للاستماع للمحاضرة
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَالغِنَى بِاللهِ تَعَالَى عَن كُلِّ مَا سِوَاهُ هُوَ أَعلَى دَرَجَاتِ الغِنَى, وَهُوَ أَنْ تَشهَدَ ذِكْرَ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- إِيَّاكَ قَبلَ ذِكرِكَ لَهُ, وَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَكَ فِيمَن ذَكَرَهُ مِن مَخلُوقَاتِهِ ابتِدَاءً قَبلَ وجُودِكَ وَطَاعَتِكَ وَذِكرِكَ، فَقَدَّرَ خَلقَكَ وَرِزقَكَ وَعَمَلَكَ وَإِحسَانَهُ إِلَيكَ وَنِعَمَه عَلَيكَ حَيثُ لَم تَكُن شَيئًا البَتَّة.
وَذَكَرَ تَعَالَى إِيَّاكَ بِالإِسلَامِ فَوَفَّقَكَ لَهُ, وَاختَارَكَ لَهُ دُونَ مَن خَذَلَهُ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78].
فَجَعَلَكَ أَهلًا لمَا لَمْ تَكُن أَهلًا لَهُ قَطّ، وَإِنَّمَا هُوَ الذِي أَهَّلَكَ بسَابِقِ ذِكرِهِ، فَلَولَا ذِكرُهُ لَكَ بِكُلِّ جَمِيلٍ أَوْلَاكَهُ لَم يَكُن لَكَ إِلَيهِ سَبِيل، وَمَن الذِي ذَكَرَكَ سِوَاهُ بِاليَقَظَةِ حَتَّى استَيقَظتَ وَغَيرُكَ فِى رَقدَةِ الغَفلَةِ مَع النُّوَّامِ؟
وَمَن الذِي ذَكَرَكَ سِوَاهُ بِالتَّوبَةِ حَتَّى وَفَّقَكَ لهَا وَأَوقَعَهَا فِى قَلبِكَ، وَبَعَثَ دَواعِيَكَ وَأَحيَا عَزَمَاتِكَ الصَّادِقَةَ عَلَيهَا، حَتَّى تُبْتَ إِلَيهِ وَأَقبَلْتَ عَلَيهِ، فَذُقتَ حَلَاوَةَ التَّوبَةِ وَبَرْدَهَا وَلَذَّاتَهَا؟
وَمَن الذِي ذَكَرَكَ سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ حَتَّى هَاجَت مِن قَلبِكَ لَواعِجُهَا, وَتَوَجَّهَت نَحوَهُ سُبحَانَهُ رَكائبُهَا، وَعَمَّرَ قَلبَكَ بمَحَبَّتِهِ بَعدَ طُولِ الخَراب، وَآنَسَكَ بِقُربِهِ بَعَد طُولِ الوَحشَةِ وَالاغتِرَاب؟
وَمَن تَقَرَّبَ إِلَيكَ أَوَّلًا حَتَّى تَقَرَّبتَ إِلَيهِ، ثُمَّ أَثَابَكَ عَلَى هَذَا التَّقَرُّبِ تَقرُّبًا آخَرَ فَصَارَ التَّقَرُّبُ مِنكَ مَحفُوفًا بِتَقَرُّبَينِ مِنهُ –جَلَّ وَعَلَا-: تَقَرُّبٍ قَبْلَهُ وَتَقَرُّبٍ ْ، وَالحبُّ مِنكَ صَارَ مَحفُوفًا بحُبَّينِ مِنهُ: حُبٍّ قَبلَهُ وَحُبٍّ بَعدَه، وَصَارَ الذِّكرُ مِنكَ مَحفُوفًا مِنهُ بِذِكرَينِ: ذِكرٍ قَبلَهُ وَذِكرٍ بَعدَه.
فَلَولَا سَابِقُ ذِكرِهِ إِيَّاكَ لَمْ يَكُن مِن ذَلِكَ كُلِّهِ شَيء، وَلَا وَصَلَ إِلَى قَلبِكَ ذَرَّةٌ مِمَّا وَصَلَ إِلَيهِ مِن مَعرِفَتِهِ وَتَوحِيدِهِ, وَمَحَبَّتِهِ وَخَوفِهِ وَرَجَائهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ وَالإِنَابَةِ إِلَيهِ وَالتَّقَرُّبِ إِليهِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا آثَارُ ذِكْرِهِ لِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبحَانَهُ ذَكَرَكَ بِنِعَمِهِ المُترَادِفَةِ المُتَواصِلَةِ بعَدَدِ الأَنفَاسِ، فَلَهُ عَلَيكَ فِى كُلِّ طَرفَةِ عَينٍ وَنَفَسٍ نِعَمٌ عَدِيدَةٌ ذَكَّرَكَ بِهَا قَبلَ وجُودِكَ وَذَكرَكَ بهَا، وَتَعَرَّفَ بِهَا إِلَيكَ وَتَحبَّبَ بِهَا إِلَيكَ مَعَ غِنَاهُ التَّامِ عَنكَ وَعَن كُلِّ شَيء، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُجَرَّدُ إِحسَانِهِ وَفَضلِهِ وَجُودِهِ، إِذْ هُوَ الجَوَادُ المُتَفَضِّلُ المُحسِنُ لِذَاتِهِ لَا لمُعَاوَضَةٍ وَلَا لِطَلبِ جَزَاءٍ مِنكَ وَلَا لحَاجَةٍ دَعَتهُ إِلَى ذَلِكَ, كَيفَ وَهُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ؟
فَإِذَا وَصَلَ إِلَيكَ أَدنَى نِعمَةٍ مِنهُ فَاعلَم أَنَّهُ ذَكَرَكَ بِهَا، فَلتَعْظُم عِندَكَ لِذِكرِهِ لَكَ بِهَا، فَإِنَّهُ مَا حَقَرَكَ مَن ذَكَرَكَ بإِحسَانِهِ وَابتَدَأَكَ بمَعرُوفِهِ وَتَحَبَّبَ إِلَيكَ بنِعمَتِه، هَذَا كُلُّه مَعَ غِنَاهُ عَنْكَ.
فَإِذَا شَهِدَ العَبدُ ذِكرَ رَبِّهَ تَعَالَى لَهُ، وَوَصَلَ شَاهِدُهُ إِلَى قَلبِهِ؛ شَغَلَهُ ذَلِكَ عَمَّا سِوَاهُ، وَحَصَلَ لِقَلبِهِ بِهِ غِنًى عَالٍ لَا يُشبِهُهُ شِيء، وَهَذَا كَمَا يَحصُلُ لِلمَملُوكِ الذِي لَا يَزالُ أُستَاذُهُ وَسَيِّدُهُ يَذكُرُهُ وَلَا يَنسَاهُ، وَعَطَايَاهُ السَّنِيَّةُ تَحصُلُ لَهُ، فَإِنَّهُ يَحصُلُ لَهُ -بشُعُورِهِ بِذِكرِ أُستَاذِهِ وَسَيِّدِهِ لَهُ- غِنًى زَائدٌ عَلَى إِنعَامِ سَيِّدِهِ عَلَيهِ وَعَطَايَاهُ السَّنِيَّةُ لَهُ, فَهَذَا هُوَ غِنَى ذِكرُ اللهِ لِلعَبدِ.
وَالمَقصُود أَنَّ شُعورَ العَبدِ وَشُهُودَهُ لِذِكرِ اللهِ لَهُ؛ يُغنِي قَلبَهُ, وَيَسُدُّ فَاقَتَهُ، وَهَذا بِخِلَافِ مَن نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم، فَإِنَّ الفَقرَ مِن كُلِّ خَيرٍ حَاصِلٌ لهُم، وَمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ حَاصِلٌ لهُم مِن الغِنَى فَهُوَ مِن أَكبَرِ أَسبَابِ فَقرِهِم.
وَاعلَم أَنَّ المَقصُودَ مِن العِبَادَةِ: عِبَادَةُ اللهِ وَمَعرِفَتُه وَمَحبَّتُه وَالإِنَابَةُ إِلَيهِ عَلَى الدَّوَام، وَسُلُوكُ الطُّرُقِ الَّتي تُوصِلُ إِلَى دَارِ السَّلام, وَأَكثَرُ النَّاسِ غَلَبَ عَلَيهِم الحِسُّ، وَمَلَكَتُهُم الشَّهَواتُ وَالعَادَاتُ، فَلَم يَرفَعُوا بهَذَا الأَمرِ رَأسًا، وَلَا جَعَلُوهُ لِبنَائهِم أَسَاسًا وَأُسًّا، بَلْ أَعرَضُوا عَنهُ اشتِغَالًا بشَهَوَاتِهِم، وَتَرَكُوهُ عُكُوفًا عَلَى مُرَادَاتِهِم، وَلَمْ يَنتَهُوا لِاستِدرَاكِ مَا فَاتَهُم فِي أَوقَاتِهِم، فَهُم فِي جَهْلِهِم وَظُلمِهِم حَائرونَ، وَعَلَى حُظُوظِ أَنفُسِهِم الشَّاغِلَةِ عَن اللهِ مُكِبُّونَ، وَعَن ذِكرِ رَبِّهِم غَافِلُونَ، وَلِمَصَالِحِ دِينِهِم مُضَيِّعُونَ، وَفِي سُكْرِ عِشْقِ المَألُوفَاتِ هَائمُونَ, نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ.
وَلَم يَتَنَبَّه مِن هَذِهِ الرَّقدَةِ العَظِيمَةِ، وَالمُصِيبَةِ الجَسِيمَةِ إِلَّا القَلِيلُ مِنَ العُقَلَاءِ، وَالنَّادِرُ مِن النُّبَلاءِ، فَعَلِمُوا أَنَّ الخَسَارَةَ كُلَّ الخَسَارَةِ؛ الاشتِغَالُ بمَا لَا يُجدِي عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا الوَبَالَ وَالحِرمَانَ، وَلَا يُعَوِّضُهُ مِمَّا يُؤَمِّلُهُ إِلَّا الخُسرَانَ، فَآثَرُوا الكَامِلَ عَلَى النَّاقِصِ، وَبَاعُوا الفَانِيَ بِالبَاقِي، وَتَحَمَّلُوا تَعَبَ التَّكلِيفِ وَالعِبَادَة حَتَّى صَارَت لهُم لَذَّةً وَعَادَة، ثُمَّ صَارُوا بَعَد ذَلِكَ سَادَة، فَاسمَعْ صِفَاتِهِم، وَاستَعِنْ بِاللهِ عَلَى الاتِّصَافِ بِهَا:
سَعِدَ الذَّينَ تجَنبُوا سُبُلَ الرَّدَى ... وَتيَمَّمُوا لِمَنازِلِ الرِّضْوَانِ
هَذَا هُوَ أَصلُ طَرِيقِهِم وَقَاعِدَةُ سَيرِ فَرِيقِهِم, أَنَّهُم تَجَنَّبُوا طُرُقَ الخُسرَانِ وَتَيَمَّمُوا طُرُقَ الرِّضوَانِ, تَجَنَّبُوا طُرُقَ الشَّيطانِ وَقَصَدُوا عِبَادَةَ الرَّحمَن, تَجَنَّبُوا طُرُقَ الجَحِيمِ وَتَيَمَّمُوا سُبُلَ النَّعِيمِ, تَرَكُوا السَّيئَاتِ وَعَمِلُوا بالحَسَنَات، نَزَّهُوا قُلوبَهُم وَأَلسِنَتَهُم وَجَوارِحَهُم عَن المُحَرَّمَاتِ وَالمَكرُوهَاتِ، وَشَغَلُوهَا بِفِعلِ الوَاجِبَاتِ وَالمُستَحَبَّاتِ, تَحَلَّوْا بِالأَخلَاقِ الجَمِيلَة، وَتَخَلَّوا عَن الأَوصَافِ الرَّذِيلَة.
فَهُمُ الذِينَ اخْلَصُوا فِي مَشيِهِم ... مُتشَرعِينَ بِشِرْعَةِ الإِيمَانِ
هَاتَانِ قَاعِدَتَانِ هُمَا: الإِخلَاصُ وَالمُتَابَعَةُ, وَهُمَا شَرطٌ لِكُلِّ عِبَادَةٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ, فَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ, وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ فَهُوَ مَردُودٌ.
فَإِذَا اجتَمَعَ لِلعَمَلِ الإِخلَاصُ لِلمَعبُودِ -وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالعَمَلِ وَجْهُ اللهِ وَحْدَهُ- وَالمُتَابَعَةُ لِلرَّسُولِ -وَهُوَ أَنْ يَكُونَ العَمَلُ قَد أُمِرَ بِهِ-؛ فَهَذَا هُوَ العَمَلُ المَقبُول.
وَهُمُ الذِينَ بَنوْا مَنازِلَ سَيْرِهِم ... بَيْنَ الرَّجَا وَالخَوْفِ لِلديَّانِ
أَيْ: سَارُوا فِي جَمِيعِ أُمُورِهِم مُستَصحِبِينَ وَمُلازِمِينَ لِلخَوفِ وَالرَّجَاءِ, وَذَلِكَ أَنَّ لَهُم نَظرًا -أَيْ لهَمُ نَظَرٌإِلَى أَنفُسِهِم وَتَقصِيرِهِم فِي حُقُوقِ اللهِ-؛ يُحدِثُ لَهُم الخَوف, وَلَهُم نَظَرٌ إِلَى مِنَنِ اللهِ عَلَيهِم وَإِحسَانِهِ إِلَيهِم؛ يُحدِثُ لهُم الرَّجَاءِ.
وَأَيضًا يَنظُرُونَ إِلَى صِفَاتِ العَظَمَةِ وَالجَلَالِ وَالحِكمَةِ وَالعَدلِ؛ فَيَخَافُونَ عَلَى أَنفُسِهِم مِن تَرَتُّبِ أَثَارِهَا, وَيَنظُرُونَ إِلَى صِفَاتِ الرَّحمَةِ وَالجُودِ وَالكَرَمِ وَالإِحسَانِ؛ فَيَرجُونَ مَا تَقتَضِيهِ, فَإِذَا فَعَلُوا حَسَنَةً؛ جَمَعُوا بَينَ الخَوفِ وَالرَّجَاءِ، فَيَرجُونَ قَبُولَهَا وَيَخَافُونَ رَدَّهَا, وَإِنْ عَمِلُوا سَيِّئَةً خَافُوا مِن عِقَابِهَا وَرَجَوا مَغفِرَتِهَا بفَضلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, فَهُم بَينَ الخَوفِ وَالرَّجَاءِ يَتَرَدَّدُونَ, وَإِليهِمَا دَائمًا يَفزَعُون, فَأُولئِكَ الذِينَ أَحرَزُوا قَصَبَ السَّبقِ وَأُولَئِكَ هُم المُفلِحُون.
وَهُمُ الذّينَ مَلاَ الإِلَهُ قُلُوبَهُم ... بِوِدَادهِ وَمَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ
وَهِذِهِ المَنزِلَةُ -وَهِيَ مَنزِلَةُ المَحَبَّةِ- أَصلُ المَنَازِلِ كُلِّهَا، وَمِنهَا تَنشَأُ جَمِيعُ الأَعمَالِ الصَّالحِة، وَالأَعمَالِ النَّافِعَةِ، وَالمَنَازِلِ العَالِيَةِ.
وَهُمُ الذِينَ قَدْ أَكْثرُوا مِن ذِكْرِهِ ... فِي السِّرِ وَالإِعْلَانِ وَالأحْيَانِ
مَنزِلَةٌ شَرِيفَةٌ؛ حَاجَةُ الإِنسَانِ إِلَيهَا –بَلْ ضَرُورَتُه إِلَيهَا- فَوقَ كُلِّ حَاجَة, فَذِكرُ اللهِ هُوَ عِمَارَةُ الأَوقَات, وَبِهِ تَزُولُ الهُمُومُ وَالغُمُومُ وَالكُدُورَات, وَبِهِ تَحصُلُ الأَفرَاحُ وَالمَسَرَّات, وَهُوَ عِمَارَةُ القُلُوبِ المُقفِرَات, كَمَا أَنَّهُ غِرَاسُ الجَنَّاتِ, وَهو مُوصِلٌ لِأَعلَى المَقَامَاتِ, وَفِيهِ مِنَ الفَوائدِ مَا لَا يُحصَى, وَمِنَ الفَضَائلِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُستَقصَى, قَالَ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42].
وَقَالَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لِعَبدِ اللهِ بِن بُسرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- لَمَّا قَالَ: إِنَّ شَرَائِعَ الإِسلَامِ قَد كَثُرَتَ عَلَيَّ فَأَوْصِنِي!
قَالَ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِن ذِكرِ اللهِ)).
أَخرَجَهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَابنُ حِبَّانَ وَابنُ أَبِي شَيبَةَ وَإِسنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ((سَبَقَ المُفَرِّدُونَ)).
قَالُوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ؟
قَالَ: ((الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَات)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَالمُفَرِّدُونَ: المُنقَطِعُونَ عَن النَّاسِ بِذِكرِ رَبِّ النَّاس
فَكُنْ ذَاكِرًا للهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... فَلَيْسَ لِذِكْرِ اللهِ وَقْتٌ مُقَيَّدُ
فَذِكْرُ إِلهِ العَرْشِ سِرًّا وَمُعْلَنًا ... يُزَيْلُ الشَّقَا وَالهَمَّ عَنْكَ وَيَطْرُدُ
وَيَجْلِبُ لِلخَيْرَاتِ دُنْيَا وَآجِلًا ... وَإِنْ يَأْتِكَ الوَسْوَاسُ يَوْمًا يُشَرِّدُ
فَقَدْ أَخْبَرَ المُخْتَارُ يَوْمًا لِصَحْبِهِ ... بِأَنَّ كَثِيْرَ الذِّكْرِ في السَّبْقِ مُفْرِدُ
وَوَصَّى مُعَاذًا يَسْتَعِيْنُ إِلهَهُ ... عَلَى ذِكْرِهِ وَالشُّكْرِ بالحُسْنِ يَعبُدُ
وَأَوْصَى لِشَخْصٍ قَدَ أَتَى لِنَصِيْحَةٍ ... وَكَانَ فِي حَمْلِ الشَّرَائِعِ يُجْهَدُ
بِأَنْ لَمْ يَزِل رَطْبًا لِسَانُكَ هَذِهِ ... تُعِيْنُ عَلَى كُلِّ الأُمُورِ وَتُسْعِدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ غَرْسٌ لِأهْلِهِ ... بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَالمَسَاكِنُ تُمْهَدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ اللهَ يَذْكُرُ عَــبْدَهُ ... وَمَعْهُ عَلَى كُلِّ الأَمُــورِ يُسَدِّدُ
وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرِ يَبْقَى بِجَنْبِهِ ... وَيَنْقَطِعُ التّكْلِيْفُ حِيَنْ يُخَلَّدُ
وَلَوْ لَمْ يَكُن فِي ذِكْرِهِ غَيَرْ أَنَّهُ ... طَرِيْقٌ إِلَى حُبِّ الإِلَهِ وَمُرْشِدُ
وَيَنَهْى الفَتىَ عَنْ غِيْبَةٍ وَنِمَيْمَةٍ ... وَعَنْ كُلِّ قَوْلٍ لِلدِّيَانَةِ يُفْسِدُ
لَكَانَ لَنَا حَظٌّ عَظِيْمٌ وَرَغْبَةٌ ... بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ نِعْمَ المُوَحَّدُ
وَلَكِنَّنَا مِنْ جَهْلِنَا قَلَّ ذِكْرُنَا ... كَمَا قَلَّ مِنَّا لِلإِلهِ التَّعَبُّدُ
وَذِكرُ اللهِ نُورٌ لِلذَّاكِرِ فِي قَلبِهِ وَفِي قَولِهِ وَفِي قَبرِهِ وَيَومَ حَشرِهِ.
وَمَنزِلَةُ الذِّكْرِ مِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5], وَهِيَ مَنْزِلَةُ السَّالِكِينَ إِلَى اللهِ الْكُبْرَى, الَّتِي مِنْهَا يَتَزَوَّدُونَ وَفِيهَا يَتَّجِرُونَ، وَإِلَيْهَا دَائِمًا يَتَرَدَّدُونَ.
وَالذِّكْرُ مَنْشُورُ الْوِلَايَةِ الَّذِي مِنْ أُعْطِيَهُ اتَّصَلَ وَمَنْ مُنِعَهُ عُزِلَ، وَهُوَ قُوتُ قُلُوبِ السَّائِرِين, الَّذِي مَتَى فَارَقَهَا صَارَتِ الْأَجْسَادُ لَهَا قُبُورًا، وَعِمَارَةُ دِيَارِهِمُ فمَتَى تَعَطَّلَتْ عَنْهُ صَارَتْ بُورًا، وَهُوَ سِلَاحُهُمُ الَّذِي يُقَاتِلُونَ بِهِ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَمَاؤُهُمُ الَّذِي يُطْفِئُونَ بِهِ الْتِهَابَ الطَّرِيقِ, وَدَوَاءُ أَسْقَامِهِمُ الَّذِي مَتَى فَارَقَهُمُ انْتَكَسَتْ مِنْهُمُ الْقُلُوبُ، وَالسَّبَبُ الْوَاصِلُ وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.
إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوِينَا بِذِكْرِكُمُ ... وَنَتْرُكُ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ
بِهِ يَسْتَدْفِعُونَ الْآفَاتِ, وَيَسْتَكْشِفُونَ الْكُرُبَاتِ, وَتَهُونُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْمُصِيبَاتُ، إِذَا أَظَلَّهُمُ الْبَلَاءُ فَإِلَيْهِ مَلْجَؤُهُمْ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمُ النَّوَازِلُ فَإِلَيْهِ مَفْزَعُهُمْ, فَهُوَ رِيَاضُ جَنَّتِهِمُ الَّتِي فِيهَا يَتَقَلَّبُونَ, وَرُءُوسُ أَمْوَالِ سَعَادَتِهِمُ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ, يَدَعُ الْقَلْبَ الْحَزِينَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا، وَيُوصِّلُ الذَّاكِرَ إِلَى الْمَذْكُورِ، بَلْ يُعِيدُ الذَّاكِرَ مَذْكُورًا.
وَعَلَى كُلِّ جَارِحَةٍ مِنَ الْجَوَارِحِ عُبُودِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَالذِّكْرُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهِيَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، بَلْ هُمْ مَأْمُورُونَ بِذِكْرِ مَعْبُودِهِمْ وَمَحْبُوبِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ؛ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ, وَكَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ قِيعَانٌ وَهُوَ غِرَاسُهَا، فَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ بُورٌ خَرَابٌ وَهُوَ عِمَارَتُهَا وَأَسَاسُهَا.
وَهُوَ جِلَاءُ الْقُلُوبِ وَصِقَالُهَا وَدَوَاؤُهَا إِذَا غَشِيَهَا اعْتِلَالُهَا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الذَّاكِرُ فِي ذِكْرِهِ اسْتِغْرَاقًا؛ ازْدَادَ لمَذْكُورِهِ مَحَبَّةً وَإِلَى لِقَائِهِ اشْتِيَاقًا، وَإِذَا وَاطَأَ فِي ذِكْرِهِ قَلْبُهُ لِلِسَانِهِ؛ نَسِيَ فِي جَنْبِ ذِكْرِهِ كُلَّ شَيْءٍ, وَحَفِظَ اللَّهُ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ, وَكَانَ لَهُ عِوَضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، بِهِ يَزُولُ الْوَقْرُ عَنِ الْأَسْمَاعِ, وَالْبَكَمُ عَنِ الْأَلْسُنِ, وَتَنْقَشِعُ الظُّلْمَةُ عَنِ الْأَبْصَارِ, زَيَّنَ اللَّهُ بِالذِّكْرِ أَلْسِنَةَ الذَّاكِرِينَ كَمَا زَيَّنَ بِالنُّورِ أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ، فَاللِّسَانُ الْغَافِلُ كَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ وَالْأُذُنِ الصَّمَّاءِ وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ.
وَالذِّكْرُ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغْلِقْهُ الْعَبْدُ بِغَفْلَتِهِ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((تَفَقَّدُوا الْحَلَاوَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي الصَّلَاةِ وَفِي الذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ)).
وَبِالذِّكْرِ يَصْرُعُ الْعَبْدُ الشَّيْطَانَ كَمَا يَصْرَعُ الشَّيْطَانُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِذَا تَمَكَّنَ الذِّكْرُ مِنَ الْقَلْبِ؛ فَإِذِا دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ صُرِعَ كَمَا يُصْرَعُ الْإِنْسَانُ إِذَا دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ، فَتَجْتَمِعُ الشَّيَاطِينُ عَلَى المَصرُوعِ مِنَ الشَّيَاطِين فَيَقُولُونَ: مَا لِهَذَا؟ فَيُقَالُ: قَدْ مَسَّهُ الْإِنْسِيُّ)).
وَالذِّكْرُ رُوحُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا خَلَا الْعَمَلُ عَنِ الذِّكْرِ كَانَ كَالْجَسَدِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ.
وَالذكرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِهِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا.
وَالثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ.
وَالثَّالِثُ: تَعْلِيقُ الْفَلَاحِ بِاسْتِدَامَتِهِ وَكَثْرَتِهِ.
وَالرَّابِعُ: الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ وَالْإِخْبَارُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ.
وَالْخَامِسُ: الْإِخْبَارُ عَنْ خُسْرَانِ مَنْ لَهَى عَنْهُ بِغَيْرِهِ.
وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ جَزَاءً لِذِكْرِهِمْ لَهُ.
السَّابِعُ: الْإِخْبَارُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَالثَّامِنُ: أَنَّهُ جَعَلَهُ خَاتِمَةَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا كَانَ مِفْتَاحَهَا.
التَّاسِعُ: الْإِخْبَارُ عَنْ أَهْلِهِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الِانْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ, وَأَنَّهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهُ جَعَلَهُ قَرِينَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَرُوحَهَا، فَمَتَى عَدِمَتْهُ كَانَتْ كَالْجَسَدِ بِلَا رُوحٍ.
وأما تفصيل ذلك:
1- فالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43].
وَمن ذلك قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] .
وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي سِرِّكَ وَقَلْبِكَ.
وَالثَّانِي: بِلِسَانِكَ بِحَيْثُ تُسْمِعُ نَفْسَكَ.
2 - وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19].
3 - وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْفَلَاحِ بِالْإِكْثَارِ مِنْ الذكر: فَكَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
4 - وَأَمَّا الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ وَحُسْنُ جَزَائِهِمْ: فَكَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
5 - وَأَمَّا خُسْرَانُ مَنْ لَهَا عَنْهُ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
6 - وَأَمَّا جَعْلُ ذِكْرِهِ لَهُمْ جَزَاءً لِذِكْرِهِمْ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
7 - وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, فَهُوَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّاعَاتِ كُلِّهَا: إِقَامَةُ ذِكْرِهِ، فَهُوَ سِرُّ الطَّاعَاتِ وَرُوحُهَا.
القَولُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ؛ فَكَانَ ذِكْرُهُ لَكُمْ أَكْبَرَ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ.
فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: مُضَافٌ إِلَى الْمَذْكُورِ.
الثَّالِثُ مِنَ الأَقوَالِ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَبْقَى مَعَهُ فَاحِشَةٌ وَمُنْكَرٌ، بَلْ إِذَا تَمَّ الذِّكْرُ: مَحَقَ كُلَّ مَعْصِيَةٍ وَكُلَّ خَطِيئَةٍ.
فَهَذَا هُوَ الذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ.
وَالقَولُ الرَّابِعُ:
قَالَ الإِمَامُ العَلَّامَةُ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ فِي الصَّلَاةِ فَائِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: نَهْيُهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ.
وَالثَّانِيَةُ: اشْتِمَالُهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَتَضَمُّنُهَا لَهُ, وَلَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ نَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ)).
8 - وَأَمَّا خَتْمُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالذِّكرِ: فَكَمَا خَتَمَ اللهُ بِهِ عَمَلَ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وَخَتَمَ بِهِ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
وَخَتَمَ بِهِ الصَّلَاةَ كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103].
وَخَتَمَ بِهِ الْجُمُعَةَ كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
وَلِهَذَا إِذَا كَانَ خَاتِمَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَكَانَ الذِّكْرُ آخِرَ كَلَامِ الْعَبْدِ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ.
9 - وَأَمَّا اخْتِصَاصُ الذَّاكِرِينَ بِالِانْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ, وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ وَالْعُقُولِ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190 - 191].
10 - وَأَمَّا مُصَاحَبَةُ الذِّكْرِ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ, وَاقْتِرَانُهُ بِهَا وَأَنَّهُ رُوحُهَا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وَقَرَنَهُ بِالصِّيَامِ وَبِالْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ، بَلْ هُوَ رُوحُ الْحَجِّ وَلُبُّهُ وَمَقْصُودُهُ.
وَقَرَنَهُ بِالْجِهَادِ وَأَمَرَ بِذِكْرِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْأَقْرَانِ وَمُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ, فَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
قَالَ العَلَّامَةُ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: الْمُحِبُّونَ يَفْتَخِرُونَ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّونَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا ... أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لَبَانِ الْأَدْهَمِ
-كَذَا قَالَهُ- وَالمَعرُوف: (يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا ... أَشْطَانُ بِئْرٍ في لَبَانِ الأَدْهَمِ)
وَقَالَ الْآخَرُ:
ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهَلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
فَأَمَّا الخَطِّيُّ: فَالرُّمحُ
يَخطُرُ بَينَنَا: أَيْ يَمشِي
وَقَد نَهَلَت مِنَّا: أَيْ شَرِبَت مِنَّا الرِّمَاحُ المُسَوَّاة السُّمْرُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ شَوَاجِرٌ ... نَحْوِي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْمَحَبَّةِ.
فَإِنَّ ذِكْرَ الْمُحِبِّ مَحْبُوبَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي لَا يَهُمُّ الْمَرْءَ فِيهَا غَيْرُ نَفْسِهِ؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ أَوْ أَعَزُّ مِنْهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْمَحَبَّةِ.
وَالذَّاكِرُونَ هُمْ أَهْلُ السَّبْقِ, كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ؛ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ: ((سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)).
قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: ((الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)).
وَالْمُفَرِّدُونَ: إِمَّا الْمُوَحِّدُونَ وَإِمَّا الْآحَادُ الْفُرَادَى.
وَفِي ((الْمُسْنَدِ)) مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ, وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ, وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ, وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ, وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟)).
قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: ((ذِكْرُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَغَرَّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيَمَنْ عِنْدَهُ.
وَهُوَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)).
وَيَكْفِي فِي شَرَفِ الذِّكْرِ: أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِهِ كَمَا عِندَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ((مَا أَجْلَسَكُمْ؟))
قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا.
قَالَ: ((آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟))
قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَلِكَ.
قَالَ: ((أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنْ أَتَانِي جِبْرِيلُ -عَلَيهِ السَّلَامُ- فَأَخْبَرَنِي: أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ مَلَائِكَتَهُ)).
وَسَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: ((أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)).
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ؛ فَمُرْنِي بِشَيءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ.
فَقَالَ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)).
وَفِي ((الْمُسْنَدِ)) وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ)).
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟
قَالَ: ((مَجَالِسُ الذِّكْرِ)).
وَقَالَ: ((اغْدُوَا وَرُوحُوا وَاذْكُرُوا، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ؛ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ, فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ العَبدُ مِنْ نَفْسِهِ)).
وَرَوَى النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: ((أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّيَ السَّلَامَ, وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ, وَأَنَّهَا قِيعَانٌ, وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ)).
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِإِسنَادٍ حَسَنٍ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: ((مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهَ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهَ فِيهِ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).
فَجَعَلَ بَيْتَ الذَّاكِرِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتِ الْحَيِّ, وَبَيْتَ الْغَافِلِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتِ الْمَيِّتِ وَهُوَ الْقَبْرُ.
وَفِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ: جَعَلَ الذَّاكِرَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ, وَالْغَافِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ.
فَتَضَمَّنَ اللَّفْظَانِ: أَنَّ الْقَلْبَ الذَّاكِرَ كَالْحَيِّ فِي بُيُوتِ الْأَحْيَاءِ، وَالْغَافِلَ كَالْمَيِّتِ فِي بُيُوتِ الْأَمْوَاتِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبْدَانَ الْغَافِلِينَ قُبُورٌ لِقُلُوبِهِمْ, وَقُلُوبُهُمْ فِيهَا كَالْأَمْوَاتِ فِي الْقُبُورِ.
فَنِسْيَانُ ذِكْرِ اللَّهِ مَوْتُ قُلُوبِهِمْ ... وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ
وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهِمْ ... وَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
وَمِن الذَّاكِرِينَ مَن يَبتَدِئُ بِذِكرِ اللِّسَانِ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَفلَةٍ, ثُمَّ لَايَزَالُ فِي ذِكرِ اللِّسَانِ حَتَّى يَحضُرَ قَلبُهُ فَيَتَواطَآ –يَعنِي: اللِّسَانَ وَالقَلبَ- عَلَى ذِكرِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَمِنَ الذَّاكِرِينَ مَن لَا يَرَى ذَلِكَ, وَلَا يَبتَدِئُ عَلَى غَفلَةٍ, بَلْ يَسكُنُ حَتَّى يَحضُرَ قَلبُهُ؛ فَيَشرَعَ فِي الذِّكرِ بِقَلبِهِ, فَإِذَا قَوِيَ استَتْبَعَ لِسَانَهُ فَتَوَاطآجَمِيعًا.
فَالأَوَّلُ يَنتَقِلُ الذِّكرُ مِن لِسَانِهِ إِلَى قَلبِهِ.
وَالثَّانِي يَنتَقِلُ الذِّكرُ مِن قَلبِهِ إِلَى لِسَانِهِ مِن غَيرِ أَنْ يَخلُوَ قَلبُهُ مِنهُ, بَلْ يَسكُنُ أَوَّلًا حَتَّى يُحِسَّ بِظُهُورِ النَّاطِقِ فِيهِ, فَإِذَا أَحَسَّ بِذَلِكَ نَطَقَ قَلبُهُ, ثُمَّ انتَقَلَ النُّطقُ القَلبِيُّ إِلَى الذِّكرِ اللِّسَانِيِّ, ثُمَّ يَستَغرِقُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجِدَ كُلَّ شَيءٍ مِنهُ ذَاكِرًا.
وَأَفضَلُ الذِّكرِ وَأَنفَعُهُ: مَا وَاطَأَ فِيهِ القَلبُ اللِّسَان, وَكَانَ مِنَ الأَذكَارِ النَّبَوِيَّةِ, وَشَهِدَ الذَّاكِرُ مَعَانِيَهُ وَمَقَاصِدَهُ.
وَقَد ذَكَرَ الإِمَامُ العَلَّامَةُ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ العَظِيم ((الوَابِلُ الصَّيِّبُ)) كَثِيرًا مِنَ فَوائِدِ الذِّكرِ مِنهَا:
الأُولَى: أَنَّ الذِّكْرَ يَطرُدُ الشَّيطَانَ وَيَقمَعُهُ وَيَكسَرُهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنَ الذِّكرَ يُرضِي الرَّحمَنَ -عَزَّ وَجَلَّ-.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الذِّكرَ يُزِيلُ الهَمَّ وَالغَمَّ عَن القَلبِ, وَيَجلِبُ لِلقَلبِ الفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَالنَّشَاطَ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُقَوِّي القَلبَ وَالبَدَنَ.
الخَامِسَةُ: أَنَّهُ يُنَوِّرُ الوَجْهَ وَالقَلبَ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ الذِّكرَ يَجلِبُ الرِّزقَ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَكسُو الذَّاكِرَ المَهَابَةَ وَالحَلَاوَةَ وَالنَّضْرَةَ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ يُورِثُ المَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ الإِسلَامِ, وَقُطْبُ رَحَى الدِّين, وَمَدَارُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ الذِّكرَ يُورِثُ المُرَاقَبَةَ حَتَّى يَدخُلَ فِي بَابِ الإِحسَان، فَيَعبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلغَافِلِ عَن الذِّكرِ إِلَى مَقَامِ الإِحسَان.
العَاشِرَةُ -مِن فَوَائدِ الذِّكرِ-: أَنَّهُ يُورِثُ الإِنَابَةَ وَالرُّجُوعَ إِلَى اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا-.
الحَادِيَةَ عَشرَةَ: أَنَّ الذِّكرَ يُورِثُ القُربَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى قَدرِ ذِكرِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ القُربُ مِنهُ، وَعَلَى قَدرِ الغَفلَةِ عَن الذِّكرِ يَكُونُ بُعْدُ العَبدِ عَن رَبِّهِ.
الثَّانِيَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يَفتَحُ لَهُ بَابًا عَظِيمًا مِن أَبوَابِ المَعرِفَة، وَكُلَّمَا أَكثَرَ مِنَ الذِّكرِ؛ ازدَادَ مِنَ المَعرِفَةِ.
الثَّالِثَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يُورِثُ الهَيبَةَ لِرَبِّهِ وَإِجلَالَهُ، لِشِدَّةِ استِيلَاءِ الذِّكرِ عَلَى قَلبِهِ وَحُضُورِ العَبْدِ مَعَ رَبِّهِ، بِخِلَافِ الغَافِل فَإِنَّ حِجَابَ الهَيبَةِ رَقِيقٌ فِي قَلبِهِ.
الرَّابِعَةَ عَشرَةَ – مِن فَوَائدِ الذِّكرِ-: أَنَّهُ يُورِثُ الذَّاكِرَ ذِكرَ اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا- {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذِّكرِ إِلَّا هَذِهِ لَكَفَى بِالذِّكرِ فَضلًا وَشَرَفًا.
الخَامِسَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يُورِثُ حَيَاةَ القَلْبِ.
قَالَ شَيخُ الإِسلَامِ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((الذِّكرُ لِلقَلبِ مِثلُ المَاءِ لِلسَّمَكَةِ, فَكَيفُ يَكُونُ حَالُ السَّمَكِ إِذَا فَارَقَ المَاء؟))
السَّادِسَةَ عَشرَةَ: أَنَّ الذِّكرَ قُوتُ القُلُوبِ وَرُوحُهَا.
السَّابِعَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يُورِثُ جِلَاءَ القَلبِ مِن صَدَئِه، وَلَا رَيبَ أَنَّ القَلبَ يَصدَأُ كَمَا يَصدَأُ النُّحَاسُ وَالفِضَّةُ وَغَيرُهُمَا، وَجِلَاؤُهُ بِالذِّكرِ، فَإِنَّهُ يَجلُو القَلبَ حَتَّى يَدَعَهُ كَالمِرآةِ البَيضَاءِ، فَإِذَا تَرَكَ العَبدُ الذِّكرَ صَدَأَ قَلبُه، فَإِذَا ذَكَرَ جَلَاهُ، وَصَدَأُ القَلبِ بِأَمرَين: بِالغَفلَةِ، وَالذَّنبِ؛ وَجِلَاؤُهُ بِشَيئَين: بِالاستِغفَارِ وَالذِّكرِ.
فَمَن كَانَت الغَفلَةُ أَغلَبَ أَوقَاتِهِ كَانَ الصَّدَأُ مُتَرَاكِمًا علَى قَلبِهِ، وَصَدَؤُهُ بِحَسَبِ غَفلَتِهِ.
وَإِذَا صَدِىءَ القَلبُ لَم تَنطَبِع فِيهِ صُوَرُ المَعلُومَات علَى مَا هِيَ فِيهِ؛ فَيَرَى البَاطِلَ فِي صُورَةِ الحَقِّ، وَالحَقَّ فِي صُورَةِ البَاطِل، لِأَنَّهُ لمَّا تَرَاكَمَ عَلَيهِ الصَّدَأُ أَظلَمَ فَلَمْ تَظهَر فِيهِ صُوَرُ الحَقائقِ كَمَا هِيَ عَلَيهِ.
فَإِذَا تَرَاكَمَ عَلَيهِ الصَّدَأُ إِسوَدَّ، وَرَكِبَهُ الرَّانُ فَفَسَدَ تَصَوُّرُهُ وَإِدرَاكُهُ فَلَا يَقبَلُ حَقًّا، وَلَا يُنكِرُ بَاطِلًا، وَهَذا أَعظَمُ عُقُوبَاتِ القَلب.
الثَّامِنَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يَحُطُّ الخَطَايَا وَيُذهِبُهَا, فَإنَّهُ مِن أَعظَمِ الحَسَنَات، وَالحَسَنَاتُ يُذهِبنَ السَّيِّئَات.
التَّاسِعَةَ عَشرَةَ – مِن فَوائِدِ الذِّكرِ-: أَنَّهُ يُزِيلُ الوَحشَةَ بَينَ العَبدِ وَرَبِّهِ، فَإِنَّ الغَافِلَ بَينَهُ وَبَينَ اللَّهِ تَعَالَى وَحشَة لَا تَزُولُ إِلَّا بِالذِّكرِ.
العِشرُون: أَنَّ مَا يَذكُر بِهِ العَبدُ رَبَّهُ مِن جَلَالِه وَتَسبِيحِهِ وَتَهلِيلِهِ وَتَحمِيدِهِ تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا عِندَ الشِّدَّة.
الحَادِيَةُ وَالعِشرُون: أَنَّ العَبدَ إِذَا تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِذِكرِهِ فِي الرَّخَاءِ؛ عَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الشِّدَّةِ.
الثَّانِيَةُ وَالعِشرُون: أَنَّ الذِّكرَ مَنجَاةٌ مِن عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثَةُ وَالعِشرُون: أَنَّ الذِّكرَ سَبَبُ تَنَزُّلِ السَّكِينَةِ، وَغِشَيَانِ الرَّحمَةِ، وَحُفُوفِ المَلائكَةِ بِالذَّاكِرِ كَمَا أَخبَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
الرَّابعَةُ وَالعِشرُون: أَنَّهُ سَبَبُ انشِغَالِ اللِّسَانِ عَن الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالكَذِبِ وَالفُحْشِ وَالبَّاطِلِ.
الخَامِسَةُ وَالعِشرُون: مَجَالِسُ الذِّكرِ مَجَالِسُ المَلائكَةِ، وَمَجَالِسُ اللَّغوِ وَالغَفلَة مَجَالِسُ الشَّيَاطِين.
السَّادِسَةُ وَالعِشرُون: أَنَّ الذِّكرَ يَسعَدُ الذَّاكِرُ بِهِ وَيَسعَدُ بِهِ جَلِيسُهُ، وَهَذا هُوَ المُبَارَكُ أَينَ مَا كَان, وَالغَافِلُ يَشْقَى بِلَغوِهِ وَغَفلَتِهِ وَيَشقَى بِهِ مُجَالِسُهُ.
السَّابِعَةُ وَالعِشرُون: أَنَّ الذَّكِرَ يُؤَمِّنُ العَبدَ مِنَ الحَسرَةِ يَومَ القِيَامَةِ.
فَكُلُّ مَجلِسٍ لَا يَذكُرُ العَبدُ فِيهِ رَبَّهَ تَعَالَى؛ يَكُونُ عَلَيهِ حَسرَةً وَتِرَةً وَنَدَامَةً يَومَ القِيَامَةِ.
الثَّامِنَةُ وَالعِشرُون: أَنَّهُ مَعَ البُكَاءِ فِي الخَلوَةِ سَبَبٌ لِإِظلَالِ اللهِ تَعَالَى العَبْدَ يَومَ الحَشرِ الأَكبَرِ فِي ظَلِّ عَرشِهِ، وَالنَّاسُ فِي حَرِّ الشَّمسِ قَد صَهَرَتهُم فِي المَوقِفِ, وَهَذَا الذَّاكِرُ مُستَظِلٌّ بِظِلِّ عَرشِ الرَّحمَن -جَلَّ وَعَلَا-.
التَّاسِعَةُ وَالعِشرُون: أَنَّ الاشتِغَالَ بِالذِّكرِ سَبَبُ إعَطَاءِ اللهِ تَعَالَى الذَّاكِر أَفضَلَ مَا يُعطِي السَّائلِينَ.
الثَّلاثُون: أَنَّهُ أَيسَرُ العِبَادَاتِ، وَهُوَ مِن أَحلَاهَا وَأَفضَلِهَا، فَإِنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ أَخَفُّ حَرَكَاتِ الجَوَارِح وَأَيسَرُهَا، وَلَوْ تَحَرَّكَ عُضوٌ مِن أَعضَاءِ الإِنسَانِ فِي اليَّومِ وَاللَّيلَةِ مِقدَارَ حَرَكَةِ اللِّسَان لَشَقَّ عَلَيهِ غَايَةَ المَشَقَّةِ، بَلْ لَا يُمكِنُ ذَلِك.
الحَادِيَةُ وَالثَّلاثُون: أَنَّ الذِّكرَ غَرسُ الجَنَّة.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ)). أَخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.
الثَّانِيَةُ وَالثَّلاثُون: أَنَّ العَطَاءَ وَالفَضْلَ الذِي رُتِّبَ عَلَى الذِّكرِ لَمْ يُرَتَّبَ عَلَى غَيرِهِ مِنَ الأَعمَالِ.
الثَّالِثَةُ وَالثَّلاثُون: أَنَّ دَوَامَ ذِكرِ اللهِ تَعَالَى يُوجِبُ الأَمَانَ مِن لِسَانِهِ الذِي هُوَ سَبَبُ شَقَاءِ العَبدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، فَإِنَّ نِسيَانَ الرَّبّ يُوجِبُ نِسيَانَ نَفسِهِ وَمَصَالِحِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].
الرَّابِعَةُ وَالثَّلاثُون: أَنَّ الذِّكرَ يُسَيِّرُ العَبدَ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ وَفِي سُوقِهِ, وَفِي حَالِ صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ، وَفِي حَالِ نَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ، وَمَعَاشِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَاضِّجَاعِهِ, وَسَفَرِهِ وَإِقَامَتِهِ, فَلَيسَ فِي الأَوقَاتِ شَيءٌ يَعُمُّ الأَوقَاتَ وَالأَحوَالَ مِثلُهُ.
الخَامِسَةُ وَالثَّلاثُون: أَنَّ الذِّكرَ نُورٌ لِلذَّاكِرِ فِي الدُّنيَا، نُورٌ لَهُ فِي قَبرِهِ، وَنُورٌ لَهُ فِي مَعَادِهِ يَسعَى بَينَ يَدَيهِ عَلَى الصِّرَاطِ.
وَلِأَجلِ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُبَالِغُ فِي سُؤالِهِ رَبَّهُ مِنَ النُّورِ حَتَّى سَأَلَهُ –جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَجعَلَ النُّورَ فِي لَحمِهِ وَعِظَامِهِ, وَعَصَبِهِ وَشَعرِهِ, وَسَمعِهِ وَبَصَرِه, وَمِن فَوقِهِ وَمِن تَحتِهِ, وَعَن يَمِينِهِ وَعَن شِمَالِهِ, وَمِن خَلفِهِ وَمِن أَمَامِهِ، حَتَّى قَالَ: ((وَاجعَلنِي نُورًا)).
فَسَأَلَ رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجعَلَ النُّورَ فِي ذَاتِهِ الظَّاهِرَة وَالبَّاطِنَة، وَأَنْ يَجعَلَهُ مُحِيطًا بِهِ مِن جِهَاتِهِ، فَدِينُ اللهِ نُور، وَكِتَابُهُ نُور، وَرَسُولُهُ نُور، وَدَارُهُ التِي أَعَدَّهَا لِأَولِيَائِهِ نُورٌ يَتَلَألَأ، وَاللهُ تَعَالَى نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض، وَمِن أَسمَائِهِ النُّور -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى-.
السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّ الذِّكرَ رَأسُ الأُصُولِ، وَطَرِيقُ عَامَّةِ السَّالِكِينَ وَمَنشُودُ الوِلَايَةِ, فَمَن فُتِحَ لَهُ فِيهِ؛ فَقَدْ فُتِحَ لَهُ بَابُ الدُّخُولِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَيَتَطَهَّر وَلَيَدخُل عَلَى رَبِّهِ؛ يَجِد عِندَهُ كُلَّ مَا يُرِيد، فَإِنْ وَجَدَ رَبَّهُ تَعَالَى وَجَدَ كُلَّ شَيء، وَإِنْ فَاتَهُ رَبُّهُ –جَلَّ وَعَلَا- فَاتَهُ كُلُّ شَيء.
نَسأَلُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَينَا بِذِكرِهِ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِنَا, وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَن وَالَاهُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ:
فَالسَّابِعَةُ وَالثَّلاثُونَ – مِن فَوائِدِ الذِّكرِ كَمَا ذَكَرَهَا الإِمَامُ العَلَّامَةُ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ العَظِيم ((الوَابِلُ الصَّيِّبُ))-: أَنَّ الذِّكرَ يَجمَعُ المُتَفَرِّقَ وَيُفَرِّقَ المُجْتَمِع، وَيُقَرِّبُ البَعِيدَ وَيُبعِدُ القَرِيبَ، فَيَجمَعُ مَا تَفَرَّقَ عَلَى العَبدِ مِن قَلبِهِ وَإِرَادَتِهِ, وَيُفَرِّقُ مَا اجتَمَعَ عَلَيهِ مِنَ الهُمُومِ وَالغُمُومِ وَالأَحزَانِ وَالحَسَرَاتِ.
وَيُفَرِّقُ أَيضًا مَا اجتَمَعَ عِندَهُ مِن جُندِ الشَّيطَان، فَإِنَّ إِبلِيسَ –عَلَيهِ لَعَائِنُ اللَّهِ- لَا يَزَال يَبعَثُ لِلعَبدِ سَرِيَّةً بَعدَ سَرِيَّة, وَالذِّكرُ يُقَرِّبُ الآخِرَةَ وَيَعَظِّمُهَا فِي قَلبِ الذَّاكِر, وَيُصَغِّرُ الدُّنيَا فِي عَينَيْهِ وَيُبعِدُهَا عَن قَلبِهِ وَلِسَانِهِ.
الثَّامِنَةُ وَالثَّلاثُونَ: أَنَّ الذِّكرَ يُنَبِّهُ القَلبَ مِن نَومِه، وَيُوقِظُهُ مِن سِنَتِهِ, وَالقَلبُ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَاتَتْهُ الأَربَاحُ وَالمَتَاجِرُ, وَكَانَ الغَالِبُ عَلَيهِ الخُسرَان.
التَّاسِعَةُ وَالثَّلاثُون: أَنَّ الذِّكرَ شَجَرَةٌ تُثمِرُ المَعَارِف.
الأَربَعُون: أَنَّ الذَّاكِرَ قَرِيبٌ مِن مَذكُورِهِ, وَمَذكُورُهُ مَعَهُ, وَهَذِهِ المَعِيَّةُ مَعِيَّةُ الوِلَايَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالنُصرَةِ وَالتَّوفِيقِ، كَقَولِهِ تعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
وَلِلذَّاكِرِ مِن هَذِهِ المَعِيَّةِ الخَاصَّةِ نَصِيبٌ وَافِرٌ كَمَا فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ الذِي رَوَاهُ أَحمَدُ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ: ((أَنَا مَعَ عَبدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَت بِي شَفَتَاه)).
الحَادِيَةُ وَالأَربَعُونَ -مِن فَوائِدِ الذِّكرِ-: أَنَّ الذِّكرَ يَعدِلُ الضَّربَ بِالسَّيفِ فِي سَبيلِ اللهِ تَعَالَى, بَعدَ نَفَقَةِ الأَموالِ, وَالحَملِ علَى الخَيلِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى.
الثَّانِيَةُ وَالأَربَعُون: أَنَّ الذِّكرَ رَأسُ الشُّكرِ، فَمَا شَكَرَ اللهُ تَعَالَى مَن لَمْ يَذكُرهُ.
الثَّالِثَةُ وَالأَربَعُون: أَنَّ أَكرَمَ الخَلقِ علَى اللهِ تَعَالَى مِن المُؤمِنِينَ؛ مَن لَا يَزَالُ لِسَانُهُ رَطبًا مِن ذِكرِهِ، فَإِنَّهُ أبقَاهُ فِي أَمرِهِ وَنَهيِهِ, وَجَعَلَ ذِكرَهُ شِعَارَهُ, وَالتَّقوَى أَوجَبَت لَهُ دُخُولَ الجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.
الرَّابِعَةُ وَالأَربَعُون: أَنَّ فِي القَلبِ قَسْوَة لَا يُذْهِبُهَا وَلَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكرُ اللهِ –جَلَّ وَعَلَا-.
قَالَ رَجُلٌ لِلحَسَنِ البَصرِيِّ –رَحِمَهُ اللهُ-: يَا أَبَا سَعِيد؛ أَشكُو إِلَيكَ قَسْوَةَ قَلبيِ.
قَالَ: ((أَذِبْهَا بِالذِّكرِ)).
الخَامِسَةُ وَالأَربَعُون: أَنَّ الذِّكرَ شِفَاءٌ لِلقَلبِ وَدَوَاءٌ لَهُ، وَأَمَّا الغَفلَةُ فَمَرَضُهُ، وَالقُلُوبُ مَرِيضَةٌ وَشِفَاؤُهَا وَدَوَاؤهَا فِي ذِكرِ اللهِ تَعَالَى.
السَّادِسَةُ وَالأَربَعُون: أَنَّ الذِّكرَ أَصْلُ مُوالَاةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَمَّا الغَفلَةُ فَأَصْلُ مُعَادَاتِهِ، وَالعَبدُ لَا يَزالُ يَذكُرُ رَبَّهُ حَتَّى يُحِبَّهُ فَيُوالِيَهُ، وَلَا يَزَالُ يَغفُلُ عَن ذِكرِ رَبِّهِ حَتَّى يُبغِضَهُ فَيُعَادِيَهُ.
السَّابِعَةُ وَالأَربَعُون: أَنَّهُ مَا استُجلِبَت نِعَمُ اللهِ تَعَالَى وَاستُدفِعَت نِقَمُهُ بِمِثلِ ذِكرِهِ, فَالذِّكرُ جَلَّابٌ لِلنِّعَمِ، دَفَّاعٌ لِلنِّقَمِ.
قَالَ بَعضُ السَّلَف: ((مَا أَقبَحَ الغَفلَةَ عَن ذِكرِ مَن لَا يَغفُلُ عَن بِرِّك)).
الثَّامِنَةُ وَالأَربَعُون: الذِّكرُ يُوجِبُ صَلَاةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَلائكَتِهِ عَلَى الذَّاكِرِ، وَمَن صَلَّى عَلَيهِ اللهُ وَمَلائكَتُهُ فَقَد أَفلَحَ وَفَازَ كُلَّ الفَوز {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41-43].
التَّاسِعَةُ وَالأَربَعُون: أَنَّ مَن شَاءَ أَنْ يَسكُنَ رِيَاضَ الجَنَّة؛ فَلْيَستَوْطِن مَجَالِسَ الذِّكرِ فَإِنَّهَا رِيَاضُ الجَنَّة.
الخَمسُون: أَنَّ مَجَالِسَ الذِّكرِ مَجَالِسُ المَلائكَة، فَلَيسَ مِن مَجَالِسِ الدُّنيَا مِن مَجلِسٍ إِلَّا هَذَا الذِي ذُكِرَ, وَهِيَ مَجَالِسُ الذِّكرِ؛ مَجلِسٌ يُذكَرُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ كَمَا فِي قَولِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إِنَّ للَّهِ مَلائكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ؛ يَلتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكر)) الحَدِيث, وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الحَادِيَةُ وَالخَمسُون: أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَاهِي مَلائِكَتَهُ بِالذَّاكِرِينَ، كَمَا جَاءَ عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي المَسجِدِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟
قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى.
قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟
قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَلِكَ.
قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ
قَالَ: وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنزِلَتِي مِن رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَلَّ عَنهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ((مَا أَجْلَسَكُمْ هَاهُنَا؟))
قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا بِكَ.
قَالَ: ((آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟))
قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَلِكَ.
قَالَ: ((أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ –عَلَيهِ السَّلَامُ- فَأَخْبَرَنِي: أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ المَلَائِكَة)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.
فَهَذِهِ المُبَاهَاةُ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الذِّكرِ عِندَهُ وَمَحَبَّتِهُ لَهُ, وَأَنَّ لَهُ مَزِيَّةً عَلَى غَيرِهِ مِنَ الأَعمَالِ.
الثَّانِيَةُ وَالخَمسُون: أَنَّ جَمِيعَ الأَعمَال إِنَّمَا شُرِعَت إِقَامَةً لِذِكرِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ-، فَالمَقصُودُ بِهَا تَحصِيلُ ذِكرِ اللهِ –جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وَذُكِرَ عَن ابنِ عَبَّاسٍ –رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا- أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفضَل؟
قَالَ: ((ذِكرُ اللَّهِ أَكبَر)).
الثَّالِثَةُ وَالخَمسُون: أَنَّ أَفضَلَ أَهلِ كُلِّ عَمَلٍ؛ أَكثَرُهُم فِيهِ ذِكرًا للَّهِ تَعَالَى، فَأَفضَلُ الصُّوَّامِ أَكثَرُهُم ذِكرًا للَّهِ فِي صَومِهِم، وَأَفضَلُ الحُجَّاجِ أَكثَرُهُم ذِكرًا للَّهِ فِي حَجِّهِم, وَأَفضَلُ المُتَصَدِّقِينَ أَكثَرُهُم ذِكرًا للَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَهَكَذَا سَائِرُ الأَعمَال.
الرَّابِعَةُ وَالخَمسُونَ: أَنَّ إِدَامَةَ الذِّكْرِ تَنُوبُ عَن التَّطَوُّعَات, وَتَقُومُ مَقَامَهَا سَواءٌ كَانَت بَدَنِيَّةً أَوْ مَالِيَّةً أَوْ بَدَنِيَّةً مَالِيَّةً كَحَجِّ التَّطَوُّع.
وَقَد جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ –رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ-: ((أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ رَبِّ العَالَمِين -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ –يَعنِي: أَهلَ الأَموَالِ- بِالدَّرَجَاتِ العُلَى, وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي, وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُم فَضْلُ أَموَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا, وَيَعتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ.
فَقَالَ: ((أَلَا أُعَلِّمُكُم شَيئًا تُدرِكُونَ بِهِ مَن سَبَقَكُم، وَتَسبِقُونَ بِهِ مَن بَعدَكُم، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنكُم إِلَّا مَن صَنَع مَا صَنَعتُم؟))
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ!!
قَالَ: ((تُسَبِّحُونَ وَتَحمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلفَ كُلِّ صَلَاةٍ)) الحَدِيث, وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فَجَعَلَ الذِّكرَ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُم مِنَ الحَجِّ وَالعُمرَةِ وَالجِهَادِ، وَأَخبَرَ أَنَّهُم يَسبِقُونَهُم بِهَذَا الذِّكرِ.
الخَامِسَةُ وَالخَمسُون – مِن فَضَائلِ الذِّكرِ وَفَوائدِهِ-: أَنَّ ذِكرَ اللَّهِ تَعَالَى مِن أَكبَرِ العَونِ عَلَى طَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ يُحَبِّبُهَا إِلَى العَبدِ, وَيُسَهِّلُهَا عَلَيهِ, وَيُلَذِّذُهَا لَهُ, وَيَجعَل قُرَّةَ عَينِهِ فِيهَا.
السَّادِسَةُ وَالخَمسُونَ: أَنَّ ذِكرَ اللَّهِ تَعَالَى يُسَهِّلُ الصَّعب، وَيُيَسِّرُ العَسِير, وَيُخَفِّفُ المَشَاق.
السَّابِعَةُ وَالخَمسُون: أَنَّ ذِكرَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يُذهِبُ عَن القَلبِ مَخَاوِفَهُ كُلَّهَا، وَلَهُ -أَي: لِلذِّكرِ- تَأثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حُصُولِ الأَمْن، فَلَيسَ لِلخَائفِ الذِي قَد اشتَدَّ خَوفُهُ أَنفَعُ مِن ذِكرِ اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا-.
الثَّامِنَةُ وَالخَمسُون: أَنَّ الذِّكرَ يُعطِي الذَّاكِرَ قُوَّةً، حَتَّى إِنَّهُ لَيَفعَلُ مَع الذِّكرِ مَا لَمْ يُطِقْ فِعلَهُ بِدُونِهِ، أَلَا تَرَى كَيفَ عَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابنَتَهُ فَاطِمَة وَعَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- أَنْ يُسَبِّحَا كُلَّ لَيلَةٍ إِذَا أَخَذَا مَضَاجِعَهُمَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَيَحمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَيُكَبِّرَا أَربَعًا وَثَلَاثِينَ؛ لمَّا سَأَلَتهُ الخَادِمَة, وَشَكَت إِلَيهِ مَا تُقَاسِيهِ مِن الطَّحنِ وَالسَّقْيِ وَالخِدمَةِ، فَعَلَّمَهَا ذَلِكَ وَقَالَ: ((إِنَّهُ خَيرٌ لَكُمَا مِن خَادِمٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قِيلَ: إِنَّ مَن دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ –أَيْ: عَلَى هَذَا الذِّكرِ عِندَ النَّوم- وَجَدَ قُوَّةً فِي يَومِهِ مُغنِيَةً عَن خَادِم.
التَّاسِعَةُ وَالخَمسُون: أَنَّ أَعمَالَ الآخِرَةِ كُلَّهَا فِي مِضمَارِ السِّبَاق، وَالذَّاكِرُونَ هُم أَسبَقُهُم فِي ذَلِكَ المِضْمَارِ.
السِّتُّونَ -مِن فَضَائلِ وَفَوائدِ الذِّكر-: كَثرَةُ ذِكرِ اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا- أَمَانٌ مِنَ النِّفَاقِ، فَإِنَّ المُنَافِقَ قَلِيلُ الذِّكرِ للَّهِ تَعَالَى، قَالَ رَبُّنَا –جَلَّ وَعَلَا- فِي المُنَافِقِينَ: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
قَالَ كَعبٌ: ((مَن أَكثَرَ ذِكرَ اللَّهِ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ)).
قَالَ الإِمَامُ العَلَّامَةُ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: ((إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدِهِ خَيرًا؛ فَتَحَ لَهُ مِن أَبوَابِ التَّوبَةِ, وَالنَّدَمِ وَالانكِسَار, وَالذُّلِّ وَالافتِقَارِ، وَالاستِعَانَةِ بِهِ، وَصِدقِ اللَّجْأ إِلَيهِ، وَدَوَامِ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيهِ بِمَا أَمكَنَ مِن الحَسنَاتِ؛ مَا تَكُونُ تِلكَ السَّيِّئَةِ الَّتِي وَقعَت مِنَ العَبدِ سَبَبًا لِرَحمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ, حَتَّى يَقُولَ عَدُوَّ اللهِ إِبلِيس: يَا لَيتَنِي تَرَكتُهُ وَلَم أُوقِعْهُ.
وَهَذا مَعنَى قَولِ بَعضِ السَّلَفِ: إِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ الذَّنبَ يَدخُلُ بِهِ الجَنَّة، وَيَعمَلُ الحَسَنَة يَدخُلُ بِهَا النَّار.
قَالُوا: كَيف؟
قَالَ: يَعمَلُ الذَّنبَ فَلَا يَزَالُ ذَنبُهُ نُصْبَ عَينَيْهِ خَائفًا مِنهُ, مُشْفِقًا وَجِلًا, بَاكِيًا نَادِمًا, مُستَحْيِيًا مِن رَبِّهِ تَعَالَى, نَاكِسَ الرَّأسِ بَينَ يَدَيهِ, مُنكَسِرَ القَلبِ لَه، فَيَكُونُ ذَلكَ الذَّنبُ سَبَبَ سَعَادَةِ العَبدِ وَفَلَاحِهِ، حتَّى يَكُونَ ذَلِك الذَّنبُ أَنفَعَ لَهُ مِن طَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ, بمَا تَرَتَّبَ عَلَيهِ مِن هَذهِ الأُمورِ التِي بهَا سَعَادَة العَبدِ وَفَلاحُه, حتَّى يَكُونَ ذَلِك الذَّنبُ سَبَبَ دُخُولِهِ الجَنَّة.
وَيَفعَلُ الحَسَنَةَ فَمَا يَزَالُ يَمُنُّ بهَا علَى رَبِّهِ, وَيتَكَبَّرُ بهَا وَيَرَى نَفسَهُ, وَيُعجَبُ بهَا وَيَستَطِيلُ بهَا, وَيَذُوقُ طَعْمَ نَفسِهِ, وَيَقُولُ: فَعَلتُ وَفَعَلت، فَيُورِثُهُ مِنَ العُجْبِ وَالكِبرِ وَالفَخرِ وَالاستِطَالَةِ مَا يَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهِ.
فَإِذَا أَرَادَ اللهُ بَهَذا المِسكِينِ خَيرًا؛ ابتَلَاهُ بِأَمرٍ يَكسَرُهُ بِهِ وَيُذِلُّ بِهِ عُنُقَهُ, وَيُصَغِّرُ بِهِ نَفسَهُ عِندَهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ غَيرَ ذَلِكَ خَلَّاهُ وَعُجْبَهُ وَكِبرَهُ، وَهَذَا هُوَ الخِذلَانُ المُوجِبُ لهَلَاكِهِ.
فَإِنَّ العَارِفِينَ كُلَّهُم مُجمِعُونَ علَى أَنَّ التَّوفِيقَ أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَأَنَّ الخِذلَانَ أَنْ يَكِلَكَ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَفسِك.
فَمَن أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيرًا؛ فَتَحَ لَهُ بَابَ الذُّلِّ وَالانكِسَار، وَدَوَامِ اللَّجْأ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَالافتِقَارِ إِلَيهِ، وَرُؤيَةِ عيُوبِ نَفْسِهِ وَجَهْلِهَا وَظُلْمِهَا وَعُدوَانِهَا، وَمَشاهَدَةِ فَضلِ رَبِّهِ وَإِحسَانِهِ, وَرَحمَتِهِ وَجُودِهِ ,وَبِرِّهِ وَغِنَاه وَحَمْدِهِ.
فَالعَارِفُ سَائرٌ إِلَى اللَّهِ بَينَ هَذَيْنِ الجَنَاحَيْن، لَا يُمكِنُهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَّا بهِمَا، فَمَتى فَاتَهُ وَاحِدٌ مِنهُمَا فَهُوَ كَالطَّيرِ الذِي فَقَدَ أَحَدَ جَنَاحَيهِ.
قَالَ شَيخُ الإِسلَامِ إِسمَاعِيلُ الهَرَوِيُّ: ((العَارِفُ يَسِيرُ إِلَى اللهِ بَينَ مُشَاهَدَةِ المِنَّةِ وَمُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالعَمَل.
وَهو مَعنَى قَولِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ ((سَيِّدِ الاستِغفَارِ)) الذِي رَوَاهُ شَدَّاد: ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ, خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ, وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ, أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ, أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ, وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)).
فَجَمَعَ فِي قَولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ, وَأَبُوءُ بِذَنْبِي)) بَينَ مُشَاهَدَةِ المِنَّة وَمُطَالَعَةِ عَيبِ النَّفسِ وَالعَمَل.
فَمُشَاهَدَةُ المَنِّة؛ تُوجِبُ لَهُ المَحَبَّةَ وَالحَمدَ وَالشُّكرَ لِوَلِيِّ النِّعَمِ وَالإحسَانِ، وَمُطَالَعَةُ عَيبِ النَّفسِ وَالعَمَل؛ تُوجِبُ الذُّلَّ وَالانكِسَارَ, وَالافتِقَارَ وَالتَّوبَةَ فِي كُلِّ وَقتٍ، وَأَلَّا يَرَى نَفْسَهُ إِلَّا مُفلِسًا.
وَأَقرَبُ بَابٍ دَخَلَ مِنهُ العَبدُ علَى اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا- هُوَ: بَابُ الإِفْلَاسِ, فَلَا يَرَى لِنَفسِهِ حَالًا وَلَا مَقَامًا, وَلَا سَبَبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ, وَلَا وَسِيلَةً مِنْهُ يَمُنُّ بهَا, بَلْ يَدخُلُ علَى اللَّهِ تَعَالَى مِن بَابِ الافتِقَارِ الصِّرفِ، وَالإِفلَاسِ المَحْضِ، دُخُولَ مَن قَدْ كَسَرَ الفَقرُ وَالمَسكَنَةُ قَلبَهُ, حَتَّى وَصَلَت تِلكَ الكَسرَةُ إِلَى سُوَيدَائِهِ فَانصَدَعَ, وَشَمِلَتُهُ الكَسرَةُ مِن كُلِّ جِهَاتِه، وَشَهِدَ ضَرُورَتَهُ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى، وَكَمَالَ فَاقَتِهِ وَفَقرِهِ إِلَيهِ، وَأَنَّ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِن ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ فَاقَةً تَامَّةً، وَضَرُورَةً كَامِلَةً إِلَى رَبِّهِ –جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّى عَنهُ طَرفَةَ عَينٍ؛ هَلَكَ وَخَسِرَ خِسَارَة لَا تُجبَر، إِلَّا أَنْ يَعُودَ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ وَيَتَدَارَكَهُ برَحمَةٍ مِنهُ.
وَلَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَقرَبُ مِن العُبودِيَّةِ، وَلَا حِجَابَ أَغلَظُ مِنَ الدَّعوَى.
وَالعُبودِيَّةُ مَدَارُهَا علَى قَاعِدَتَين هُمَا أَصلُهَا وَأَسَاسُهَا: حُبٌّ كَامِل، وَذُلٌّ تَام, وَمَنشَأُ هَذَينِ الأَصلَينِ عَن ذَيْنِكَ الأَصلَينِ المُتقَدِّمَينِ وَهُمَا: مُشَاهَدَةُ المِنَّة التِي تُورِثُ المَحَبَّةَ، وَمُطَالَعَةُ عَيبِ النَّفسِ وَالعَمَلِ التِي تُورِثُ الذُّلَّ التَّام.
وَإِذَا كَانَ العَبْدُ قَد بَنَى سُلُوكَهُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- علَى هَذَينِ الأَصلَينِ؛ لَمْ يَظفَر عَدُوُّهُ بِهِ إِلَّا علَى غِرَّةٍ وَغِفلَةٍ، وَمَا أَسرَعَ مَا يُنْعِشُهُ اللًّهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَيَجبُرَهُ وَيَتَدَارَكُهُ بِرَحمَتِهِ)).
فَنَسأَلُ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُوقِظَنَا مِن رَقْدَتِنَا, وَأَنْ يُنَبِّهَنَا مِن غَفْلَتِنَا, وَأَنْ يَجعَلَنَا ذَاكِرِينَ لَهُ تَعَالَى كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى؛ فِي الأَحوَالِ وَالأَعمَالِ وَالأَقوَالِ كُلِّهَا كمَا عَلَّمَنَا نَبِيُّهُ, وَعَلَى الوَجْهِ الذِي جَاءَ بِهِ رَسُولَهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.
0