فقد مَرَّت الأدلةُ بفضل الله تبارك وتعالى في الرد على الملحدين بما لا يَدَعُ لهم مَخْرَجًا إلا أن يُقِرُّوا بخالقٍ لهذا الكونِ الكبير، ثم جاء بعدَ ذلك سؤالٌ، وهو: إذا كان هذا الكون مخلوقًا لخالقٍ؛ فمَنْ هو هذا الخالق؟
وقد مَرَّت الإجابةُ عن هذا السؤال، وأنَّ ما يَهْدِي إليه الدليلُ العقليُّ هو ما قرره النصُّ القرآني، وكذا ما وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلق بصفات ربنا جل وعلا.
وهذه الطريقةُ التي مَرَّت؛ إنما تَكُونُ في الرد على الملحدين إذا أنكروا وجودَ الخالقِ جل وعلا بناءً على شبهاتٍ عقلية.
وأما إذا كان إلحادُهم إلحادَ بَطْنٍ وفَرْجٍ؛ فهؤلاء في الحقيقةِ لا يَنْفَعُ معهم إلا النَّعْلُ، وأما العقلُ؛ فَهُمْ بِمَبْعَدَةٍ عنه!!
على كلٍّ حالٍ؛ منهجُ القرآنِ فِي الاستدلال بالآيات الكونية على وُجُود الخَالِق الْعَظِيمِ هو المنهجُ الَّذِي تُقِرُّه الفطرةُ، ويُسَلِّمُ له العقلُ، ويَشْهَدُ به الحس، إلا أن الْمُلْحِدِينَ – كما هو معلوم – ينكرون أصلًا أنْ يكونَ القرآنُ مِن لَدُنْ ربِّنا جَلَّ وَعَلَا؛ لِأَنَّهُم ينكرون وُجُود الباري سبحانه، وبالتالي ينكرون الوحيَ، وينكرون الرسالةَ، وينكرون البعثَ، وينكرون الجزاءَ.
في كتاب «العقيدة فِي الله»:
يَأْخُذُنا القرآنُ فِي جَوْلاتٍ وجَوْلَاتٍ نَرْتَادُ آَفَاقِ السماءِ، ونَجُولُ فِي جَنَبَاتِ الْأَرْضِ، ويَقِفُ بنا عَنْد زَهْرَاتِ الْحُقُولِ، ويَصْعَدُ بنا إِلَى النُّجُومِ فِي مَدَاراتِهَا، وهو فِي كلِّ ذَلِكَ يَفْتَحُ أبصارَنا وبصائِرَنَا، فَيُرِيَنَا آثارَ قدرةِ اللهِ وتقديرهِ فِي المخلوقات، ويَكْشِفُ لنا أسرارَ الخلقِ والتكوينِ، ويَهدِينا إِلَى الحكمةِ من الخلقِ والإيجادِ والإنشاءِ، ويُبَيِّنُ عَظِيمَ النِّعَمِ التي حَبَانَا بها ربُّنا تبارك وتعالى فِي ذَوَاتِ أنفسِنا، وفي الكونِ مِنْ حَوْلِنَا.
وإذا طَالَعْتَ الكثيرَ مما تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الْعِلْمُ والْعُلَمَاءُ فِي شَتَّى جَوَانِبِ الحياةِ، يُبَيِّنُونَ أَسْرَارَ الخَلْقِ، ودَلَالةَ الخلقِ على الخَالِقِ، إذا طَالَعْتَ ذلك؛ فَلَنْ تَجِدَ فِي شيءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّه ما تَجِدُهُ فِي القرآنِ مِنْ جمالِ وَصْفٍ، وَوَفْرَةِ عِلْمٍ، واسْتِثَارَةِ مَشَاعِرَ، وحُسْنِ تَوْجِيهٍ، ودِقَّةِ اسْتِنْتَاجٍ، وكيف لا يكونُ كذَلِكَ وهو تَنْزِيلُ الحكيمِ الحميدِ؟!!
تَعَالَ فَلْنَقُمْ بِجَوْلَةٍ مع الآياتِ القرآنيةِ؛ نَرْتَادُ هذا الكونَ لِيُرِيَنَا كيف تَعْمَلُ هذه القُدْرَةُ العظيمةُ فِي مُخْتَلَفِ أَرْجَاءِ الكونِ:
والبحرُ مخلوقٌ لنا أَيْضًا، وفي خَلْقِهِ على ما هو عليه ما يُحَقِّقُ لنا الكثيرَ والكثيرَ؛ «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تشْكُرُونَ (14») [النحل: 14].
وقد حَثَّ القرآنُ عبادَ الله على النظر فِي آيات الله الكونية: الْأَرْضِ، والسماءِ، وما فِيهما وما بينَهما، وجَعَلَ النظرَ والتأملَ فِي ذَلِكَ مِنَ الذِّكْرَى التي تَنْفَعُ المؤمنينَ، وهذا ما سُمِّيَ ب«قانونِ السَّيْرِ والنَّظَرِ»؛ لِكَثْرَةِ حَثِّ الآياتِ القرآنيةِ على ذَلِكَ، وقد يكونُ السَّيْرُ والنَّظَرُ حِسِّيَّانِ، فَيَسِيرُ المرءُ على قدميه، وينتقل من بلدٍ لِآَخَرَ، كما قد يكون النظر بالبصر، وقد يكونان – يعني السير والنظر - بالفكر والعقل.
وقد جاء الأمر فِي القرآن أمرًا عامًا؛ «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» [يونس: 101]، وقد يأتي أمرًا خاصًا؛ «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ».
إنّ الآياتِ تبين عدم صلاحِيَةِ الآلهة الْمُدَّعَاةِ للعبادة والتقدير، فالله وحده الخَالِقُ للسماء والأرض، المنْزِلُ للماء من السماء، الْمُنْبِتُ به الحدائقَ التي تَسُرُّ النفس، وتُبْهِجُ النظرَ، وهو الَّذِي جعل الْأَرْض قرارًا وسَيَّرَ خلالها الأنهار، وثبتها بالجبال، فهو المعبود الْحَقّ، وغيره لم يفعل شيئًا، فلا يستحق أن يعبد من دون الله.
وعلينا أن نستخدم هذا النوع من الاستدلال فِي مواجهة الْكَفَرَةِ والْمُلْحِدِينَ، فقد استخدمه الرسلُ مِنْ قَبْلُ، وأَكْثَرُوا مِنَ الاحتجاجِ به، فهذا إبراهيمُ خَلِيلُ الرحمنِ – عليه الصلاةُ والسلامُ - يُنَاقِشُ الملحِدَ، ويُقِيمُ عليه الحجةَ بهذا النوعِ مِنَ الاستدلالِ، بحيث يَخْرَسُ لسانُه ويَدْهَشُ فِكْرُهُ؛ «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258»)[البقرة: 258].
ولكنَّ آياتِ اللهِ فِي الكونِ لا تَتَجَلَّى على حقيقتِها الْمُوحِيَةِ إلا للقلوبِ الذاكرةِ العابدة؛ لأنَّ هذه القلوبَ انكشفت عَنْها الْحُجُبُ، وتَفَتَّحَتْ واتَّصَلَتْ بالكون العجيب، فالقرآنُ أقام الوُصْلَةَ بين القلبِ البَشَرِيِّ وما في هذا الكونِ الهائلِ الجميل، وهذه الوُصْلَةُ هي التي تجعل للنظر فِي كتابِ الكونِ والتعرفِ إِلَيْهِ أثرًا فِي هذا القلب البَشَرِيِّ، وقِيمَةً فِي الحياة البشرية.
إنَّ الخلقَ يدل على الخَالِق، وعلى صفات الخَالِق الْعَظِيم.
إذا نَظَرْنَا إِلَى آلةٍ دَقِيقَةِ الصُّنْعِ، بَدِيعَةِ التكوينِ، غَايةٍ فِي القوةِ وَالمَتَانَةِ، تَقُومُ بِعَمَلِهَا على خيرِ وَجْهٍ؛ فلا بد أنْ نُدْرِكَ بِلَا كَثِيرِ تَفْكِيرٍ أنَّ صَانِعَهَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ الحَيَاةِ، بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَنُثْبِتُ له قُدْرَةً وَإِرَادَةً، إِلَى آَخِرِ تلك الصفاتِ التي تُنْبِأُنَا عَنْها تلك الآلة، وهذا الكونُ يَشِي ويُعَرِّفُ بكثيرٍ مِنْ صفاتِ الخَالِقِ الْعَظِيمِ، فَمِنْ ذَلِكَ:
قُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ:
هذا الكونُ الهائلُ الضَّخْمُ الشَّاسِعُ الواسعُ، السائرُ وَفْقَ نِظَامٍ دَقِيقٍ؛ لا بد أنْ يَكُونَ صَانِعُهُ حَيًَّا قديرًا عليمًا مُرِيدًا، والله خَلَقَ الخلق بهذا التكوين الهائل، وهذا النظامِ الكاملِ؛ لِيُعَرِّفَنَا بقدرِتِه وعِلْمِهِ؛ «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12»)، ولا بد أنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الَّذِي يَحْكُمُ هذا الكونَ عِلْمًا شاملًا كاملًا؛ «وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59»)، وهو حكيمٌ؛ بل هو الحكيم.
فالنظر فِي هذا الكون يَشِي بأنه مُحْكَمٌ مُتْقَنٌ، قد وُضِعَ كُلُّ شيءٍ منه فِي مَوْضِعِه المناسِب، وخُلِقَ بالمقدارِ المناسِب، فِي غايةِ الجَوْدَةِ والإتقانِ؛ «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ».
«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ»، لِذَلِكَ فإن الناظر المتبصر فِي خلق الله لا يرى إلا الكمال والإتقان، ولو بحث عَنْ عيب فِي الخلق ما وجده؛ «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4»).
ما ذُكِرَ من دلالةِ الخلقِ على بعضِ صفاتِ خَالِقِهِ يُرَادُ به التمثيلُ، لا الحصرُ والاستقصاءُ، وهو تمثيلٌ يَفْتَحُ البابَ للاستدلالِ والبحث، وإلا ففي الكونِ الكثيرُ من الآياتِ الدَّالَّةِ على عَظَمَةِ الله وعِزَّتِهِ، ولُطْفِهِ وحِكْمَتِهِ.
وقد جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ أَنْ يُجِِيبَ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ؛ كائنًا من كَانَ، حتى لو كَانَ كافرًا ما دَامَ تَوَجَّهَ إِلَى الله؛ «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ».
فهذا ما تَيَسَّرَ جَمْعُهُ وتَحْرِيرُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بهذا الأَمْرِ الْجَلَلِ، وهو «الرَّدُّ عَلَى الملحدين».
أسأل اللهَ أَنْ يَنْفَعَ به أقوامًا ضَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ عن الصراطِ المستقيمِ، وأَنْ يُثَبِّتَ به المؤمنين، وأَنْ يَجْعَلَهُ لنا ذُخْرًَا يَوْمَ الدِّين، إنه تَعَالَى على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ.
وبَعْدُ:
فهذا ما مَنَّ اللهُ تعالى به مِنْ جَمْعٍ وتَرْتِيبٍ، وَتَحْرِيرٍ وَتَقْرِيبٍ، وَشَرْحٍ وَتَعْلِيقٍ لِهَذَا الْمَوْضُوعِ الْجَلَلِ «الردُّ على الملحدين».
وقد كان ذلك - بفضل الله تعالى ونِعْمَتِهِ، وَحَوْلِهِ وَطَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَجُودِهِ سبحانه وَمِنَّتِهِ – في مَجَالِسَ، أَوَّلُهَا: في يومِ الخميسِ، التاسِعِ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ، سَنَةَ خمسٍ وثلاثينَ وأَرْبَعِمِائَةٍ وأَلْفٍ مِنْ هِجْرَةِ سَيِّدِ وَلَدِ آَدَمَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الْمُوَافِقِ لِلثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ دِيسَمْبِر، سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَلْفَيْنِ مِنَ التَّارِيخِ الصَّلِيبِيِّ.
تفريغ الأخ الفاضل: أبو الفضل محمود بن سيد جابر –وفقه الله وحفظه-.
وهذا التفريغ بتوفيق الله ومِنتهِ ليكون هذا الموضوع المهم على طرف بنانِ كل طالب علم وكل مسلم حتى يمُنَّ اللهُ بطباعة الكتاب في أفضل صورة، وما كان من خطأ في التفريغ فليُدلنا عليه إخواننا وليتواصلوا مع إخواني في صفحة تفريغات خطب الجمعة كاملة للعلامة رسلان –حفه الله- وموقع تفريغات شيخ المحنة العلامة رسلان. والله الموفق والمستعان