فَمِن الحَقَائِقِ الثَّابِتِة والأُصولِ المُسْتَقْرة أَنَّ الْمُغَالَاةَ فِي محاربةِ انحرافٍ تولِّدُ انحرافًا آخر، وَمِن الحَقَائِقِ الثَّابِتِة أَيضًا أَنَّ أكْثَرَ الَّذِينَ يَزعُمون أَنَّهُمْ يحاربونَ التَطَرُّف ويواجهون الإِرْهَابَ هُمْ مِن أعْظَمِ أَسْبَابِ ازْدِيَادِ اشْتِعال نَّارهْ وَمِنْ أَكْبَرِ العَامِلين عَلَى تَوَهُّج أُوَارِه، لاَ شَكَّ أَنَّ مِصْرَ حَفِظَهَا الله تَعَالَى وَسائرَ بِلادِ الْمُسْلِمينَ فِي حَرْبٍ ضَرُوس، وَلاَ شَكَّ أَيضًا أَنَّ أكْثَرَ الَّذِينَ يَتَصَدُّون للخَائِضِينَ فِي تِلكَ الحَرْبِ بِلِسَانِه أَوْ بِبَنَانِهِ لاَ يَفهَمُون حَقِيقةَ تِلكَ الحَرْبِ، وَلاَ يَعرِفُون طَبِيعَةَ الْمَعْرَكَةِ؛ إِنَّ الحَرْبَ الَّتي يُشعلُ نارها التكفيريون حَرْبٌ عَقدِية، حَرْبُ عَقِيدَةٍ مُسْتَقرةٍ فِي أَنْفُسِ هَؤُلاَءِ، تَدَفَّعُهم تِلكَ العَقِيدَةُ إِلَى التَّضْحِيَةِ بالدُّنْيَاِ تَارَة وَإِلَى الجُودِ بِالنَّفْسِ لطلبِ الشهادة تَارَة آخِرىّ، إِنَّهُمْ يُصدَرُون جَمِيعًا عَنْ عقيدةٍ راسخةٍ بتكفيرِ خصومهم ورِدَّةِ مخالفيهم، وهي العقيدةُ التي تُبرِّر لهم قتلَ المرضى في المستشفيات, واستهدافَ ركابَ القطارات, والاعتداءَ على الأبرياءَ في المدارسِ والمعاهد والكليات؛ والسؤال الآن: كيف حورب هذا الانحراف؟! والجواب: خرج أقوامٌ مِن العلمانيين والحَدَاثيين والضائعين المَمرُورين مِن الإعلاميين والصحافيين خرجوا ليهاجموا ثوابتَ الدين، فطعنوا في الصحابةِ رضي الله عنهم ورمَوهم بالعظائم ووصموهم بالكبائر، وأنكروا السُنَّة واستهانوا بالكتاب، ووصفوا الأئمةَ الأربعة أبا حنيفة ومالكًا والشافعيَّ وأحمد بالنصابينَ الأربعة، ورمَوا البخاريَّ ومسلمًا وعلماءَ الحديث والفقه بالكذبِ والخيانة، وتطاول بعضهم على الله جلَّ وعَلا، وعلى القرآن المجيد، إلى غير ذلك مما يَنْعِقُ به أولئك في خرائبِ الإعلام مِن مسموعٍ ومنظورٍ ومقروء، وهم مع ذلك يدَّعون أنهم يحاربونَ التطرف ويواجهون الإرهاب، وهم في الحقيقةِ مِنْ أعظمِ أسبابِ ازديادِ الإرهابِ وتجَذُّرِه.
(إِنَّكَ لن تُزَاوِلِ الرَّجُلَ عَنْ شيءٍ هو أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ) إنها كلمةٌ قالها أَشَجُّ عبد القيس رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأقرَّهُ عليها ومدَحَه، مع أنَّ الدين المذكورَ في قولِ الأَشَجّ المرادُ به ما كان عليه قومُهُ مِن الكُفر، ومع ذلك فإِنَّكَ لن تُزَاوِلِ الرَّجُلَ عَنْ شيءٍ هو أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِ ولو كان كُفرًا.
إنَّ العلمانيين والحداثيين وغيرهم مِن أهلِ الغرض, وأصحابِ المرض يعتقدون أنَّ الفرصة التي أُتيحت لهم, سيؤدي استغلالهم لها إلى تغيير دينِ الإسلام في قلوب المصريين وعقولهم إلى دينِ المستشرقين وغيرهم، ويعتقدون أنَّ المسلمين في مصر سيقْبَلون منهم الطعنَ في ثوابتِ دينهم وأصولِ اعتقادهم، ويعتقدُ هؤلاء أنَّ البذاءةَ والشتمَ والاستطالَةَ في أعراضِ الصحابةِ رضي الله عنهم وعلماءِ الإسلام رحمهم الله ستُقابل بالاستحسانِ لأنها تجديدٌ وتـنوير، وهم في هذا كلِّه مخدوعون واهمون، وهم بذلك كلِّه يعطون الحُجَّة بعد الحُجَّة للَّذين يخوضون حربًا عقائديةً مِن التكفيريين، فيذبحون ويُحرقون ويقتلون ويفجرون وينسفون وهم يقولون: ما ازددنا في المُرتَدِّين إلَّا بصيرة وإنَّا لعلى الحَقِّ المبين.
إنَّ هؤلاءِ العلمانيين والحداثيين وكذلك مَن لفَّ لفَّهم مِن أصحابِ الغرضِ والمرضِ والهوى والزيغ، هؤلاء جميعًا عبءٌ على القيادة لأنهم يُبدون بأقوالِهم وأعمالِهم وتوجهاتِهم ومسالكِهم أنهم يحاربون الدين, وأنهم لا يريدون للإسلامِ في مصر أنْ تقومَ له قائمة، يريدونَ حِصَاره حتى يصيرَ إلى المحاريبِ وحتى يُحبسَ في المساجد وفي الزوايا والتَكايا، بحيث لا يشاركُ بأمرٍ ولا حُكم في شأنٍ مِن الشئون؛ إنَّ هؤلاء بما يأتون وما يدَعُون، وما يأخذون وما يذَرُون عبءٌ على القيادة, لأنَّ القيادة تريد لهذا البلدِ الدين والتقدمَ للوطنِ حتى يَرْقَى إلى مَصَافِّ الأمم الكبرى والدول العظمى بإعمالِ العقل الصحيح في مجالات الحياة مِن أجل استِكنَاهِ أسرارِ المادة, ومِن أجلِ تطوير الحياة والارتقاءِ بها, ومِن أجلِ ألَّا نكون عالةً على غيرنا في ميدانٍ مِن الميادين، وكلُّ ذلك يكون مؤسسًا على دينِ الإسلام العظيم، فهم لا يُنكرون سُنَّةً ولا يحاربونَها ولا يهاجِمون الأئمة ولا يقِفون ضدهم, وإنَّمَا يريدون الإسلامَ الَّذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شَكَّ أنَّ به تَرْقَى الأمم، ويعلو كعبُها في الرُقِيِّ والنهوض والتقدم، ولكنَّ هؤلاء يُعطون الحُجَّة للتكفيريين مِن أجلِ تكفيرِ الحَاكِمِ والمَحكُومِ على السواء، ومِن أجلِ أنْ يُحْكَمَ على المجتمعِ كلِّه مِن رأسه إلى ذَنَبِه بالرِدَّةِ عن دينِ الإسلامِ العظيم، وحينئذ تُستباحُ الحُرُمَات مِن الدِّماء والأعراضِ والأموال، هؤلاءِ عِبء، هؤلاء خَونَة.
إنَّ مقابلةَ التطرفِ في الفِكرِ بالتطرفِ في الفِكرِ لَا يزيدُ المُتَطَرِّفَ إلا تطرفًا، ولَا المُعتَقدَ اعتقادًا خاطئًا إلَّا ثباتًا وتصلُّبًا؛ إنَّ ترك الَّذين يتكلمون في الدين بغيرِ عِلمٍ ولا هُدى ولا سلطانٍ مُنير، إنَّ تركهم تهديدٌ للأمنِ القوميِ المصري في صَمِيمِه، وهو أكبرُ مُقَوِّضٍ لدعائمِ وأركانِ الدولَةِ المصرية، وهو أعظم حُجَجِ التكفيريين في اقناعِ الشبابِ بالمصيرِ إليهم, والانضمامِ إلى صفوفهم، لأنهم يستغلون حماسةَ الشبابِ الدينية، فيقولون لهم هؤلاءِ مُرتَدون وقد وَجَبَ عليكم القِتالَ وجوبًا عينيا، فينبغي عليكم أنْ تنضموا إلينا لأننا نُجاهدُ في سبيل الله؛ مِن أكبرِ حُجَجِ هؤلاءِ على هؤلاءِ ما يأتي به أولئك مِن خبطٍ بلا عِلمٍ ولا وَعيٍ ولا مَعرفةٍ ولا سلطانٍ مُنير في ثوابتِ الأُمَّة، في دين الإسلام العظيم، غَرضهم معروف، ومَن كان متابعًا في النصف الأولِ مِن التسعينيات مِن القرنِ الماضي، مَن كان متابعًا لمَا يكتبه فرج فودة ومحمد سعيد العشماوي وغير هؤلاء مِن العلمانيين ومِن انضم إليهم مِن الحداثيين وكانت لهُ ذاكرةٌ التقطت بعضَ مَا قالَ أولئك يَجدُ هؤلاء أعني: الفرقة الحادثة الآن تُردد كلام هؤلاء أو أولئك حذو النعل بالنعل، يقتَصُّون آثارهم وينطقون بكلامهم بِلا زيادةٍ ولا نقصان؛ فكان ماذا؟! فكان ما تَرَوْنَ والله المستعان.
إنَّ المغالاةَ في مُعالجةِ انحرافٍ تولدُ انحرافًا آخر؛ إذا كانت الجماعاتُ التي تُكفِّرُ وتُفجِّرُ وتُحْرِقُ تخوض في اعتقادِها حربًا عقائديةً تستحل بها الدِماءَ والأموالَ والأعراض، أفتُقابَل هذه الحربُ العقائديةُ بالاعتداءِ على ثوابتِ الدينِ والتحلُّلِ مِن الأخلاقِ الفاضلة, والانعتاقِ مِن قيودِ القيمِ النبيلة بحُجَّةِ محاربةِ التطرف والتصدي للإرهاب؟! ، ومَن الَّذي أعطي أولئك الإذن بأنْ يقولوا مَا قالوا؟! ، هؤلاء ليسوا مِن أهلِ العِلم أصلًا ولا مِن أهلِ المَعرفة، وهم يعيبونَ على كل مَن تكلم في الدينِ مِن غير أنْ يكون مأذونًا له في الكلامِ بالدين، ولكنْ هؤلاء يتكلمون في كلِّ شيء، ويقول قائلُهم: عندنا محمدان صلى الله وسلم وبارك على البَشيرِ النذير بأبي هو وأمي ونفسي، يقول: محمدُ القرآن ومحمدُ السُنَّة؛ ويقول بجَهلٍ فاضحٍ وخُبثٍ ظاهرٍ: ما هي الصورةُ الحَقة مِن هاتين الصورتين؟ ، ولا تفاوتَ بين الصورتين ولكنَّ هؤلاء لا يعلمون، إنْ لمْ يكن مَا يصنعهُ ويقولهُ العلمانيون والحداثيون وأكثرُ الاعلاميين وأغلبُ الفنانين؛ إنْ لمْ يكن مَا يقولونَه ويصنعونَه تطرفًا وإرهابًا فكريًا فما هو التطرفُ والارهابُ إذن؟!
إنَّ مِنَ الخيانةِ العُظمى للدينِ والوطنِ أنْ يتصدى للإرهابيين والمتطرفين مَن لا يفهَم طبيعةَ المعركةِ معهم، ولا يَعِي حقيقةَ المواجهةِ لهم، إنَّ مِنَ الخيانةِ العُظمى للدينِ والوطنِ أنْ يُغَضَّ الطرفُ عن الَّذين يُريدونَ أنْ يُذهبوا صداعَا فإذا هُم قد أحْدَثُوا جُذَامَا، إنَّ علاجَ هؤلاء لظاهرةِ التطرفِ والارهاب, يزيدُ الدَّاء ويُبعد عن المريض الدَواء ويُوئسُه مِن أسبابِ الشفاء؛ وأقولُ لهؤلاء لا تتكلموا فيمَا لا تعلمون، ولا تُعطُوا التكفيريينَ الحُجَجَ والبَرَاهينَ التي يَصطادونَ بها الشبابَ والصِبية والأغرارَ والمفتونينَ، ويدفعون بها في وجوهِ مَن يُقيمونَ عليهم الحُجَجَ ويُفنِّدون ما لديهم مِن الشُبهاتِ والأضاليل، وليعلَم العلمانيون والحداثيون والمنحرفون مِن كلِّ فئةٍ وقَبِيل أنَّ دينَ الإسلامِ العظيم بثوابتهِ ومبادئهِ وأحكامهِ وعلمائهِ ورِجَالهِ راسخٌ في نفوسِ المصريين وعقولِهم رسوخُ الجبال، ودائرٌ في عروقِ المصريين دَورانَ الدِمَاء، فليعلموا أنَّهم لنْ يَضُروا المسلمينَ إلَّا أذى، ولنْ يبلُغوا مِن إيمانِهم وعقيدتِهم ما يَبلغُ مِن العينِ القَذَى.
إنَّ التدليسَ والتلبيسَ والتهويشَ والإفكَ المبين قد صار هو البضاعةَ الرائجةَ في أيامِنا هذه، ومِن الواجبِ أنْ أُحدِّثك بما أعلم وحسبي أني أصْدُقكَ ولا أخدعك, وإنَّما أُعلمُك ما عَلِمت, لأني في النهايةِ لا أريدُ أنْ أُعلمُك منهجًا تحصُل به علي درجةٍ علميةٍ تنتجِعُ بها مواقع الغيث كما تنتجع البُعْران، وإنَّما أُريدُك رجُلًا يحمي حَوزَتهُ ويمتلئُ يقينًا بأنَّ أرضَ الإسلامِ أرضُه، وأنَّ حضارةَ الإسلامِ حضارتُه، وأنَّ كلَّ ذرةٍ مِن ذراتِ هذه الأرض هي أغلَي مِنْ الدَّمِ الفَوَّارِ، وكأنَّك أنت الحارسُ عليها، وكأنَّ اللهَ لم يخلق لها حارسًا سواك، وأنَّ همومها فوق همومِ عَيشِك وخُبزِك، قد صار مِن الواضحِ أنَّ الهجومَ علي تراثِ المسلمين ليس عملًا يرجعُ إلي الرأي ولا مَدخلَ له في بابِ المُسَاجلاتِ الفِكرية، وإنَّما هو عملٌ سياسيٌ عُدوانىٌ يستهدفُ تدميرَ الكيان، وأننا حين نواجهه لا نواجهُ فِكرًا بحُجَّةٍ وبُرهان وإنما نَدفعُ تخريبًا يستهدفُ الأرضَ والعِرْضَ، وواضحٌ أننا حين نجدُ أولئك الَّذين يبذُلون مجهودًا لحملِ الأُمَّة الإسلامية علي علومِ وحضارةِ أوربا النصرانية, إنَّما يقومون بما تقومُ به الصليبيةُ الغربية يعني: أنَّهم مشاركونَ في تدميرِ حضارةِ الإسلام، وهذا ظاهرٌ لا يُدَاهِنُ فيه ذو عقلٍ صريح، ولا قيمةَ لتغليف هذه الحقيقةِ البَشِعة بالرغبةِ في التقدم وتحديثِ العقل العربي والانفتاحِ الحضاري لأنَّه لا يُخدعُ بهذا إلَّا مَغْبُونٌ في رأيه، ولابد لنا أنْ نسأل كيف صارت خُطة أعدائنا التي أعدُّوها لتدمِيرنا؟! بعِلمٍ ونَفاذٍ وإحكَامٍ، كيف صارت هذه الخُطة نفسُها مشروعًا حضاريًا نتبناهُ نحن؟!! ونجتهدُ في تحقيقِه؟!! حتي إننا أنشاءنا لذلك المدارسَ الأجنبيةَ في بلادنا يُربى فيها أبنائنا علي علومِ الغرب وحضارةِ الغرب وقيمِ الغرب؛ وهذا يعني واحدًا مِن أمرينِ لا ثالثَ لهما: إمَّا أنْ نكون قد عَمِينا نحنُ فاعتَنقنا مَشروعَ الموت علي أنَّه مشروعُ الحياة, وزُينَ لنا سوء العمل فرأينه حسنًا، وإمَّا أَنَّ تكون أوربا قد عَمِيت يوم أنْ قدمت مشروعًا لتدميرِ الحضارةِ الإسلاميةِ وقد انتكسَ عليها كلُ ما فيه, لأنَّه في الحقيقةِ مشروعُ تقدمُ المسلمينَ وازدهارِ حضارته، لا ثالثَ لهذين، ولمزيدٍ مِن الإيضاحِ يجبُ أنْ ندرُسَ التاريخَ الحديثَ لبلادنا وما كان يَعُجُّ به هذا التاريخُ مِن أفكار ومذاهبَ وأحزابٍ سياسية، كما يجب أنْ نتقصى بحكمةٍ تاريخَ رجالِ هذه المرحلةِ وأصولَهم ومنشأهم وكلَّ تغيير طَرَأَ في حياتهم وكلَّ منتجعٍ انتجَعُوه حتي نَمِيزَ الخبيثَ مِن الطيب، وهذا ضروري لأنَّ معرفةَ الزمنِ الَّذي نعيشُه ضرورةٌ لحياتِنا وحياةِ أولادِنا، وكِيانُ الأُمَّة هو كِيانُ الأبناءِ والحَفَدة، وسياسةُ هذا الزمن سياسةٌ مؤَسَسةٌ علي التلبيس والتدليس، في محيطِ الحياةِ الفكريةِ الفاسدة؛ الفاسدةِ فسادًا وَبِيلًا، كمَا يصِفُها العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر رحمهُ الله، في محيطِ هذه الحياة لمْ نلتفتْ بالقدرِ الواجبِ إلي الطريقِ الصحيح لتقدُمِنَا, بلْ إننا لم نبحث عنه, لأنَّ عقُولَنا رَكِبَها الاعتقادُ بأنَّ التقدمَ له بوابةٌ واحدة، وهي الدخولُ في حضارةِ العصرِ، يعني: الدخولَ في الحضارةِ الصليبيةِ، ولذلك صار طرحُ أفكارٍ جديدة حول البحثِ عن الطرقِ والمناهجِ التي تستطيعُ الأُمَّة بها إحياءَ الحضارةِ الإسلامية لا يُعَدُّ فكرًا غريبًا فحسب؛ وإنَّما هو فكرٌ مُؤَثَّم، لأنه دعوةٌ إلي العصورِ الوسطي، وثقافةِ الظلام، وقيامِ الدولةِ الدينية والحَقِّ الإلهيّْ، وتدميرِ جهودِ التنوير، وتدميرِ الحضارة؛ إلي أخر ما تتعالى بهِ أصواتُ السفهاءِ الَّذين يَصُمُّون أذانَ العُقلاءِ مِن كثرة ضَجِيجهم، فيؤْثِرُ الناسَ السلامة ويلجئون إلي الصمت، مع أنَّ صريحَ العقلِ يَقضي أنَّ طريقَ تقدُمِنا هو إحياءُ حضارتِنا وعلومِنا، وبذلُ الجهدِ المنظَمِ لتطويرِ العلومِ التي هي أصلُ الحضارة، وهذا التطويرُ يقوم علي الفَهمِ والصَبرِ والصِدقِ والجِدِّ، وبهذا وغيرِه يتهيَّأُ المحيطُ الفكريُ لاستنهاضِ القُدراتِ المُبدِعةِ التي تتقدمُ بمثلِها الأُمم، وهذا كما يستلزمُ الجِدَّ في سَبرِ أغوارِ المعرفة والقدرةِ الظاهرةِ في استيعابها وتحليلها ونقدِها، يستلزمُ كذلك الاطلاعَ علي جهودِ الاخرين في كل فرعٍ من الفروعِ، والإفادةَ مما حققوه وهضمَ ذلك حتي يكون مُعِينًا لنا علي التفكيرِ والاجتهادِ والعملِ الأفضل، وهذا غيرُ نَقل علومِ الاخرين وصَيْرُورَتِها بدائلَ لعلومِنا، إنَّ رؤيتنا النافذةَ لجهودِ الاخرين واستيعابَنا لمنجزاتهم أمرٌ ضروري ولا يَصنعهُ إلَّا الأقوياء، هكذا يقولُ التاريخ، وهكذا يقولُ الحاضر.
وفرقٌ بين أنْ نتعلمَ علومَ الأُمَم وتحَولِّها مِن أجل أنْ تكون طاقةً لنفوسِنا، وبين أنْ نتعلمَها لنضعَها تحت ألسِنتِنا نحاضرُ بها ونؤلِّفُ فيها، الأول: موقفُ القويُ الصحيح، والثاني: موقفُ العاجزُ الضعيف؛ لأنَّ الأولَ حَوَّلَ المعرفةَ إلي طاقة كما يحوِّل الجسمُ القويُ المادةَ الغذائية إلي قوةٍ تُساعده في نشاطهِ وإنجازه، والثاني أبْقَاهَا كما هي كما يَعجِزُ المريضُ عن أنْ ينتفعَ بطعامِه؛ وإذا كانت دراسةُ علوم الأمم تعني دراسةَ الأمم نفسِها، فإن ذلك لا يعني فقط دراسة الإنسان الغابر الَّذي صنع ذلك في تاريخٍ سلَف، وإنما يعني أيضًا وبصورةٍ أشملَ وأعمقَ دراسة الإنسانِ الحَيِّ الَّذي يعيشُ خلفًا لهذا السلف، ويعني الكشفَ عن جَوهرِه وتجْلِيةِ مَعدِنه وإثارةِ طاقاتِه, لأنَّه سُلَّ مِن هذا التاريخ وهذه الحضارة، وهذا السلفُ وهو يحملُ كل ذلك في مَطَاوِيه فَطنَ إلي ذلك أم لم يفطِن، وعلي هذا قام العلمُ والتعليمُ في كل أمةٍ تَمضي في أمرِها علي وجهِ الرشاد، فإذا انصرفت أُمَةٌ إلي دراسةِ تراثِ غيرِها وآدابِ غيرِها وعلومِ غيرها، وتركت تراثَها وعلومَها وتاريخَها لقًا مَرمِيًا، يكونُ الجهلُ أبرَّ بها مِن عِلمها هذا الَّذي صارت إليه لأنَّ الوقوفَ أقربُ إلي الغايةِ مِن الركضِ والعَدوِ في الطريقِ المُضاد، ولأنَّ الجاهلَ الجامدَ أقربُ إلي طبائعِ أُمَّتهِ وتاريخِها مِمَّنْ ازدري هذه الطبائعَ وهذا التاريخ، فقد يتحركُ الجاهلُ الثابتُ يومًا في طريقٍ صحيح، وإذا نظرتَ بعنايةٍ وصدقٍ إلي ما نحن عليه وَجَدت معاهِدنا وجامعاتِنا وطلابَنا وعلمائَنا كلَّ هؤلاء يدرُسون غيرَ علومِنا, ثم وجدتَ زرايةً واحتقارًا لهذه العلوم وهذا التاريخ وهذه الطبائع أو قُلْ باختصار وجدتَ زرايةً واحتقارًا لهذه الأُمَّة وزرايةً للنفسِ وجلدًا للذات، ونُخطئُ خطأً ظاهرًا حين نفصلُ بين تدميرِنا لتاريخِنا بأيدينا وقواتِنا وتدميرِ أعدائِنا لحاضِرنا بأيديهم وقواتِهم، نُخطئُ خطأً ظاهرًا حين نفصلُ بين التدميريين، ونُخطئُ خطأً ظاهرًا حين نفصلُ بين تخريبِ ينابيعِ المعرفةِ في علومِنا وبين حالةِ الغيبوبةِ والعُقمِ الفكريِ والحضاريِ التي نُعَايشُها مِن غير قلقٍ ولا معاناةٍ لأننا ألِفنَاها, إعتَدناها، ألِفنا أنْ يَشقي الأخرون في إبداعِ المعرفةِ ثم نستوردها، ألِفنا استيرادَ علومِ الأدبِ واللغةِ والفلسفةِ والتربيةِ تمامًا كما ألِفنا استيرادَ علومِ الهندسةِ والطبِ والكيمياء، تمامًا كما ألِفنا استيرادَ كلِّ وسائلِ الحضارةِ المادية، لأنَّ كلَّ ذلك بعضُه مِن بعض, كلُه داخلٌ في إطارِ المعرفةِ التي كَسَفنَا شُموسَها في سَمَاواتِنا، وهدَمنَا بوارقَها في نفوسِنا، والشرطُ الرئيسُ في تهيئةِ العقولِ للإبداع هو التمثلُ الناضجُ المستنيرُ للتجاربِ الفكريةِ الرائعة، وكفاحِ العقولِ الفَذَّة في تاريخ هذه الأُمَّة، واستلهامِ نفحاتِ الإبداعِ في تراثِ القِمَمْ مِمَّنْ أنجبت هذه الأُمَّة في مختلفِ العلومِ والفنون، ثم يمضي الأفذاذُ الموهوبون مِن أبناءِ الجيلِ علي الدَربِ الَّذي مضي عليه الأفذاذُ الموهوبون مِن أبناءِ الأجيالِ السابقة، يسْتلُّون مِن تحت الغَيم خيوطًا كَسَنَا الفجر يضيئون بها دروبَ المجهول الَّذي تتعشقُ عقولُهم القدحَ علي أبوابِه، كلُّ ذلك ضاعَ مِن حياتِنا الفكرية, ضاعَ مِن حياتِنا العقلية، ضاعَ مِن حياتِنا النفسيةِ القلبية، وبقينا مغلولِين في إسَارِ التبعيةِ البغيضة، لا نَجِدُ لذعَ الأسي لمَا نحنُ فيه, لأنَّ لذعَ الأسي أيضًا ضاع، وأعظمُ مِن البَلْوي فقدانُ الإحساسِ بالبَلْوي، ولا شك أنَّ الإحساسَ بالبَلْوي أولُ الطريقِ إلي دفعِها، ولكن متي؟!! ؛ لم يفصلُ الشبابُ بفطرتِه بين التَرَدِّي السياسيِ والحضاريِ الَّذي أصابَ أُمَته, وبين الدراساتِ التي تُلِّحُ علي اجتثاثِ الشعورِ بالاعتزازِ والانتماءِ إلي تاريخٍ إنْ لم يكن متمَيزًا فهو كتاريخِ النَّاس، وحضارةٍ إنْ لم تكن متميزةً فهي كحضارةِ النَّاس، وأُمَّةٍ إنْ لم تكن متميزةً فهي كأُمَمِ الأرض، أم أنَّ ذلك كلَّه كان بِدعًا في الأُمَمِ وفي الحضارات؟! وكان بِدعًا في التاريخ؟! .
ألَحَّ مَن يقومونَ علي توجيهِ فكرِ هذا الجيل وأجيالٍ قبلِه علي تشكيلِ صورةٍ قاتمةٍ للعقلِ العربيِ, والفكرِ العربيِ, والأدبِ العربيِ, والنحوِ العربيِ, والصرفِ العربيِ, والتاريخِ العربي، حتي كَرِهنَا نحنُ العربَ أنفسَنا، ولو كان القائمُ علي توجيهِ العقلِ العربيِ يهودًا ما وصَلوا بنا إلي أبشعَ مِن ذلك، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف نحمي كيانًا كَرِهنَاه؟!! ، وتاريخًا دنَسنَاه؟!! ، وفكرًا ازدريناه؟!! ، وأُمَّةً صورتها لنا الدراساتُ الضارةُ في صورةِ شَرِّ أُمَّةٍ أُخرجَت للنَّاس، وأجهلِ أُمَّةٍ أُخرجَت للنَّاس، وأجْفَي أُمَّةٍ أُخرجت للنَّاس، أدبُهم سطحيٌ ساذجٌ، وعلمُهم كعلمِ حَلَّاقِ القرية، ونحوهُم بُنِيَّ علي شواهدِ زور، وشعرُهم مزاميرُ في زفةِ نفاق، ولا تجدُ شعرًا يُلتفتُ إليه في تراثِ العربيةِ إلَّا أنْ يكون هناك شاعرٌ تعرَّب, فأمَدَتُه مواريثُه غير العربية بنفحاتٍ مِن الإلهامَاتِ الروحيةِ والفكرية، لا تُشرقُ في سماءِ هؤلاء العربِ الجُفاة، تربَينا علي هذا وتربَت عليه قبلَنا أجيال؛ أليس هذا مِمَّا يَنعِقُ به في هذه المرحلةِ النَاعِقون؟! ، وعقابيلهم الَّذين أخذوا عنهم عِلمَ الزِرايةِ والقدحِ والسَفَه، وانقطعوا لإشاعتهِ وتثبيتهِ، تري رِجَالًا في ساحةِ الأقلامِ، وفي ساحاتِ الكلامِ، يبرُزون فجاءة، ويَشغَلون مساحاتٍ متسعةً في الحياةِ الفكرية لقوة ارتباطِهم برجالٍ يشغلون مساحاتٍ مُتسعةً في الحياةِ السياسية، ثم ما تلبثُ الأحداثُ أنْ تُمَزِقَ الأقنعة، فتري وجوهًا شائهةً بغيضة، وتري شعبًا مسكينًا حملَ علي أعناقِه أبنائَه الألدّاءُ، والآن تأتي مرحلةٌ ثانية تتحركُ فيها جبهةٌ معاديةٌ للأُمَّة، تتحركُ حركةً محسوبةً بدقةٍ وترتدي أقنِعةً متقنة، وهذه المرحلةُ تقتربُ مِن الهدفِ اقترابًا قريبًا, وذلك فيما تراهُ مِن كِتابات، وفيما تسمعهُ من كلامٍ وحكايات، حَوْلَ الشريعة وأحكامِ الله وصحابةِ رسولِ الله بَلْ وكتابِ الله بَلْ والذاتِ الإلهية، وتري فيها عالَمًا مُتَسعًا من التضليلِ والخداعِ والفجور، الَّذي لا يستحي ولا يَمَلُّ مِن تكرارِ التفكيرِ الحضاري والفهمِ المستنيرِ لدينِ الله، وتخليصِ هذه الشريعةِ مِن عقولِ المشايخِ المتشبثةِ بالعصورِ الوسطي، إلي أخر ما في هذه الحملةِ الجديدةِ المتجهةِ إلي إفسادِ الدين، وإبطالِ نصوصِه، والقَدحِ في فقهِ فقهائِه، والقولِ بأنَّ ذلك كلَّه مرتبطٌ بأحداثٍ وأسبابٍ فلا يجوزُ أنْ يُنقَل إلي أحداثٍ وأسبابٍ أخري، حتي نصوصِ الكتابِ والسُنَّةِ بِمَا يتعلقُ بالميراثِ وفي شهادةِ المرأةِ التي هي علي النصفِ مِن شهادةِ الرَجُل، إلي غيرِ ذلك مِمَّا يتعلقُ بالربا المُحَرَّمِ علي سبيلِ المثال, وهو الَّذي واجههُ القرآنُ المجيد، فيقولون إنَّ التحذيرَ في القرآنِ مِن الربا إنمَا يَنْصَبُّ علي ربا الجاهليةِ فقط، يقولون إنَّه ليس في نُظُمِنا صورٌ منه، ويقولون إنَّ الشيوخَ حين يزعمون ذلك إنمَا أضلَّهم جمودُ عقولِهم وامتلاءُ عَيبتِهم مِن ثقافةِ العصورِ الوسطي وعصورِ التَخلفِ والظلام، يقولون إنَّ دخولَ الإسلامِ مَيدانَ الحياة انتقاصٌ لقدرِه، يقولون إنَّه إنمَا نَزلَ للمحاريب، للتهجدُ والنَّاسُ نِيام، فهذا غايةُ المرادِ منه، يقولون إنَّ الخلافةَ منذُ كانت راشدةً وغير راشدة كانت وَيْلًا وبلاء، وقامت علي الاستبدادِ البَشِع، وصَاغَت مسيرةً تاريخيةً دموية تتناثرُ فيها أشلاءُ الَّذين قهرهُم الخلفاء، وتجري فيها دمائُهم، وأنَّ مسيرةَ الفقهِ الإسلاميةِ إنما كانت حركةً فقهيةً ضبطت إيقاعَها مع حركةِ الديكتاتوريةِ الحاكمةِ وتناغمَت معها، ولهذا وجبَ بَترُ هذا الفقه ووجبَ طرْحُه، إلي أخر ما يُقال مما يستحيي اليهودُ أنْ يكتبوه بأيديهم عن العلمِ الإسلامي وتاريخِ المسلمين، وذلك لشدةِ فسوقِه، ولعِظمِ فجورهِ، ولخروجهِ عن ضوابطِ العقل، ثم تَعجَبُ مِن بُكاءِ هؤلاء المفكرين المستنيرين علي حريةِ الإنسان التي وَطِأتها أقدامُ الخلافةِ الخَشِنة، ثم اغتباطِهم بما يجرِي حولَهم مِن تخريبٍ وتدميرٍ وتقتيلٍ وترويعٍ وتحريقٍ وتمزيق، وجهلٍ كثيفٍ داكن، والخوفِ علي هذه المسيرة التي يقولون إننا لم نصل إليها إلَّا بثورتيين، تَكَبَدَ فيها الشعبُ المسكينُ ما تَكَبَد مِن الخرابِ ومِن الدمارِ ومِن الدِماءِ ومِنْ الأعراضِ ومِنْ الوَعيِ ومِن المعرفةِ، وكانت الثمرةُ كمَا تَرون ويَري كلُّ ذِي عَينين تَخَلُفًا وانحِطَاطًا، يقولون نَخافُ علي هذه المسيرة، مسيرة اللصوصِ المتحضرة مِن أحكامِ الشريعةِ الإسلامية وجاهليةِ القرونِ الوسطي.
هذه الفِرقةِ الجديدةِ التي هي وَبَالٌ على قيادةِ هذه الأُمَّةِ المصرية، لأنَّ التكفيريين يقولون هذه الزَندقة, وهذه الهَرطقة, وهذا الانعِتاقُ مِن قيودِ الدين, وهذا الخروجُ على ثوابتهِ إنما يُمَرَّرُ بمعرفةِ القيادةِ وهي قادرةٌ على وأْدِهِ حيث هو، وعلى كَبْتِه حيث يكون، فيقولون سُكوتُهم عليه رِضًا به، ومَن رضِيَ بالكُفْرِ كَفَرَ؛ فيَسْتَلُّون مِنْ المضاجعِ الأغمارِ الأغرارِ الَّذين يتدثرون تحت الأغطيةِ في برودةِ الليل وفي ظلامهِ، يَعبثَ العابثُ منهم على مواقعِ التواصُلِ الإجتماعي فيَسْتَلُّونَهم ليُهَاجِروا هاهنا وهنالك مِن أجلِ نُصرةِ دينِ الله ومُحاربةِ المُرتَدين.
هذه الفِرقةُ أخبثُ الفِرق في مصر، وهي الظَهيرُ الفعال للتكفيريين في الحقيقة، كأنَّهم يَصدُرون مِن نبعٍ واحد، مِن حمأةٍ واحدةٍ آسِنَةٍ نَتِنَة.
هذه الفِرقةُ الجديدةُ التي تُهاجِمُ الثوابتَ والشريعة، وتُهاجِمُ أعراضَ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وعُلمَاءِ الأُمَّة، تُهاجِمُ السُنَّة، تُهاجِمُ البُخاريَّ ومُسلم، وأصحابَ السُنَنِ الأربعة، تُهاجِمُ جميعَ الثوابتِ في تراثِ هذه الأُمَّة، وكأنَّها أُمَّةٌ بلا تاريخ، كأنَّها أُمَّةٌ بلا تُراث، كأنَّها أُمَّةٌ بلا جِذور، كأنَّها بلا جذورٍ تضربُ في أعماقِ التاريخ، وتَسْري في شَرَايِينِها وعُروقِها دماءُ التوحيدِ منذُ آدمُ إلى محمد صلى الله عليهما وسلم إلى يومِ النَّاسِ هذا إلى أنْ يشاء الله رب العالمين؛ هذه الفرقةُ الجديدة تُهاجِمُ الشريعة، وهي مَعدِنُ الفرقةِ القديمةِ أو هي منها، وهي التي هاجمَت علومَنا وشككت في عقليتنا، الفرقةُ الأولى مَهدَّت للتشكيكِ في العقليةِ الإسلامية التي أبدعت المعرفة ومنها الفقهُ وعلومُ الشريعة، فجاءت العصابةُ الثانيةُ الحاضرةُ في حياةِ المصريين وفي حياةِ المسلمين في جميع أقطارِ الأرض، لتضربَ في هذه العلومِ المُتاخِمَةِ للكتاب والسُنَّة، تسمعُ القائلَ مِن هؤلاء يقول أستشهدُ لك ببيتٍ لمحمود درويش، ولكن لَا تغضب إذا مَا سمِعته؛ فأقول: ولِما تأتي به إذًا؟! ، أليس في شِعرنا العربي كلِّه إلَّا ما تأتي به مِن كلام هذا المَسْخ؟! ؛ فيقول هو ذاك، قلنا: قُلْ واللهُ المُستعان والنَعلُ حاضر! ؛ قال: قال درويش: نامي فعينُ الله نائمةٌ عنا وأسْرابُ الشحارير؛ هذا ما تريدون؟! ، ما يأتي به البَيَّاتِي؟! ، ما جاء أدونيس علي أحمد سعيد الَّذي غير اسمه وهو نُصَيْرِيٌ عَتيد, محاربٌ للدين الإسلامي وثوابتِه، هَجَّامٌ على اللغةِ الشريفة لأنَّها لغةُ القرآنِ المجيد، يؤتَى بهِ إلى معرض القاهرةِ للكتاب ليُحاضِر! ؛ يُحاضِرُ مَنْ؟! ، ألسنا نقول: مِصرُ كنانةُ الله في أرضه؟ ، ألسنا نقول: مِصرُ الأزهر؟ ، مِصرُ اللغة؟ ، مِصرُ القرآن؟ ، مِصرُ العلوم؟ ، مِصرُ الحضارة؟ ، ألسنا نقول ذلك؟ ، بلى نقوله، فما عدا مما بدا إذًا ؟!!!
كِلا الفريقين – الفِرقةُ القديمة والفِرقةُ الحديثة – كلا الفريقين متفقٌ في الجَهلِ بالمعرفةِ التي يُهاجمها، العصابةُ الأولي التي هَاجمت علومَنا لا تعلمُ منها إلَّا عِلمًا كحَسْوِ الطَّائرِ الخائفِ المُرتَابِ، والَّذين يهاجمون الفِقه والفُقهاء، والصحابةَ والصُحبَة، والسُنَّةَ والعُلماء، الَّذين يُهاجمونَ ذلك يُهاجمون العُلومَ المُلتَصِقةِ بالكتابِ والسُنَّةِ، ليس لديهم مِن أدواتِ الإجتهادِ إلَّا ما يُعِينُهم علي تحليلِ الأغاني ودُروبِ الرَقص، واعتقدوا أنَّ البصيرةَ النافذةَ القادرةَ علي تقديرِ الأغاني والرقص وعلي الحُكمِ النافذِ في الأوبرا قادرةٌ علي نَقدِ الفِقهِ، حتي إنَّكَ لتقرأُ لبعضِ أولئك الكُتَّابِ نقدًا لفنونِ الأوبرا أدخلَ في نَقدهِ كلامًا فى الحلالِ والحرام، وذكرَ أنَّ الَّذين يُحرِمون كَشْفَ السَوءَةِ في هذه الفنون قومٌ يجهلون، لأنَّ لها بَابًا مِن أبوابِ النقدِ لا يدخلُ فيه فِقهُهم، والسَوءَةُ هَا هنا ليست بالسَوءةِ هنالك، سَوءَةٌ وسَوءَة !!! ومَن نظرَ إلي هذه السَوءَة ليس هو الَّذي ينظرُ إلي تلك السَوءَة!، أيُّ عَبثٍ هذا؟! ، وما دَخْلُ كلامِكَ في الفِقهِ في نَقدِكَ لهذه الأمور؟! ، ما شَأنُك أنت؟! ، والواحدُ مِن هؤلاءِ لا يُحسِنُ أنْ يقرأَ الفاتحة! ، ما شَأنُك أنت بالقرآن؟! تفسيرًا وتأويلًا وبيانًا وتوضيحًا؟! ، ما شَأنُك أنت بالسُنَّة؟! ، والواحدُ منهم لا يستطيعُ أنْ يقرأَ اسم الْبُخَارِيّ، الَّذي يُسفِّههُ ويُحقِّرُه، لا يستطيعُ أنْ يقرأَ اسمَهُ كاملًا رحمه الله رحمةً واسعةً، ألمْ يَقُلْ بعض هؤلاءِ العلمانيين يومًا مِن الدَهر – وقد هَلَكَ فيمن هَلَكَ وذهبَ إلي مَزبَلةِ التاريخِ ومَا كَتَب – ألمْ يَقُلْ إِنَّ الشَّافِعِيَّ كانَ عَمِيلًا لبَنِي أُمَيَّة؟! كانَ عَمِيلًا لخلفاءِ بَنِي أُمَيَّة؟! ، سقطت دولةُ بني أُمَيَّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ووُلِدَ الشَّافِعِيُّ سنة خمسين ومائة، هذا مُفكر! يريد تجديدَ وتنويرَ فِكْرِ الدينِ عند المصريين.
قِصَته شَهِدتُ منها فِصولًا، وأُستاذُنا رحمَه الله تعالي الأستاذ الدكتور/ رمضان عبد التواب وكان عضوًا في لجنةِ ترقيةِ الأساتذة، قُدِّم إليه بحثٌ وإلي اللجنة مِن هذا الهَالكِ فلم تَري فيه شيئًا يُلتفت إليه ولا يُعَولُ عليه، فهذا أمرٌ شائعٌ في البحوثِ التي تُقدَّمُ للترقي مِن درجة مدرسٍ إلي أستاذٍ مُساعد, ومِن أستاذٍ مُساعدٍ إلي أستاذ كما هو معلومٌ عند المشتغلين أو العَارفين لأمثالِ هذه الأمور، يُرَدُ البحثُ مرةً ومرةً ومرة، ويُوصَى الباحثُ بالإتقانِ والتجويدِ مرةً ومرةً ومرة، فكتبوا لهُ عليك أنْ تَخرُجَ مِن هذا الفِكرِ وأنْ تُجَوِّد، فتَقدمَ مرةً أخري, فتقدَمَ فأسقطُوه، وتَقدمَ فأسقطُوه لأنَّه لا يُجددُ شيئًا ولا يأتي بجديد، نَقَلَ العلمانيون المَعركةَ مِنْ اللجنةِ الدائمةِ للترقيةِ وهي لَجنةٌ مُختصةٌ دَاخِلَ لَجنةٍ مُختصة دَاخِلَ الجامعة، نَقَلُوا ما وقعَ إلي المَقَاهِي، وكَتبوا ذلك في الجَرائدِ السيارة، وفي مَجلاتِهم كفصول وغيرها، مِما يُقتَطَعُ لها -أي: لتلكَ المجلاتِ- مِن قوتِكم, مِن قوتِ هذا الشعبِ المسكينِ الجَائع، فيُقتَطَعُ لأمثالِ هذه المجلات والنشراتِ مِن قوتِ الشعبِ العامل؟! ، ما يُضلَّلُ به الشعبُ العامل! وما يُحْرَفُ به عن عقيدتِه ودينِه! ؛ قال: واللهِ – أعني: أستاذِي رحمه الله – واللهِ لو تَقدمَ ألفَ مرة لأسقَطتُه؛ وكانَ ما كان فاحتُسِبَ عليه, وفُرِّقَ بينهُ وبين امرأتِه, فتَرَكَ البلدَ إلي هولندا، وراحَ يَطعنُ في الدين وثوابتِه، وتَستضِيفُه المراكزُ المشبوهة، تستضيفُه المراكزُ التي تُحاربُ الدين، هذا كلُّه تري أذنابَهُ وظواهِرَهُ وبعضًا مِن نتائجِه وأثارِهِ فيما تري الآن وتَسمَع، هؤلاء الَّذين يتكلمون في دينِ ربِّ العالمين، يُريدون مَحْوَ تاريخِ الأُمَّة، مَحْوَ تُرَاثِها، مَحْوَ الحديث، فيقولون ينبغي أنْ نُنَقِيَّ وأنْ نُنَقِّحَ ويهجمون علي عِلمٍ ليس عند جميعِ أُمَمِ الأرضِ عِلمٌ مِثلُه، العِلم (المُستَفِيض)؛ قال حَدَثَنا.. قالَ حَدَثَنا.. قالَ حَدَثَنا، وينقلون المَعركة مِنْ المُدرجَاتِ والمَجَامِعِ العِلمِيةِ إلي سَاحاتِ العامة، ما شَأْنُ العَامِيُ الَّذي يُمَضِّي الليلَ في حَظِيرتهِ بجوارِ مواشيهِ حتى لا تُسرق, تبعًا للفوضى التي أحدثِتهَا ثورةُ أولئك، مَا شَأْنُ هذا؟! وقد أدخلَ في الحظيرةِ تِلفازًا يشاهدُ فيه أولئك، فالواحدُ منهم جَالسٌ على مِدْوَدْ!! وذلك الفلاحُ المِسكينُ يستدعيه، فيقولُ لَهُ كانَ الْبُخَارِيُّ كذَّابًا وكذا كانَ مُسْلِم، ألْقِي الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا في صُندوقِ القُمامة، ما شَأنُك أنت وهذا؟! ، ولو كانَ لك بهِ شَأن؟ ، فلِما لا تذهبُ إلى مَن هو مُختصٌ بذلك لتَعرِضَ عليه ما لديك، ما شَأْنُ العَوَامِ بأمثالِ هذه الأُمور؟! ، هذا عِلمٌ ليس عند أحدٍ مِن أهلِ الأرضِ إلَّا نحن، عندنا وَحدَنا، عندنا الإسناد وهو مِن خصائصِ هذه الأُمَّة؛ في كتابٍ ككتابِ الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، لا يَرويِ خبرًا مِن أخبارِ القِيَانِ المُغنيات ومِن أخبارِ مَجالسِ شُربِ الخَمرِ والرقصِ على أنغامِ المَزَاهِرِ، لا ينقلُ شيئًا مِن ذلك إلَّا بالإسنادِ، يقول: قالَ حَدثنا فلانٌ قال حَدثنا فلانٌ أنَّ فلانةَ كانت تُغني وحَدثَ كذا، هذا يحتاجُ إلى إسناد؟!! نعم، هذه الحضارةُ كلُّها بُنِيت على الإسنادِ، إن كُنتَ نَاقِلًا فالصحةِ أو مُدَعِيًا فالدليل؛ هذا العِلمُ عندنا وَحدنَا، وإذا وقعَ في الإسنادِ شَكٌ في رَاوٍ، يقولُ لك أبو الفرج: إنْ أُتيتَ في هذا الخَبر, فإنَّك لمْ تؤتَ مِن قِبَلِنا، العُهدةُ على الراوي، وأنا بريءٌ مما يقع، يعني: مِن وجودِ رَاوٍ في الإسنادِ ليس بمُعتَبر؛ وهل كانَ أبو الفرج نفسُه معتبرًا ؟! ؛ هذه حضارتُنا، أخبارُ القِيَانِ المُغنيات، أخبارُ الفُسَّاقِ والعُشَّاقِ تُروى في كُتُبِ حضارتِنا بالأَسانيدِ !! والكِتَابُ المُقَدس في عَهْدِهِ الجديد، أقربُ رَاوٍ بينهُ وبين المَسيحِ سبعونَ عامًا، وُلِدَ بعدمَا رُفِع – عليه السلام – بسبعينَ عام، أُمَتكُم لا تَعرفونَ قَدْرهَا، أُمَتكُم لا تَقدِرونَها قَدْرَهَا، أُمَتُكم لَا تُخلصُون لها، أُمَتُكم تَغُشُونَها وتَخُونُونَها، إحرِصُوا عليها, فهي لَحمُكُم ودَمُكُم، هي أَرْضُكم وعِرْضُكم، هي حيَاتِكُم وآخِرتُكم، هي أُمَّةُ الإسلام، أُمَّةُ محمدٍ عليه الصلاةُ وأزْكَى السَلام .
هذه الأُمَّة, هي الأُمَّةُ المرحومة، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..)، هذه الأُمَّة, أكرمها عند الله أتقاها، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، لا تميزُ هذه الأُمَّة بين البَشَرِ علي حسب لون البَشَرَةِ، ولا عراقةِ الأصل، ولا كثرة المال، ولا عُلُو الجَاهِ، ولا رِفعة المنصب، إنمَّا تُمَيِّزُ هذه الأُمَّة بين الناس بالإيمان والعمل الصالح، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) .
في وقت من الأوقات داهمت الجيوشُ الصليبيةُ هذه الأُمَّة, إلي أنْ جاءت حملةُ لويس التاسع, فقُتِلَ من جنوده ما يزيدُ علي ثلاثين ألفًا, وأُسِرَ هو وجُعِلَ أسيرًا في دَارِ ابنِ لُقْمَانِ بالمَنْصُورة, وفُدِيَ بذَهَبٍ كَثِير, ومالٍ وفير, حتى أتت الفِدية, كان في مَحْبَسِهِ يفكرُ فيما كان، لماذا تنْكَسِرُ الحملاتُ الصليبية العسكرية على الأُمَّةِ الإسلاميةِ مرةً بعد مرة ؟! لإيمانها, لحضارتِها, لتاريخِها, لتمسُكِها بثوابتها، فأوحي إليه شيطانُه, أنَّه لابد من تغيير صورةِ الحملاتِ الصليبيةِ ونقل الميادينِ من عسكريةٍ إلي عقائديةٍ وفكريةٍ ولغويةٍ وأخلاقيةٍ، وكان ما كان، ووَقَفت الأُمَّة تناضلُ وتكافحُ وتدفعُ عن ثوابتها, لا يضُرها شيء, تمامًا كالمائدة المنصوبة - مائدةِ الحياة - يأتي إليها الموت ينهشُ من أطرافها نَهشةً ثم يتوارى ، تَئِنُ الحياةُ أنِينَها ، وتتألم الحياة ألمَها ، ثم تُفِيقُ بعد ذلك من كَربها وتستعيدُ طاقتها ... إلى أنْ خرج أقوام مِنْ جِلدتـنا, يتكلمون بلساننا ، فابتُعِثوا فتعلموا على أيدي أعدائنا وأعدائهم - لو كانوا يعلمون - ثم عادوا منا ظاهرًا وعلينا باطنًا، فأفسدوا في الأرض إفسادًا عظيمًا .
هذه شهادة واحدٍ مِنْ أولئك الرواد هو طه حسين.
طه حسين فُتِنَ بالمَدَنِيَّةِ الغربية فعاد يقول كما في " مستقبل الثقافة في مصر" : " ينبغي علينا أن نحيا كما يحيى الأوروبيون ، علينا أن نتكلمَ كما يتكلمون ، ونلبسَ كما يلبسون ، ونأكلَ كما يأكلون ، ونشربَ كما يشربون ، علينا أن تكون فضلاتُنا كفضلاتِهم " ,,، إلى هذه الدرجة !! .
وقال : " نحن لا نَمُتُّ إلى العرب, نحن نَمُتُّ إلى حوضِ البحر الأبيض المتوسط ، نحن ننتمي إلى الشمال لا علاقة لنا بشرقٍ ولا غربٍ ولا جنوب ، نحن نَتْبَعُ الحضارةَ الشمالية " حضارة آلهةِ جبال الأولِمْب .. زيوس ومَنْ كان يساعده ، حضارة الرِطَانَةِ الأعجمية ، والوثنيةِ البغيضة.
هذه شهادته بعد حين ، بعد أنْ وقع منه ما وقعَ من الإفسادِ العظيم ، حتى إنَّ العلامةَ الأستاذ محمود شاكر - وكان طالبًا عنده في قسم اللغةِ العربية بكلية الآداب بالجامعةِ المصريةِ القديمة - لم يتحمل وتركَ له الجامعة والبلد, وسافر إلى جُدة, فأنشأ فيها بأمْرِ الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله تعالى ـ مدرسة ابتدائية ، لعلها كانت أولَ مدرسةٍ في المملكة العربية السعودية ، تـنشأُ على الكتابِ والسنة بفهم سلف الأُمَّة ، إلى أنْ هاجر مِنْ ضغطِ الحُكمِ في مصر في وقت من الأوقات -الإخوان المسلمون- وتلقتهم السعودية ، وفتحت لهؤلاء أيديها ، أكرمتهم ، بل استعانت بهم في مناهجِ التعليم والتربية ، فأفسدوا فيها إفسادًا عظيمًا ، ومازال تلامذة مَنْ كان مِمَنْ رحل ، ما زال هؤلاء ومَنْ تتلمذ على أيديهم مازالوا مِنْ المفسدين في الأرض الطيبة الطاهرة المباركة ، ويحُضُون على الثورة والانْعِتاقِ مِنْ قيد الكتاب والسنة بفهم سلف الأُمَّة .
هذه شهادةُ طه حسين ـ بعد حين ، لقد بدأ مقالاتٍ له عن الشِعْرِ القديم بمقالة عنوانها " أثناء قراءة الشعر القديم " وأدَار الحديث بَيْنَهُ وبينَ صاحبٍ له ، قال له وهو يحاوره: " إنكم لتشقون علينا حين تكلفوننا قراءةَ شِعْرِكم القديم هذا, وتلِحون علينا فيه, وتَعِيبُوننا بالإعرِاض عنه, والتقصيرِ في درسه وحفظِه وتذوقه ، لأنكم تنكرون الزمن إنكارًا وتلغونه إلغاءًا ، وتحسبون أننا نعيش الآن في القرن الأول قبل الهجرةِ أو بعدها... " إلى أخر ما صور به الدكتور حقيقةَ إحساسهِ بآراء مَنْ يحيطون به مِنْ الجيل الذي بلغ الفِطَامَ حينئذٍ واستقل ، وكان قد فُرِّغَ تفريغًا ثقافيًا تامًا مِنْ موروثِه .
مع أنَّ عبدالقاهر كان يقول : " مَنْ أراد أنْ يُذْرِي بالشعر العربي فهو مُذْرٍ بالاسلام ، ومَنْ حَقَّرَ الشِعْرَ العربي فهو مُحَقِّرُ للإسلام ، ومَنْ حاربَ الشِعْرَ العربي فهو مُحاربٌ للإسلام " .
قال بعد ذلك : " وقد تحدَّثَ إليَّ المتحدثون بأنَّ أمثالَ صاحِبي هذا, قد أخذُوا يكثرون, ويظهرُ أنَّهم سيكثرون كلما تقدمت الأيام " وصدق ظنُه, فقد كان ذلك وكان ما هو أبشع منه.
قال طه حسين في شهادته على ما وقع مِنْ تغريبٍ وتفريغٍ ثقافيٍ لعقولِ جيلٍ مُسلمٍ, تربي في المدارسِ على مناهج دَنْلُوبْ ، وما وضعَه وخطهُ كرومر مِنْ مناهجِ التعليم, التي جعلت خطًا موازيًا للتعليم الديني في مصر وفي العالم الإسلامي ، ثم مازال ذلك الخط يعمُق ويزدادُ ويستفحِلُ حتى نُحِيَّ الأخر, وصار الخطان خطًا واحدًا ،،،
قال في شهادتِه : " الَّذين يظنون أنَّ الحضارةَ الحديثةَ حَمَلتْ إلى عقولنا خيرًا خالصًا يُخطئون ، فقد حملت الحضارةُ الحديثةُ إلى عقولنا شرًا غير قليل ، فكانت الحضارةُ الحديثةُ مصدر جُمُودٍ وجهل, كما كان التعصبُ للقديمِ مصدر جُمُودٍ وجَهْلٍ أيضًا ".
" هذا الشابُ أو هذا الشيخُ الَّذي أقبلَ مِنْ أوروبا يحملُ الدرجاتِ الجامعية, ويُحْسِنُ الرِطَانضة بإحدى اللُغاتِ الأجنبية ، يجلسُ إليك وإلى غيرك, مُنْتفِخًا مُتنَفِشًا, مُؤمنًا بنفسه وبدرجاته وبعلمهِ الحديث أو أدبِه الحديث ، ثم يتحدث إليك كأنَّه ينطِقُ بوحي أبولون ، فيُعلِنُ إليك في حَزْمٍ وجَزْم, أنَّ أَمْرَ القديم قد انقضى, وأنَّ النَّاسَ قد أظلهم عصرُ التجديد, وأنَّ الأدبَ القديمَ يجبُ أنْ يُترك للشيوخ الَّذين يتشدقون بالألفاظ, ويملئون أفواهَهُم بالقَافِ والطَاءِ وما أشبهها مِنْ الحروفِ الغِلاظ ، وأنَّ الإستمساكَ بالقديمِ جمود ، والاندفاعَ في الحياة إلى أمَامٍ هو التطور, وهو الحياةُ وهو الرقي ...
هذا الشابُ وأمثالُه ضحيةٌ مِنْ ضحايا الحضارةِ الحديثة ، لأنَّه لم يفهم هذه الحضارةَ على وجهها ، ولو قد فَهِمَها لعلِمَ أنَّها لا تنكرُ القديم, ولا تَنْفِرُ منه, ولا تنصرِفُ عنه, وإنَّمَا تُحَبِبُهُ وتُرَغِّبُ فيه, وتَحُثُّ عليه, لأنَّها تقومُ على أساسٍ منه متين " .
" هذا الشابُ ضحيةٌ مِنْ ضحايا الحضارة الحديثة أو مِنْ ضحايا جهلِ الحضارة الحديثة, وشرُهُ ليس مقصورًا عليه, وإنَّمَا يتجاوزه إلى غيره مِنْ الناس ، فهو يتحدث, وهو يعلم وهو يكتب ، وهو في هذا كلِهِ يَنْفُثُ السُمَّ, ويُفْسِدُ العقول, ويَمْسَخُ في نفوس الناس المعنى الصحيحَ لكلمة التجديد ".
" فليس التجديد في إماتَةِ القديم, وإنَّمَا التجديدُ في إحياء القديم, وأخذُ ما يَصْلُحُ منه للبقاء ،،،
قال : " وأكادُ أتخذُ المَيْلَ إلى إمَاتَةِ القديم أو إحياءِه في الأدب, مقياسًا للَّذين انتفعوا بالحضارةِ الحديثةِ أو لم ينتفعوا بها ،،،
فالَّذين تلهيهم مظاهرُ الحضارة عن أنفسهم حين تلهيهم عن أدبهم القديم, لم يفهموا الحضارة الحديثة, ولم ينتفعوا بها, ولم يفهموها على وجهِها ، وإنما اتخذوا منها صورًا وأشكالًا, وقَلَّدُوا أصحابَها تقليدَ القِردة لا أكثرَ ولا أقل, والَّذين تلفِتهم الحضارةُ الحديثة إلى أنفسهم, وتدفعهم إلى إحياءِ قديمِهم, وتملأُ نفوسهم إيمانًا بألَّا حياة لمصر, إلَّا إذا عٌنِيَتْ بتاريخها القديم, وبتاريخها الإسلامي, وبالأدبِ العربي قديمه وحديثه, عنايتَها بما يمَسُ حياتها اليومية من ألوان الحضارة الحديثة, أولئك هم الَّذين انتفعوا ، هم الَّذين فهموا, وهم الَّذين ذاقوا, وهم القادرون على أنْ ينفعوا في إقامةِ الحياة الجديدة على أساسٍ متين " .
هذه شهادته على ما اقترفت يداه ، لأنَّه كان يريدُ نسف القديم. ألم يقل في الشعر الجاهلي - أي في كتابه- "في الشعر الجاهلي" للتوراة أن تُحدِثنا عن إبراهيمَ واسحاق أو واسماعيل ، وللقرآن أنْ يُحدِثنا عن إبراهيم واسماعيل, ولكن لا يعني ذلك أنَّه كانَ هناك مَنْ يُقالُ لهُ إبراهيم, ولا كانَ هناك مَنْ يُقَالُ لهُ اسماعيل.
إلى غير ذلك مما قال,,, يريد وَأْدَ الصلةِ بين قديمِ الأُمَّة وحديثها، يقول: شِعرِكم هذا الَّذي تستدلون به وتستشهدون به في كتبِ التفسيرِ والحديث, وكذا في كتبِ النحوِ والصرف, وفي كتبِ البلاغةِ والأدب ، يقول شِعرِكم هذا كلُه - أي ما كان منه قديمًا جاهليًا - مَنْحُولُ مَصنُوع. إلى غيرِ ذلك مما هو معلوم.
أيتها الأُمَّة المرحومة ... استعيني بالله واصبري, فإن هؤلاء ليسوا في الحقيقة سوى قبضةٍ من ذُباب ، لا أقول (سوى قبضةٍ من تراب) فإنَّ للتراب منافِع ، هؤلاء قبضةُ من ذباب ، هؤلاء كالمُخاط يصيب ثوبك ، فتستقذره إنْ استبقيته, وتستقذره إنْ نَحَيْتَه ، هؤلاء في هذه الأُمَّة كالمُخاطِ يصيب الثوب ، تستقذره في حالِ إبقائه, وتستقذره في حالِ إزالته .
لا تخشوا على دينِكم واخشوا على بلدِكم ، اخشوا على أنفسِكم ، على أعراضِكم ، على حيواتِكم ، على آخرتِكم, وأمَّا دينكم فمحفوظ, لنْ يضره أحد ولنْ يضره شيء.
مما هو معلوم أنَّ مُنَصِرًا ذهب إلى جنوبِ شرق آسيا, ودخل قرية من القرى الفقيرة المُعْدِمة ، فكان يذهب إلى المريض يختبئ تحت سريره, ثم يخرج إليه في غفلة ليقول له: يَسُوع يقرئك السلام وقد أرسل لك هذا الدواء ، أو يعطيه خبزًا أو ماءًا أو غِذاءًا ، أو يرفِهُه لونًا من ألوانِ الترفيه، ثم جمعوا الَّذين تابعوهم على ما يدعُونهم إليه, وأطعموهم وأكرموهم وأعطوهم حتى مَلُّوا من العطاء, ومَلَّ المعطون من الأعطاء , ثم قالوا لهم: أنتم الآن على ما دللنَاكم عليه ؟
فصاحَ صائحٌ من عُرْضِ القوم - وقد سُئلوا عما يريدون من رغبات ليحققوها لهم - فصاح صائحٌ من عُرْضِ القوم: متى تذهبون بنا إلى مكة لأداء فريضة الحج ؟؟
لا تخشوا شيئًا ، الله ناصِركم ... وحافظُ هذه البلدة - أعنِي مِصْرَ - أسألُ الله أنْ يجعلها بلدةً آمنةً مطمئنة ، وأنْ يعصمها من كيدِ الكائدين وزيغِ الزائغين, وحماقةِ الحمقى المغفلين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ..