أنَّ هذا حقٌّ لهم غير ممنون، وفي الوقت عينه يُنكرون على أهلِ الاختصاصِ الكلامَ فيما هم به مختصون، ولو سكتَ الجاهل؛ لاستراحَ العالِم؛ ولكنْ للهِ في خلقِهِ شئون.
أَكُلُّ امْرِئٍ في مِصْرَ يَسْعَى لِنَفْسِهِ وَيَطْلُبُ أَسْبَابَ الْحَيَاةِ لِذَاتِهِ
ومما كان عليه أصحاب النبي –صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله تعالى عنهم-، وكذلك من تَبِعَهم بإحسان من أهل الهدى والتُّقَى والعفافِ والغِنَى في العلم، مما كانوا عليه: أنهم يراعونَ المصالح العليا للأمة، يُقَدِّمون مصلحةَ الأمة على المصلحةِ الشخصية، لا يعتبرون المصلحةَ الخاصة ولا يبالون بها، وينظرون إلى المصالحِ العليا للأمة، ويعلمون أنه ما نالَ من الأمةِ عدو مِثلما نالت الأمة من نفسِها؛ باختلافِها، وتدابرِ قلوبِ أبنائها.
وكيف لا يكونُ ذلك كذلك ورسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- قد بيَّنَ لهم أن هذا هو حظُّ الشيطان منهم؛ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ». رواه مسلم.
قد منعَ اللهُ –جلَّ وعلا- نبيه -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- هذه لمَّا سأل الله –جل وعلا- ألا يجعل بأسَ الأمة بينها، قال: «فَمَنَعَنِيهَا؛ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وحتى يَسْبِيَ بعضُهم بعضًا».
حذَّرَ من ذلك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- فقال: «أَلَا لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
فإما أنْ يكونوا كفارًا بالمعنى الذي لا يُخرجهم من دينِ اللهِ –جلَّ وعلا-، وإنما يُشْبِهُونَ الكفارَ في إقبالِهم على سفكِ دماءِ المسلمين، واستباحةِ أجسادِهم وأرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وإما أَنْ يَشْتَطَّ منهم أقوامٌ يُكفِّرون المسلمين تكفيرًا، ثم يرفعون السيوفَ على الرقاب؛ «أَلَا لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
والنبي -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- في كلِّ صلاةٍ صَلَّى فيها بالمسلمين، توجَّهَ إليهم مُحَذِّرًا ومُنذرًا، وهاديًا ومُعَلِّمًا، يأمرهم بالاستواء في الصفوف؛ «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهم؟».
يأمرهم بالاستواء حتى يكون الصَّفُّ كالقِدْحِ؛ استواءً واعتدالًا، أبدان مُتراصة، وقلوب متحابة متلاحمة متداخلة متمازجة كالجسدِ الواحد، يركع ويسجد، ويهبط ويصعد وراء إمامه بغير خلاف ولا اختلاف؛ «لَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ».
فحذَّرَ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- من اختلافِ الأبدانِ في الصفوفِ في الصلاة، ونبَّهَ إلى أمرٍ جليلٍ خطير في أثرهِ على الأمة؛ أن هذا الاختلال في الاستواء في الصفوف –وهو أمرٌ ماديٌّ محض- يؤدي إلى اختلاف باطني يؤثر في القلوب؛ «لَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ».
الصحابة –رضي الله تعالى عنهم- ومن بعدهم ممن تبعهم كانوا يراعون المصلحةَ العليا للأمة.
لم يكن أحدُهم داعيةَ خلافٍ ولا اختلاف، وكانوا يعلمون أنَّ المساحة التي كانوا يتحركون فيها ينبغي أنْ تسعَهم، ينبغي ألا تضيق بهم، فإذا جاءت المصلحة العليا للأمة؛ تركوا خلافاتهم.
الذي شجرَ بين الأصحاب ونشبَ بينهم، وأدى إلى بعض الاقتتال بين جُندِ عليٍّ وجُندِ معاوية –رضي الله عنهما- كان باجتهاديهما، ومنهم مجتهدٌ مخطئٌ له أجر، ومجتهدٌ مصيبٌ له أجران –رضي الله عنهما وعن الصحابةِ أجمعين-.
كانا يعلمان أنَّ ما اختلفا فيه بسبب الاجتهاد إنما كان في المنطقةِ المسموح بها، فلمَّا أرسل ملكُ الرومِ إلى معاوية –رضي الله عنه- خِطابًا يعرضُ فيه عليه أن يُمِدَّهُ بِمَدَدٍ يُقَوِّيهِ به على علي وجنده؛ أرسلَ إليه معاوية –رضي الله عنه-: «ألا يا ابن الكافرة؛ أما والله إن لم تُكُفّ؛ فإني سأصير إلى ابن عمي –يريد عليًّا رضي الله عنه-، حتى أكون معه بجندي، ثم نسير إليك، حتى يُرِيَكَ أَمْرَ اللهِ –جل وعلا-»، بمعنى ما قال –رضي الله عنه-.
كانوا يراعون مصلحةَ الأمةِ العليا، يحرصون على الأرضِ الإسلامية والوطنِ الإسلامي، يقاتلون دونه، ويجاهدونَ مَن أراد اغتصابَهُ والاعتداءَ عليه، ولا يُحدثون الفوضى ولا الشغب فيه، ولا يكونون إلى ذلك سببًا ولو بكلمة، فالنبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- هو الذي علَّمَهم،وهو الذي ربَّاهم، وهذا سبيلُ سلفِك الصالحين من الصحابةِ ومن تَبِعَهم بإحسان؛ فاتق الله في نفسِك؛ فإنك إنْ لم تتبعه؛ فإنما تقامر بآخرتك، وليس لك بَعْدَهَا مِنْ بَعْد؛ فاتق الله في مستقبلِك الحق.
إياك وتحزُّباتِ الخلق، وأقْبِل على دينك، وإياك والتعصبَ للرجال؛ فإن ذلك مهلك أَيُّمَا إهلاك.
أيتها الأمةُ المرحومة؛ تمسكي بكتابِ الله وسُنةِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- بفهمِ أصحابِ رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم، ورضيَ الله عنهم-.
عودي -أيتها الأمة- إلى الأمرِ العتيق، إلى الأمرِ الأول، ثم يخرجُ الناسُ بعد ذلك من الخلاف، تتآلفُ القلوب، وتتوحدُ الوجهة، وتتآزرُ القوى، وتتساندُ الأبدان، وتتعاضد السواعد بناءً في هذا الوطن، نسأل الله أنْ يعصمه من الفتن ظاهرها وباطنها، إنه على كلِّ شيءٍ قدير، وأن يعصمَ جميع أوطان المسلمين.
والعلم الذي يأتي به كلُّ جهول قد أوصلَ أبناءَ الأمة –إلا من عصم الله- إلى حد التفريطِ في ترابِ أوطانِهم الإسلامية، كأنها لا شيء!! بل كثيرٌ منهم يسعى جاهدًا، ويعملُ دائبًا من أجل أنْ يتملكها من هو كافرٌ بالله، مُكَذِّبٌ لرسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-!!
الخوارجُ القعدة الذين هم من المُهيِّجة للثوار، الذين لا يخرجون، وإنما يُهَيِّجُونَ ويُثَوِّرُونَ، هؤلاء جاهدون دائبون في الوصول إلى تلك النتيجة؛ فلا تُسْلِمْ زِمَامَ قلبِك لغيرِ دين ربك، ولا تتبع غيرَ نبيِّك -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-.
كُن عاقلًا.
كن عاقلًا، ونَزِّلْ عَمَلَكَ في دينك عملك في بدنك.
كن عاقلًا.
لا تكن ظالمًا ولا جهولًا؛ لأن المرءَ إذا أُصيب بوعكةٍ في بدنه؛ نظر الحُذَّاقَ من الأطباء، وبذلَ المالَ والمجهود من أجلِ أنْ يداويَ الخلل، وأنْ يصلحَ الفاسد.
هذا في بَدَنِهِ، وَبَدَنُهُ إلى التراب.
وأما قلبُهُ ودينه؛ فإنه يستفتي فيه كل جهول ممن لم يشهد له بالعلم الأصيل!!
هذا كله من الخطورة بمكان.
فاتقوا الله في وطنِكم عباد الله، واتقوا الله في أوطانِكم أيها المسلمون؛ فإنها مستهدفةٌ مرادةٌ مطلوبة.
تآزروا، وتعاونوا، ونَمُّوا الموجود؛ حتى تحصلوا المفقود، ولا تتبعوا السراب؛ فإنه هباءٌ يُفضي إلى يباب.
إنَّ حُبَّ الوطنِ فطرةٌ فَطَرَ اللهُ –عز وجل- عليها المخلوقات في الأرض، فالإبلُ تَحِنُّ إلى أوطانها، والطيور تحنُّ إلى أوكارِها، أما الإنسان؛ فحنينُهُ إلى وطنه أشد، وشوقه إليه أكبر.
قال إبراهيم بن أدهم –رحمه الله-: «عالجتُ العبادة، فما وجدت شيئًا أشدَّ عَلَيَّ من نزاعِ النفسِ إلى الوطن».
فهو إذا جلس في مكة –مثلًا- مجاورًا؛ نَازَعَتْهُ نفسُه الرجوعَ إلى وطنِهِ بغداد.
وقال أيضًا –رحمهُ الله-: «ما قاسيت فيما تركت شيئًا أشدَّ عليَّ من مفارقةِ الأوطان».
ومن حكمةِ الله –عز وجل- في تسخيرِ الناس لعمارةِ الأرض: أَنْ جَعَلَ حبَّ الوطن –حتى ولو كان قليل الخير- متأصلًا في النفوس، مجبولةً عليه، كما قال عمر –رضي الله عنه-: «لو لا حبُّ الوطن؛ لخربَ بلدُ السوء».
ذكره البيهقي في «المحاسن والمساوئ»، وفيه: «كان يقال: بحبِّ الأوطان عُمِّرَت البلدان».
وجاء عند ابن حمدون في «التذكرة» بلفظ: «عَمَّرَ اللهُ البلدان بحبِّ الأوطان».
فترى البلدَ القليلَ الأمطار، الشديدَ الحرِّ، أو الكثير الأوبئة لا يعدلُ أهلُهُ به جناتٍ في الأرض وأنهارًا.
قال الشاعر القديم:
وكنَّا ألفناها ولم تكُ مألفا ... وقد يُؤلفُ الشيءُ الذي ليس بالحَسَن
كما تُؤلفُ الأرضُ التي لم يكن ... بها هواءٌ ولا ماءٌ ولكنَّهَا وطن
وأكثر من ذلك: أنَّ الوطنَ قرينُ النفسِ في كتاب الله –جل وعلا-، كما قال القاضي الفاضل: «الخروج من الديار مقرون بالقتل في كتابِ الله –جل وعلا-».
وإذا كان الناس كما قال الشاعر: «الناسُ نفوسُ الديار، وخروجُهم منها قَتْلُها، وانتقال ولايتهم عنها عَزْلُها»، وهو يشيرُ –رحمه الله- إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء:66].
قال بعض المفسرين في هذه الآية: «لَوْ شَدَّدْنَا عَلَى النَّاسِ التَّكْلِيفَ؛ كأنْ نَأْمُرَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَوْطَانِ؛ لشقَّ ذلك عليهم، وما فعلهُ إلا القليل من الناس ممن رسخَ الإيمان في قلبه، فلمَّا لم نفعل ذلك رحمةً بالعباد؛ بل كلفناهم من الأمور ما يطيقون؛ فعليهم أنْ يستجيبوا ويؤمنوا، ويتركوا العناد والتمرُّد».
ففي الآيةِ تصريح بأنَّ قَتْلَ النفسِ والخروج من الوطن شاقٌّ على النفوس، وإذا لم يجعله اللهُ علينا كما جعله على بني إسرائيل عقوبة؛ أنْ يقتلوا أنفسهم، وألا يستقروا في وطن؛ فالحمد لله الذي عافانا.
وبما أنَّ الوطن في هذه المنزلة، وله هذه المكانة؛ فهل حبُّهُ والحنين إليه يُؤجرُ عليه المسلم؟
وهل الدفاعُ عنه والحفاظُ عليه فرضٌ على جميع المسلمين؟
هذا ما نعرفه إن شاء الله –جل وعلا-، والله المستعان، وعليه التُّكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
هل الدفاعُ عن الوطن والحفاظُ عليه فَرْضٌ على جميعِ المسلمين؟
وهل حبُّهُ والحنين إليه يُؤجرُ عليه المسلم؟
إنَّ حُبَّ المسلمِ لوطنِهِ الذي قام الإسلامُ عليه، وارتفع فيه، حتى أصبحَ وطن المسلمين وبلادهم هو حبٌّ مشروع، يجتمع فيه الحبُّ الفطري الغريزي، والحبُّ الشرعي، وما تولد حبُّ الوطن إلا عن حبِّ الأهلِ والأقاربِ والجيران، ثم عن تعلُّقِ كلِّ إنسانٍ بمحلِّ ولادتِهِ ومكانِ نشأتِهِ، كما قال ابنُ الروميِّ في أبياتِهِ المعروفة:
قال: كيف لا أشتاقُ إلى رَمْلَةٍ كنتُ جنينَ رُكامِها، ورضيعَ غَمامِها؟!!
وأبيات الشعراء ومقالات الحكماء في ذلك كثيرةٌ جدًا.
فهذا من جانب.
ومن جانب آخر: حبُّ الوطن تولد من حبِّ شعائرِ الله التي تُقام عليه، ومن حبِّ العِلم الذي يكتسبه المسلمُ فيه، ومن حبِّ اجتماعِ المسلمين، وتنظيم أمورهم لعمارةِ الأرض على ترابِ ذلك الوطن، فحبُّ الوطنِ الإسلامي؛ نبَّهَ عليه الشارعُ الحكيم في مواطن متعددة، منها: ما جاء من النصوص التي تفيد أنَّ حبَّ الوطن مشروع.
قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله- في «الفتح» مُعلِّقًا على حديث أنس بن مالك: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ؛ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ –أي أسرع بها-، وَإِذا كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا من حبِّها –أي من حبِّ المدينة-».
أخرجهُ البخاري في «الصحيح».
قال الحافظ: «فيه دلالة عَلَى مَشْرُوعِيَّة حب الوطن، والحنين إِلَيْهِ».
ونبَّه الحافظُ ابن كثير، والحلبي في «سيرته»، وغيرهما على أنَّ دعاءَه -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- أنْ يُحبَّبَ الله إليهم المدينة كحبِّهم مكة أو أشد؛ إنما هو لما جُبلت عليه النفوس من حبِّ الوطنِ والحنين إليه، وذلك في حديث عائشة في «الصحيحين»: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ».
وفي «الصحيح» عن عائشة في قصةِ الوحي: أنَّ ورقةَ بن نوفل لمَّا قال للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-: لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.
قال -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟»
قال: نعم.
قال الحلبيُّ في «السيرة» وغيرُه: «الاستفهامُ الإنكاريُّ هنا «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» دليلٌ على شدة حبِّ الوطن، وعُسْرِ مفارقته خصوصًا، وذلك الوطنُ حَرَمُ اللهِ، وجِوَارُ بيتِه، ومَسْقَطُ رأسِهِ».
فالاستفهام الإنكاري دليل على شدةِ حبِّ الوطن، وعُسْرِ مفارقته، خصوصًا وذلك الوطن حَرَمُ اللهِ، وجِوَارُ بيتِه، ومَسْقَطُ رأسِهِ.
وفي إشارةٍ نبويةٍ كريمة نَبَّهَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- على أنَّ تُربةَ الأرض التي يعيش فيها الإنسان قد تكون عنصرًا من عناصرِ الدواء الذي يَشفيه اللهُ –عز وجل- به، فهذا طِبٌّ نبوي.
ثبتَ في «الصحيحين» عن عائشة –رضي الله عنها- حيث قالت: «كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- يَرْقِي المريض، فيجعلُ في أصبعِهِ ريقَه، ثم يضعُ الأصبع على التراب، فَيَعْلَقُ به التراب، ثم يقول: «بِسْمِ اللَّهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا».
والحديث في «الصحيحين».
هذا الأمرُ موجودٌ عند الأطباء قديمًا، كما ذكرَ الإمامُ ابن القيم –رحمه الله تعالى- ذلك في «زاد المعاد» وأَكَدَّه.
والأمرُ الثاني: ما قرَّره الشرع من وجوبِ الدفاع عن بلاد المسلمين بالنفسِ والمال، والكلمةِ المقروءةِ أو المسموعة، وهذا إجماعٌ من المسلمين؛ بل من صورِ تَعيُّنِ الجهاد على كل فردٍ من أفرادِ الأمة: إذا دَهَمَ العدوُّ بلادَ المسلمين؛ وجبَ على أهلِ ذلك البلد أنْ يدافعوا عن ذلك البلد؛ لقول الله –جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ [الأنفال:45].
ولقول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ....، وذكر منها: التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ».
ويُؤَكِّدُ القتالَ مِنْ أَجْلِ الدفاعِ عن بلدِ المسلمينَ قولُه تعالى عن بني إسرائيل: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة:246]، فصاحبُ الفطرة السليمة والدين المستقيم يجد حُرمةَ بلده في قلبهِ كحُرمةِ أهله، كحُرمةِ أبويه، كحُرمةِ امرأته وبناته، كحُرمة إخوانه، كما قال بعض الحكماء: «تربةُ الصبا تغرسُ في النفوس حُرمة، كما تغرسُ الولادة في القلوبِ رِقَّة».
لا يوجدُ أحدٌ بيننا امتلأ وفاءً وبقيَ على فطرةِ اللهِ –جل وعلا- إلا وهو يحملُ في نفسه حب وطنه، وإكبارَه، والخوفَ عليه.
قلبُهُ مُشبَعٌ من الإعزاز لوطنه، مُفعمٌ بالتفاخرِ والاعتزاز به؛ فاحذروا الذين يُفرِّطونَ في الأرض، ويخونون وطنَهم من الذين ينعقون في الجَنبات يُضلِّلون الناس، ويحرفونهم عن الصراط المستقيم، ويؤزُّونهم على الشر، ويدلُّونهم على مواردِ الفتنة، فهؤلاء ما أجدرَ أُولِى الأمر أن يحجروا عليهم؛ فهم أشدُّ فتكًا بالقلوبِ من الطاعون بالأجساد.
هؤلاء يسعون بالأمة إلى الخرابِ والضلالة.
وعلى الأمة أن تَحْذَرَ أمثال هؤلاء، وأنْ تعرفَ دين ربِّها كما جاء به نبيُّها محمد -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم-.
لا مَعْدى لها عن ذلك، ولا خلاص لها إلا بذلك.
والنبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وَسَلَّم- في الحديث قد أمرَ بالاعتزالِ إذا تحققت في المجتمع ثلاثةُ أوصاف، هي: قلةُ أهلِ الحق، وفسادُ ديانةِ الأكثرين، واختلافُهم.
فبيَّنَ تعالى أنه لا يصيبُ الناسَ من سوءٍ ولا شر إلا بما قدَّمت أيديهم، وكسبت قلوبُهم، فإذا نَزَعُوا؛ رَفَعَ اللهُ عنهم، وإذا تَمَادَوْا؛ زادهم اللهُ بلاءً إلى بلائهم.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا؛ وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، فإذا رفعوا عن الظُّلم؛ رفعَ اللهُ عنهم العقوبة، وإذا رجعوا إلى الله؛ رجعَ عليهم بالتوبة، وأجزلَ لهم المثوبة.
قال ربنا –جل وعلا-: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41]، فيكونُ هذا جزاءً وفاقًا لما قدموا من عملٍ سيء، وما اجترحوا من عملٍ طالح، فإذا عادوا إلى الله؛ عاد عليهم بالبركاتِ تتفجرُ من تحتِ أرجُلِهم، وتتنزلُ عليهم من السماوات، واللهُ تعالى يتوب على من تاب.
لم يَعُدْ خافيًا على أحد ما يُراد بمصر من شرٍّ ومكر؛ بل وبالدولِ العربيةِ الإسلاميةِ كلها، والواجبُ على كلِّ مسلم: أن يحافظَ على أمنِ بلده واستقراره، وأن يُجنبه الأسبابَ المُفضية إلى الفوضى والاضطراب والفساد.
من الكُفرِ بنعمة الله: العبثُ باستقرار الوطن وأمنه.
من الكُفر بنعمة الله: تأجيجُ نيرانِ الأحقاد بين أبنائه، وتقويضُ دعائمِ بنائه.
ومن الغفلة: أن يكون المرء وقودًا لمؤامرات تستهدف تقسيمَ الوطن، وتمزيقَ كِيَانِهِ كما وقع، وقع غفلةً واحتيالًا، وغَشَّ الناسَ مَنْ غَشَّهُم مِمَّنْ زَيَّنُوا لهم أنهم على الصراط المستقيم، وأنهم آتون بالجهادِ الأكبر.
غَشَّ الناسَ مَنْ غَشَّهُم من زين لهم سوء أعمالهم، فرأَوها حسنةً زاهرة، وهي مُدمِّرَةٌ وفاجرة.
من الغفلة: أن تتحركَ الجموع، أن تُحَرَّكَ فتتحرك؛ لأنَّ العقلَ الجمعي كَلَا عقل، فإذا أُزَّ الناسُ اندفعوا، وإذا حُرِّكوا تحركوا، وأهل الشر في وضعٍ مثالي، لم يكن أحدٌ منهم قبل يحلم بعُشرِ معشاره؛ لأن غياب الأمن، واستشراءَ الفوضى، ووقوعَ الاضطرابِ بين ربوع الوطن هو البيئةُ التي تنمو فيها النباتات الخبيثة؛ من المؤامراتِ المشبوهة، تُستوردُ بذورها من الخارج، ويسهرُ عليها راعيًا لها من كان خائنًا لله، خائنًا لرسول الله، خائنًا لدين الله، ثم خائنًا لوطنه.
إنَّ هذه الأمة؛ المستهدَفُ أولًا منها: هو دينُها، وتاريخُها، وتراثُها، هو انتماؤُها، كما صرَّحَ بذلك الرئيسُ الأمريكي عندما وقع التخلِّي عن الحُكم من الرئيس الأسبق، وخَرَجَ على الناسِ الرئيسُ الأمريكي بخطاب عاطفي لا يليق برجلٍ سياسي؛ بَلْهَ من كان على رأس أكبر دولة في الدنيا، فقال شِعرًا! وصرَّحَ بأنَّ التاريخَ يُصنع الآن في هذه المنطقة، وأن اللحظةَ لحظةٌ فارقة، وهي بالضبط كسقوطِ حائط برلين –كلامه بنصِّهِ-!!
لم يفهم أحد؛ لأن الناس كانوا في غفلةٍ غافلة، ولأن الناس كانوا في حَيرةٍ حائرة، لا يجدون مَن يُبصِّرُهم بالخبيئ وراء هذا الكلام؛ لأنَّ بعد الحرب العظمى الثانية قُسِّمَت ألمانيا النازية إلى قِسمٍ شَرقيٍّ اشتراكيٍّ شيوعيٍّ، وإلى قسمٍ غربيٍّ رأسماليٍّ ديمقراطي، وكان الفاصل بين القسمين: (حائط برلين)، فلما انهارت الشيوعية في الاتحادِ السوفييتي؛ هُدِم حائطُ برلين، ودخلت أمواجُ الرأسمالية والديمقراطية هادرةً على دول أوروبا الشرقية، فتركت ما كانت عليه من معتقدِها، وما كانت عليه من توجهِها، ودخلت في دينِ الغرب وديمقراطيته.
يقول الرجل: «ما أشبه ما يحدثُ الآن في مصر بسقوطِ حائطِ برلين»!!
كان وراءَ الحائط ما وراءَهُ من الأَيْدِيُولُوجِيَّةِ الشيوعيةِ، وما تحمله في طيَّاتِها من عداءٍ للغربِ وأهلهِ ودينِهِ، وأما الحائطُ الذي عندنا؛ فما الذي وراءه؟!!
وراء حائطِ برلين الذي شبَّهَ به عندنا دينُنا، إسلامُنا، لغتُنا، تراثُنا، كتابُنا، تاريخُنا، نبيُّنا، أخلاقُنا، أعرافُنا الصحيحة، أخلاقُنا السامية...
هذا كله كان وراء ما شَبَّهَ به حائط برلين، فتجتاحَ الديمقراطيةُ والمفاهيم الغربية كلَّ ما وراء هذا الحائط!!
ينهار الحائطُ الآن؛ من أجل أمواجٍ زاخرة بما تحملُ من نَتْنِها، وما تأتي به من زَيفها، والذين يُمَهِّدون الطريق لها: قوم من جلدتنا!!
ينبغي ألا نفوِّت الفرصة على أنفسنا، وينبغي أن نَفوِّتها على كلِّ من أراد أن يصل إلى مثل هذا الهدف.
أناة، وحلم، وصبر، ومعرفة بدين ربنا، وتمسك به.
الدينُ حاكمٌ فاصلٌ بين كلِّ مَن تنازع، بين كلِّ من تخالف، بين كلِّ من تخاصم.
ماذا تريدون والأمثالُ والحُجج القائمة عليكم تشاهدونها بأعينِكم، تعلمونها عِلْمَ يقين في سوريا الجريحة، وفي ليبيا الجريحة، وفي اليمن، وكذلك من قَبل في العراق؟!!
يا أهل مصر خاصةً... .لا حُجَّةَ لكم، لا حُجَّةَ لكم.
والسعيدُ من وُعِظَ بغيره.
لا تسمعوا أقوال الذين يدعون المصريين إلى ثورةٍ ثالثة، وإلى فوضى واضطراب.
نستفُّ التراب، نستفُّ التراب، ونفترشُ الأرض، ونلتحفُ السماء...ولا نُفرِّطُ في ديننا، ولا في ذِكرنا، ولا في كتابِنا، ولا في أرضِنا ووطنِنا.
لا تسمعوا كلامهم.
ومن انتمى إلى الدين منهم؛ فهو خائنٌ للدين، خائنٌ للكتابِ والرسول.
لا تبالوا بهم.
حارِبُوهم.
قِفُوا في وجوههم.
فَنِّدُوا مَزَاعِمَهم.
اتقوا الله، اتقوا الله.
أيها المصريون...لا حُجَّةَ لكم، قامت عليكم الحُجَّة، وسقطت الأعذارُ كلُّها، واتضحت السبيل، فَآَخِذٌ عن يمين إلى السعادةِ والهُدى، وآخذٌ عن شِمال إلى الضلالِ والرَّدى.
حفظ اللهُ مصرَ وأهلها، وأرضَها، وديارَها، وشعبَها، وجيشَها، وأمنَها، ومواردها، ومؤسساتها، وحفظ الله جميع بلاد المسلمين.