داء الخوارج ودواؤهم

للاستماع للمحاضرة

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:

فالمُحَكِمَة هم الذين قالوا لا حُكْمَ إلَّا لله وهم الحَاكِميون, وهؤلاء هم الخوارجُ الأولون, لأنهم فارقوا عليًا وجماعةَ المسلمين بسبب مسألة التحكيم, عِلمًا بأنهم ألزموا عليًا رضي الله عنه بالقبول, وقالوا كلمتهم "لا حكم إلَّا لله", وقد كفَّروا عليًا ومعاويةَ والحَكَمين, ومن قالَ بالتحكيمِ بعدَ ذلك. فالمُحَكِمَة وسُمُوا بعد ذلك بالحَرورية, رَتَبوا على مقولتهم في الحاكِمية أنَّ عليًا والصحابة قد كّفّروا لأنهم تركوا تحكيم الشريعة ولجئوا إلى تحكيم الرجال, فكان ذلك أولَ افتراق علنيٍ في الإسلام, وقد بايعوا عبدالله ابنَ وهبٍ الراسبى في العاشر من شوال سنة سبعٍ وثلاثين من الهجرة وهذا هو تأريخُ أولِ افتراقٍ فعليٍ معلنٍ في الأُمة. فالمُحَكِمَة إذًا جعلوا شعارهم الدعوةَ إلى تحكيمِ الشريعة وجعلوا منْ تركَ ذلك كافرًا قولًا واحدًا من غيرِ تفصيل, وهي بعينها مقولةُ خوارجِ العصر, أي المُحَكِمَةِ في هذا العصر وهي بعينها مقولة سيد قطب والمودودي وغيرهم. ولا شك أنَّ عقيدة الخوارج مُنتشرةٌ بين الشباب وتُغلفُ أحيانًا باسم السلفيةِ كذبًا ومينًا وزورا, فكيف نعالج هذا الانحراف ونُنَجي أنفسنا وأوطاننا من الدمار؟ هذه هي القضيةُ الرئيسة, كيف يُعالَج هذا الأمر؟ ولا شك أنَّ الذين تصدوا لمحاربةِ هذا الفكر, كانوا في الجملةِ غيرَ أهلٍ لذلك لعدم فهمهم لطبيعة فكرِ الخوارجِ’ ولعدم التزامهم الأدلة الشرعية, مما جعلهم يخلطون بين هذا الانحراف وبين الإسلامِ الصحيح, وبين الجهاد الحق وبين الإفسادِ باسم الجهاد. إنَّ انتشارَ مظاهرِ الفسادِ في كثيرٍ من بلدانِ المسلمين والسماحَ لدعاةِ الفكرِ الغربيِ وغيرهم بالتعدي والظهورِ والتحدثِ ضد الإسلامِ, علانية, مع انتشارِ مظاهر الانحراف الأخلاقي, هذه كُلها لاشكَ شجَّعت على ردودِ الفعل لدى الشباب, فَوجَبَ إزالتُها والسعي لتطبيقِ شريعةِ الله, وجعل الدين المُسيطرِ على الحياة, وبغيرِ ذلك لا يمكن إنشاءُ المواطن الصالح. إنَّ العلاجَ الرسمي لبعضِ الدول كان عَبْرَ أجهزةِ تلك الدول التى انتشر فيها هذا الفكر, ولم تُحسِن تلك الأجهزةُ العلاج بل أساءت عندما حاربت مظاهرَ الإسلام وشَنَّعت على السُنَة, ورمت أهلها بالتشدد وجاءت بِمَنْ يتكلمُ باسم الإسلام, وهو لا يعرف منه سوى اسمِه ولا يدرك منه سوى رسمِه, وكلُ ذلك جعل الشباب لا يُصغي لهؤلاء بل يلتفوا حول أولئك الخوارجِ الثوار. لقد تصدى العلماءُ الربانيون للخوارجِ منذ ظهورهم, فنَسَفوا شُبُهاتِهم, وأحكموا قبضةَ الأدلةِ على رقاب حُجَجِهم, فهدى اللهُ مَن شاء منهم وحمى كثيرًا من المسلمين من الوقوعِ في شباكِهم.

قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما لما اجتمعت الحروريةُ وهم طائفة من الخوارج, خرجوا على عليٍ رضي الله عنه ونزلوا حروراء وهو موضعٌ بالقربِ من الكوفة فنُسِبوا إلى ذلك الموضع, لما اجتمعت الحروريةُ يخرجون على عليٍّ رضى الله عنه, قال (جعلَ يأتيه الرجلُ فيقول يا أميرَ المؤمنين القومُ خارجون عليك, فيقول دَعْهم حتى يخرجوا, فلما كان ذات يوم قُلتُ - والقائل ابن عباس رضى الله عنهما قال - قلت يا أميرَ المؤمنين أبْرِدْ بالصلاة - والإبرادُ بالظهر هو تأخيرُها حتى يُتَمَكنَ من المشي في الفيح , قال - أَبْرِدْ بالصلاة فلا تفوتنى حتى آتِيَ القوم, -  قال - فدخلت عليهم وهم قائِلون - من القيلولة - فإذا هم مُسهَمةٌ وجوهُهُم من السَهر - أى متغيرةٌ وجوههم من السهر - قد أثَّرَ السجودُ في جباهِهِم, كأن أيديَهُم ثَفِنُ الإبل - والثَفِنُ جمع ثَفِنة وهي ما وليَ الأرضَ من كلِ ذاتِ أربع إذا بَرَكَت كالركبتين وغيرهما ويحصل فيهما غِلَظٌ من أثرِ البروك - عليهم قُمُصٌ مُرَحَضة - أى مغسولةٌ - فقالوا ما جاءَ بك يا ابنَ عباس وما هذه الحُلةُ عليك - قال - قلت ما تعيبون هذه، فلقد رأيتُ على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحسن ما يكون من ثياب اليمنية,

ثم قرأت هذه الآية (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ) فقالوا ما جاء بك - قال – قلتُ: جئتكم من عند أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وليس فيكم منهم أحد, ومن عند ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله, جئتُ لأُبلغَهُم عنكم ولأُبلغكُم عنهم, فقال بعضُهم لا تُخاصموا قُرَيشا فإنَّ الله تعالى يقول  (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) فقال بعضهم بلى فلنكلمه - قال- فكلمَنى منهم رجلان أو ثلاثة - قال ابن عباس رضي الله عنهما - ماذا نقِمتم عليه - أي على أمير المؤمنين علىٍ رضي الله عنه - قالوا ثلاثا - قال- فقلت ما هُنَّ, قالوا حَكَّمَ الرجالَ في أمرِ الله, والله عزَّ وجلَّ يقول (إِنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ) - قال - قلت هذه واحدة وماذا أيضا؟ قالوا فإنه قاتل فلَمْ يَسْبِي ولم يَغنَم - يريدون يوم الجمل - فلإنْ كانوا مؤمنين ما حَلَ قتالهم ولإنْ كانوا كافرينَ لقد حَلَ قتالهم وسبيُهم - قال - قلت وماذا أيضا؟ قالوا ومَحَا نفسه عن أميرِ المؤمنين فهو أميرُ الكافرين - قال ابن عباس رضي الله عنهما -  قلت أرأيتم إنْ أتيتُكم من كتابِ الله وسُنَةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يَنقُضُ قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع - قال - قلت أمَّا قولُكم حَكَّمَ الرجالَ في أمرِ الله, فإن الله عزَّ وجلَّ قال في كتابه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) وقال في المرأة وزوجها (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) فصيَّرَ الله تعالى ذلك إلى حُكم الرجال, فناشدتكم الله أتعلمون حُكْمَ الرجالِ في دماء المسلمين وفي إصلاح ذاتِ بينهم أفضل أو في دمِ أرنبٍ ثَمنُها رُبُعُ درهم؟ وفى بُضعِ امرأة؟ قالوا بلى هذا أفضل - قال- أخرجتُ من هذه, قالوا نعم - قال- وأما قولُكم قاتل فلَمْ يَسْبِي ولم يَغنَم, أفتَسْبُونَ أُمَكُم عائشةَ رضي الله عنها, فإنْ قلتم نَسبِيها فنستحلَّ منها ما نستحلُ من غيرها فقد كفرتم, وإنْ قلتم ليست بأُمِنا فقد كفرتم, فأنتم تترددون بين ضلالتين, أخرجتُ من هذا, قالوا بلى - قال- وأمَّا قولكم, مَحَا نفسه من أميرُ المؤمنين فأنا آتيكم بمَنْ ترضون إنَّ نبيَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الحُديبية, حين صالحَ أبا سفيان وسهيل بن عمرو, قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اُكتُب يا عليّ, هذا ما صالحَ عليه محمدٌ رسول الله, فقال أبو سفيان وسُهيل بن عمرو ما نعلمُ أنك رسول الله ولو نعلمُ أنك رسول الله ما قاتلناك, قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - اللهم إنك تعلم أني رسولك, أُمح يا عليّ واكتب هذا ما صالحَ عليه محمد ابن عبدالله - قال ابن عباس رضي الله عنهما - فرجع منهم ألفان وبقيَ بقيتُهم فخَرجوا فقُتِلوا أجمعون) أخرجه أبو داود مختصرا والبيهقى في السُنن وعبدالرزاق في المُصَنف والنسائىُّ في تهذيب خصائص الإمام علىٍ رضي الله عنه .

من إرشادِ أهلِ البدع وتعليمهم وإقامة الحُجَةَ عليهم مسألةُ عُمرَ ابن عبدالعزيز مع الخوارج ومع غَيلانَ القدرىّ, فقد نَاظَر عمرُ ابن عبدالعزيز رحمه الله تعالى غَيلانَ القدرى عندما بلغه أنه يقول في القدر فبعث إليه فحجبه أيامًا ثم أدخله عليه فقال (يا غَيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين, إنَّ الله عزَّ وجل يقول (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) - قال عمر رحمه الله تعالى- اقرأ إلى آخر السورة (وَمَا تَشَاؤُونَ إلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا.يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). - ثم قال عمرُ ابن عبدالعزيز رحمه الله - ما تقول يا غَيلان؟ فقال: أقول قد كنتُ أعمى فبصَّرتني وأصمَّ فأسمعتني وضالًا فهديتني - فقال عمرُ ابن عبدالعزيز رحمه الله - اللهم إن كان عبدُك غَيلان صادقًا وإلَّا فاصْلبه, - فأمسك غَيلان عن الكلام في القدر فَولاَّهُ عمرُ ابن عبدالعزيز دار الضربِ بدمشق, فلما مات عمرُ ابن عبدالعزيز وأفضت الخلافة إلى هشام, تكلم غَيلان في القدر فبعث إليه هشامٌ فقطع يده, فمر به رجلٌ والذبابُ على يده فقال (يا غَيلان هذا قضاءٌ وقدر, قال كذَبت لَعَمرُ الله ما هذا قضاءٌ ولا قدر) فبعثَ إليه هشامٌ فصلبه. أخرجه الآجرىُّ في الشريعة و اللالكائي في السُنَة, وإسناده حسن .

ينبغي أن يُعلَم أنَّ إقامة الحُجَةِ على المُخالفِ شيء والجدال والمِراءَ والخصومةَ شيءٌ أخر , هذا مَنْهيٌّ عنه وذَاكَ مُرَغَبٌ فيه . قال الإمامُ البربهاري رحمه الله "واعلم رحمك الله أنَّه ما كانت زندقةٌ قَطْ ولا كفرٌ ولا شكٌ ولا بدعة , ولا ضلالةٌ ولا حَيرةٌ في الدين إلَّا من الكلامِ وأصحابِ الكلام والجدالِ والمِراءِ والخصومة, والعَجَبُ كيف يجترئ الرجلُ على المِراءِ والخصومةِ والجدالِ واللهُ تعالى يقول (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فعليكَ بالتسليمِ والرضى بالآثارِ وأهلِ الآثار والكَفِ والسكوت"

وقال الحسنُ رحمه الله "الحكيمُ لا يُمَاري ولا يُدَاري, حِكْمَتُه ينشرها إنْ قُبِلت حَمِدَ الله وإنْ رُدَت حَمِدَ الله" ،

وجاء إلى الحسنِ رجلٌ فقال له " أُناظِرٌكَ في الدين؟ فقال أنا عَرفتُ ديني فإن ضَلَّ دينُك فاذهب فاطلبه " أخرجه الآجريُّ واللالكائي .

من باب إقامة الحُجَة ما كان من مناظرةِ أمير المؤمنين عمرَ ابن عبدالعزيز رحمهُ الله تعالى للخوارج , فقد خَرجَ شَوذَبٌ واسمهٌ بِسطام من بني يَشْكُرَ في جُوخِى (بضم الجيم وكسر الخاء وقد تُفتح) وهو نهرٌ بالجانب الشرقي من بغداد وكان خروجُه في ثمانين رجلًا , فكتب عمرُ بن عبدالعزيزِ إلى عبدالحميدِ ابن عبدالرحمنِ عَامِلِهِ بالكوفة ألَّا يُحَرِكَهٌم حتى يسفكوا دمًا ويفسدوا في الأرض, فإن فعلوا وَجَهَ إليهم رجلًا صليبًا حازمًا في جند‏.‏

فبعثَ عبدالحميد محمد بن جرير بن عبدالله البجليّ في ألفين وأمره بما كتب به عمرُ رحمه الله، وكتب عمرٌ إلى بسطامٍ يدعوه ويسأله عن مَخْرَجُه، فقَدِمَ كتابُ عمرَ إليه وقد قَدِمَ عليه محمد بن جرير فقام بإزائه لا يتحرك‏.‏

فكان في كتابِ عمر إنَّه بلغني أنَّك خرجت غضبًا لله ولرسوله ولستَ أَوْلَى بذلك مِنِّي، فَهَلُمَ إليَّ أُناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس وإن كان في يدك نظرنا في أمرك‏.‏

فكتب بِسطامٌ إلى عمر‏ قد أنْصَفت وقد بعثتُ إليكَ رجٌلَين يدَّارِسَانِكَ ويناظِرَّنِك‏.‏

وأرسل إلى عمر مَوْلًا لبني شيبان حبشيًا اسمهُ عاصمٌ ورجلًا من بني يَشْكُر، فقَدِما على عمرَ بخُنَّاصِرة فدخلا إليه

فقال عمرُ ابن عبدالعزيز رحمه الله لهما‏:‏ ما أخرجكما هذا المخرج وما الذي نَقِمْتُم ؟

فقال عاصمٌ: ما نَقِمْنا سيرتك إنَّكَ لتتحرى العدلَ والإحسان فأخبرنا عن قيامِكَ بهذا الأمر أعَنْ رضًا من الناس وشوري أم ابتززتم أمرهم ؟

فقال عمر رحمه الله:‏ ما سألتُهم الولايةَ عليهم ولا غلبتُهم عليها, وعَهِدَ إليَّ رجلٌ كان قبلي فقُمتُ ولم يُنكِرهُ عليَّ أحد ولم يَكْرَهُهُ غيرُكم وأنتم تَرَوْنَّ الرضا بكل منْ عَدَلَ وأنصف مَنْ كان مِنْ الناس فاتركوني ذلك الرجل فإن خَالفتُ الحقَ ورغِبْتُ عنه فلا طاعةَ لي عليكم‏.‏

فقالا‏:‏ بيننا وبينكم أمرٌ واحد قال‏ عمرُ:‏ ما هو‏؟

قالا‏:‏ رأيناك خالفتَ أعمالَ أهلِ بيتك { يعني منْ كان قبله من الخلفاء من بني أُمية} وسميتها مَظَالِم فإن كنت على هدىً وهم على ضلالةٍ فالعنهُم وابْرأ منهم‏.‏

فقال عمرُ رحمهُ الله:‏ قد عَلِمتُ أنَّكُم لمْ تَخرُجوا طلبًا للدنيا ولكِنَّكُم أردتم الآخرة فأخطَأتُم طريقها , إنَّ الله عزَّ وجلَّ لمْ يبعث رسولَهُ صلى الله عليه وآله وسلم لعَّانًا , وقالَ إبراهيمُ عليه السلام ‏( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) , وقالَ اللهُ عزَّ وجلَّ‏ (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) وقد سَمَّيتُ أعمالَهُم ظُلمًا وكفى بذلك نقصًا وذمًا وليسَ لعنُ أهلِ الذنوبِ فريضةً لا بُدَّ منها فإنْ قُلتُم إنَّها فريضة, فأخبرني متى لَعنتَ فرعونَ ؟

قال‏: ما أذكُرُ متى لعنتُه‏ ؟‏

قال‏: أَفيسَعُكَ أن لا تلعَنَ فرعون وهو أخبثُ الخَلْقِ وشَرُهُم، ولا يسَعُنِي أنْ لا ألْعَنَ أهلَ بيتي وهم مُصَّلُونَ صائمون‏.

قال‏:‏ أمَا هم كفارٌ بظلمهم { لأن الخوارج يكفرون كفرًا أكبر ويُخْرِجونِ من المِلَة ويُخَلِدُون في النار بالكَبِيرَة }

فقال‏: لا؛ لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا الناسَ إلى الإيمان فكان من أَقَرَّ به وبشرائعه قَبِلَ منه فإن أحدث حدثًا أٌقِيمَ عليه الحد‏.‏

فقال الخارجيّ‏:‏ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَعَا الناس إلى توحيدِ الله والإقرارِ بما نزل مِنْ عنده‏.‏

قال عمرَ‏ رحمه الله: فليس أحدٌ منهم يقول لا أعملُ بسُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولكنَّ القومَ أسرفوا على أنفسهم على عِلمٍ منهم أنَّه مُحَرَّمٌ عليهم ولَكِنْ غَلَبَ عليهم الشقاء‏.‏

قال عاصمٌ :‏ فابرأ مما خالفَ عمَلَك ورُدَّ أحكامَهم‏.‏

قال عمر:‏ أخبراني عن أبي بكرٍ وعمر أليسا على الحق؟  قالا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ أتعلمانِ أنَّ أبا بكرٍ حين قاتل أهلَ الردة سفكَ دماءهم وسبى الذراريَّ وأخذَ الأموال؟  قالا‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ أتعلمونَ أنَّ عمرَ ردَّ السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟  قالا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏: فهل برئَ عمر مِنْ أبي بكر؟  قالا‏:‏ لا‏.‏ٍ

قال‏:‏ أفتبرَؤنَ أنتم من واحدٍ منهما؟  قالا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأخبراني عن أهلِ النهروان وهم أسلافُكم هل تعلمان أنَّ أهلَ الكوفةِ خرجوا فلم يسفكوا دمًا ولم يأخذوا مالًا وأنَّ مَنْ خَرجَ إليهم مِنْ أهلِ البصرة قتلوا عبدالله بن خبابٍ وجاريته وهي حامل؟  قالا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فهل برئ مَنْ لم يَقتُل مِمنْ قَتَلَ واستعرض؟  قالا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفتبرؤن أنتم مِنْ أحدٍ من الطائفتين؟ قالا‏:‏ لا‏.‏

قال‏ عمرٌ ابن عبدالعزيز رحمه الله:‏ أَفيسَعُكُم أنْ تتولوا أبا بكرٍ وعمرَ وأهلَ البصرةِ وأهلَ الكوفة وقد عَلِمتُم اختلافَ أعمالِهم ولا يسَعُني إلَّا البراءةُ مِنْ أهلِ بيتي والدينُ واحدٌ كما قال قبلُ وَهُمْ مُصَّلونَ صَائمون , وَهٌمْ ما خالفوا سُنَةَ الرسولِ صلى الله عليه وآله وسلم إلَّا وَهٌمْ يعلمونَ أنَّهم مخالفون ولكِنْ غَلَبَت عليهم الشِقوة , فاتقوا الله { يقولُ عمرُ ابن عبدالعزيز رحمهُ الله تعالى للخارجيَين } فاتقوا الله‏ فإنَّكُم جُهَّال تقبلونَ مِنْ النَّاسِ ما رَدَّ عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتَرُدون عليهم ما قَبِلْ، ويأْمَنُ عِندَكم مَنْ خافَ عِندَه , ويخافُ عِندَكم مَنْ أَمِنَ عِندَه , فإنَّكُم يخافُ عِنْدَكُم مَنْ يشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله وكان مَنْ فعلَ ذلك عِندَ رسولِ الله آمِنًا وحُقِنَ دَمُهُ و حُفِظَ مَالُه وأنتم تقتلونَه ويأْمَنُ عِندَكُم سائرُ أهلِ الأديان فتُحَرِّمُون دماءَهم وأموالَهم‏.‏

فقال اليَشْكُري‏‏: أرأيتَ رجلًا وَلِيَ قومًا وأموالَهم فعدلَ فيها ثم صيرها بعدهُ إلى رجلٍ غيرِ مأمون أتراه أدَّ الحقَ الذي يلزمُه لله عزَّ وجل؟ أو تراهُ قد سَلِمْ؟  قال‏ عمرُ:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أفتُسْلِمُ هذا الأمرَ إلى يزيدَ مِنْ بعدك وأنت تعرفُ أنه لا يقوم فيه بالحق.

قال:‏ إنَّمَا ولاَّهُ غيري والمسلمون أَوْلَى بما يكونُ منهم فيه بعدي‏.‏

قال‏:‏ أفترى ذلك من صُنعِ من ولاَّه حقًا؟

 فبكى عمرُ ابن عبدالعزيز وقال‏‏: أنظِراني ثلاثًا.‏

فخرجا من عنده ثم عاد إليه فقال عاصمٌ: أشهد أنَّك على حق‏.‏

فقال عمرُ لليَشْكُرِي‏:‏ ما تقولُ أنت؟

 قال:‏ ما أحسنَ ما قُلت وما أحسنَ ما وصفت ولكني أكرهُ أنْ أفتات على المسلمين { يعني مَنْ وراءَهُ مِنْ الخوارجِ الظالمين} قال ولكني أكرهٌ أن أفتات على المسلمين بأمرٍ لا أدري ما حُجَتُهم فيه , حتى أرجعَ إليهم فأعرضَ عليهم ما قلت وأعلمَ ما حُجَتُهم‏.‏

فأمَّا عاصمٌ فأقامَ عند عمرَ فأمرَ له عمرُ بالعطاء فتُوفِيَّ بعدَ خمسةَ عشرَ يومًا‏ وأما الأخرُ فرجعَ إلى قومهِ {يعني إلى الخوارج} فقُتِلَ معهم.

في سيرة عمرَ ابن عبدالعزيز لابن عبدالحكم , دخل رجُلانِ مِنْ الخوارجِ على عمرَ ابن عبدالعزيز

 فقالا: السلامُ عليكَ يا إنسان

فقال عمرُ رحمه الله: وعليكما السلامُ يا إنسانان.

 قالا: طاعةُ الله أحقَ ما اتَبَعْت.

قال: مَنْ جَهِلَ ذلك ضَلْ.

قالا: الأموالُ لا تكون دُولَةً بين الأغنياء.

قال: قد حُرِمُوها.

قالا: مالُ اللهِ يُقْسَمُ على أهلِهِ.

قال: الله بَيَّنَ في كتابهِ تفصيلَ ذلك.

 قالا: تقامُ الصلاةُ لوقتها.

 قال: هو من حقِها.

قالا: إقامةُ الصفوفِ في الصلوات.

قال: هو مِنْ تمامِ السُنَّة.

 قالا: إنَّمَا بُعِثنا إليك.

 قال: بَلِّغا ولا تهابا.

قالا: ضَع الحقَ بين الناس.

قال: اللهُ أمرَ به قبلكما.

 قالا: لا حُكْمَ إلَّا لله.

 قال: كلمةٌ حقٍ إنْ لم تبتغوا بها باطلا.

قالا: ائتمنُ الأُمناء.

 قال: هم أعواني.

قالا: احذر الخيانة.

قال: السارقُ محذور

 قالا: فالخمرُ ولحمُ الخنزير.

قال: أهلُ الشركِ أحقُ به.

قالا: فمَنْ دخل في الإسلامِ فقد أَمِن.

قال: لولا الإسلامُ ما أمِنَّا.

 قالا: أهلُ عهودِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

قال: لهم عهودُهم.

قالا: لا تكلفهُم فوق طاقاتِهم.

قال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا)

 قالا: ذَكِرْنَّا بالقرآن.

قال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه)

 قالا: تَرُدُنا على دوابِ البريد.

قال: لا هو مِنْ مالِ اللهِ لا نُطَيِّبَهُ لكما.

قالا: فليس معنا نفقة.

قال: أنتما إذن ابنا سبيلٍ علي نفقتكما.

وعن أرطأة ابن المنذر قال سمعتُ أبا عونٍ يقول دخل ناسٌ من الحرورية أي من الخوارج على عمرَ ابن عبدالعزيز فذاكروهُ شيئا ، فأشارَ عليه بعضُ جُلَسائهِ أن يُرعِبَهُم، ويتغير عليهم فلم يزْل عمرُ ابن عبد العزيزِ يرفُقُ بهم حتى أخذَ عليهم ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقيَ. فخرجوا على ذلك فلما خرجوا ضَرَبَ عمرُ ركبةَ رجلٍ يليه من أصحابه، فقال: يا فلان إذا قَدَرْتَ على دواءٍ تشفي به صاحبكَ دون الكَيْ فلا تَكْويَنَّهُ أبدًا.

كثيرٌ من أتباعِ الفرقِ الضالة لم يتمكن الضلالُ من قلوبِهم بعد، أعني الناشئةَ منهم ولكن سرت العَدوى إليهم من أقرانهم ومِثلُ هذا تَوْبَتُهُ راجح وأوْبَتُهُ ممكنة , ومناظرتُه نافعة ,ولكنَّ الذي يُقْدِمُ على مناظرةِ هؤلاء لابدَ أن يتصفَ بالعلمِ القويّ القائمِ على الكتابِ والسُنَّة وسرعةِ البديهة كما يُلاحَظْ من مناظرةِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما ومناظرةِ عمرَ ابن عبدالعزيزِ رحمهُ الله , وأنْ يكونَ مِمَنْ حَظِيَ بالقَبولِ والإمامة , ذَلِكُم أنَّ إرسالَ أيِّ رجلٍ كان لمناظرةِ هؤلاء كما حَصَلَ في بعضِ الدول , فتَغَلَّبَ الخوارجُ عليه بالحُجَةِ الداحضةِ والبيانِ الظاهريِ, هذا جعلهم يتمسكون بالباطلِ الذي هم عليه .

إذًا مناظرةُ ناشئةِ أهلِ الأهواءِ والبدعِ نافعة, وأما الآخرون فليس ينفعُ معهم إلَّا ما نَفَعَ صَبيغَ ابن عِسْلٍ التميمي وكان قد قَدِمَ المدينة فجعل يسأل عن مُتشابهِ القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أَعَدَّ له عراجين النخل فقال: من أنت؟ قال: أنا عبدالله صبيغ، فأخذَ عمرُ عرجونًا من تلك العراجين فضربه وقال: أنا عبدالله عمر، فجعل يضربه بتلك العراجين، فمازال يضربهُ حتي شجَّهُ وجعل الدمُ يسيل عنْ وجهه، فقال: حسبُك يا أمير المؤمنين فقد والله ذَهَبَ الذي أَّجِدُ في رأسي! ؛ فنَفَاهُ إلى البصرة , وأَمَر بعدم مُجَالسَتِه ، ثم صَلَحَ حَالُه فعفا عنه، أخرجه الدارمي والآجري واللالكائي وابن وضَّاحٍ في البدعة، ومن دقيق فقه البخاري رحمه الله تعالي أنه ذكر في كتاب فضائلِ القرآن من صحيحه حديثين في الخوارج؛ الأول: عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول (يأتي في آخِرِ الزمانِ قومٌ، حُدَثاءُ الأسنانِ، سُفَهاءُ الأحلامِ، يقولونَ مِن خيرِ قولِ البريةِ، يمرُقونَ منَ الإسلامِ كما يمرُقُ السهمُ منَ الرميةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهم حناجرَهم، فأينَما لَقيتُموهم فاقتُلوهم، فإنَّ قَتلَهم أجرٌ لِمَن قتَلهم يومَ القيامةِ)، والحديثُ الثاني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعْمَلَكُمْ مَعَ عْمَلِهِمْ، وَيَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ...)، الحديثَ , وبوَّب البخاري رحمه الله تعالى لهذين الحديثين بتبويبٍ عجيبٍ جدًا فقال (بابٌ إثمُ من راءى بقراءة القرآن، أو تَأكلَ به، أو فجر به)؛ وتوجيهه ما قاله الحافظُ بن حجر في الفتحِ "فالذي فهمه الأئمة من السياق أن المراد أَنَّ الْإِيمَان لَمْ يَرْسَخ فِي قُلُوبهمْ لِأَنَّ مَا وَقَفَ عِنْد الْحُلْقُومِ فَلَمْ يَتَجَاوَزهُ، لَا يَصِلُ إِلَى الْقَلْب" وقال وهو يتحدثُ عن الخوارج "أي ينطقون بالشهادتين, ولا يعرفونها بقلوبهم" وقال أيضًا "والمراد أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب".

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله ربُّ العالمين "ولهذا أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم؛ لأنهم وإن تشددوا في الدين فهم مارقون منه، لو فتشت عن قلوبهم لوجدتها سوداء صمَّاء لا يصل إليها الخيرُ والنور والعياذُ بالله عزَّ وجل" لقد بَيَّنَ العلامة الأمام ابن القيم رحمه الله تعالى "أنَّ قلوب الخوارج مغشوشة و بَيَّنَ سرَّ مجانبتهم للإخلاص" بَيَّنَ ذلك وهو يشرح قول رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم (ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فإنْ الدَعْوَة تُحِيطُ مِنْ وَرائِهِم) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم وهو حديث صحيح؛ قال العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالي في مفتاح دار السعادة "أي لا يحملُ الغِلَ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاث فإنها تنفي الغِلَ والغش ومفسداتِ القلب وسَخائمَه، فالمخلصُ لله إخلاصُه يمنعُ غِلَ قلبه ويُخرجه ويزيله جملةً؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه عزَّ وجل، وقوله صلي الله عليه وسلم (ولزوم جماعتهم) هذا أيضًا مما يُطهِّر القلب من الغل والغش فإن صاحبه للزومِه جماعةَ المسلمين يُحِبُ لهم ما يُحِبُ لنفسه ويكرهُ لهم ما يكرهُ لها ويسوؤه ما يسوؤهم ويسرهُ ما يسرهم؛ وهذا بخلافِ من انحازَ عنهم واشتغلَ بالطعنِ عليهم والعيبِ والذمِ لهم كفعل الرافضة والخوارجِ والمعتزلةِ وغيرهم فإنِّ قلوبهم ممتلئة غلًا وغشًا، ولهذا تجدُ الرافضةَ أبعدَ الناس من الإخلاص وأغَشَّهم للأئمة والأمة وأشَدَّهم بعدًا عن جماعة المسلمين"

لقد شهدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قلوبِ الخوارج بفسادٍ لا مزيدَ عليه وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلمٌ رحمه الله (يكون بعدي أئمة لا يهتدونَ بهُداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوبُ الشياطين في جُثمان إنس) وهذا واحدٌ من ألفاظِ حديث حذيفةَ رضي الله عنه , الذي فيه أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم (دعاةٌ على أبوابِ جهنم) , قال ابن حجرٍ في الفتح "الدعاةُ على أبوابِ جهنم من قامَ في طلب المُلكِ من الخوارجِ وغيرهم" , وأشار إليه النوويُ أيضًا في شرحهِ الحديث فقال: "هؤلاء من كان من الأُمراءِ يدعو إلي بدعةٍ أو ضلالٍ آخرَ كالخوارجِ والقرامطةِ وأصحابِ المحنة" , فإن قيل فَلِمَا وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرةِ العبادة حتى يَعجِزَ الصالحونَ عن منافستِهم فيها ؟ فالجواب: أنه أرادَ الإخبارَ عنهم بوصفٍ قد يَغُرّ فذمَّهُم حتى لا يَغْتَّرَ بِهِمْ من يراهم يتعبدون .

قال الآجريّ رحمه الله تعالى في الشريعة " لم يختلفوا العلماءُ قديمًا وحديثًا أن الخوارجَ قومُ سوء عُصاةٌ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإن صلوا وصاموا واجتهدوا في العبادة, فليس ذلك بنافعٍ لهم ,ويُظهرون الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر, وليس ذلك بنافعٍ لهم لأنهم يتأولون القرآنَ على ما يَهوون , يموِّهون على المسلمين ، وقد حَذَرَ اللهُ تعالى منهم ، وحَذَرَ النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم منهم ، وحذرناهم الخلفاء الراشدون بعدَه ، وحذرناهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبِعهم بإحسان ، قال رحمه الله: والخوارج هم الشراةُ الأنجاسُ الأرجاس ، ومن كان على مذهبهم من سائرِ الخوارج يتوارثون هذا المذهبَ قديمًا وحديثا، ويخرجون على الأئمةِ والأمراء ويستحلون قتل المسلمين" , وقال أيضًا رحمه الله " فلا ينبغي لمن رأى اجتهادَ خارجيّ قد خرجَ على إمامٍ عدلًا كان الإمامُ أو جائرًا فخرجَ وجمعَ جماعة, وسَلَّ سيفه ,واستحلَّ قتالَ المسلمين, فلا ينبغي له أن يَغترَّ بقراءتهِ للقرآن ,ولا بطولِ قيامهِ في الصلاة, ولا بدوامِ صومِه, ولا بُحسنِ ألفاظهِ في العلم إذا كان مذهبهُ مذهبَ الخوارج" .

لقد خصَّ السلفُ الخوارجَ ببعضِ الآيات التي تتهم النيات , كما قال أبو غالبٍ رحمه الله (كنتُ بالشام وبها صُدَيُ ابن عَجلان أبو أُمامةَ صاحبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وكان لي صديقا ، قال فجيءَ برؤوسِ الحرورية ، فأُلقِيَّتْ بالدَرَج ، "وفي طريقٍ فجاؤوا بسبعينَ رأسًا من رؤسِ الخوارج فنُصِبتْ على درجِ المسجدِ" فجاء أبو أُمامة فصلى ركعتين ، ثم توَجه نحو الرؤوسِ ، فقال: وقد قلتُ لنفسي لأَّتبعنَّه حتى أسمعَ ما يقول ، قال فتَبِعتُهُ حتى وقفَ عليهم فقال وقد بكى سبحان الله ما صَنعَ إبليسُ بأهلِ هذه الأمة ، قال ثم قال: كلابُ أهلِ النار ، كلابُ أهلِ النار ، كلابُ أهلِ النار ، ثلاثًا ، ثم قال: شرُّ قَتلى قُتِلوا تحت ظلِ السماء ، وخيرُ قتلى الذين قَتَلوهم "وفي طريقٍ فقال: يا أبا غالب إنك ببلدٍ هؤلاء به كثير , قال: قلت نعم , قال: أعاذكَ الله منهم , قال: تقرأُ القرآن , قال: قلت نعم , قال: ثم تلا هذه الآية (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) "وفي طريقٍ قال : فقال له رجُل : يا أبا أُمامة أَّمِنْ رأيك تقولُه أم شيءٌ سَمِعتَه من النبي صلى الله عليه وسلم ? قال : إني إذًا لجريء !!! سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلمَ غير مرةٍ , ولا مرتينِ , ولا ثلاثٍ , ولا أربع , ولا خمس , ولا ستٍ , ولا سبع) رواه مبسوطًا ومختصرًا الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقيُ والطبرانيُ في الكبير والأوسط والآجريُّ في الشريعة وغيرهم وهو صحيح .

أبو أُمامة رضي الله عنه استشهدَ في الطعنِ على الخوارجِ بهذه الآية التي هي نصٌ في التنديد بفسادِ نيةِ المشارِ إليهم وذلك في قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ....) الآيةَ , وثمَّ أثارٌ أُخرى عن غيرِ أبي أُمامةَ في هذا المعنى , فقد أخرجَ الإمامُ أحمدُ في مسنده بإسنادهِ عن سعيد ابن جُمهان (قال : أتيتُ عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه وهو محجوبُ البصر فسلمتُ عليه قال لي: من أنت؟ قلتُ سعيدُ بن جُهمان , قال: فما فعل والدك؟ قال: قلتُ قتلتهُ الأزارقة , قال: لعنَ اللهُ الأزارقة لعنَ اللهُ الأزارقة {والأزارقةُ طائفةٌ من الخوارج هم أتباعُ نافع من الأزرق} قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمَ :" أنهم كلابُ النار " , قال قلت الأزارقة وحدهم أم الخوارجُ كلها قال بل الخوارجُ كلها قال: قلت فإنَّ السلطانَ يظلمُ الناسَ ويفعل{يعني هؤلاء يخرجونَ بسبب جَوْرِ الحكامِ والولاة} قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزةً شديدة ثم قال ويحكَ يا ابنَ جُمهان عليك بالسوادِ الأعظم عليك بالسوادِ الأعظم إن كان السلطان يسمعُ منك فائتهِ في بيتهِ فأخبرهُ بما تعلم فإن قَبِلَ منك وإلا فدَعْه فإنك لست بأعلمَ منه) الحديثُ أخرجه أيضًا ابنُ أبي عاصمٍ في السُنَه وحسنه الألبانيُ في ظلال الجنة .

 فهؤلاء هم الخوارجُ الأنجاسُ الأرجاس , هؤلاء هم الذين يعيثونَ في الأرضِ فسادا, وهذه طريقةُ السلفِ في المعاملةِ لهم, فإنهم كانوا يُقِيمُونَ عليهم الحُجَة ويعلِّمونَهم ما غابَ عنهم وما جَهِلوه من كتابِ اللهِ وسُنَةِ رسول الله فإن فاؤوا إلى الحق, وإلا فالسيف, وكلما خرجَ قرنٌ قُطِع كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبشري يا أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم, كلما خرجَ قرنٌ قُطِع بإذنِ اللهِ ربِ العالمين, وينبغي لمن يُناظِرُهم أن يكونَ متثبتًا ناطقًا بالكتابِ والسُنَة , أمَّا أن يُقَدَمَ إلى هؤلاء مَنْ هوَ جاهلٌ بمعني لا إله إلَّا الله, فهذا هو العبثُ بعينه, وهذا يُمَكِّنُ لهؤلاء في ضلالاتِهم, فنسألُ اللهَ ربَ العالمينَ أن يُبَصِرُنا والمسلمينَ بأمرِ ديننا, وأن يُقِيمَنا على الصراطِ المستقيم حتى نَلْقَى وجههُ الكريم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم .

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين, وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له هو يتولى الصالحين, وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاةً وسلامًا دائمَينِ مُتلازمين إلى يوم الدين. أما بعد:

فالخوارج الأنجَاسُ الأرجَاس يرمونَ كلَّ مَنْ تكلمَ في بدعتِهم وحَذَّرَ مِنهُم ومِنْ ضلالَتِهم بأنَّه مُرجئ, وأنَّه لا يُبَالِي بشريعةِ اللهِ تعالى اتُبِعَتْ أمْ لَمْ تُتَبَعْ وهذا كَذِبٌ مَحْضْ وبُهتانٌ وزور, فالمسلمُ الَّذي يؤمنُ باللهِ ورسولِه لا يترددُ في العملِ بأمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ وأمرِ رسولِه صلى الله عليه وسلم, لأنَّ ذلك مِنْ مُقتَضى إيمَانِه, فقد قالَ اللهُ جلَّ وعلا (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ), والناسُ في تشرِيعَاتِهم يَخْتارون لأنفسهم الأصْلَحَ في ظَنَّهم ولا أصلَحَ مما اختارهُ اللهُ لهم في شَرِيعَتِه, حيثُ يقولُ عزَّ وجل (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وكلُّ شريعةٍ غيرَ شريعةِ الله فنحنُ مَنْهِيونَ عن اتِّباعِها, لأنَّ اللهَ جلَّ وعلا قد قالَ, ولا قولَ مع قولِ الله عزَّ وجل (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِين) ولهذا فإنَّه يستحيلُ أنْ يختارَ المسلمُ لنفسه حّكّمًا غيرَ الله ذي الحِكْمَةِ والعدل, كيف وهو يقرأُ قولَ اللهِ عزَّ وجل (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وذلك لأنَّ كلامَ الله إمَّا خبرٌ وإمَّا حُكْم فخبرهُ عزَّ وجلَّ صِدق، و حُكمُه عزَّ وجلَّ عدل، و لذلك قالَ عزَّ وجلَّ عَقِبَ هذه الآية (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .

عَنْ هانئ ابن زيدَ رضيَ اللهُ عنه (أنَّه لمَّا وَفَدَ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه سَمِعَهم النبيُ صلى الله عليه وسلم يُكَنونَه بأبي الحَكَم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنَّ اللهَ هو الحَكَمُ و إليه الحُكْم، فلم تُكَنى بأبي الحَكَم؟ فقال: إنَّ قومي إذا اختلفوا في شيءٍ أتوني فحَكَمتُ بينَهم، فرضِيَ كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحسن هذا, فما لك من الولد؟ فقال: لي شُرَيحٌ ومسلمٌ وعبدُالله، فقال: فمن أكبُرهم؟ قال: شُريح، قال: فأنت أبو شُرَيح) رواه أبو داود والنسائي بإسنادٍ صحيح .

و كيف لا يكون الأمرُ كذلك، و قد أعطى الله تعالى الحقوقَ لأهلها من غيرِ حيفٍ ولا نسيان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إنَّ الله أعطى كلَّ ذي حقٍ حقه) الحديثَ، أخرجه الترمذي، و صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي وغيره .

فما كان مِنْ خبرِ القرآنِ والسُنَّةِ صَدَّقَ به المؤمن، و أيقَنَ به قلبُه ولو لَمْ يبلُغه عقلُه، كما قال الله جلَّ وعلا (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) وما كانَ مِنْ حُكْمِ القرآنِ والسُنَّة تَحَاكَمَ إليه المؤمنُ مُنشَرِحَ الصدر، ولو كانَ فيه ذَهابُ شيء من حَظِهِ العاجل، قال الله عزَّ وجل (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) .

قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ الله تعالى في المدارج بعد أن ذكرَ الحديث الذي رواه مسلم (ذاقَ طعمَ الإيمان من رضيَ باللهِ ربا، و بالإسلامِ دينا، و بمحمدٍ صلى الله عليه وسلمَ رسولا)، وكذلك عندما ذكرَ الحديثَ الَّذي رواه مسلمٌ أيضًا بلفظ (مَنْ قالَ حينَ يسمعُ النداء رضيتُ باللهِ ربا، و بالإسلامِ دينا، و بمحمدٍ رسولا، غُفرت له ذنوبه)

قال الإمامُ العلامة ابنُ القيمِ رحمه الله " وهذان الحديثان عليهما مدارُ مقامات الدين، وإليهما ينتهي، و قد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانَهُ وألوهيته، والرضا برسوله والانقيادَ له، والرضا بدينهِ والتسليمَ له، و من اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصِّديقُ حقا، وهي سهلةٌ بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمورِ عند حقيقة الامتحان، و لا سيما إذا جاء ما يخالفُ هوى النفسِ ومرادها، من ذلك تَبَيَّنَ أنَّ الرضا كان لسانه به ناطقا، فهو على لسانه لا على حاله .

وأمَّا الرضا بنبيه رسولا فيتضمنُ كمالَ الانقيادِ له, والتسليمَ المطلقَ إليه بحيث يكونُ أَوْلَى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلَّا من مواقع كلماته، ولا يحَاكِمُ إلَّا إليه، ولا يُحَكِّمُ عليه غيرَه، ولا يرضى بحُكْمِ غيره البَتَّة، لا في شيءٍ من أسماءِ الربِ وصفاته وأفعاله، ولا في شيءٍ من أذواق حقائق الإيمانِ ومقاماته، و لا في شيء من أحكامِ ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحُكْمِ غيرِه، ولا يرضى إلَّا بحُكْمِه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنْ عَجَزَ عنه كان تحكِيمُه غيرَه من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يُقِيتُه إلَّا من الميتة والدم، وأحسنُ أحواله أنْ يكونَ من بابِ الترابِ الَّذي إنَّمَا يَتَيَمَمُ به عند العجزِ عن استعمال الماء الطهور .

وأمَّا الرضا بدينه فإذا قالَ أو حَكَمَ أو أَمَرَ أو نهى، رضيَ كلَ الرضا، ولم يبق في قلبهِ حرجٌ من حُكْمِه، وسَلَّمَ له تسليما، ولو كان مخالفًا لمرادِ نفسه أو هواها، أو قولِ مُقَلَدِهِ وشيخِه و طائفتِه, وهَهُنا يُوحِشُكَ الناس كلهم إلَّا الغرباءَ في العالم، فإياكَ أنْ تستوحِشَ من الاغتراب والتفرُد، فإنَّهُ واللهِ عينُ العزةِ والصحبةِ مع اللهِ  ورسوله، وروح الأنس به، والرضا به ربا و بمحمدٍ صلى الله عليه وسلمَ رسولا و بالإسلام دينا.

بل الصادقُ كلما وَجَدَ مسَّ الاغتراب، وذاقَ حلاوته، وتَنَسَّمَ روحَه قال: اللهم زدني اغترابًا ووَحشَةً من العالم وأُنسًا بك، وكلما ذاقَ حلاوة هذا الاغتراب وهذا التَفَرُد، رأى الوَحْشَةَ عينَ الأُنسِ بالناس، والذلَ عينَ العزِ بهم، والجهلَ عينَ الوقوفِ مع آرائهم وزُبالةِ أذهانهم، والانقطاعَ عينَ التَقيدِ برسومِهم وأوضاعِهم، فلم يُؤْثِر بنصيبهِ من اللهِ أحدًا من الخلق، ولم يَبِع حَظَهُ من الله بموافقتهم فيما لا يُجْدِي عليه إلَّا الحِرمان, وغايتُه مودةُ بينِهم في الحياةِ الدنيا، فإذا انقطعت الأسباب، وحقَّت الحقائق، وبُعْثِرَ ما في القبور، و حُصِّلَ ما في الصُّدُور، وَبُلِيَتْ السرائر، لم يَجِدْ من دونِ مولاهُ الحقِ من قوةٍ ولا ناصر، تَبَيَّنَ له حينئذٍ مواقعُ الربحِ والخسران، وما الَّذي يَخِفُّ أو يَرْجَحَ به الميزان، والله المستعان وعليه التكلان" انتهى كلامهُ رحمه الله تعالى .

من صفاتِ المنافقين إرادةِ التَحَاكُمِ إلى غيرِ شريعةِ ربِ العالمين، قالَ اللهُ عزَّ وجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ( 60 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) فاحذر من الإعراضِ عما أنزَله الله من حُكْمٍ في كتابه وعلى قلبِ رسوله صلى الله عليه وسلم, فقد يكونُ الحُكْمُ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ كفرا، وفي هذا تفصيلُ السلفِ وهو معلوم فتخرجَ جينئذٍ من ملةِ الإسلام، وتخسرَ الدنيا والآخرة، فلا تسعدُ في الدنيا بالحُكْمِ البشري الَّذي اخترتَه على حُكْمِ الله وفَضَلتَهُ عليه أو سَاوَيتَهُ به, إذ لا سعادةَ إلَّا في ظلِّ ما أنزلهُ الله، ولا تسعدُ في الآخرة, إذ كنتَ في عِدادِ أعداءِ الله الَّذينَ قال فيهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) ولا تزالُ الأمم في معيشةٍ ضنك ما أعرضت عن الوحي، قال اللهُ عزَّ وجل (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ) .

و ما نراهُ في مجتمعاتِ المسلمين من اختلافِ الرأي وتفككِ الأواصِرِ ولَعْنِ بعضهم بعضا هو نتيجةٌ حتميةٌ لِبُعْدِ الناس عن العملِ بالكتابِ والسُنَّة،وقد أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرجَ ابن ماجه والحاكمُ وصححه الألباني عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بوجهِه، فقال: (يا معشرَ المهاجرين خمسٌ إذا ابتليتم بِهِنْ، و أعوذُ بالله أنْ تُدرِكُوهُنْ: لم تظهر الفاحشةُ في قومٍ حتى يعلنوا بها إلَّا فشا فيهم الطاعونُ والأوجاع التي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهم الَّذينَ مَضُوا، ولَمْ يَنقُصوا المكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذُوا بالسِنِينَ وشدةِ المَؤنَةِ وجَوْرِ السلطان عليهم، ولَمْ يمنعوا زكاةَ أموالِهم إلَّا مُنِعُوا القَطْرَ مِنْ السماء، فلولا البهائمُ لَمْ يُمْطَروا، ولم يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وعَهْدَ رسولِه إلَّا سَلَّطَ اللهُ عليهم عدوًا مِنْ غيرهم فأخَذُوا بعضَ ما في أيدِيهِم، وما لَمْ تَحْكُمْ أئمَتُهم بكتابِ الله، ويتخيروا مما أنزلَ الله إلَّا جَعَلَ الله بَأْسَهُم بينهم) .

قالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ الله عَقِبَ إيرادِهِ موضِعَ الشاهدِ من هذا الحديث " وهذا مِنْ أعظمِ أسبابِ تغيير الدول، كما قد جَرَى مِثْلُ هذا مرةً بعدَ مرة، في زماننا وغيرِ زماننا، ومَنْ أرادَ اللهُ سعادته, جَعَلَهُ يَعتَبِرُ بما أصاب غيره، فيسلكَ مَسْلَكَ مَنْ أيَّدَهُ اللهُ ونصره، و يتجنبُ مسلكَ مَنْ خَذَلَهُ الله وأهانه ".

فهيهاتَ هيهات أنْ يَعِزَّ قومٌ وَلَّوْا شريعة ربهم ظهورهم، أخرج أحمد في 'الزهد' و أبو نعيمٍ في 'الحلية'  بسندٍ صحيح عن جبيرِ بن نفير قال: (لمَّا فُتِحَتْ قُبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداءِ جالسًا وحدَه يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يُبكِيكَ في يومٍ أعَزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه؟ فقال: ويحكَ يا جبير! ما أهونَ الخلقَ على اللهِ عزَّ وجل – إذا أضاعوا أمره, بينما هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ لهم المُلْك، تركوا أمرَ الله فصاروا إلى ما ترى) .

و على هذهِ الحال جَرَتْ سُنَّة اللهِ في دول الإسلام، قال الشيخ إسماعيلُ الحُسيني في كتابه { تحذيرُ أهلِ الإيمانِ عن الحُكْمِ بغيرِ ما أنزلَ الرحمن } " وكذلك الشام، كان أهلُه في أولِ الإسلامِ في سعادةِ الدنيا والدين، ثم جَرَتْ فِتَنْ، وخَرَجَ المُلْكُ من أيديهم، ثم سُلَّطَ عليهم المنافقونَ الملاحدة والنصارى بذنوبهم، واستولَوا على بيتِ المقدس و قبرِ الخليل، وفتحوا البناءَ الذي كان عليه وجعلوهُ كنيسةً، ثم صَلَحَ دينُهم فأعَزَّهُم الله ونَصَرَهم على عدوِهم لمَّا أطاعوا الله ورسوله و اتَبَعُوا ما أُنزِلَ إليهم من ربهم, وكذلك أهلُ الأندلس كانوا رقودًا في ظلالِ الأمن وخفضِ العيشِ والدَعَة، فغَمَطُوا النِعْمَة، وقابلوها بالأَشَرِ والبَطَر، فاشتغلوا بمعاصي اللهِ تعالى وأكَّبُوا على لَهْوِهِمْ ولم يتقوا مواقعَ سخطِ ربهم ومَقْتِه، ففعلَ اللهُ بهم ما لا يحصرهُ قلمُ كاتب، ولا يحصيهِ حسابُ حاسب، بتَسلِيطِ عَدُوِهم عليهم حتى مَزَّقَهُم اللهُ كلَّ مُمزق، و فَرَّقَهم أيادي سبا، وارتدَّ بعضِهم على عقِبِه ركونًا إلى الدنيا الفانية والحُظُوظِ العاجلة، ومَنْ قرأ تاريخَهم عَلِم ما كانَ القومُ عليه، و ما صاروا إليه، وفي التاريخِ أكبرُ عبرةٍ لمن اعتبر".

وقَابِلْ بين ما وَصَلَ إليه أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ العِزِّ مع القِلَّة، وما وَصَلَ إليه غيرُهم مِنْ الذُلِ مع الكثرة، قارن تُنْبِيكَ المُقارنةُ بالفارقِ الكبيرِ بين صاحبِ الطاعةِ وصاحبِ المعصية .

قال الشيخ اسماعيلُ الحُسيني في كتابه السابق " ألا ترى أنَّ الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم بعد وفاةِ نبيهِم صلى الله عليه وسلم فتحوا ما فتحوا من الأقاليمِ والبلدان، ونشروا الإسلامَ والإيمانَ والقرآن في مدةِ نحوِ مائةِ سنة، مع قِلةِ عَدَدِ المسلمينَ وعُدَدِهم وضِيقِ ذاتِ يَدِهِم، ونحنُ مع كثرةِ عَدَدِنا و وَفْرَةِ عُدَدِنا وهَائلِ ثروتِنا وطائل قُواتِنَا، لا نزدادُ إلَّا ضَعفًا وتَقَهقُرًا إلى الوراء، وذُلًا وحقارةً في عيونِ الأعداء " .

فالأمرُ كلُّه راجعٌ إلى اتّباع أمرِ اللهِ وأمرِ رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فإذا حَكَّمَ المسلمُ في نفسه كتابَ ربِه ، وسُنَّةَ نبيهِ صلى الله عليه وسلم كان حَاكِمًا بما أَنزَلَ الله، لأنَّ الحُكْمَ بِمَا أَنزَلَ الله ليس خاصًا بالولاةِ والحكامِ وَحْدَهم ـ كما يَدَّعِي ذلك الخوارجُ الأنجَاسُ الأرجَاس, فإنهم لا يُبَالُون بما خُولِفَ فيه ربُ العالمين وخُولِفَ فيه المصطفى الأمين صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ الشِركِ المُبِين ، لا يلتفِتونَ إليه ويقولون ينبغي علينا أنْ نُركِّزَ على شركِ القصور قبل الالتفاتِ إلى شركِ القبور ، فلا يُبَالُونَ بِمَا أرسَلَ اللهُ به رُسُلَه ، فإن اللهَ ربَ العالمينَ أرسلَ المرسلينَ لِمَحْوِ الشرك ، والدعوةِ إلى التوحيد, وهؤلاء يزوِّرونَ دينَ اللهِ ربِ العالمين, ويؤولونه على غيرِ وجهِه كما قالَ المأمون وكان مِنْهُ مَا كانَ ضِدَ هذا الدين لأنه تَشَيَّعَ, وهو أمرٌ عجيب ، ولأنه صارَ معتزِليًا, وهو أمرٌ غريب ، ولأنه أمَرَ بترجمةِ كُتُبِ الأوائلِ فأفسدَ على المسلمين ديانَتَهُم وعقيدَتَهم ، ولكنهُ قالَ لبعضِ أولئك.. لبعضِ أولئكَ الخوارجِ لمَّا ناظرَهُ فقال له : إنَّ الإجماعَ مُنعقد على ما أذهبُ إليه, فتعجبَ الرجل ، فقالَ : أين هذا ؟ فتلا عليهِ آيةً من كتابِ اللهِ جلَّ وعلا ،

فقالَ لهُ : إينَ الدليلُ في هذهِ الآية ؟

قال : إنَّمَا أجمَعوا على ذلك وأنتم ذهبتم إلى غير ما أجمَعوا عليه بتأويلهم ، فكما أجمَعتم على تنزِيله فأجمِعوا على تأويلِه ولا تُخَالِفُوا المُتقدمينَ من سلفِكم الصالحين في فتنةِ العصرِ هذه من الحُكْمُ بغيرِ ما أَنزَلَ اللهُ ربُّ العالمين .

ألَا إنَّ فتنةَ العصر, هم أولئك الخوارجُ الأنجَاسُ الأرجَاس عَامَلَهم الله تعالى بعَدلِه, فينبغي علينا أنْ نَعْلَمِ ما يَدْعُونَ إليه ، وما يذهبونَ إليه مِنْ مذهبُهم الفائل ، ومِنْ طريقهم الذي يؤدي إلى الهَلَكَةِ في الدنيا والآخرة عياذًا بالله ولياذًا بجنابهِ الرحيم .

 وكما مَرَّ لَعَنَ اللهُ الأزارقة، لَعَنَ اللهُ الأزارقة، لَعَنَ الله الأزارقة؛ كلابُ أهلِ النار يُعَيِنُهم هكذا ، يُعَيِنْ الرؤوس مِنْ الخوارجِ المقتولين لما نُصبت على دَرجِ مسجدِ دمشق, يقول : كلابُ أهلِ النار ، كلابُ أهلِ النار ، كلابُ أهلِ النار . لَعَنَ اللهُ الأزارقة ؛ لَعَنَ اللهُ الأزارقة ؛ لَعَنَ اللهُ الأزارقة ؛ لَعَنَ اللهُ الخوارجَ أجمعين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله واصحابه وسلم تسليمًا كثيرا.