وقالَ تعالى إخبارًا عن أنبيائِهِ ورُسُلِهِ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90].
وهذه الطريقةُ أحسنُ مِن الطريقةِ الأولى، ودعوَى الاختلافِ في مُسَمَّى الدعاء، وَبِهَذَا تَزُولُ الإشكالاتُ الواردةُ على اسمِ الصَّلاةِ الشرعيةِ؛ هل هو منقولٌ عن موضعِهِ في اللغةِ فَيَكُونُ حقيقةً شرعيةً أو مَجَازًا شرعيًّا.
فَعَلَى هذا تكونُ الصَّلَاةُ بَاقيةً على مُسَمَّاهَا في اللغةِ وهو الدُّعَاءُ، والدُّعَاءُ دعاءُ عبادةٍ ودعاءُ مسألةٍ، والمُصَلِّي مِن حينِ تكبيرِهِ إلى سلامِهِ بين دعاءِ العبادةِ ودعاءِ المسألةِ، فهو في صلاةٍ حقيقيةٍ لا مجاز ولا منقولة، لَكِن خُصَّ اسمُ الصَّلَاةِ بهذهِ العبادةِ المخصوصةِ كسائرِ الألفاظِ التي يَخُصُّهَا أهلُ اللغةِ والعُرْفِ بِبَعْضِ مُسَمَّاهَا؛ كالدَّابَّةِ والرأسِ ونحوِهِمَا، فهذا غايتُهُ تخصيصُ اللفظِ وَقَصْرُهُ على بعضِ موضوعِهِ، وَهذا لا يُوجِبُ نَقْلًا ولا خروجًا عن موضوعِهِ الأصليِّ.
هذه صلاةُ الآدمِيّ.
وَأَمَّا صلاةُ اللهِ سبحانَهُ على عبدِهِ؛ فَنَوْعَان: عامةٌ وخاصةٌ:
*أَمَّا العامةُ: فهي صلاتُهُ تَعَالَى على عبادِهِ المؤمنين، قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ﴾ [الأحزاب: 43]، ومِنْ دعاء النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- بالصلاةِ على آحادِ المؤمنين كقولِهِ: «اللهم صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى». متفقٌ عليه.
فاختلفَ الناسُ في معنى الصلاةِ منه سُبْحَانَهُ على أقوال:
*أَحَدُهَا: أَنَّهَا رحمتُهُ.
قال المُبَرِّدُ: «أصلُ الصلاةِ: الرَّحْمَةُ، فهي مِن اللهِ رحمة، وَمِن الملائكةِ رِقَّة واستِدْعَاءٌ للرحمةِ مِن اللهِ»، وهذا القولُ هو المعروفُ عند كثيرٍ مِن المُتَأخرِين.
*والقولُ الثَّاني: أنَّ صلاةَ اللهِ تعالى مَغْفِرَتُهُ.
وقد ذَكَرَ البخاريُّ في «صحيحه» عن أبي العالية قال: «صَلَاةُ اللهِ عَلَى رَسُولِهِ: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ المَلَائِكَةِ». أخرجهُ البخاريُّ مُعلقًا مجزومًا به، ووصلَهُ إسماعيلُ القاضي، وسندُهُ مُحْتمِلٌ للتحسين.
فَمَعْنَى الصَّلَاةِ: الثناءُ على الرسولِ، والعنايةُ به، وإظهارُ شرفِهِ وفضلِهِ وحُرمتِهِ، كما هو المعروفُ مِن هذه اللفظة، وقيل: الصلاةُ المأمورُ بها في قولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب:56]: هي الطلبُ مِن الله ما أخبرَ به عن صلاتِهِ وصلاةِ ملائكتِهِ، وهي ثناءٌ عليه، وإظهارٌ لفضلِهِ وشرفِهِ وإرادتِهِ تكريمَهُ وتقريبَهُ، فهي تتضمنُ الخبرَ والطلب، وسُمِّيَ هذا السؤالُ والدعاءُ مِنَّا نحن صلاةً عليه لوجهيْن:
*أحدُهُمَا: أنه يتضمنُ ثناءَ المُصَلِّي عليه، والإشادةَ بِذِكْرِ شرفِهِ وفضلِهِ، والإرادةَ والمحبةَ لذلك مِن اللهِ تعالى، فَقَدْ تضمنت الخبرَ والطلبَ.
*والوجهُ الثاني: أنَّ ذلك سُمِّيَ مِنَّا صلاةً لسؤالِنَا مِن اللهِ أنْ يُصَلِّيَ عليه، فصلاةُ اللهِ عليه: ثناؤهُ وإرادتُهُ لرفعِ ذِكرِهِ وتقريبِهِ، وصلاتُنَا نحن عليه سؤالُنَا اللهَ تعالى أنْ يفعلَ ذلك به.
وأمَّا ما ذُكِرَ عن ابنِ عباسٍ –رضي اللهُ عنهما- في قولهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56]؛ قال: يُباركون عليه، فهذا لا يُنافي تفسيرَهَا بالثناءِ وإرادةِ التكريمِ والتعظيم، فإنَّ التبريكَ مِن اللهِ يتضمنُ ذلك، ولهذا قُرِنَ بين الصلاةِ عليه والتبريكِ عليه، وقالت الملائكة لإبراهيمَ: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [هود: 73]، وقال المسيح: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ [مريم: 31]؛ قال غيرُ واحدٍ مِن السلفِ: مُعَلِّمًا للخيرِ أَيْنَمَا كُنْتُ، وهذا جزءُ المُسَمَّى، فالمُبارَكُ كثيرُ الخيرِ في نفسِهِ، الذي يُحَصِّلُهُ لغيرِهِ تعليمًا وإقدارًا ونُصحًا، وإرادةً واجتهادًا؛ ولهذا يكونُ العبدُ مُبارَكًا؛ لأن اللهَ بارك فيه وجعلَهُ كذلك، واللهُ تعالى مُتبارَكٌ لأنَّ البركةَ كلَّهَا منه، فعبدُهُ مُبارَكٌ، وهو المُتبارَكُ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: 1].
«بَيَانُ مَعْنَى التَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ»
وأمَّا معنى التسليمِ على النبي -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم-:
فَقَد قالَ فيه المجدُ الفيروز آباديُّ في كتابِهِ «الصِّلاتُ والبُشَرُ في الصلاةِ على خيرِ البَشَرِ»: «ومعناهُ: السَّلَامُ الذي هو اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تعالى عليه، وتأويلُهُ: لا خَلَوْتَ مِن الخيراتِ والبركات، وسَلِمْتَ مِن المَكَارهِ والآفَاتِ، إذ كانَ اسمُ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُذكرُ على الأمورِ تَوَقُّعًا لاجتماعِ معاني الخيرِ والبركةِ فِيهَا، وانْتِفَاءِ عَوَارِضِ الخَلَلِ وَالفَسَادِ عَنْهَا.
قالَ ابنُ جريرٍ -رحمهُ اللهُ تعالى-: «وقولُهُ تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: 181]، يقولك وأَمَنَةٌ مِن اللهِ للمُرسَلين الذين أرسلَهُم إلى أُمَمِهِم الذين ذَكَرَهُم في هذه السورةِ وغيرِهِم مِن فزعِ يومِ العذابِ الأكبرِ، وغيرِ ذلك مِن مكروهٍ أنْ ينالَهُم مِن قِبَلِ اللهِ –تبارك وتعالى-، وتسليمُ اللهِ على أنبيائِهِ مِن الجزاءِ بالمِثْلِ، لسلامةِ ما قالوهُ في ربِّهِم لأقوامِهم مِن الخطأ والزَّللِ، ولتَوقِّيِهم الذنوبَ والمعاصي وسلامتِهِم منها.
ويُستفادُ مِن الآيةِ الكريمةِ: أنْ يُسَلِّمَ المسلمُ على جميعِ الأنبياءِ أيضًا، وعليه ألَّا يهجرَ ذلك ﴿وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾، وتسليمُ المسلمِ على مَن لقيَهُ مِن إخوانِهِ إذا لَقيَهُم هو أفضلُ تحيةٍ يُحيِّي بها المسلمُ إخوانَهُ، وهو مِن غايةِ الإكرامِ لهم، وبها يُحيِّي اللهُ تعالى عبادَهُ المؤمنين ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [الأحزاب: 44]».
وإذا صلَّى المسلم على النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- فليجمع بين الصلاةِ والتسليم ولا يقتصر على أحدِهِما، فلا يقول: صلى الله عليه فقط، ولا: عليه السلام فقط، وهذا قد دلَّت عليه الآيةُ الكريمةُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الاحزاب: 56].
1*فإنَّ الصلاةَ عليه -صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه- صلاةٌ بصلواتٍ: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنَّ رسول اللهِ ﷺ قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا». رواهُ مسلم.
وعن أنس بن مالكٍ –رضي الله عنه- أنَّ رسول الله ﷺ: «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَليُصَلِّ عَلَيَّ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا». أخرجهُ النسائيُّ في «عملِ اليومِ والليلة»، وابنُ السُّنيِّ، والبخاريُّ في «الأدبِ المفردِ» بإسنادٍ صحيح.
وعن عامر بن ربيعةَ –رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دام يصَلَّى عَلَيَّ، فَلْيُقِلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ». أخرجَهُ أحمدُ بإسنادٍ حسن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال: «مَنْ صَلَّى عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ سَبْعِينَ صَلَاةً، فَلْيُقِلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ». أخرجَهُ الإمامُ أحمد، وصحَّحَهُ الشيخُ شاكر.
2*ومن فضائلِ الصلاةِ على النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أنها رَفْعٌ للدرجات وحطٌّ للسيئاتِ:
فعن أبي طلحة الأنصاريِّ –رضي الله عنه- قال: أصبحَ رسول الله ﷺ يومًا طيِّبَ النَّفْس، يُرَى في وجهِهِ البِشْرُ، قالوا: يا رسول الله؛ أصبحتَ اليومَ طيِّبَ النَّفْسِ، يُرَى في وجهِكَ البِشْرُ.
وعن أنس بن مالكٍ –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ». أخرجَهُ أحمد والنسائيُّ بإسنادٍ صحيح.
3*ومِن فضائلِ الصلاةِ على النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أنها كفايةُ للهُمومِ ومغفرةٌ للذنوب:
عن أُبيِّ بن كعبٍ –رضي الله عنه- قال: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا ذهب ثُلُثَا الليل؛ قامَ فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ». قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي –أي: مِن دُعَائي، أي كَم أَجْعَلُ لَكَ مِنْ دُعَائِي صَلَاةً عَلَيْكَ-؟
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه-، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ -عزَّ وَجَلَّ- وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ إلَّا كَانَ عَلَيْهِم حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وإِنْ دَخَلُوا الجَنَّةَ لِلثَّوابِ». أخرجَهُ ابنُ حِبَّانَ بإسنادٍ صحيح.
7*ومن فضائلِ الصلاةِ على رسول اللهِ ﷺ: أنها سببٌ في إجابةِ الدعاء:
عن عليِّ بن أبي طالبٍ –رضي اللهُ عنه- قال: «كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى النَّبيِّ ﷺ». أخرجَهُ الطبرانيُّ في «الأوسطِ»، وحسَّنَهُ الألبانيُّ في «صحيحِ الجامعِ».
8*ومِن فضائلِ الصلاةِ على رسولِ اللهِ ﷺ: أنها تنفي الوصفَ بالبُخلِ والجَفَاءِ:
عن الحُسين بن عليٍّ –رضي الله عنهما- عن النبيِّ ﷺ قال: «الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ». أخرجهُ أحمد والترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ حبان والحاكمُ، وصحَّحَهُ في «صحيحِ الجامع».
وعن أبي ذرٍّ –رضي الله عنه-، أنَّ رسولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ». رواهُ القاضي إسماعيلُ في «فضلِ الصلاةِ على النبيِّ ﷺ»، وصحَّحَهُ الألبانيُّ.
وعن الحسنِ البصريِّ –رحمهُ اللهُ-، قال: قال رسول اللهِ ﷺ: «بِحَسْبِ امْرئٍ مِن البُخْلِ أنْ أُذْكَرَ عندهُ فلا يُصَلِّي عليَّ». وهذا مُرْسَلٌ صحيحٌ.
وعن قتادةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مِن الجَفاءِ -والجفاءُ: تركُ البرِّ والصِّلَة، وهو غِلَظُ الطَّبْعِ- أنْ أُذْكَرَ عندَ رَجُلٍ فلا يُصَلِّي عليَّ». وله أصولٌ وشواهد.
9*ومن فضائلِ الصلاة على النبيِّ ﷺ: أنها دليلٌ إلى الجنةِ:
عن ابن عباسٍ –رضي اللهُ عنهما-، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ نَسِيَ الصَّلاةَ عَلَيَّ خَطِئَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ».
قوَّاهُ لشواهدِهِ ابنُ حجرٍ وغيرُهُ، والنسيانُ هنا: التركُ؛ كقولِهِ تعالى في توبيخِ الفاجرِ: ﴿كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ﴾ [طه: 126]، وليس النسيانُ هاهنا الدهوش.
وعن أبي جعفرٍ محمد بن عليٍّ الباقر –رحمهُ الله-، قال: قال رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَن ذُكِرْتُ عندهُ فلم يُصلِّ عليَّ؛ فقد خَطِئَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ».
10*ومن فضائلِ الصلاةِ على النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أنها دليلٌ إلى محبتِهِ، ومحبتُهُ ﷺ شرطُ الإيمان:
قال رسولُ اللهِ ﷺ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِه وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ». متفقٌ عليه.
وقد تزوَّجَهَا النبيُّ ﷺ بِمَكَّةَ وهو ابنُ خمسٍ وعشرين سنة، وبقيت معهُ إلى أنْ أكرمَهُ اللهُ برسالتِهِ، فآمنت به ونصَرَتْهُ، فكانت له وزيرَ صِدقٍ، وماتت قبلَ الهجرةِ بثلاثِ سنينَ على الأصَحِّ، وقيل: بأربعٍ، وقيلَ: بخمسٍ.
ولها خصائصُ –رضي اللهُ عنها-؛ منها:
*أنه ﷺ لم يتزوج عليها غيرَهَا.
*ومنها: أنَّ أولادَهُ ﷺ كلُّهُم منها إلَّا إبراهيمَ –عليه السلام-؛ فإنه مِن سُرِّيَّتِهِ مارية.
*ومنها: أنها خيرُ نساءِ الأُمَّةِ، واختُلِفَ في تفضيلِهَا على عائشةَ –رضيَ اللهُ عنها- على ثلاثةِ أقوالٍ، ثالثُهَا الوقف.
*ومِنْ خصائِصِهَا -رضي الله عنها-: أنها لم تَسُؤْهُ قَطُّ، ولم تُغَاضِبْهُ قط، ولم يَنَلْها منه إيلاءٌ ولا عَتْبٌ قط ولا هَجْرٌ، وكَفَى به مَنْقَبةً وفضيلةً.
*ومِنْ خواصِّها: أنها أولُ امرأةٍ آمَنَتْ باللهِ ورسولِه مِنْ هذه الأمةِ.
*ومِنْ نِسَائِهِ ﷺ: سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ -رضي اللهُ تعالى عنها-:
كَبُرَتْ عندَه، وأراد طلاقَها، فَوَهَبَتْ يومَها لِعائشةَ -رضي الله عنها-، فأَمْسَكَهَا، كما في «الصحيحين»، وهذا مِنْ خواصِّها؛ أنها آثَرَت بيومِها حِبَّ رسولِ اللهِ ﷺ تقرُّبًا إلى رسولِ اللهِ ﷺ وحُبًّا له، وإيثارًا لِمَقَامِهَا معه، فكان يَقْسِمُ لِنَسائِهِ ولا يَقْسِمُ لها، وهي راضيةٌ بذلك، مُؤْثِرَةٌ لِرِضَا رسولِ اللهِ ﷺ -رضي الله عنها-.
*ومِنْ نِسائِهِ: عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ –رضي الله عنهما-:
وهي عائشةُ حِبُّ رسولِ اللهِ ﷺ، تَزَوَّجَها النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهي بنتُ سِتِّ سنينَ قَبْلَ الهجرةِ بِسَنَتَيْنِ، وقيل: بثلاث، وبَنَى بها بالمدينةِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ في السَّنَةِ الأُولى وهي بِنْتُ تسعٍ، ومات عنها وهي بنتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وتُوُفِّيَتْ بالمدينةِ ودُفِنَتْ بالبَقِيعِ، وأَوْصَتْ أنْ يًصَلِّيَ عليها أبو هريرةَ –رضي الله عنه- سنةَ ثمانٍ وخمسين.
*ومِنْ خصائِصِها:
أَنَّهَا كَانت أَحَبَّ أزواجِ رسولِ اللهِ إليه، كما ثبت ذلك عنه عند البخاري في «الصحيح»، وقد سُئِلَ: أَيُّ الناسِ أَحَبُّ إليك؟
قال: «عَائِشَةُ».
قيل: فَمِنَ الرجالِ؟
قال: «أَبُوهَا».
*ومِنْ خَصَائِصها أيضًا: أنه لم يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غيرَها.
*ومِنْ خَصَائِصها: أنه كان يَنْزِلُ عليه الوحيُ وهو في لِحَافِها دون غيرِها.
فاسْتَنَّ بها بقيةُ أزواجِهِ –رضي الله عنهن-، وقُلْنَ كما قالت.
*ومِنْ خَصَائِصِهَا: أنَّ اللهَ تعالى بَرَّأَها مما رَمَاها به أهلُ الإفكِ، وأَنْزَلَ في عُذْرِها وبراءَتِها وَحْيًا يُتلَى في مَحَارِيبِ المسلمينَ وصلواتِهِم إلى يومِ القيامةِ.
*ومِنْ خصائِصِهَا -رضي الله عنها-: أنَّ الأكابرَ مِنَ الصحابةِ -رضي الله عنهم- كان إذا أَشْكَلَ عليهم أمرٌ مِنَ الدين؛ اسْتَفْتَوْها، فيَجِدون عِلْمَه عندَها.
*ومن خصائصها: أنَّ الناسَ كانوا يَتَحَرَّوْنَ بهداياهُم يومَها مِنْ رسولِ اللهِ ﷺ تقرُّبًا إلى رسولِ اللهِ ﷺ.
*ومِنْ نسائِهِ: حفصةُ بنتُ عمر -رضي الله عنهما-:
تَزَوَّجَها النبيُّ ﷺ، وكانت قبلَه عند خُنَيْسِ بنِ حُذَافَةَ، وكان مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، وممن شَهِدَ بدرًا، تُوُفِّيَتْ سنةَ سبعٍ وقيل: ثمانٍ وعشرين.
*ومن خواصِّها: ما ذَكَره الحافظُ أبو محمدٍ المقدسيُّ في مختصَرِه في السيرةِ: أنَّ النبيَّ ﷺ طَلَّقها، فأتاه جبريلُ، فقال: «إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أنْ تُرَاجِعَ حفصةَ؛ فإنها صَوَّامةٌ قَوَّامةٌ، وإنها زوجتُك في الجنة». وأخرجَهُ أبو داود وابنُ ماجه مختصرًا.
*ومِنْ نسائِهِ: أُمُّ حَبِيبةَ:
وهي: رَمْلَةُ بنتُ صَخْرِ بنِ حربِ بنِ أُمَيَّةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ، هاجَرَتْ مع زوجِها عبيدِ اللهِ بنِ جحشٍ إلى أرضِ الحبشة، فَتَنَصَّرَ بالحبشةِ، وأَتَمَّ اللهُ لها الإسلامَ، وتَزَوَّجَها رسولُ اللهِ ﷺ وهي بأرضِ الحبشةِ، وأَصْدَقَها عنه النجاشيُّ أربَعَمِائةِ دينارٍ، وبَعَثَ رسولُ اللهِ ﷺ عمرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إلى النجاشيِّ يَخْطِبُها، ووَلِيَ نكاحَها عثمانُ بنُ عفانَ، وقيل: خالدُ بنُ سعيدِ بنِ العاص، وهي التي أَكْرَمَتْ فِراشَ رسولِ اللهِ ﷺ أنْ يَجْلِسَ عليه أبوها لَمَّا قَدِمَ المدينةَ، وقالت: إنك امْرُؤٌ مُشْرِكٌ، ومَنَعَتْهُ مِنَ الجلوسِ على فراشِ رسولِ اللهِ ﷺ.
*ومِنْ نسائِهِ: أمُّ سَلَمَةَ:
وهي: هندُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ بنِ المغيرةِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ مَخْزُومٍ –رضي الله تعالى عنها-، تُوُفِّيَتْ سنةَ اثنتينِ وستينَ، ودُفِنَتْ بالبَقيعِ، وهي آخِرُ أزواجِ رسولِ اللهِ ﷺ موتًا، وقيل: بل ميمونة.
*ومِنْ خصائِصِها: أنَّ جبريلَ دَخَلَ على النبيِّ ﷺ وهي عندَه، فَرَأَتْهُ في صورةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ ،كما في «صحيح مسلم».
تَزَوَّجَها النبيُّ ﷺ، وكانت سُبِيَتْ في غزوةِ بَنِي المُصْطَلِقِ، فوَقَعَتْ في سَهْمِ ثابتِ بنِ قيسٍ، فكَاتَبَها، فقَضَى رسولُ اللهِ ﷺ كِتَابَهَا، وتَزَوَّجَهَا سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الهجرةِ، وهي التي أَعْتَقَ المسلمون بسبِبها مائةَ أهلِ بيتٍ مِنَ الرَّقِيقِ، وقالوا: أَصْهَارُ رسولِ اللهِ ﷺ، وكان ذلك مِنْ بَرَكَتِها على قومِها –رضي الله عنها-.
*ومِنْ أزواجِه ﷺ: صَفِيَّةُ بنتُ حُيَيٍّ:
مِنْ وَلَدِ هارونَ بنِ عمرانَ أخي موسى، تزوَّجَها سنةَ سَبْعٍ، فإنها سُبِيَتْ مِنْ خَيْبَرَ، وكانت قَبْلَهُ تحتَ كِنَانَةَ بنِ أبي الحُقَيْقِ، فقَتَلَهُ رسولُ اللهِ ﷺ.
*ومِنْ خصائِصِها: أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ أَعْتَقها، وجَعَلَ عِتْقَها صَدَاقَها، كما في «الصحيحين»".
وهذه المسألةُ نبحثُ فيها مع مسلمٍ لتثبيتِ إسلامِهِ، ونبحثُهَا مع غيرِ المسلمِ، لو كُنَّا نريدُ أنْ نبحثَ مع غيرِ المسلمِ؛ فإننا لا نبحثُ معه في جزئياتٍ تتعلقُ برسولِ اللهِ ﷺ وهو مؤمنٌ بأنه غيرُ رسول، وما دام مؤمنًا بأنه غيرُ رسول؛ فماذا يضيرُهُ أنْ يكونَ ذلك الرسول سلوكَهُ كذا وكذا؟!، ولكنْ ليأتي البحثُ هاهنا في الرسالةِ أولًا، فإنْ اقتنعَ بأنه رسولُ الله؛ فلنا عند ذلك ميزانٌ آخر؛ لأني آمنتُ بالرسولِ بواسطةِ المعجزةِ التي جاءت على يدِهِ، فأصبحَ الرسولُ عندي هو الحَكَمَ في كلِّ كمال، لا آخذُ تصرُّفًا من الرسولِ ثم أنصِبُ أنا له ميزانًا من موازين الكمال أضعهُ لأقيس تصرُّفَاتِ الرسولِ عليه، لأقولَ: هذا يليقُ وهذا لا يليق!! لأنَّ الأصلَ أنْ يكونَ فِعْلُهُ الكمالَ وأنْ يكونَ المقياس، أمَّا أنْ أضعَ مقياسَ كمال وأقول: تعال يا مُحَمَّد يا ابن عبد الله يا مَن بُعِثْتَ رسولًا لكي أقيسَ تصرُّفاتكَ على الميزانِ الذي أضعُهُ؛ فهذا لا يُمكن أبدًا.
إذن؛ فالأصلُ أنَّ الرسولَ ما دامَ ثبتَ عندي أنه رسولٌ صادقٌ في التبليغِ عن الله؛ فَفِعْلُهُ هو الميزان، وبعد ذلك نأتي، لماذا يتهربُ الناسُ الذين يتكلمونَ في الزوجاتِ مِن موقفِهِم مِن الله إلى موقفِهِم مِن رسولِ الله ﷺ؟
مُحَمَّدٌ ﷺ لم يَتَزَوَّج وإنما زُوِّجَ، إذن المفروضُ أنْ يُصَعَّدَ الخلافُ في المسألةِ إلى اللهِ، وليس لمُحَمَّدٍ –صلى الله عليه وآله وسلم-، يقول ربُّنا –جلَّ وعلا-: ﴿عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ﴾ [التحريم: 5]، فكأنَّ ربَّنَا هو الذي يُطَلِّقُ لمُحَمَّدٍ وهو الذي يُزَوِّجُهُ.
وآيةُ امرأةِ زيد بن حارثة: ﴿فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾ [الأحزاب: 37]، فمَنِ الذي زَوَّجَ؟
الذي زَوَّجَ هو اللهُ، إذن مُحَمَّدٌ مُنفعل وليس فاعلًا للأمرِ، فمَن يريدُ أنْ يبحثَ عليه أنْ يُصَعِّدَ المسألةَ إلى اللهِ تعالى ويقول: لماذا فَعَلَ ربُّنَا هكذا؟!!
ثُمَّ الذين يبحثونَ هذا البحثَ؛ يُقالُ لهم: تعالَوا ما دامَ أنَّ المسألةَ إحصائيةً، هل الرسولُ ﷺ وُسِّعَ عليه أو ضُيِّقَ؟
صحيحٌ أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان جامعًا لتِسعة، ومَن كان جَامِعًا لأكثرَ مِن أربعٍ مِن أصحابِهِ، قال له: أَمْسِك أربعًا وفارِق سائِرَهُنَّ، لكنْ هو لم يفعل هذا في نفسِهِ ﷺ لماذا؟ يجبُ أنْ يُسألَ لماذا؟
فيُقَالُ: هؤلاءِ بِخُصُوصِهِنَّ مَطْلُوبَات، بِدَلِيلِ أَنَّنَا لو بَحَثْنَا لَوَجَدْنَا الإِبَاحَةَ في المعدوداتِ لا في العددِ، وهناك فَرْقٌ أنْ يكونَ المباحُ المعدودُ والمباحُ العدد، المباحُ المعدود: يعني أنَّ يكونَ عددُهُنَّ تَسْعَةً بحيثُ إذا ماتت واحدةٌ أو طلَّقَها؛ فعليه أن يأتيَ بواحدةٍ غيرِها، هذا يكونُ لو أُبيحَ له العدد، وإنما الذي أُبيحَ له معدودات بحيثُ إذا نَقَصَت واحدة فليس له أن يأتيَ مكانَهَا بواحدة، وليس له أنْ يستبدلَ واحدةً مكانَ أخرى: ﴿لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ [الأحزاب: 52]، إذن الكلامُ عن المعدودات لا عن العدد، بدليلِ أنه لم يكُن هناكَ نَسَقٌ عاطفيٌّ في كلِّ هذا الزواج.
الرسولُ ﷺ في سِنِّ الخامسةِ والعشرين تزوجَ خديجةَ وكانت فوق الأربعين، وبعد أنْ ماتت تزوجَ سودةَ بنتَ زَمْعَة، فما حظُّ سودةَ بنتِ زَمْعَةَ مِن جمالٍ يُعْجِبُ رسولَ اللهِ ﷺ، ثم تزوجَ عائشة وهي بنتُ ستِّ سنوات لدرجةِ أنه لم يدخل عليها إلَّا بعد ثلاثةِ أعوامٍ لكي تكونَ مُهيَّأةً لبيتِ الزوجيةِ، وبعد ذلك نَجِدُ أنَّ أُمَّ سَلَمَة كانت صاحبةَ عيال، والخامسة وغيرَهُنَّ، كلُّ واحدةٍ لها قصة، إذن فالاستثناءُ هاهنا للمعدوداتِ لا للعدد، هذه معدوداتُ رسولِ اللهِ –صلى الله عليه وآله وسلم- في الأزواج.
وأيضًا فإنَّ أيَّ صحابيٍّ كان عنده أكثرُ مِن أربعٍ؛ أمسكَ أربعًا وفارَقَ سائِرَهُنَّ، المُفَارَقَةُ التي يفارِقُهَا الصحابيُّ ستجِدُ مَن يتزوجُهَا، وأمَّا أُمُّهَاتُ المؤمنين إذا قُلنَ للنبيِّ الأمين: يا رسولَ اللهِ أمسِك أربعًا وطَلِّق خَمْسًا؛ فأين يذهبن؟!! أُمهات المؤمنينَ لا يَحِلُّ لأحدٍ أنْ يتزوجَ منهنَّ، إذن فهذه بخصوصِ هؤلاء.
وأيضًا هنالك نظرةٌ عاطفيةٌ أُخرى، حيثُ تَجِدُ أنَّ في نساءِ رسولِ اللهِ ﷺ مَن كانت تَهَبُ قِسْمَتَهَا لعائشةَ، امرأةٌ تَهَبُ قِسْمَتَهَا لضَرَّتِها، ما مدلولُ ذلك؟ إنها تَفْطِنُ جيِّدًا لماذا تزوجَها رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ونساءُ النبيِّ ﷺ كَبَشَرِيَّاتٍ اجتمعنَ عندَهُ لكي يسأَلْنَهُ النَّفَقةَ، فأَرَدْنَ أنْ يكونَ لهُنَّ مالًا يكونُ سببًا في رفعِ مستواهُنَّ، فَلَمَّا اجتمعنَ يسْأَلْنَهُ النَّفَقةَ؛ أنزلَ اللهُ تعالى قولَه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 29]، لو أنَّ النَّسَقَ العاطفيَّ موجودٌ، أو أنَّ الاستمتاعَ موجودٌ؛ لأحضرَ لَهُنّ ما يتزينَّ به ويُرَفِّهنَ عن أنفسِهِنَّ ويتنَعَّمْنَ به، لكنْ قال لهُنَّ: إنَّ هذه المسألة مقطوعةٌ ولا كلام فيها: ﴿إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 29]، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْتي المِنْهَاجُ النَّبَوِيُّ: ﴿وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 29]، وهذا لا يتفقُ مع الاستمتاعِ.
إذن فالمسألةُ إذا كان يبحثُها مسلمٌ، نقول له: لا تضع أنت أيها المسلم المؤمن برسولِ اللهِ وبِصِدْقِ تبليغِهِ عن اللهِ، لا تضع معيارًا مِن معاييرِ الكمالِ ثم تأتي إلى رسولِ اللهِ ﷺ لتقول: تعال لأعرِضَ تصرُّفَاتِكَ على المعيارِ الذي أضعُهُ!! وإلَّا بذلك نكونُ قد أحَلْنَا ونقلنا المعيارَ من يدِ رسولِ اللهِ ﷺ وتصرُّفِهِ إلى أيدي أتباعِهِ.
قولُهُ ﷺ: «حُبِّبَ إليَّ مِن دُنْيَاكُم الطِّيبُ والنِّسَاءُ»، حُبِّبَ: لم يقُل أُحِبُّ، فهو لم يقُل أحبَبْتُ حتى ينصرفَ الأمرُ إلى هذه مِن غريزِتِهِ، فَحُبِّبَ إليه كأنه أمرٌ تكليفيّ عابَهُ عليه مَن جَعَلَ الحُبَّ في قلبِهِ، و«حُبِّبَ إليَّ مِن دُنْيَاكُم» بمعنى لستُ أنا فاعلَ هذا الحُبِّ مِثل: ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ تمامًا.
فرسولُ اللهِ ﷺ لا يجوزُ أنْ نأتيَ لتَصرُّفَاتِهِ ونقول: كان يَصِحُّ كذا أو لا يَصِحُّ كذا، أو كيف فَعَلَ كذا، أو كيف لم يفعل كذا؟!! الأصلُ أنْ نقول: فَعَلَ أَمْ لم يفعل؟
فَعَلَ: هذا عينُ الكمالِ، كَوْنِي لم أفهم هذا الكمال فهذا موضوعٌ آخرُ.
وأمَّا غيرُ المسلمِ فلا نُنَاقِشهُ في مِثْلِ هذه الجزئياتِ، وإنَّما نُنَاقِشهُ في أصلِ الرسالةِ؛ لأنه لا يؤمنُ بأنه رسولُ اللهِ ﷺ، فيأتي لكي يأتيَ بالمُمحاكاتِ والمُغالطاتِ في عددِ أزواجِ رسولِ اللهِ إلى غيرِ ذلك!! لا كلامَ مع المشركينَ في هذا، الكافرُ برسولِ اللهِ يُناقشُ في كُفرِهِ حتى يُؤمِنَ بأنه رسولُ اللهِ، وأمَّا المسلمُ فلا يجوزُ أنْ يجعلَ مِعيارًا ومِيزانًا لكي يكونَ ما يأتي مِن التصرُّفاتِ من الرسولِ ﷺ على قَدْرِهِ، بل نقول: فَعَل أَمْ لم يفعل؟
فَعَلَ: هذا عينُ الكمال، وإذا لم أفهم فهذا شأنُ آخر، أسألُ اللهَ أنْ يُفَهِّمنَا جميعًا حقيقةَ الدين.