فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإن شمسَ الإسلام سَطعت على الغربِ في العصورِ الوسطى، ولم تبدأ النهضةُ الأوروبيةُ الحديثة إلا بعد اطلاعِ الأوروبيين على الحضارةِ الإسلامية، كما أنَّ الترجمات عن العربية كانت المصدرَ الوحيد للتدريسِ في جامعاتِ أوروبا نحو ستة قرون.
ويمكن القول: إنَّ تأثيرَ المسلمين في بعضِ العلومِ -كعلمِ الطب مثلًا- دام إلى زمنٍ متأخرٍ جدًا، فقد بقيت كتب ابن سينا تُدَرَّسُ في جامعة (مونبيليه) إلى أواخرِ القرنِ التاسع عشر.
((والمُنصف من الغربيين يعلمُ أنه لو لم يظهرِ العربُ على مسرحِ التاريخ لتأخرت نهضةُ أوروبا الحديثة عدةَ قرون)) كما قال (ليبري) في كتابه ((روح الدين الإسلامي صـ 270)).
وماذا بعد شهادة (جوستاف لوبون): الذي تمنى لو أنَّ العربَ استولَوا على فرنسا لتغدوَ باريس مثل قرطبة في إسبانيا، مَركزًا للحضارة والعِلم، حيث كان رجل الشارع في قرطبة يكتب ويقرأ ويَقرضُ الشِّعر أحيانًا في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابةِ أسمائِهم، ويبصُمون بأختامِهم.
ويضيف (لوبون) -ساخرًا ممن يقارن العرب المسلمين في العصورِ الوسطى بالأوروبيين في الوقتِ ذاته-:
((قد كان الوضعُ على عكسِ الوقت الحاضر تمامًا؛ العرب هم المتحضرون والأوروبيون هم المُتَخلفون، ولا أدلَّ على ذلك من أننا -هذا كلامه- نسمِّي تاريخ أوروبا في ذلك الوقت العصورَ المظلمةَ)).
هذه شهادةُ رجل غربي مستشرق باحث في حضارة الإسلام لا يُشك في تحيزه للإسلام والمسلمين، ولكنه ينطق في ذلك بالحق، وفيه مع ذلك ما فيه.
إنَّ العهدَ الذهبي لأمتنا الإسلامية كان فيما سُمي بالعصور الوسطى حيث كان الكِتَابُ يُوزَنُ بالذهب، وحينما ملكَ أجدادنا ناصية العلم ملكوا ناصية العالَم.
لذلك قال (نيكلسون):
((وما المكتشفات اليوم لتُعَدَّ شيئًا مذكورًا بالقياسِ إلى ما ندينُ به للرُّواد المسلمين, الذين كانوا قَبَسًا مضيئًا لظلامِ العصور الوسطى في أوروبا)).
ولذلك أيضًا قال (هالميارد) في كتابه ((الكيمياء حتى عصر نيوتن)) في الصفحة العاشرة -بعد أن عدَّد فضل المسلمين في التطبيقات العلمية للكيمياء العملية- قال:
((لكلِّ هذه الخبرات التي حققها لنا الباحثون المسلمون دَعْنا نُقدِّم فروض الولاء والتقدير لأتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-)).
إنَّ مِن أظلمِ الظلمِ أن يٌقال بعد ذلك: إنَّ المسلمينَ الأوائل قاموا باجتياحٍ بربريٍّ لمساحاتٍ شاسعةٍ من الأرض، وأجبروا الناسَ على الدخولِ في الإسلام بقوةِ السَّيف.
إنه اتهامٌ ظالم، بل اتهامٌ فاجر، بل اتهامٌ عاهر أن يُقال: إنَّ المسلمين كانوا أصحابَ قسوةٍ وعنف، وإنَّ الإسلامَ انتصر بالسيف.
والحقُّ أنَّ الإسلامَ انتصر على السيف، انتصر الإسلامُ على السيف الذي رُفع عليه من بدايةِ الدعوة, من بدايةِ الطريق، انتصر الإسلامُ على السيفِ ولم ينتصر بالسَّيف.
انتصر الإسلامُ على السيفِ في بطشِ السيف وظلمهِ وسوءِ توظيفهِ؛ فكان السيفُ رحمةً حيث كان، وانتصر الإسلامُ على السيفِ الذي سُلِّط على رقابِ أتباعِه منذ أُعلنتِ الدعوةُ إلى الله تعالى.
لقد تَحَمَّلَ المسلمون الأوائل صُنوفَ الاضطهاد كافةً؛ طُورِدُوا، وَشُرِّدُوا، وعُذِّبوا، وَقُتِّلوا حتى إنَّ رجلًا كأبي جهلٍ يعتدي أقبحَ اعتداءٍ على امرأةٍ ضعيفةٍ مُستضعفة، هي سميةُ أم عمار بن ياسر، فيطعنُها بالحربةِ في موطنِ العفةِ منها حتى تموت، وهي أوَّلُ شهيدةٍ في الإسلام.
ومع ذلك الاضطهاد والعُنف أُمِرَ المسلمون بكفِّ الأيدي، وبعدم الردِّ على العُدوان، قال تعالى:
ولما أُذِنَ للمسلمينَ في القتالِ كان التعليلُ في الإذنِ بالقتالِ واضحًا، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39-40].
فهذا ذنبُهم عند أعدائِهم، لم يرفعوا سيفًا ولم يبسطوا يدًا.
فهذه التهمةُ الفاجرةُ الداعرة يحاولُ مَنْ يحاولُ من أعداءِ الإسلامِ أن يُلصقَهَا به، وتلك في نظرِهم هي أكبرُ الجرائم؛ إذ إنَّ أعظمَ خطايا مُحمد -صلى الله عليه وسلم- في عيونِ الغرب المسيحي، هي: أنه لم يرتض أنْ يُذبحَ أو أن يُصلبَ على يدِ أعدائهِ! هذه هي أكبرُ الخطايا في عيونِ الغربِ النصراني!!
لقد دافع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بكلِّ شجاعةٍ وبكلِّ مهارةٍ وبكلِّ اقتدارٍ، دافع عن نفسهِ، وعن أسرتهِ، وعن أتباعهِ، وعن دينهِ، وتغلبَ في النهاية على كل أعدائهِ، فقهر عدوانهم، وردَّ اللهُ به كيدَهم إلى نحورِهم، فكان نجاحُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك؛ الغصةَ في حلقِ خصومهِ في الغرب الذين حاولوا دون جدوى أن يجعلوا مزاياه الحقيقيةَ عيوبًا مُشينة.
إنه في نظرِهم لم يؤمن بقداسةِ التضحيةِ بنفسهِ من أجلِ أنْ يغتفرَ للبشرِ خطاياهم! ومن أجلِ أنْ يتحققَ للخطاةِ من البشر أسهل خلاص مما يستحقونه من عقابٍ جزاءًا وفاقًا لخطاياهم وذنوبهم!!
ولقد كان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالمنظور العادي يُفكِّرُ ويتصرفُ على نحوٍ طبيعيٍّ معقولٍ ومقبول, وهو مؤيدٌ بالوحي مُمتعٌ بالعصمة.
يقول (جيبول) في كتابه ((عن اضمحلال وسقوط الامبراطورية الرومانية)):
((من الطبيعي ونزولًا على مقتضيات قانونِ الطبيعة التي لا جدال فيها؛ أنَّ لكلِّ شخص الحق في أن يدافعَ عن نفسهِ، وأن يدافعَ عن ممتلكاته، وأنْ تصلَ مقتضيات دفاعه عن نفسهِ إلى كل الآفاقِ المعقولة التي تُوفرُ له الأمن والأمان والقدرة على ردِّ الأعداء عن موطنهِ)).
إنَّ جهادَ نبينا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وانتصاره على جيوشِ أعدائهِ الكافرين الأشرار قد جعلت مُحرري ((دائرة المعارف البريطانية)) يعلنون أنَّ محمدًا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هو أعظمُ الشخصياتِ الدينيةِ نجاحًا في التاريخ -فهذا كلامهم-.
كيف يحقُّ إذن لخصومِ الإسلام أنْ يعتبروا أنَّ انتصارات محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يكن لها أي هدف أو أي قيمة سوى أنها قد أتاحت له أن ينشرَ دينَه الإسلامي اعتمادًا على السيف، وغلبت الجيوشِ والرماح، وغير ذلك من أنواعِ السلاح؟
هل فرضَ محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- الإسلامَ على رقابِ الناس بأنْ قطعَ رقاب الناس؟!
المسلمون كُثُرٌ، والحمد لله رب العالمين, وما أكثرَ المسلمينَ من أبناءِ الأرض المفتوحةِ والبلادِ التي دخلت في دينِ الله رب العالمين, فكيف يُقال إن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فرض الإسلام على رقابِ الناس بقطعِ رقاب الناس؟!
يقول (دي لاسي أوليري) ما نصه:
((إنَّ التاريخَ يؤكد بما لا يدَعُ مجالا لأي شك أنَّ خرافةَ الاجتياحِ البربري لمساحاتٍ شاسعةٍ من الأرض، وإجبارِ الناس على الدخول في الإسلام بقوةِ السلاح فوق رقابِ الشعوب المغلوبة على أمرها؛ إنما هي خرافةٌ خياليةٌ مُضحكة عاريةٌ تمامًا من الصحة, وبعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن الحقيقة على نحوٍ نادرِ المثال في دنيا التاريخ وفي عالمِ المؤرخين)).
كتاب ((الإسلام في مفترق الطرق)) لدي لاسي أوليري طبعة لندن سنة 1923 الصفحة 8.
ولسنا بحاجةٍ إلى أنْ نكونَ مؤرخين مثل (أوليري) لكي نعرفَ أنَّ المسلمين كانوا قد حكموا إسبانيا لمدة 736 عام، وبعد قرابةِ ثمانية قرون تم إقصاءُ وإبعادُ المسلمين عن إسبانيا بحيث لم يبق فيها مسلمٌ واحد يُقيم الأذان معلنًا وجوب صلاة من الصلوات الخمس المفروضاتِ على المسلمين في اليوم الواحد, ولو كان المسلمونَ قد استخدموا القوةَ عسكريًا واقتصاديًا في إسبانيا بعدما فتحوها لَمَا بقي فوق أرضِ إسبانيا أيُّ نصراني ليقومَ بعد ذلك بطردِ المسلمين خارج إسبانيا.
ربما يجوز أن يصفَ الإنسان -لو شاء- المسلمين بأنهم قد استفادوا من خبراتِ وثرْوات البلادِ التي فتحوها، ولكن يستحيلُ أن يتهمهم أحدٌ بأنهم قد استخدموا السيف لكي يحولوا الإسبانيين إلى مسلمين يعتنقونَ الدينَ الإسلاميَّ خوفًا من سيوفِ المسلمين.
واليوم ما يزال الإسلامُ ينتشرُ في كلِّ أنحاء العالم دون أنْ يكون للمسلمين سيف.
فانتشارُ الإسلام الآن ما هو؟
وأين السيفُ المُسلَّطِ على رقابِ الناس حتى تدخلَ هذه الألوفُ المؤلَّفة في أيامنا هذه وفي أعوامنا هذه وفي عصرنا هذا في دينِ الله أفواجًا؟!
ولقد كان المسلمون أيضًا سادة الهندِ لمدة ألف عام، ولكن حدث عندما نالت شِبْهُ القارة الهندية استقلالها في عام [سبعٍ وأربعين وتسعمئة وألف 1947] أنْ حصلَ الهندوس على ثلاثةِ أرباع مساحة الهند وحصل المسلمون على رُبع مساحة الهند فقط.
لماذا حدث ذلك؟
لقد حدث ذلك؛ لأنَّ المسلمين خلال ألف عام من سيطرتهم على أراضي الهند لم يُجبروا الهندوس على اعتناقِ الدينِ الإسلامي اعتمادًا على السيف, ولم يفعل المسلمون هذه الفَعْلَةَ على الإطلاقِ في إسبانيا ولا في الهند؛ ولم يكن السببُ في ذلك مُجردَ التحلِّي بفضائلِ الأخلاقِ فحَسْب، ولكن كان ذلك نزولًا على مقتضياتِ أمرٍ إلهيٍّ مذكورٍ في القرآن الكريم، إذ يقول الله -سبحانه وتعالى-: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
ولقد أدركَ المسلمون المنتصرون وأيقنوا بمُوجَبِ هذا الأمرِ الإلهيِّ أنَّ الإكراهَ لم يكن ليتسق مع الدين الصحيح للأسباب الأتية، الإكراه لا يتلائم ولا يتسقُ مع الدين الصحيح للأسباب الأتية:
*يعتمدُ الدينُ الصحيحِ على الإيمانِ والإرادة، وسيفقدُ الإيمانُ وستفقد الإرادةُ كلَّ معنى لو تمَّ فرضُ الدينِ على الناسِ بالقوةِ الغاشمة.
*القوة الغاشمة يجوز لها أنْ تهزمَ وتقهر، ولكنها يستحيل عليها أن تكون كافيةً ليتحولَ إنسانٌ بحق من دينٍ إلى دين.
*الحقُّ والباطلُ، والرُشدُ والغيُّ، والهُدى والضلال، قد تمَّ توضيحُ كلٍّ منها بفضل الله ورحمته لدرجة أنه لم يبق أيُّ رَيْبٍ أو أي شكٍّ في عقلِ أي إنسانٍ يُخلص النيةَ في التوجهِ الصحيح نحو حقائقِ أسسِ الإيمان.
*رعايةُ الله وعنايتهُ مستمرةٌ متصلةٌ بالبشر، ولقد شاء اللهُ رب العالمين أنْ يرشدنا في غياهبِ الظلام لنحصلَ على أوضحِ أنوارِ الهدى والإيمان دون حاجة إلى قهر أو إجبار.
وفيما عدا بعض الممارسات القليلةِ الخاطئةِ هنا أو هناك، نجدُ أنَّ المسلمين عمومًا قد امتثلوا للأمرِ الإلهي في كلِّ الأراضي التي خضعت لفتوحاتِ المسلمين.
ولكن ماذا يمكن أنْ يقولَ الخصوم عن أقطارٍ لم يضع فيها جنديٌّ مسلحٌ مسلمٌ قدميه على الإطلاق؟
إندونسيا...الحقيقة هي أنَّ أكثر من (مئة مليون إندونسي) إنما هم من المسلمين وبالرغم من ذلك لم تطأ أقدامُ أي جيشٍ للمسلمين الأرض في أكثر من ألفي جزيرة في إندونسيا، فأين السيف هاهنا؟!
وهذه أكبرُ بلدةٍ أو دولةٍ إسلامية في العالم كله.
ماليزيا...الغالبية العظمى من سكان ماليزيا من المسلمين، ومع ذلك لم تطأ قدمُ جنديٍّ مسلمٍ واحدٍ أراضي ماليزيا.
إفريقية...أغلبية الناس الذين يعيشون فوق أراضي السواحل الشرقية في إفريقية، حتى موزنبيق إنما هم مِن المسلمين، وفوق أراضي السواحلِ الغربيةِ في إفريقية أيضًا نجد أنَّ أغلبيةَ السكان من المسلمين, ولكن التاريخ لم يُسجِّل أي غزوات للمسلمين في هذه الأقطار الإفريقية جاءت إليها من أي مكان.
ما السيف؟! وأين كان السيف؟!
إنَّ الذي استخدم القوةَ الغاشمة هم الغرب وليسوا المسلمين.
إنَّ المسلمينَ حملوا الحرية التي تَعتقُ الإنسانَ من العبوديةِ لغيرِ الله، وحملوا الكرامةَ والمساواةَ، وحملوا القيمَ العليا التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى كل أرضٍ وطِأتها أقدامهم.
وفي السواحل الغربية من إفريقية ينتشر الإسلام بقيمهِ ومُثُلِه وبتعاليمهِ، فعَلَ ذلك المسلمون من غير سيف.
وأما الزنوج في أمريكا: فهم أحفاد الذين خُطفوا من تلك الأرض يومًا.
ما الذي حمله الغرب إلى إفريقية؟!
حمل العبودية وحمل الإسلامُ الحرية، حملوا الذُّلَ وحمل الإسلامُ لهم العزَّ.
ما الذي صنع الإسلامُ لهم في إفريقية؟!
أقام الناسَ حتى يكونوا ناسًا على الصراط المستقيم، حرَّرهم من الخرافاتِ والأوهام، وأخرجَهم إلى حَيِّزِ النور من حَيِّزِ الظلام.
فماذا صنع الغرب بغرب إفريقية وهي تواجه بسواحلِها، لا يفصل بينها وبين أمريكا إلا المحيط؟!
فكان يأتي من يأتي من شُذَّاذ الآفاقِ وقُطاع الطرق ليستعبدوا من أبناءِ السادةِ ومن أبناءِ الملوك هنالك مَن يستعبدون، ومازالوا يُسامون الخسفَ في الأرضِ الجديدة حيث تُشرق شمسُ الحرية كما يزعمون، ولكن هيهات.
السيف!! أين كان السيف؟!
لقد قام التاجرُ المسلم بإنجاز كل المهمة، إنَّ سلوكه الطيب، وإلتزامه الأخلاق الحميدة في المعاملة مع الناس قد حقق معجزةَ انتشارِ الإسلام بين الناس في تلك الأقطار.
ولقد نعلم أنهم ليقولون: نحن نتحدث عن الإسلام في بدء بدايته، ونتحدث عن الطريقةِ التي استطاع بها نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- أنْ يجعلَ الوثنيين يتحولون إلى الإيمانِ برسالتهِ، واعتناقِ دينه!!
كيف فعلها إنْ لم يكن قد فعلها اعتمادا على السيف؟! -ولقد نعلم أنهم ليقولون ذلك-.
وإزاء هذا التساؤل لا نستطيع أنْ نفعلَ ماهو أفضل من أن نَدَعَ (توماس كارليل) نفسه يدافع عن بطله النبي المختار -صلى الله عليه وسلم- لدحض هذا الاتهام الزائف بأنَّ الاسلام في أولِ عهدهِ قد انتشر بين العرب اعتمادًا على القهر واعتمادًا على الجبر وببارقةِ السيوفِ فوق الرقاب حتى تصيرَ خاضعةً لربِّ الأرباب.
يقول (كارليل) في هذا الصدد:
((إنه السيف فعلًا، ولكن أين؟ وفي أي جانبٍ يوجدُ السيف؟!
يقول: -وليس بمُسلم، ولكنه منهم، ومن جلدتهم، ويتكلم بلسانهم-.
يقول:
((هكذا إن كل رأيٍ جديد في بدء بدايته يكون بطبيعةِ الحال منحصرًا في أقليةِ، إنما هي أقل الأقليات في عدد أفرادها, إذ إنَّ الرأي الجديد لا يقول به في بدءِ البداية إلا شخصٌ واحد، يكون الرأي الجديد موجودًا في رأسهِ هو وحده دون غيره من الناس)).
يجري على قاعدته في إيمانه النصراني ويكتب هذا في الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على عقيدته، فيقول -لأنه لا يتصور الوحيَ ولا يتصور الرسالة كيف تكون-.
فيقول: ((رأيٌ جديد يأتي في ذهنِ رجل، رجلٍ واحد، يولدُ في رأسِ هذا الشخص الوحيد رأيٌ جديد ويصدق بصحته -كلامه! وهو خطأ محض؛ فلم يكن رأيًا، ولم يكن هاجسًا، ولم يكن مرضا، وإنما هو وحي ربِّ العالمين إلى الأمين -صلى الله عليه وسلم-.
قال: يوجد رجل واحد في مواجهة كل الرجال، وعندما يُمسك هذا الرجل الواحد بالسيف ويحاول أنْ ينشرَ رأيه بقوةِ السيف بين الناس فلن يستطيع أنْ يحصلَ من جرَّاء امتشاقِ السيف على أي نفعٍ يحقق هدفه)).
بدأ وحيدا يدعوا إلى الله رب العالمين بالسيف في يده؟!
فماذا يصنع رجل بسيفه في مواجهة كل الرجال، بل في مواجهة كل الناس؟!
وأنت يجب أولًا أن تَشْهَرَ السيف, وعمومًا سينشأ شيءٌ عندما يستطيعُ شيءٌ أن ينشأ، سينشأُ شيء عندما يستطيع شيءٌ أن ينشأ.
ونحن لا نجد -يقول- أنَّ الدينَ المسيحي –هكذا- قد نبذَ السيف على مدارِ تاريخهِ عندما استطاع أتباع الدين النصراني الحصولَ على السيف.
يقول: ولم يتمكن (شارلمان) من تحويل الساكسونيين إلى اعتناقِ النصرانية بمجرد التبشير النظري القائم على أساس من الإقناع وحده بل بالسيف)). كتاب ((الأبطال توماس كارليل صفحة 80)).
في سن الأربعين عندما أعلن محمدٌ الأمين -صلى الله عليه وسلم- عن رسالةِ السماءِ إلى الأرض, عن رسالةِ اللهِ الخالق الخلاق العظيمِ إلى المخلوقين في أرضهِ، لم يكن هنالك حزبٌ سياسي، ولم يكن ذلك في نطاق دولة مَلَكية النظام، ولم تكن هنالك أسرةٌ حاكمةٌ أو قبيلةٌ مسيطرةٌ تسانده في دعوته إلى الدين الذي أعلن عنه، لم يكن شيءٌ من ذلك.
وكان قومهُ الذين ظهر بينهم وهم العرب متورطين كلَّ التورطِ في عبادةِ الأصنام، ويسيطرُ على عقولهم الكُهَّان والمشعوذون, ولم يكونوا شعبًا سهل الانقياد بأي حالٍ من الأحوال إذ كانت السيطرة عليهم مستحيلة المنال، ولم تكن لحومهم طرية, وكانوا شعبًا متقلب الأهواء مشتت المذاهب والأراء لا تنقطع الحروب والإغارات الانتقاميةُ المضادةُ بين قبائلهِ المتنافرة, متقلبين تقلبًا وحشيًا بين مختلفِ أنماط الولاء والتبعية، كما وصفهم (كارليل).
ورجلُ واحد له يدٌ ضاربة واحدة يستطيعُ أنْ يُوحِّدَ مثل هذا الشعب القبائلي المتنافر في نسيج واحد وأمة واحدة، يحتاج إلى ما لا يقل عن معجزة!!
فلو كان السيف وبالسيف؛ فتوحيدُ هذا الشعب القبائلي المتنافر في نسيجٍ واحد، وأمةٍ واحدة يحتاج إلى ما لا يقل عن معجزة!!
بلى؛ لقد وقعت المعجزةُ بالفعل؛ لقد كان اللهُ وحده هو القادرُ على أنْ يجعل محمدا -صلى الله عليه وسلم- منتصرًا نصرًا مبينًا على طولِ الخط رغم قلة الأعوان، ونُدرة الأنصار، وكثرة الأعداء، وضخامة الأخطاء؛ مصداقًا لقوله تعالى لسيدنا مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] -صلى الله عليه وسلم-.
إنَّ معظم المدافعين عن مُحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ضد الرأي القائل بأنه قد نشرَ دينهُ بحدِّ السيف كانوا من الغربيين.
ولنستمع الآن لما يقوله بعض غير المسلمين من مفكري الشرق في هذا الصدد:
قال (غاندي) -مؤسس الهند الحديثة- في كتابه ((شباب الهند)):
((كلما درست أكثر اكتشفت أنَّ قوةَ الإسلامِ لا تكمنُ في السيف)).
وآخر، (باندكت جييانا نيترا ديب شاستري)، يقول أثناء لقاء تم عقده في جورافور بالهند سنة (ثمانٍ وعشرين وتسعمئة وألف 1928)، يقول:
((إنَّ منتقدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- يرون النارَ بدلًا من أن يشاهدوا النور، ويستسيغون القُبح بدلًا من الاستمتاعِ بالجمال، إنهم يُخرِّفون، ويعتبرون كل فضيلةٍ ومَيزة وكأنها رذيلة مُستهجنة؛ إن ذلك إنْ دَلَّ على شيءٍ فهو يدلُّ على أنهم محرومون من نعمةِ التمييز وحُسن الادراك؛ إنَّ منتقدي محمد -صلى الله عليه وسلم- إنما هم جماعةٌ من العُميان-كلامه- إنهم لا يدركون أنَّ السيف الوحيد الذي شهره وشرعه محمد -صلى الله عليه وسلم- إنما كان هو سيفُ الرحمة وسيفُ التعاطفِ والصداقةِ والتسامح, إنه السيفُ الذي يهزمُ الأعداء ويُنظف قلوبَهم من الغضبِ والحقدِ والحسدِ والكراهية.
لقد كان سيفهُ أمضى من السيف المصنوع من الحديدِ الصُّلب، لقد فضَّل محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الهجرةَ على قتالِ أبناء بلدهِ، ولكن عندما تجاوز العدوانُ كلَّ حدودِ إمكانات التسامحِ؛ امتشق سيفَه دفاعًا عن نفسِه، وأولئك الذين يعتقدون أنَّ أيَّ دينٍ يُمكن أنْ يتم نشره بالسيف إنهم جماعةٌ من الحمقى، لا يعرفون الطرق السليمة لنشرِ الدين، ولا يعرفون فيما تُستخدم السيوف، ولا يعرفون شيئًا من شئونِ الدنيا بوجهٍ عام, إنهم مزهوون في هذا الاعتقاد الخاطئ؛ لأنهم بعيدون عن الحقِّ بمسافاتٍ كبيرةٍ شاسعة)).
قال هذا الكلام صحفي من طائفة السيخ في جريدةٍ تصدر في دلهي في 17 نوفمبر سنة 1947.
إنَّ استِخْدَامَ السيفِ في الإسلامِ كان لِرَدِّ العدوانِ والظُّلْمِ، ثم اسْتُخْدِمَ السَّيْفُ وَيُسْتَخْدَمُ، وَيُسْتَخُدَمُ، ويُسْتَخْدَمُ إلى يومِ الدينِ؛ لِتَصِلَ كَلِمَةُ اللهِ إلى الشُّعُوِب التي تَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَلِمَةِ اللهِ أَنْظِمَةٌ كَافِرَةٌ مُجْرِمَةٌ ظَالِمَةٌ.
فَهَذَا اسْتِعْمَالُ السَّيْفِ في الإِسْلَامِ.
إنَّ الَّذِينَ اسْتَخْدَمُوا السَّيْفَ في الظُّلْمِ والقَتْلِ ارْتَكَبُوا كُلَّ مَظَاهِرِ العُنْفِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذلك غَيْرُنَا، والدليلُ: تِلْكَ الشَّهَادَةُ التي أَدْلَى بها ((جُوسْتَافْ لُوبُونْ)) فِي كِتَابِهِ الشَّهِيرِ ((حَضَارَةُ العَرَبِ))، إِذْ يِقُولُ:
قَالَ: ((وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءًا عَادِلًا مِنَ الرَّبِّ، أَمْضَاهُ فِيمَنْ دَنَّسُوا هَيْكَلَ السَّيِّدِ بِشَعَائِرِهِمُ الْخُرَافِيَّةِ، وَحَرَّمُوهُ عَلَى شَعْبِهِ الْمُؤْمِنِ، فَكَانَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُكَفِّرُوا عَنْ خَطِيئَاتِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَأَنْ تُطَهَّرَ الْأَمَاكِنُ المقدسةُ بدمِهم المُهراق، وكان من المستحيل: أنْ يطالعَ المرءُ كثرة القتلى دون أن يستولي عليه الفزع؛ فقد كانت الأشلاء البشرية في كل ناحية، وغطَّت الأرض دماء المذبوحين، ولم تكن مطالعة الجثث وقد فارقتها الرؤوس، ورؤية الأعضاء المبتورة المبعثرة في جميع الأرجاء هي وحدها التي أثارت الرعبَ في النفوس؛ بل كان هناك ما هو أبعثُ على الفزع؛ ألا وهو منظرُ المنتصرين أنفسِهم، وقد تخضبوا بالدماءِ فخضبتهم، فغطتهم من رؤوسِهم إلى أخمصِ أقدامِهم، فكان منظرًا مروعًا بثَّ الخوفُ في قلوب من قابلوه.
ويقال: إنه قُتل –كلامه- داخلَ ساحةِ المسجدِ وحدها عشرةُ آلاف من المارقين -يقصد المسلمين!!-، بالإضافة إلى أنَّ القتلى الذين تناثرت جثثُهم في كل شوارعِ المدينةِ وميادينها لم يكونوا أقل عددًا ممن ذكرناهم، وانطلق بقيةُ العسكرِ يجوسون خلال الديار بحثًا عمن لا زال حيًا من التُّعساء الذين قد يكونون مختفينَ في الأزقةِ والدروبِ الجانبية فرارًا من الموت، فكانوا إذا عثروا على واحدٍ؛ سحبوه على مشهد من الناس، وذبحوه كما تُذبح الشاة.
وجعل بعضُ العسكر من أنفسِهم عصابات انطلقت تسيطرُ على البيوت مُمسكين بأصحابِها ونسائِهم وأطفالهم، وأخذوا كل ما عندهم، ثم راحوا يقتلون بعضَهم بالسيف، ويقذفون بآخرين من الأمكنة العالية، فتتهشمُ أعضاؤهم، ويهلكون هلاكًا مروِّعًا، ويبقرونَ بطونَ آخرين بحثًا عما يكونون قد خبَّئوه في أمعائهم من قطع ذهبية، أو جواهرَ ثمينة يُحتمل أنْ يكونوا قد ابتلعوها، وهنا تم ما جاء في مزامير داود 68/61: وسَلَّمَ لِلسَّبْيِ عِزَّهُ وَجَلَالَهُ لِيَدِ العدُوِّ)).
مَن صاحبُ العنف؟!
ومَنْ طائشُ السيف؟!
أتباعُ محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ أم مَنْ؟!!
الله المستعان.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أما بعد:
فماذا حدث عندما حكمَ الصليبُ أوروبا؟
وما هي محاكمُ التفتيش في الأندلس؟
تأسست هذه المحاكم بدءًا من عامِ اثنين وأربعين ومائتين وألف (1242) في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، ثم انتقلت على مر السنين إلى بلادٍ أخرى كثيرة بقصد محاربة أي فكر كنسيٍّ آخر يعارض أو لا يوافق الفكر الكاثوليكي للكنيسةِ الغربية في أوروبا، وقد أُنشئت لهذه المحاكم الكبرى محاكمُ فرعية صغيرة في أديرةِ (الفِرِنْسِيسْكَانْ) و(الدُّومِينِيكَان) برئاسة الأساقفة والمطارَنة، وعضوية القُسُسِ والرُّهبان، إذ تجاوزت هذه المحاكم البحثَ عن الدلائلِ أو القرائنِ أو الشهود، وفتحت باب الاتهامات بالشُّبهات، وما يُضمرهُ بعض القُسُس والرهبان من أفكار مخالفة للكاثوليكية.
وهذه شهادةٌ يرويها (الْكُولِينُولْ لِيمُونِسْكِي) أحد ضباط الحملة الفرنسية في إسبانيا، فيحكي تجربته مع محاكم التفتيش هناك، فيقول:
((كنتُ عام تسع وثمانمئة وألف (1809) ملحقًا بالجيشِ الذي يُقاتل في إسبانيا، وكانت فرقتي مِن بين فرقِ الجيش الذي احتلَّ العاصمةَ مدريد، وبينما أسيرُ في إحدى الليالي أجتاز شارعًا يقلُّ المرور فيه، إذا بمسلَّحَيْنِ قد هجما عليَّ يريدان قتلي، فلم ينقذني منهم إلا قدومُ سريةٍ من جيشِنا مكلفةٍ بالطوافِ في المدينةِ ليلًا، ومن ملابسِهما تبين أنهما -يعني اللذين اعتديا عليه- أنهما جنود من كنيسة التفتيش، فأسرعت إلى (المَارْشَلْ صُولْتْ) الحاكمِ العسكري لمدريد، وقَصَصتُ عليه النبأ، فأصدر قرارًا بتنفيذ حكم الإمبراطور بإغلاقِ هذه الكنيسة وحلِّ ديوانها، ثم أمر بقيادةِ ألف جنديٍّ وأربعةِ مدافع لمهاجمة الديوان -ديوان محكمة التفتيش باسم السيد المسيح!!-، وفي الرابعة صباحًا قصْدَنا الديوان، فلم يشعر الرهبان إلا والجنود يحيطون بالدير، وكان عبارة عن بناء ضخم أشبه بقلعة حصينة وأسوارٍ عالية تحرسها فرقةٌ من الجنود اليسوعيين.
تقدمتُ إلى بابِ الدَّيْر، خاطبتُ الحارس الواقف على السور، أمرته باسم الإمبراطور أنْ يفتحَ الباب، فانتظر وقتًا، ثم انهال علينا الرصاص من كل جانب، فقُتل وجُرح بعض رجالي، فأمرتُ باقتحام الدَّير بالقوة، وأسرع الرهبان حينئذ من الداخل مُرحِّبين بنا ووجوههم باشَّة، يستفهمون عن سبب قدومنا على هذا النحو، وكأنه لم يدُر بيني وبينهم قتال منذ لحظات! أمرتُ الجنودَ بالقبض عليهم، ثم بدأنا البحث عن قاعات التعذيب المشهورة داخل الدَّير، فحصنا ممرَّاتهِ وأقبيتِه كلها، فلم نجد شيئًا يدل عليها، فعزمنا على الخروجِ يائسين؛ ولكن (اللِّيفْتِنَانْتْ دِيلِيلْ) اِسْتَمْهَلَنِي قائلًا: أيسمح لي (اَلْكُولِينُولْ) أن أخبرهُ أنَّ مهمتنا لم تنته بعد؟
قلت: قد فتَّشنا الدير كله، ولم نجد شيئًا؛ فماذا تريد؟
قال: إني راغبٌ في فحصِ أرضية هذه الغرف؛ فإنَّ قلبي يحدثني أنَّ السر تحتها، ورفعت الجنود أبسطةَ الأرض، ثم صبُّوا الماء بكثرةٍ في كل غرفة على حدة، فإذا بالأرض تبتلع كلَّ الماء المتدفق عليها يتسربُ إلى أسفل، وإذا بالباب ينكشف، وتظهرُ حلقةٌ صغيرةٍ وُضعت إلى جوار مكتب الرئيس، فُتح بها الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض.
أسرعت إلى شمعةٍ كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضيئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، هَممتُ بالنزول، فوضع راهبٌ يسوعيٌّ يده على كتفي متلطفًا، وقال: يا بني؛ لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثةِ بدم القتال؛ إنها شمعة مقدسة!!
قلت له: يا هذا؛ ألا يليق بيدي الملوثة بدم القتال أن تُنَجَّسَ بلمسِ شمعتكم الملوثة بدمِ الأبرياء؟!
هبطتُ على درج السلم يتبعني الضباط والجنود شاهرين سيوفهم، فإذا بنا أمام غرفةٍ كبيرةٍ مربعة، هي عندهم قاعة المحكمة، في وسطِها عمودٌ من الرخام به حلقةٌ حديديةٌ ضخمة، رُبطت بها سلاسلُ لتقييدِ الضحايا، ثم توجهنا إلى غرف صغيرة في حجم الإنسان، بعضُها رأسي في حجم الإنسان، وبعضها أفقي في حجم الإنسان، كانت مخصصةً للسجناءِ يقضون فيها حياتهم حتى الممات، ثم تبقى الجُثثُ في سجنها الضيق حتى تبلى ويتساقط اللحمُ عن العظم؛ فقد شاهدنا عدة هياكل بشرية ما زالت في أغلالِها سجينة.
كان القتلى رجالًا ونساءًا، وكانت أعمارُهم تختلفُ وتتراوحُ بين الرابعة عشرة والسبعين، واستطعنا إنقاذَ بعضِ السجناء الأحياء، واستطعنا تحطيمَ أغلالِهم وهم على آخر رمق من الحياة!!
وجدنا من أصابهُ الجنون؛ لكثرة ما لقي من العذاب، ومن كان عاريًا كما ولدته أمه؛ حتى اُضطر الجنود لخلعِ أرديتهم ليستروا بها بعض النساء السجينات!!
انتقلنا إلى غرفٍ أخرى، ورأينا فيها ما تقشعرُ لهوله الأبدان!!
عثرنا على آلاتٍ لتكسيرِ العظام وسحقِ الأجساد، كانوا يبدؤون بسحقِ عِظامِ الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين، حتى تأتي الآلةُ على البدنِ المُهشَّم كله، فيخرج من الجانب الآخر كتلةً واحدة!!
عثرنا على صندوقٍ في حجم رأس الإنسان تمامًا، توضع فيه رأسُ المُعذَّبِ بعد أن تُربطَ بالسلاسلِ في يديه ورجليه، ثم تُقطر على رأسه نُقط من الماء البارد من ثقب أعلى الصندوق، فتقع على رأسه بانتظام حتى يلفظ أنفاسه جنونًا!!
عثرنا على آلة ثالثة للتعذيب تسمى ((السيدة الجميلة))، وهي عبارةٌ عن تابوتٍ تنام فيه صورة فتاة جميلة مصنوعة على هيئة الاستعداد لعناقِ من ينام معها، وقد بَرزت من أعضائها سكاكينُ حادة، كانوا يطرحون الشاب المعذب فوق الصورة المستعدة لعِناقِ من ينام معها، ثم يُطبقونَ عليهما بابَ التابوت، حتى يتمزقَ جسدُ الشاب، ويُقطَّعَ إربًا بتلك السكاكين!!
عثرنا على آلات لتقطيعِ اللسان، إذ كانوا يأتون بشِبهِ الخُطَّاف من الحديد، ثم يُغرس في اللسان، ثم يُشدَّ مع تسبيك الرأس حتى لا تتحرك، ثم يأخذون المُوسى الحادة، ويُقطِّعون اللسانَ شرائح شرائح شرائح!!
عثرنا على آلاتٍ لتقطيع اللسان، وأخرى لتمزيقِ أثداءِ النساء، وسحبِها من الصدورِ بواسطة كلاليب، وعثرنا على مَجالد من الحديدِ الشائك لضربِ المعذبين وهُم عُراة، حتى يتناثرَ اللحمُ عن العظم، فلما انتقل الخبر إلى العاصمة مدريد؛ توافدوا بالألوف ليروا ما رأيناه؛ حتى خُيَّلَ إلينا من شدة الزحام أننا في يوم القيامة، فما أن رأى الناس بأعينهم وسائل التعذيب، وبشاعة الآلات التي كانت تُستخدم بالربِّ يسوع المسيح؛ انطلقوا كمن به مَسّ، فأمسكوا برئيس اليسوعيين، ووضعوه في آلة تكسير العظام، فدُقِّت عظامه، وسُحق سحقًا، ثم أمسكوا كاتمَ سِره، وزفُّوه بزفة عظيمة إلى السيدة الجميلة، وأطبقوا عليهما الأبواب، فمزَّقته في حال عُرسه السكاكين شر ممزق، ولم تمض نصف ساعة حتى قضى الشعب على ثلاثة عشر راهبًا.
وعثرنا على أسماءِ ألوف الأغنياء في سجلاتِ الديوان الكنسي السرية ممن قضى الرهبانُ بقتلِهم باسم الصليب؛ كي يبتزوا أموالهم، أو يضطروا لكتابة إقرارات تُحوِّلُ ثرواتهم إلى خدام الرب يسوع!!)).
ولا تحسبن أن ذلك كان مع المخالف في العقيدة وحده؛ بل فيما بينهم! بينهم!
فإنَّ (مَارْتِنْ لُوثَرْ) لمَّا قاد ثورة التصحيح، وأتى بالمذهب البُرُوتِسْتَانْتِيِّ، وانتشر المذهب بدءًا من ألمانيا إلى هاهنا وهناك؛ دق ناقوسُ كنيسةِ البابا في روما الأجراسَ؛ تحذيرًا من الخطر القادم باسم الصليب!!
في منتصف ليلة 24 أغسطس سنة 1574 وقعت (مذبحة سَانْتْ بَارْتِلْمُونْ):
دق ناقوس كنيسة (سَانْ جِيرْمَانْ) في قلب باريس مُؤْذِنًا بِبَدْءِ المذبحةِ، فإذا بأغنياء الكاثوليك والحرس الملكي وجماهير الكنيسة ينقضُّون على البيوت والفنادق التي يقيم فيها البُرُوتِسْتَانْتِ، فأتوا عليهم ذبحًا، فلما أصبحَ الصبح؛ كانت شوارعُ باريس تجري بدماء ألفين من القتلى، وتطايرت أنباءُ المذبحةِ المُروِّعة إلى الأقاليم، فإذا بكنائسها الكاثوليكية تدق هي الأخرى أجراسها، وتستحيلُ بدورها إلى مجزرة أتت على دماء ثمانية آلاف آخرين من هؤلاء المساكين!!
وقع ذلك الحدثُ موقع الغِبطة والسرور والرضا في أوروبا الصليبية الكاثوليكية كلها، فكاد (فِيلِيبُ الثاني) يُجَنُّ من فَرْطِ الفرح، وانهالت التهاني على (تْشَارْلِزْ التاسع)، وأمر (البَابَا جِرِيجُورِي الثالثَ عَشَرَ) بسكِّ أوسمة ونياشين لتخليد ذكرى هذه المذبحة، ورُسمت على هذه الأوسمة صورة البابا، وإلى جانبه ملك يضرب بسيفه الرقاب، وكُتب عليها: (إعدامُ الملحدين)، كما أمر البابا بإطلاق المدافع، وإقامة القُدَّاس في شتى كنائس أوروبا، ودعا الفنانين لتصويرِ مناظر المذبحة المقدسة على حوائط الفاتيكان!!
قليل من كثير!!
قطرةٌ من بحر!! وحبةٌ من رمل عالِج!!
ثم يستديرُ من يستدير ليهجمَ على الإسلام واصمًا إياه بالعنف، وبأنَّ الإسلامَ العظيم انتشر بالسيف!!
إنما انتصرَ الإسلامُ على السيف، ولمَّا اُستعمل السيف بعد ذلك في الفتوحاتِ لنشر الدين -وهو مستعملٌ لذلك إلى يوم الدين-، لما اُستعمل السيفُ بعد ذلك؛ كان إنما يعملُ في رقابِ الذين يحولونَ بين الشعوب وبين سماعِ كلمةِ الله، أتى بها محمدٌ رسول الله، وهو هو السيفُ الرحيم، ليس فيه رَهَق، ولا فيه عَنَت، ولا يؤذي إلا من تعرضَ للأذى.
والدليل: أنَّ أبناءَ البلادِ المفتوحة ما زال منهم إلى يوم الناس هذا ملايين في كل بلد إسلامي يدينون بدينهم الذي كانوا عليه قبل الفتح الإسلامي؛ فلماذا لم يَعمل السيفُ في هؤلاء عمله؟!!
إنَّ المسلمين في غمرةٍ ساهون!!
إنَّ المسلمين ينتظرون الذبح!!
ويا هؤلاء ممن آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-
يا من آمن بمُحمدٍ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ تذكروا من الأندلس الإبادة!!
يا هؤلاء؛ تذكروا مِن الأندلسِ الإبادة!!
يا هؤلاء؛ تذكروا مِن الأندلسِ الإبادة!!
نيجيريا أكبر بلد إفريقي مسلم من حيث عدد السكان المسلمين، والنصارى فيها لا يمثِّلون أكثر من ثلاثٍ بالمئة (3%) من حجمِ السكان في ذلك البلد، والغالبية العظمى من المسلمين.
ثلاثةٌ بالمئة من مجموع الشعب النيجيري تؤمن بيسوع المسيح.
الحاكمُ، الرئيس في نيجيريا من الثلاثة بالمئة!!
وقد خرج مجددًا يَنعقُ بما لا يعلمُ ولا يسمعُ ولا يفهمُ، ويُردد أصداءَ الخنا الذي انبعث كالقذى، وما انتشرت الرائحةُ إلا من ذلك القبر المُنتن هنالك في الشَّمال، فتلقفها هو في الجنوب؛ لكي يُدلي بدلوه في شتمِ مُحمدٍ ودين محمد!!
كلأٌ مستباح يا صاحبي ........وعِرض ليس عنه أحد يذودُ!!
ولن يُحفظ العِرض المصون من الأذى ........حتى يُراقَ على جوانبهِ الدم!!
ينبغي أن نفرِّقَ بين الدين الذي جاء به عيسى بن مريم، وبين ما عليه الغرب من دين؛ فإنَّ المسيح من دينِ الغرب برئ.
نسألُ اللهَ ربَّ العالمين أنْ يُحسن ختامَنا، وأن يُثبِّتَ أقدامَنا، وأن ينصر المسلمين على أعدائهم في كل مكان، وفي كل سبيل، وفي كل فَج، وفوق كل رَبوة، وفي كل وهادِ الدنيا، وتحت البحار والأمواه، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، صلى الله عليه و على آله سلم، وأقم الصلاة.