اللهُ –ربُّ العالمين- يصطفي مِن الأزمنةِ ما يشاء، ويصطفي مِن الأمكنةِ ما يشاء، ومن البشرِ ما يشاء، ومِن الملائكةِ ما يشاء –يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد-.
اللهُ –تبارك وتعالى- جَعَلَ عِدَّةَ الشهورِ عنده في كتابِ اللهِ يوم خَلَقَ السمواتِ والأرض: أي في اللوحِ المحفوظِ في كتابِ المقادير.
جعلَ عدَّةَ الشهور: أي عدد الشهور قائمًا على هذا الذي ذكرهُ اللهُ –ربُّ العالمين- في مُحكمِ التنزيل، إلَّا أنَّ اللهَ –ربَّ العالمين- الذي يصطفي من الأزمنةِ ما يشاء؛ اختصَ من هذه الأشهر أربعةً جعلَها حُرُمًا، وقد جعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- هذه الأشهرَ حُرُمًا؛ لا يجوز فيها القتالُ بحالٍ على ما سنعلمُ بأمرِ اللهِ –ربِّ العالمين-، بل إنَّ ربَّ العالمين- عَظَّمَ فيها الذُّنوب، فمن أتى في الأشهرِ الحُرُم -التي سيأتي ذِكرُها عن قولِ النبي –صلى الله عليه وسلم- مَن أتى في الأشهر الحرم بذنبٍ ضاعف اللهُ -ربُّ العالمين- له العقوبة.
كما أنَّ الله تبارك وتعالى- جعل أمكنةً شريفة، من صلَّى فيها وذَكَر اللهَ –ربَّ العالمين- فيها؛ ضاعفَ اللهُ له المَثُوبة كما هو الشأنُ في المسجدِ الحرامِ مِن البلدِ الحرام، كذلك جعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- الإرادةَ للإلحادِ بظلمٍ في المسجدِ الحرام ذَنْبًا عظيمًا يستوجبُ العذابَ الأليم: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]
فمُجَرُّد تَوَجُّهِ الإرادةِ إلى الإلحادِ: أي إلى المَيْلِ بالظلمِ في المسجدِ الحرام مستوجبٌ لإذاقةِ العذابِ الأليمِ كما بيَّنَ ربُّنا الرحمنُ الرحيم.
فاللهُ –تبارك وتعالى- جعلَ الأشهرَ الحُرُمِ مُعظَّمَةَ القَدْرِ عندَهُ، فمَن اتَّقَى اللهَ –ربَّ العالمين- فيها؛ فقد أتى بما أوجبَ اللهُ –ربُّ العالمين- عليه، ومَن أتَى فيها بما يَشين وظلمَ فيها نَفْسَهُ كما حذَّرَ مِن ذلك ربُّنا –تبارك وتعالى-؛ فإنَّ اللهَ –ربَّ العالمين- يُضاعِفُ له العقوبة؛ لأنه ظالمٌ لنفسهِ كما قال اللهُ –تبارك وتعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
والضميرُ في قوله تعالى: {فِيهِنَّ}: ينصرفُ إِمَّا إلى الأربعةِ الأشهرِ الحُرُمِ التي حرَّمَها الله –ربُّ العالمين-، ويكونُ المعنى على ذلك: فلا تظلموا في الأشهرِ الحُرُمِ أنفسَكُم.
أو يتوجه إلى عِدَّةِ الشهورِ المذكورة قبل هذا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} ويكونُ الضميرُ عائدًا إلى هذه العِدَّةِ المذكورةِ ويكون ظُلْمُ النَّفْسِ مُحرَّمًا في الأشهرِ الحُرُم وفي غيرِها وهو كذلك، إلَّا أنَّ الذين ذهبوا إلى أنَّ الضمير يعودُ إلى الأشهر الحُرُمِ؛ قالوا: إنما نصَّ عليها اللهُ –ربُّ العالمين- لبيان قَدْرِها، ويدلُّ ذلك على أنَّ مَن ظَلمَ نفسَه في الأشهرِ الحُرُمِ بمعصيةٍ للهِ –ربِّ العالمين-؛ فقد أَتَى بظُلمٍ عظيم، وعليه فهو مستوجبٌ لعقابٍ أليم –نسألُ اللهَ السلامةَ والعافية-.
النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمَّا حجَّ حجةَ الوداع، وخطب الناسَ في يومِ مِنَى، كان مما قاله النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرْض، الأشهُرُ الحُرُمُ أَرْبَعَة: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)).
فجعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- الأشهرَ الحُرُم ثلاثةً سَرْدًا وواحدًا فَرْدًا، فأَمَّا الحكمةُ في هذا التقسيمِ على هذه الطريقة؛ فالعلماءُ يقولون: إنَّ اللهَ –ربَّ العالمين- إنما حَرَّمَ هذه الأشهرَ من أجلِ مناسكِ الحجِّ والعُمرة، فاللهُ –ربُّ العالمين- لمَّا جعلَ الحجَّ بمناسكهِ في شهرِ اللهِ –تبارك وتعالى- المُحَرَّمِ ((ذي الحِجَّةِ))؛ اللهُ -ربُّ العالمين- جعل قبله شهرًا مُحَرَّمًا وبعدَهُ شَهْرًا مُحَرَّمًا، حتى يأتيَ الناسُ من الآفاقِ قاصدينَ بيتَ اللهِ الحرام آمنينَ على أنفسِهم ورواحلِهم وأزواجِهم وأموالِهم.
ثم إذا ما فَرَغوا مِن مناسكِ الحجِّ في ذي الحِجَّةِ وأرادوا القُفولَ إلى ديارِهم التي منها أتَوا؛ كانت عندهُم من الوقتِ فُسْحَةٌ من أجلِ أن يعودوا إلى ديارِهم في أمنٍ وأمانٍ واطمئنان.
فجعل اللهُ –ربُّ العالمين- قبلَ الشهرِ الذي فيه المناسك شهرًا مُحَرَّمًا؛ وهو شهر اللهِ –ربِّ العالمين- المُحَرَّمِ: ((ذو القِعْدَةِ))، ثم تأتي المناسكُ بتمامِها وجُملتِها في شهر ((ذي الحِجَّة))، ثم إذا ما فَرَغَ الناسُ مِنْ مناسكِهم، أَمِنوا على أنفسِهم بتحريمِ اللهِ –ربِّ العالمين- للقتال؛ بل بظُلْمِ النفسِ في المعاصي، التي تكونُ بين العبدِ وربِّهِ، أَمِنوا على أنفسِهم شهرًا من أجلِ أنْ يعودَ كلٌّ إلى دارهِ آمِنًا على نَفْسِهِ ومَالِهِ.
ثم يأتي شهرُ اللهِ –ربِّ العالمين- الفرد: ((رَجَب))، يأتيَ مُفردًا هكذا من أجلِ الزيارةِ والاعتمار، بعيدًا عما فرضَ اللهُ –ربُّ العالمين- من أمرِ المناسكِ في شهر ذي الحِجَّة، فإذا أراد رَجُلٌ أنْ يزورَ بيتَ اللهِ الحرام في خلالِ العام؛ جعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- له شهرًا في وسطِ العام هو رَجب، بعيدًا عن شهورِ مناسكِ الحجِّ ذَهَابًا وأداءً وإيابًا؛ مِنْ أَجْلِ أنْ يزورَ بيتَ اللهِ الحرام وأنْ يعتمرَ للهِ –ربِّ العالمين-.
ولمَّا كان أمرُ العُمرةِ غيرَ أمرِ الحجِّ، جَعَلَ اللهُ –ربُّ العالمين- للزيارةِ والاعتمارِ شهرًا واحدًا؛ لأنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يأتيَ من أطرافِ الجزيرةِ ويعود في هذه المُدَّة؛ لأنَّ العمرة لا تحتاج زمانًا مرتبطًا بمكانٍ كما هو الشأنُ في مناسك الحج، فيمكن للعبد أن يأتيَ من أطرافِ الجزيرة من أجلِ أنْ يزورَ بيتَ اللهِ الحرام وأنْ يعتمرَ لله –ربِّ العالمين-، ثم لا يمكثُ في مكةَ قليلًا ولا كثيرًا، ثم ينقلبُ بعد ذلك إلى أهلهِ آمنًا على مالهِ ونفسهِ وزادهِ وعتادهِ.
جعل اللهُ –ربُّ العالمين- الأشهر الحُرُم بهذه الصورة في التقسيم؛ مِن أجلِ حِكمٍ لا يعلمُها إلا اللهُ –ربُّ العالمين-؛ منها ما أخبرَنا عنه العلماءُ –رحمةُ الله عليهم- فيما مضى ذِكرُه.
اللهُ –ربُّ العالمين- بحكمته البالغة عَلِمَ من أمرِ جزيرة العرب ما عَلِم؛ بعِلْمِهِ الذي تنكشف به المعلومات، فالعالَمُ كلُّه أمام عِلمِ اللهِ -ربِّ العالمين- مكشوفٌ دفعةً واحدة؛ لا ماضيَ ولا حاضرَ ولا مستقبل؛ بل كلُّه مكشوفٌ لدى اللهِ –ربِّ العالمين- معلومٌ لديه كأنه وقعَ عند البشرِ من حيثُ اليقين؛ بل أشَدُّ؛ لأنه اللهُ –ربُّ العالمين-.
اللهُ –ربُّ العالمين- يعلمُ بسابقِ عِلْمِهِ أنَّ العربَ لن يَكفُّوا عن العصبيةِ والحَميَّةِ والقتال، فلمَّا أنْ أرسلَ اللهُ –ربُّ العالمين- إبراهيم –عليه السلام-، وأمره برفعِ القواعد من البيت؛ حرَّمَ اللهُ –ربُّ العالمين- ما حرَّم من أمرِ هذه الأشهرِ المُحَرَّمة، فهي حُرُمٌ من أيامِ إبراهيم وإسماعيل منذ أذَّنَ إبراهيمُ –عليه السلام- في الناسِ بالحَجِّ.
أمَّنَ اللهُ –ربُّ العالمين- الطريقَ للحُجَّاج والزائرين والمُعتمرين؛ لأنَّ العربَ كانوا أهلَ عصبيةٍ وأهلَ حَميَّةٍ جاهليةٍ فيما قبل الإسلام، وكانوا يعتمدون على السَّلبِ والنهبِ والسطوِ والغزو،ويأكلون من أرزاقٍ تُدفعُ إليهم عن طريقِ أسنَّةِ الرِّماحِ وشباتِ السيوف، فجعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- هذه الأشهر مُحَرَّمًا فيها القتال، حتى يتمكن الناس من زيارةِ بيتِ اللهِ الحرام حُجَّاجًا وزائرين ومعتمرين، وحتى تنقطعَ حُجةَ الخَلْقِ أجمعين.
وجَعَلَ اللهُ –ربُّ العالمين- من المكانةِ للأشهر الحُرُمِ في قلوبِ العربِ من الجاهليين، الذين كانوا لا يدينونَ بدينٍ صحيح، ولا يتَّبِعونَ في الجُملةِ فطرةً مستقيمة، جعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- من الفطرةِ في تقديرِ هذه الأشهر أنَّ الرجلَ من العربِ كان يَلْقَى قاتِلَ أبيه وقاتِلَ أخيه في الأشهرِ الحُرُمِ؛ فلا يُهيِّجُهُ ولا يُزعجُهُ ولا يرفعُ إليه نظرًا بحِدَّة؛ لأنَّ اللهَ –ربَّ العالمين- حرَّمَ القتالَ في هذه الأشهر، وجعلهُ حرامًا مُحَرَّمًا، فقدَّرَت العربُ ذلك بأمرِ اللهِ –رب العالمين- الكونيِّ وبقايا دينِ إبراهيم –عليه السلام-، الذي كان الحنيفية السَّمحة ملَّةَ أبينا إبراهيم –نسأل اللهَ –تبارك وتعالى- أن يُحييَنا عليها، على الإسلامِ دينِ مُحمدٍ –صلى الله عليه وسلم- وأن يُميتَنَا عليها وأنْ يحشرنا بين يديه عليها إنه على كلِّ شيءٍ قدير-.
جعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- الأشهرَ الحُرُم مختصةً في تلك الأشهرِ العِدَّةِ التي ذَكَرَها اللهُ –ربُّ العالمين- في محكم التنزيل، فأما عِدَّةُ الشهور التي ذكرَ الله –ربُّ العالمين- في محكم التنزيل؛ فتبدأُ بشهرِ الله –تبارك وتعالى- ((المُحَرَّم))، ويجمعُ على محارمَ ومحاريم، ثم يأتي مِن بعد المُحَرَّمِ ((صفَر)) ويُجمعُ على أصفار، ثم يأتي ((ربيعٌ الأوَّل)) ويُجمعُ على أرْبِعَاءَ وأرْبِعَة، ثم يأتي ((الثاني))، ثم يأتي ((جُمَادَى الأول)) و((جُمَادَى الثاني))، ويُمكن أن تُؤنَّثَ وتُذَكَّرَ؛ فيُقال: جُمادى الأولى وجُمادى الأول وتُجمعُ على جُماديات، ثم يأتي من بعد ذلك ((رَجَب)) ويُجمعُ على رُجُبٍ وأرجبةٍ وأرجاب -في رجب الأرجابِ أو صَفَرٍ كما قال أبو تمام في قصيدته التي ألقى بين يدي المعتصم في سالف الدهر-، ثم يأتي من بعد: رجب شهرِ اللهِ –تبارك وتعالى- الحرام الذي نصَّ النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- على منقعه في الحديث الذي كان في حجة الوداع في يوم مِنَى؛ فقال: ((ورَجب الذي بين جُمادى وشعبان –رجب مُضر-))؛ لأن ((ربيعةَ)) كانت تذهب إلى أن المُحَرِّمَ ليس رجبًا وإنما هو رمضان، فكانت تُطلِق التحريم على رمضان مع إطلاق اللفظِ عليه رَجبًا، فكانوا يسمون رمضانَ رَجبًا، وأما ((مُضَر))فكانت على أصلِ ما كان عليه إبراهيمُ –عليه السلام-، فكانت تُحَرِّمُ رجبًا –رجب مُضَر-، الذي بين جُمادى وشعبان؛ ولذلك رفع النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عواملَ الإشكال وأزالَ الإلباس، فنَصَّ عليه نصًّا صريحًا، قال: ((ورجبُ مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان))، ((شعبان)): الذي يُجمعُ على شعابين وشعبانات، و((رمضانُ)) الذي يُجمعُ على أَرْمِضَةٍ ورمضانات، ثم يأتي من بعد ذلك ((شوال)) ويُجمعُ على شواويل، ثم يأتي من بعد شوال ((ذو القِعدة)) و((ذو الحِجة)) من بعد ذلك ويُجمع كلُّ ذي ((ذو)) بجمعِ ((ذو)) وإبقاءُ مع بعدها على أصله؛ فهي: ذوات القِعدةِ وذواتِ الحِجة.
ثم يأتي أمرٌ بيَّنَهُ اللهُ –ربُّ العالمين- في الآية التي تَلَت: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].
و النَّسِيءُ: من الإنساء وهو التأخير، وإنما هو فعيلٌ على مفعولٍ في أصلِ خِلقتهِ، إلا أنه نُقِلَ من منسوءٍ إلى نسيء للخفةِ في النطق، كما نُقِلَ قتيل من مقتولٍ إلى قتيلٍ للخفةِ في النطق أيضًا، وإنما كان النسيءُ نسيئًا؛ لأنَّ اللهَ –ربَّ العالمين- لَمَّا حرَّم الأشهرَ الثلاثةَ سَرْدًا؛ عزَّ على العربِ وشقَّ عليهم أن يَكفُّوا عن المناجذةِ والمناحرة والقتالِ فيما بينهم ثلاثةَ أشهرٍ مُتتابعات.
فما كان من شأنِ رجُلٍ من ((كِنانةَ))، وكانت ((كنانةُ)) ذات دين-قبيلةٌ من قبائلِ العرب تُدْعَى كِنانة، كانت ذات دين-، جاء منها رجلٌ يُقال له ((القَلَمَّس)) فوقف يومً في أيامِ الحجِّ على حمارٍ له، واتجه صوبَ الحجيج، ثم قال: ((إني لا أُجابُ ولا أُعاب، وقد نسئتُ لكم شهرَ اللهِ المُحَرَّم))،فأَخّرَ بذلك الحُرمةَ إلى صَفَر.
وفي قولِ ابن جرير –رحمة الله عليه-: أنَّ أمر النسيء الذي صنع هذا الرجل، والذي صنعه من بعده أبنائه وأحفاده، حتى جاء الإسلام على ((جُنادةَ بن عمروٍ)) من أحفاد ((القَلَمَّسِ)) هذا وهو أولُ من نَسَأ الأشهرَ الحُرُم –أي أخَّرَها-.
جاء الإسلامُ على هذا الرجُلِ وهو يقف في موسمِ الحج على حمارٍ له؛ يقول: ((أنا أبو ثُمامة –وكانت كُنيته- لا أُجاب ولا أُعاب، وقد أخرت لكم، نسأت لكم شهر الله المُحَرَّم إلى صَفَر)).
فيُحِلُّ شهر الله المُحَرَّم، يُحِلُّه للناس في القتال ويُحَرِّمُ بدلًا منه ما بعده: شهرَ صَفر، فيصبح بذلك صفرُ المُحَرَّم، والمُحَرَّمُ حلالًا، فيُحِلُّ ما حرَّمَ الله ويُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ –ربَّ العالمين-.
في قولِ ابن جريرٍ –رحمة الله عليه- أنهم كانوا إذا نسئوا الأشهر الحُرُم أو أنسئوها –يعني: أخرُّوا الحُرمةَ فيها-، أبقَوا لا على حُرمةِ الأشهرِ عددًا، وإنما غايروا بعد إبقائها عددًا؛ غايروا في عدةِ الأشهرِ نفسِها، فإنَّ الرجل كان يأتي في شهر الله المُحَرَّم أو في موسم الحج؛ فيقول لهم في ذي الحِجة: قد نسأتُ أو أنسأتُ لكم الحُرمةَ من المُحَرَّمِ إلى صَفَر، إذن؛ أصبح ((صَفَرُ المُحَرَّمَ)) وأصبح ((المُحَرَّمُ حلالًا)).
فلذلك يُسمَّى ((المُحرَّمُ)) في لغتهم ((مُحَرَّمٌ الحلال))، و((صَفَر)) يُسمَّى ب((المُحَرَّمِ الحرام))، ثم يأتي ربيعٌ الأول فيسمونه صَفَرًا، ثم تتوالى الأشهرُ بعدُ، فتصبحُ عِدة الأشهر عندهم ثلاثةَ عشرَ شهرًا، لا كما قال اللهُ –ربُّ العالمين-، وإنما يواطئون عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ –ربُّ العالمين- في الإبقاءِ على عدةِ الأشهرِ الحُرُم دون مواقعِها الزمنيةِ التي بيَّنَها اللهُ –ربُّ العالمين-، وفصَّلَها لنا مُحمدٌ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الآن؛ هم يجعلون السَّنَةَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا، وتتابعت الأيام؛ فتداخلت الشهور، فأصبحَ ربيعٌ الأول رمضان، وأصبح رمضانٌ رجب، ثم تداخلت الأشهر، فكانوا يحجُّون في غير المواقيتِ بيقين، يحجُّونَ في غيرِ ذي الحِجَّة الذي قصدَهُ اللهُ –ربُّ العالمين- بالحجِّ لمَّا جعلَ الأشهرَ الحُرُم بعدةٍ معدودةٍ في أصلِ خِلقةِ السمواتِ والأرض، إلَّا أنَّ اللهَ- ربَّ العالمين- عصم النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فرسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- لمَّا حجَّ في العامِ الذي حجَّ فيه؛ قال لنا: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرْض)).
فالمُحَرَّمُ في موضعهِ الذي أرادهُ الله، وذو الحِجَّةِ الذي حجَّ فيه النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- هو ذو الحِجةِ الذي قصدَهُ اللهُ –ربُّ العالمين- بالتحريمِ وبأداءِ المناسك، فعصمَ اللهُ رسولَهُ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مِن كلِّ ما يشوب –بأبي هو وأمي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الرسولُ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بُعِثَ في العربِ وهُم على تحريمِ الأشهر اسمًا لا رَسْمًا، وإطلاقًا وأَخْذًا بقضيةِ النسيء بتبديلٍ وتحريفٍ وتغيير، فأعاد اللهُ –ربُّ العالمين- الأمرَ على يدي النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى نِصابهِ الذي أراده اللهُ –ربُّ العالمين-.
فرَجَبُ شهرٌ من أشهرِ اللهِ الحرام، هو مُعظَّمُ القَدْرِ عند اللهِ –ربِّ العالمين-، واللهُ –ربُّ العالمين- أمَرَنَا في محكمِ التنزيلِ ألا نظلمَ فيه -لأنه من جُملة الأشهر الحُرُم- أنفسَنا، ألا نَظلمَ فيه أنفسَنا: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، أي: في الأشهرِ الحُرُمِ على القولِ الراجحِ مما يُرَدُّ إليه الضمير في قولِ اللهِ –ربِّ العالمين-: {فِيهِنَّ}.
فرَجَبٌ نَصًّا لا ينبغي لعبدٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ يظلمَ فيه نَفْسَهُ بمعصيةِ اللهِ- ربِّ العالمين-، فأمَّا أنْ يكونَ ذلك كذلك، فهو ولا مُشاحةَ في هذا الذي قال اللهُ –ربُّ العالمين- ولا جدالَ فيه.
وأمَّا أنْ يَثْبُتَ لرَجَبٍ فضيلةٌ فوقَ ما ذكرَ اللهُ –ربُّ العالمين- مِن أنه من الأشهرِ الحُرُمِ؛ فدون ذلك خَرْطُ القتاد، لم يَثْبُت في حقِّ رَجَب كفضيلةٍ بصيامِ يومٍ منه مُعَيَّنٍ أو بقيامِ ليلةٍ منه بعَيْنِهَا، لم يَثْبُت في ذلك نصٌّ على الإطلاق.
*وأمَّا قولُ مَن قال –رفعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم- ولا يَصِحُّ: ((رجبُ شهرُ الله، وشعبان شهري، ورمضانُ شهر أمتي))، فهو ضعيفٌ لا يَثْبُتُ عن رسولِ الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
*ثم فيه: ((حديثُ الباهليِّ الذي جاء إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- ثم غاب عن النبيِّ عامًا –صلى الله عليه وسلم-، ثم جاءه بعد عامٍ مُتغيرًا، حتى إنَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- أنكرَه.
فقال له: يا رسول الله؛ أنا الباهليُّ الذي جُئتكَ عامَ أوَّل.
فقال: فما غيَّرك.
قال: والله يا رسول الله، منذ تركتُك ما نامت لي عينٌ بليل، ولا طَعمتُ في نهارٍ منذ تركتُك يا رسول الله.
فقال النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: عذَّبتَ نفسَك، ثم قال له النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- في بعضِ ما قال: صُم من الحُرُمِ واترك، صُم من الحُرُمِ واترك، صُم من الحُرُمِ واترك)).
فهو ضعيفٌ لا يَثْبُتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وأمَّا ما أخرج أحمد –رحمة الله عليه- وما أخرج النسائيُّ أيضًا: من أنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم- سُألَ: لِمَا تُكثرُ يا رسول الله من الصيامِ في شهر شعبان؟
فقال النبيُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((هذا شهرٌ بين شهري رجب وشهرِ رمضان، ينساهُ الناسُ وتُرفعُ فيه الأعمالُ إلى اللهِ –ربِّ العالمين-، فأنا أحبُّ أن يُرفعَ لي فيه عملٌ وأنا صائم)).
فهذا معنى ما قال النبيُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مما يُمكنُ أنْ يُفهمَ منه ضِمنًا؛ أنَّ هناك فضيلةٌ لشهر رجبَ هذا الذي نحن فيه؛ لأن قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: إنَّ شهرَ شعبان بين شهر رجب وشهرِ رمضان، ورمضان معلومٌ ما له من الفضيلةِ والفَضْلِ، فلمَّا قرَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم- بين شهر رجب وشهر رمضان ونصَّ على نسيانِ الناسِ لشهرِ شعبانَ بينهما؛ اُستنبطَ من ذلك أنَّ لشهرِ رجب فضيلةً عند اللهِ –ربِّ العالمين-، وهو كذلك بلا مُشاحة؛ لأنه من أشهرِ اللهِ الحُرُم.
فدَلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- أنَّ العبدَ يُمكن أن يصومَ من أشهرِ اللهِ الحُرُم وأن يَدَع –أي: وأنْ يترك-، أمَّا أن يقصدَ شهرًا من أشهرِ اللهِ الحُرُم؛ فيصومَ شهرَ رجب كاملًا، ثم يُتبعهُ شعبان، ثم يُلحقُ بهما رمضان، فليس من هَدْي النبيِّ الهُمام - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ومَن قصدَ ذلك على أنه قُربةٌ للهِ –ربِّ العالمين-؛ فهو أمرُ بِدعةٍ ابتدَعَهُ في دين اللهِ –ربِّ العالمين-، ما فعلَ النبيُّ ذلك ولا أحدٌ من أصحابهِ - صلى الله عليه وسلم- و-رضي الله عنهم أجمعين-.
أما الصيام في شهرِ رجب: فإذا ما وافق صيامًا لأحدِنا، فإنه لا عليه في ذلك ولا تثريب، كأنْ يكون صائمًا ليومٍ ومُفطرًا لآخر كما هو صيامُ داود، أو يكونَ صائمًا لأيامِ البِيض، أو صائمًا الاثنين والخميس، أو صائمًا لثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر، فهذا لا شيء فيه؛ بل هو من أعظمِ القُرباتِ إلى اللهِ –ربِّ العالمين-؛ لأن العبدَ وافقَ أشهرَ اللهِ الحُرُم بعبادةٍ هي في أصلِها مسنونةٌ مشروعة وهو آخذٌ بها في أشهرِ اللهِ الحُرُم وفي غيرِها كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، أمَّا أنْ يُثْبِتَ الإنسانُ لرجب فضيلةً فوق ذلك، فإنَّ دون ذلك كما قلنا خرطُ القتاد.
والأحاديثُ الضعيفةُ: يقول بعضُ أهلِ العلمِ –رحمة الله عليهم- إنه يُؤخذ بها في فضائل الأعمال، غير أنَّ ذلك ليس على إطلاق، يجب أن يكون محفوفًا بشروطٍ مُفصلةٍ عند علمائنا –رحمة الله عليهم-، ومنها:
*ألا يكون الضعف شديدًا، فلا يُعمل بحديثٍ ضعيفٍ لا يُجبر بَيّن الضعف، بل ينبغي أنْ يكون الضعفُ يسيرًا.
*ثم إذا ما كان الضعفُ يسيرًا، فعليك عندما تأخذُ بحديثٍ ضَعْفُهُ يسير وتعملُ بهذا الحديثِ الضعيف ذي الضعف اليسير، ينبغي عليك عندما تعملُ به ألَّا يستقر في قلبك أنك قد أتيتَ بسُنةٍ من سُننِ النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
*ثم إذا ما رَويتهُ للناس، فعليك أن تُبيَّنَ للناسِ ضعفَه؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَن حدَّث عنِّي بحديث يُرى أنه كَذِب، فهو أحدُ الكَاذبِيِن، وفي روايةٍ: فهو أحدُ الكاذبَيْن –على الجمعِ وعلى التثنية-)).
فهو أحدُ الكاذبِيِن بإطلاق، أو أحدُ الكاذبَيْن: يعني من وضع الحديثَ وكذَبَهُ على الرسول سَلفًا ثم من رواه، فسمَّى النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- مَن رَوى حديثًا يرى أنه لا يَثبُتُ عن النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- بالشروطِ التي أسلفنا؛ سمَّاهُ النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- كذابًا، فكيف بمَنْ عَمِلَ به؟
نسألُ اللهَ السلامةَ والعافية ونسأل اللهَ أنْ يهديَنا والمسلمين أجمعين إلى اتَّباعِ سُنة النبيِّ – صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم-.
الْخُطْبَةُ الْثَّانية:
الحمدُ لله -ربِّ العالمين-، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو يتولى الصالحين وأشهد أن مُحمدًا عبده ورسوله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-
أما بعدُ:
فإنَّ مما أحدثَ الناسُ في شهرِ رجب:
*خروجُ النِّسوة في مطلعِهِ أو في الخميسِ الأولِ منه إلى القبورِ جماعاتٍ جماعات، مع المخالفةِ الشنيعة لهَدي الرسولِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في هذا الأمرِ الخطير.
فأمَّا زيارةُ القبورِ للنساء في رجب وفي غير رجب:
فهو أمرٌ اختلفَ فيه أهلُ العِلم:
*فقال بعضُهم بتحريمهِ، وحرَّموا على النساءِ أنْ يخرجنَ إلى المقابرِ بكلِّ حال، حرَّموا على الشَّوابِّ وغيرِهن أن يخرجُنَ إلى المقابر لا في رجب ولا في غيرِ رجب، هو عند كثيرٍ من أهلِ العلم: حرامٌ حرامٌ حرام.
*وأما آخرون؛ فقالوا: إنّ زيارة النساء للمقابر مبنيٌّ على التفصيل، فإنْ وقعت زيارةُ المقابرِ من المرأةِ الشَّابةِ التي يُخشَى منها الفتنة أو من المرأةِ العجوزِ الدردبيس الحيزبون وإنْ كانت لا تُخشَى منها فتنة غير أنها تأتي بما يُنافي الشرع عند المقابر من لطْمِ الخدودِ وشقِّ الجيوبِ والدعوةِ بالوَيْلِ والثُّبور والإتيانِ بالشِّركِ الصريحِ أو غيرِ الصريح، فقد نهى العلماءُ عن ذلك في حقِّ كُلٍّ.
وقالوا: إذا لم تَكن الفتنةُ طارئةً في زيارةِ المرأةِ غير الشابةِ للقبورِ مع الالتزامِ بالآدابِ الشرعيةِ للزيارة: مِن استئذان الزوجِ أو الوليِّ إنْ كانت غيرَ ذي زوجٍ، ثم خروجِها بعد ذلك على الهيئةِ الشرعيةِ من السَّتْرِ والعِفَّةِ والتَّحَصُّنِ، وفي وقتٍ لا يَتعرضُ لها فيه أحدٌ من أهلِ الفسقِ والزَّيْغِ، ثم لا تأتي هناك إلا بما يُرضي اللهَ –ربَّ العالمين-؛ من الاتعاظِ بالموتِ وجلالهِ وسكونهِ وخشوعهِ، وما يجعلهُ اللهُ –ربُّ العالمين- في المقابرِ من الأمورِ الشديدةِ التي تُذَكِّرُ بأمرِ الآخرة، إذا كان الأمرُ مَبنيًا على مراعاةِ الآدابِ الشرعيةِ الصحيحةِ؛ فالمرأةُ لها أنْ تخرجَ إلى المقبرةِ زائرةً بتلك الشروط.
إلَّا أنَّ العلماءَ ذهبوا إلى حديثٍ رواهُ أحمد –رحمةُ الله عليه- في ((مسنده))، يقول فيه النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لعنَ اللهُ زائرات القبور والمُتخذينَ عليها المساجدَ والسُّرُج)).
بهذا اللفظ ((زائرات)) على اسم الفاعل، إلَّا أنَّ العلماءَ يقولون: إنه بهذا اللفظ ضعيف.
والذي صحَّ إنما هو: ((لعنَ اللهُ زوَّاراتِ القبور)) على المبالغة وكثرةِ التَّردادِ في الزيارة، فيقولُ العلماءُ –رحمة الله عليهم-: لعَنَ النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الزوَّارات ولم يلعن الزائرات، فإذا أتت الزيارةُ على النُّدرة من غير تحديدِ موعد؛ لا في طلعةِ رجب ولا في الخميس الأولِ منه ولا في نِصف شعبان ولا في العيد ولا في أولِ رمضان، وإنما تأتي كما يُقدِّرُ اللهُ –ربُّ العالمين- أن تأتيَ؛ لأنها يُمكن –أي: الزيارة- أن تكون في كلِّ حينٍ وحال ما التزم الإنسانُ بالشروطِ الشرعيةِ الواردةِ في آدابِ زيارةِ القبور.
إذا جاءت المرأةُ بتلك الشروط، ولم تكن مُكثرةً للتردادِ على المقابرِ، ولم يأت منها ما ينافي الآدابَ الشرعية، وكانت ملتزمةً بآدابِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- التي وضَّحَها لنا في مسألةِ زيارةِ القبور؛ فلا حَرَج، لقولِ النبيِّ -–صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((كنتُ قد نهيَتكم عن زيارةِ القبور، ألا فزوروها فإنها تُذَكِّرُ الآخرة)).
ومعلومٌ أنَّ أَمْرَ التَّذْكرة –تَذكرة الآخرة- مطلوبٌ للرجلِ وللمرأة على السواء، وربما كان في بعض الأحايين مطلوبًا للمرأةِ على وجهِ الكَثْرَة.
وعائشةُ –رضوان الله عليها- كما يروي عنها عبد الله بن أبي مُليْكَة؛ قال: لمَّا عادت من زيارةِ القبور، قلتُ: أليس نهَى النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن زيارةِ القبور.
قالت عائشة –رضوان الله عليها-: ((بلى؛ كان النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى عن الزيارةِ ثم رخَّصَ فيها بعدُ)).
تقصدُ حديثه –صلى الله عليه وسلم-: ((كنتُ قد نهيَتكم عن زيارةِ القبور، ألا فزوروها فإنها تُذَكِّرُ الآخرة)).
بل إنَّ في الحديثِ أنَّ عائشةَ –رضوان الله عليها- قالت للنبي –صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله؛ ما أصنعُ إذا أنا زُرتُ القبور، أو ما أقولُ إذا أنا زُرت القبور.
فعَلَّمَها الدعاءَ المشهور –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ولو كانت زيارتُها للقبورِ حرامًا؛ ما عَلَّمَها الدعاء ولنَهَاها عن الزيارةِ صراحةً لا ضِمنًا –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أيضًا كان النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- في المقابرِ في ((البَّقيع))، فمَرَّ على امرأةٍ عند قبرٍ تبكي، فقال لها: ((يا أَمَةَ اللهِ اتقِّ اللهَ واصبري)).
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنَّ الزيارةَ لو كانت حرامًا ممنوعة؛ ما أقرَّها النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- على الجلوس؛ لأنه ليس في الحديثِ نهيٌ عن بقائهِا عند المقبرة، وإنما نهاها النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن الجَزَع ودعاها وأمرها بالصبر –صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((يا أَمَةَ اللهِ اتقِّ اللهَ واصبري)).
على الجُملة: فزيارةُ المرأةِ للمقابرِ في غيرِ أوقاتٍ مُعيَّنة، وبالآدابِ الشرعيةِ المرعيةِ، التي بيَّنَها لنا النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- لا حَرَجَ فيها.
وأمَّ إذا كانت في أوقاتٍ مخصوصة؛ فهي بدعةٌ قبيحةٌ في دينِ الهِ –ربِّ العالمين-، وإذا كانت كما يفعلُ النسوةُ اليوم، فهي مُحَرَّمَةٌ بيقين، لأن ما يتأتى من الأمور المُحَرَمَّةِ في المقابر من النَّدبِ والصياحِ واللطمِ والاختلاطِ بين الرجالِ والنساء، وبخاصةٍ أنهنَّ لا يحلو لهن الخروج إلا بغَلَس عندما لا يستبينُ الإنسانُ في فجرِ يومٍ من الأيامِ المُعيَّنة كَفَّهُ؛ يخرُجن حاسراتٍ سافراتٍ مُتبرجات؛ كأنهن قد ذهبن إلى مواعدةِ حبيب، لا إلى زيارةِ قبرٍ حَفَّت به بلايا ورزايا وربما أهوال لا يعلمُها إلا اللهُ –ربُّ العالمين-، فلا يُحِدثُ لهن جَزَعًا ولا تذُّكرًا، وإنما هي سياحةٌ داخلية بين المقابر التي أصبحت اليوم كأنها مدينةٌ مِن مدائنِ الملاهي –وإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون-.
على الجُملةِ وخلاصةُ القول عباد الله: فإنه ينبغي علينا أنْ نُعظِّمَ شعائرَ اللهِ –ربِّ العالمين-، وشهرُ رجب من شعائرِ اللهِ –ربِّ العالمين-؛ لأنه من الأشهرِ الحُرُم، فينبغي على الإنسان ألا يواقعُ فيه منكرًا ولا حرامًا وأن يتقيَ اللهَ –ربَّ العالمين- في هذا الشهرِ الكريم، فيلتزمَ الجادَّة ويسيرَ على الصواب خلفَ النبيِّ المُهاب –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وعلينا أن نجتهدَ في نفي البدعة عن أنفسِنا وعمن جعلهُ اللهُ –ربُّ العالمين- في أعناقِنا وتحت أيديِنا مما جعل اللهُ لنا وَلايةً عليه؛ من زوجةٍ أو أختٍ أو أُمٍّ أو خالةٍ أو بنتٍ أو ما أشبه، فينبغي علينا أنْ نمنعهن مما منعَ منه النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- ومما منعَ منه اللهُ –ربُّ العالمين-، لأنَّ الرجلَ يوم القيامة عندما يرى الرجلَ في النار كان يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكر، ثم لا يأتي منه كَفٌّ عن المنكرِ الذي ينهى عنه، ولا يأتي منه فِعْلٌ للمعروفِ الذي يأمرُ به بين الناس، ثم يَدَعُ خاصةَ بيتهِ، وخاصةَ أهلهِ يواقعون الحرامَ تحت سمعهِ وبصرهِ، يلعنهُ اللهُ –ربُّ العالمين- كما لعنَ بني إسرائيل؛ إذ كانوا لا يتناهَون عن منكرٍ فعلوه -نسأل الله السلامة والعافية-، والأمرُ أمرُ أعراض، فينبغي على الإنسان إذا لم يكن يفعلُ ذلك ديانةً، فليفعله فحولةً ورجولة.
نسأل اللهَ –تبارك وتعالى- أن يُقيمنا على شرعهِ الأغَرِّ حتى نلقاه.
في الحديثِ الثابتِ عن الرسول –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فيما يرويه عنه الحِبُّ بن الحِبِّ أسامة بن زيد –رضي الله عنه وعن أبيه- عن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، تَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ –والأقتابُ: جمعُ قِتْبٍ وهي الأمعاء، فتخرجُ مُندلقةً باندفاعٍ سريعٍ خاطفٍ من مَخرجهِ-، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ –حتى إنه يُصبح بعد ذلك ملهاةً ومسلاةً لأهلِ النار-.
فيجتمع عليه أهل النار؛ وقد اندلقت كما قال النبيُّ –صلى الله عليه وسلم في دلالة لفظٍ نبويٍّ عربيٍّ شريفٍ ماثلٍ مُتفجر؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يقُل تخرج أقتابه، وإنما قال: تندلق أقتابه بما في دلالة جَرْسِ الكلمة؛ فضلًا عن معناها من إيحاءٍ مُوحٍ وظرفٍ شاملٍ مُصوِّر، فتخرج أمعائُهُ من دُبرِه، كلُّ ما في بطنه من مَعيٍّ يخرج من دُبره يدورُ حوله مُفرِّجًا بين قدميه، معتمدًا عليهما لأنه لا يستطيع قيامًا بانتصاب.
نسأل الله السلامةَ والعافية، فأحدِثوا لله توبةً عباد الله في هذا الشهر الحرام العظيم، عسى اللهُ –ربُّ العالمين- أن يتوبَ علينا، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا.