فَقَدْ درجَ الناسُ قديمًا مِن المسلمين وغيرِ المسلمين على وصفِ عصورِهِم بصفاتٍ تغلبُ على أهلِها، حتى تكونَ ظاهرةً مرصودةً لا تُخطئُهَا العينُ، ولا ينزلقُ عليها النظرُ.
فعند المسلمين: عصرُ النبوة، وعصرُ صدر الإسلام، إلى غيرِ ذلك.
وعند غيرِ المسلمين: عصرُ الظلامِ، وعصر النهضة، وعصرُ التنوير، وعصرُ الإلحادِ، إلى غيرِ ذلك.
*عصر الكذب والتشهير، أو عصر التفجير والتكفير:
إذن، ما وصفُ عصرِنا؟
أقربُ الأوصافِ له أنه عصرُ الكذبِ والتشهير، أو عصرُ التفجيرِ والتكفيرِ.
ومِن أكبرِ الآفاتِ التي تلحقُ المرءَ فتُفسدُ عليه دينَهُ ودُنياهُ؛ عدمُ التفريقِ بين ما هو شرعيٌّ دينيٌّ وما هو ذاتيٌّ شخصيٌّ، وبين ما هو للهِ تعالى وما هو للعبدِ، ومعلومٌ أنَّ بين ما هو للهِ تعالى وما هو للعبدِ –أنَّ بينهما- بَوْنًا عظيمًا.
وكثيرٌ من الناسِ تتماهى عنده الحدود، وتنبهمُ المعالمُ بين ما هو شرعيٌّ وما هو شخصيٌّ، فيغضبُ لنفسِهِ، وَيَزْعُمُ أنَّ غضبَهُ لدينِهِ وَرَبِّهِ، ويقتُلُ إرواءً لحقدِهِ، وإشباعًا لنَهَمِ نَفْسِهِ السَّبُعيَّةِ المُتعطشةِ للدماء، وهو يدَّعي أنه يُجاهدُ في سبيلِ اللهِ وابتغاءِ مَرْضَاةِ الله!!
وَلَم يَنْتَقِم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- لنفسِهِ قطُّ، ولكنْ إذا انتُهِكت حُرُماتُ اللهِ لم يَقُم لِغَضَبِهِ شيء.
في «الصحيحين» عن عائشةَ –رضي الله عنها- قالت: ما انْتَقَمَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ الله فَيَنْتَقِمَ للهِ بِهَا».
وعند «البخاريِّ» أنَّ عُيينة بن حِصن لمَّا دخلَ على عُمر –رضي الله عنه- أساءَ له الخطاب، وأغلظَ له في الكلام، واتَّهَمَهُ في عدلِهِ وسياستِهِ بين رعيَّتِهِ، فَغَضِب عُمَرُ –رضي الله عنه- حتى هَمَّ به.
فقال له الحُرُّ بن قَيْس: يا أمير المؤمنين؛ إنَّ اللهَ تعالى قال لِنَبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وإنَّ هذا مِن الجاهلين.
قال ابنُ عباسٍ راوي الحديث: والله مَا جَاوَزَهَا عُمرُ حينَ تَلَاهَا عليه، وكان وقَّافًا عند كتابِ الله.
لقد كان قلبُ عُمرَ بِزِمَامِهِ في يدِ الشرعِ، لا بِيَدِ الهوى.
يأمرُ تعالى عبادَهُ المؤمنينَ أنْ يكونوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهداءَ للهِ، والقَوَّامُ صيغةُ مُبَالَغَة؛ أي: كونوا في كلِّ أحوالِكُم قائمينَ بِالقِسْطِ الذي هو العدلُ في حقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ، فَالقِسْطُ في حقوقِ اللهِ ألَّا يُسْتَعَانَ بِنِعَمِهِ على معصيتِهِ، بَل تُصَرَّفُ في طاعتِهِ.
والقِسْطُ في حقوقِ الآدميينَ أنْ تُؤدَّى جميعُ الحقوقِ إلى أربابِهَا، وأنْ تؤدِّي إلى الناسِ حقوقَهُم كما تطلبُ أنت حقوقَكَ، فتُؤدِّي النَّفَقَاتِ الواجبةِ والديون، وتُعَامِلُ الناسَ كمَا تُحِبُّ أنْ يُعَامِلُوكَ به مِن الأخلاقِ والمكافأةِ وغيرِ ذلك.
ومِن أعظمِ أنواعِ القِسْطِ: القِسْطُ في المقالاتِ والقائلين، فلا يحكمُ لأحدِ القوليْن أو أحدِ المُتَنَازِعَيْن لانتسابِهِ أو مَيْلِهِ لأحدِهِمَا، بَل يجعلُ وِجْهَتَهُ العدلَ بينهما، ومِن القِسْطِ أداءُ الشهادةِ التي عندكَ على أيِّ وَجْهٍ كان، حتى على الأحبَّاءِ بَل على النَّفْسِ، وَلَهَذَا قالَ: ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا﴾ أي: فَلا تُرَاعُوا الغنيَّ لِغِنَاه، ولا الفقيرَ بزعمِكِم رحمةً له، بَل اشهدوا بالحقِّ على مَن كان.
والقيامُ بالقِسْطِ مِن أعظمِ الأمورِ، وأدَلِّهَا على دينِ القائمِ به ووَرَعِهِ وَمَقَامِهِ في الإسلام، فَيَتَعينُ على مَن نَصَحَ نَفْسَهُ وَأَرَادَ نَجَاتَهَا أنْ يَهتمَّ له غايةَ الاهتمامِ، وأنْ يجعلَهُ نُصبَ عينِهِ وَمَحَلَّ إرادتِهِ، وأنْ يُزِيلَ عن نَفْسِهِ كلَّ مَانِعٍ وعائقٍ يعوقُهُ عن إرادةِ القِسْطِ أو العملِ به.
وأعظمُ عائقٍ لذلك اتَّباعُ الهَوَى، ولهذا نَبَّهَ تعالى على إزالةِ هذا المانعِ بقوله: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا﴾ أي: فلا تَتَّبِعُوا شهواتِ أَنْفُسِكُم المُعَارِضَةِ للحقِّ، فإنكم إنْ تَبِعْتُمُوهَا عَدَلْتُم عن الصوابِ، ولم تُوَفَّقُوا للعدلِ، فإنَّ الهوى إمَّا أنْ يُعْمِيَ بصيرةَ صاحبِهِ حتى يَرَى الحقَّ باطلًا والباطلَ حَقًّا، وإمَّا أنَّ يعرفَ الحَقَّ ويتركَهُ لأجلِ هَوَاهُ، فَمَن سَلِمَ مِن هَوَى نَفْسِهِ وُفِّقَ للحَقِّ وَهُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ.
وَلَمَّا بَيَّنَ أنَّ الواجبَ القيامُ بالقِسْطِ نَهَى عَن ما يُضَادُّ ذلك، وهو ليُّ اللسانِ عن الحقِّ في الشَّهَادَاتِ وغيرِهَا، وتحريفُ النُّطْقِ عن الصوابِ المقصودِ مِن كلِّ وجهٍ أو مِن بعضِ الوجوهِ، ويَدخلُ في ذلك تحريفُ الشَّهادةِ وعدمُ تكميلِهَا، أو تأويلُ الشاهدِ على أَمْرٍ آخر، فَإِنَّ هذا مِن الليِّ؛ لأنه الانحرافُ عن الحقِّ.
﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ أي: تتركوا القِسْطَ المَنُوطَ بِكُم، كَتَرْكِ الشاهدِ لشهادتِهِ، وَتَرْكِ الحاكمِ لحُكْمِهِ الذي يجبُ عليه القيامُ به.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي: محيطًا بِمَا فَعَلْتُم، يعلمُ أعمالَكُم خَفيَّهَا وجليَّهَا، وفي هذا تهديدٌ شديدٌ للذي يَلوي أو يُعْرِض، ومِن بابِ أَوْلَى وَأَحْرَى للذي يحكمُ بالباطلِ أو يشهدُ بالزورِ؛ لأنه أعظمُ جُرْمًا، لأنَّ الأَوَّليْن تَرَكَا الحقَّ، وهذا تَرَكَ الحَقَّ وَقَامَ بالباطلِ.
أي: لا يحملنَّكُم بُغضُ قومٍ وعدواتُهُم واعتداؤُهُم عليكم، حيثُ صدُّوكُم عن المسجدِ؛ على الاعتداءِ عليهم طلبًا للاشتفاءِ منهم، فإنَّ العبدَ عليه أنْ يلتزمَ أمرَ اللهِ ويسلُكَ طريقَ العدلِ، ولو جُنِيَ عليه أو ظُلِمَ أو اعتُدِيَ عليه، فلا يَحِلُّ له أنْ يكذبَ على مَن كَذَبَ عليه أو يخونَ مَن خانَهُ.
أي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بِمَا أُمِرُوا بالإيمانِ به, قُوموا بلازمِ إيمانِكُم, بِأَنْ تكونوا ﴿قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾, بأنْ تَنْشَطَ للقيامِ بالقِسْطِ والعدلِ حركاتُكُم الظاهرةُ والباطنةُ، وأنْ يكونَ ذلك القيامُ للهِ وَحْدَهُ, لا لِغَرَضٍ مِن الأغراضِ الدنيويةِ، وأنْ تكونوا قاصدينَ للقِسْطِ الذي هو العَدْل, لا الإفراطُ ولا التفريطُ في أقوالِكُم ولا أفعالِكُم، وَقُومُوا بذلك على القريبِ والبعيد, والصَّدِيقِ والعَدوِّ.
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ أي: لا يحملنَّكُم بُغضُ قومٍ ﴿عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾، كما يَفْعَلُهُ مَن لا عَدْلَ عنده ولا قِسْط، بَل كَمَا تَشْهَدُونَ لِوَليِّكُم, فاشْهَدُوا عليه, وكما تشهدون على عدوِّكِم, فاشْهَدُوا له, ولَو كانَ كافِرًا أو مُبْتَدِعًا؛ فإنهُ يَجِبُ العدلُ فيه, وقبولُ ما يأتي به مِن الحَقِّ, لا لأنَّهُ قَالَهُ، ولا يُرَدُّ الحَقُّ لأجلِ قولِهِ, فإنَّ هذا ظُلْمٌ للحَقِّ.
﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أي: كلَّمَا حَرَصْتُم على العَدْلِ, واجتهدتُم في العَمَلِ به, كان ذلك أقربَ لتَقْوَى قلوبِكُم, فَإِنَّ تَمَّ العَدْلُ؛ كَمُلَت التَّقْوى ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فَمُجَازِيكُم بأعمالِكُم؛ خيرِهَا وشَرِّهَا, صغيرِهَا وكبيرِهَا, جزاءً عاجِلًا وآجِلًا.
وعن أبي هريرةَ -رضي الله تعالى عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «اللهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ المُؤمِنِينَ آذيْتُهُ؛ شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجَعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً». رواه البخاريُّ ومسلمٌ واللفظُ له.
قال القرطبيُّ –رحمهُ اللهُ- في «المُفهِم»: «قد أشكلَ هذا على العلماءِ، وراموا التخلُّصَ من ذلك بأوجهٍ متعددة، أَوْضَحُهَا وَجْهٌ وَاحِدٌ وهو: أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- إنما يغضبُ لِمَا يرى من المغضوبِ عليه من مخالفةِ الشرعِ، فَغَضَبُهُ للهِ تعالى لا لنفسِهِ، فإنه ما كان يغضبُ لنفسِهِ، ولا ينتقمُ لها.
قال: وقد قرَّرَنَا في الأصولِ أنَّ الظاهرَ مِن غضبِهِ تحريمُ الفِعلِ المغضوبِ مِن أجلِهِ، وعلى هذا فيجوزُ له أنْ يُؤدِّبَ المخالفَ له بِاللعنِ والسبِّ والجلدِ والدعاءِ عليه بالمكروه، وذلك بحسبِ مخالفةِ المخالف، غير أنَّ ذلك المُخالفَ قد يكونُ ما صَدَرَ منه فَلْتَةً أَوْجَبَتْهَا غَفْلَةٌ، أو غَلَبَةُ نَفْسٍ، أو شيطان، وله فيما بينه وبين اللهِ تعالى عملٌ خالصٌ وحالٌ صادقٌ، يدفعُ اللهُ عنه بسببِ ذلك أثرَ ما صدرَ عن النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- له من ذلك القول أو الفِعل، وعن هذا عبَّرَ النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- بقوله: «فأيُّمَا أحدٍ دعوتُ عليه مِن أمتي بدعوةٍ ليس لها بأَهْلٍ، أنْ تجعلها له طَهَورًا وزكاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبها بها منه يومَ القيامة».
لَمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِتَعظيمِ رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، والصَّلاةِ والسَّلامِ عليه؛ نَهَى عن أَذيَّتِهِ، وَتَوَعَّدَ عليها فقالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وهذا يشملُ كلَّ أَذِيَّةٍ قوليَّةٍ أو فِعليةٍ، مِن سَبٍّ وَشَتْمٍ، أو تَنَقُّصٍ له أو لدِينِهِ، أو مَا يَعودُ إليه بِالأَذَى ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا﴾ أي: أَبَعْدَهُم وَطَرَدَهُم، وَمِن لَعْنَتِهِ في الدنيا أنه يتحَتَّمُ قَتْلُ مَن شَتَمَ الرسولَ وَآذَاهُ.
﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ جَزَاءً له على أَذَاهُ، أَنْ يُؤْذَى بالعذابِ الأليمِ، فَأَذيَّةُ الرسولِ الكريم ليست كأذيَّةِ غيرِهِ؛ لأنهُ -صلى اللهُ عليه وآله وسلم- لا يُؤمِنُ العبدُ باللهِ، حتى يُؤمِنَ برسولِهِ، وله مِن التعظيمِ، الذي هو مِن لوازمِ الإيمان ما يقتضي ذلك، أنْ لا يكونَ مِثْلَ غيرِهِ، وإنْ كانت أَذيَّةُ المؤمنينَ عظيمة، وإِثْمُهَا عظيمًا، ولهذا قالَ فيها: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ أي: بِغَيْرِ جِنَايَةٍ منهم مُوجِبَةٍ للأذى فَقَدْ احتَمَلُوا على ظهورِهِم حُرْمَةً أمرَ اللهُ باحترامِهَا، واحتملوا على ظهورِهم بُهتانًا حيثُ آذَوْهُم بغيرِ سَبَبٍ ﴿وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ حيثُ تَعَدَّوا عليهِم، وانتهكوا حُرْمَةً أَمَرَ اللهُ باحترامِهَا.
ولهذا كان سَبُّ آحادِ المؤمنين مُوجِبًا للتعزيرِ، بِحَسَبِ حالتِهِ وعلوِّ مرتبتِهِ، فتعزيرُ مَن سَبَّ الصحابةَ أَجَلُّ، وتعزيرُ مَن سَبَّ العلماءَ وَأَهْلَ الدِّينِ أَعظمُ مِن غيرِهِم.
أخرجَ الإمامُ أحمد وأبو داود والحاكمُ وصحَّحهُ، ووافقَهُ الذهبيُّ، ووافقَهُما الألبانيُّ عن ابن عُمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ؛ حُبِسَ في رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَأتيَ بِالمَخْرَجِ -بالمخرجِ ممَّا قال-».
وردغةُ الخبالِ: عصارةُ أهلِ النار.
وله طريقٌ أخرى فيها: «ومَن أعانَ على خصومَةٍ بِظُلْمٍ؛ فَقَد بَاءَ بِغَضَبٍ مِن اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ-».
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَ بَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ».
أخرجهُ أحمد بسندٍ حسنٍ لغيرِهِ.
ولعلَّ مِن أدلِّ ما يدُلُّ على قيمةِ الكلمةِ في دينِ الإسلامِ ذلك الجزءُ مِن حديثِ المنامِ الطويلِ الذي بيَّنَ فيه جبريلُ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- جزاءَ الرجل يكذبُ الكَذِبَةَ فتطيرُ كلَّ مَطَارٍ وَتَسيرُ كلَّ مَسَارٍ، ويظُنُّ المسكينُ أنه بمَنْأَى مِن عذابِ اللهِ –عزَّ وجلَّ-، وأنَّ الكلمةَ لا قيمةَ لها ولا وزن، وهي في الميزانِ أثقلُ من كثيرٍ من الذنوبِ والآثامِ.
أخرجَ البخاريُّ في «صحيحِهِ» بِسَندِهِ عن عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ, قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟»
فانظر –هُديتَ- إلى هذا العذابِ كيف تناولَ مِن الكذَّابِ آلةَ كذبِهِ وموضعَ إفكِهِ، وكيف يُشَقُّ شِدْقُهُ إلى قفاهُ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، ثم يُثَنَّى بالآخرِ؛ فيلتئمُ الأولُ، فيُعادُ عليه بالشَقِّ كما صُنِعَ به أولَ مرة، وهكذا في البرزخِ إلى يومِ القيامة.
فاللهم غُفْرًا، هذا جزاءُ مَن كَذَبَ الكذبةَ تُحملُ عنه حتى تبلُغَ الآفاق، هذا جزاءُ ما أتى وكِفاءُ ما صنعَ مِمن لا يُقَدِّرُ للكلمةِ قَدْرَهَا، ولا يعرفُ للكلمةِ خطرَهَا وشأنَهَا.
لقد عظَّمَ اللهُ –تبارك وتعالى- حرمة الدماء، وعظَّمَ أمرَ القتلِ وبيَّنَ خطرَهُ، وقد وردَ ذلك في جميعِ الشرائعِ السابقةِ المُنزَّلةِ.
قال اللهُ –عزَّ وجلَّ- عن أحدِ ابني آدم: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 30].
وقال –صلى الله عليه وسلم-: «لا تُقتلُ نفسٌ ظُلمًا إلَّا كان على ابنِ آدم الأول كِفلٌ مِن دمِهَا؛ لأنه أولُ مَن سَنَّ القتلَ». متفقٌ عليه.
وقال اللهُ –جلَّ وعلا- عن رسولِهِ موسى -عليه السلام- أنه قال للخَضِر: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾ [الكهف: 74].
وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- فيما رواه عنه ولده سالم؛ قال: «يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أَسْأَلُكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ وَأَرْكَبُكُمْ لِلْكَبِيرَةِ ، سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: يَقُولُ: «إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ -مِن حيثُ يطلُعُ قرنا الشيطان-»، وَأَنْتُمْ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً؛ فَقَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ [طه: 40]».
وقولُ سالمٍ بن عبد الله: «مَا أَسْأَلُكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ وَأَرْكَبُكُمْ لِلْكَبِيرَةِ»: يُشيرُ بذلك إلى ما جاءَ عن أبيه في «صحيحِ البخاريِّ» أنه سأله رجلٌ مِن أهلِ العراق عن دمِ البعوض.
فقال: «انظروا إلى هذا، يسألني عن دمِ البعوضِ وقد قتلوا ابنَ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-، وسمعتُ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- يقول: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا –يعني الحسنَ والحُسين –رضي الله عنهما-».
أخرجَهُ أبو داود، والترمذيُّ، وابنُ ماجة، وهو حديثٌ صحيحٌ.
قالَ شيخُ الإسلامِ -رَحِمَهُ الله- مُعَلِقًا على هذا الحديث: «فإذا كانَ مَنْ يَقْضِي بينَ النَّاسِ في الأمْوَالِ والدِّمَاءِ والأعْرَاضِ, إذا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا عَادِلًا كانَ في النَّارِ, فكيف بمَنْ يَحْكُمُ في المِلَلِ والأَدْيَانِ، وأُصُولِ الإيمَانِ، والمَعَارِفِ الإلَهِيةِ والمَعَالِمِ الكُلِّيَة بِلَا عِلْمٍ ولا عَدْل؟!!
فأمَّا الوَصِيَّةُ: فـأنْ تَكُفَّ لِسَانَكَ عنْ أهْلِ القِبْلَةِ مَا أمْكَنَكَ مَا دَامُوا قَائلِينَ «لا إله إلَّا الله محمدٌ رسولُ الله» غيرَ مُنَاقِضِينَ لهَا، فإنَّ التَكْفِيرَ فيه خَطَر, وأمَّا السُكُوتُ فلا خَطَرَ فيه, والخَطَأُ في عَدَمِ التَكْفِيرِ أو التَبْدِيعِ أو التَفْسِيقِ أهْوَنُ مِنْ الخَطَأِ في إثباتِ شيءٍ مِنْ ذلكَ ورَمْيِ بَرِئٍ به.
والَّذي يَنبَغِي أنْ يَمِيلَ المُحَصِّلُ إليه؛ الاحْتِرَازُ عنْ التَكْفِيرِ مَا وَجَدَ إليه سَبِيلًا, فإنَّ استِبَاحَةَ الدِّمَاءِ والأمْوَالِ مِنْ المُصَلِّينَ إلى القِبْلَةِ, المُصَرِّحِينَ بقولِ «لا إله إلَّا الله» خَطَأٌ شَنِيعٌ.
والخَطَأُ في تَرْكِ ألْفِ كَافِرٍ في الحَيَاة, أَهْوَنُ مِنْ الخَطَأِ في سَفْكِ مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمِ مُسْلِمٍ، والأصْلُ أنَّ دِمَاءَ المُسلمينَ وأعْرَاضَهَم مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعضِهِم على بَعض, لا تَحِلُّ إلَّا بإذْنٍ مِنْ اللهِ ورَسُولِه, قَالَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا خَطَبَهُم في حَجَّةِ الوَدَاع: «إنَّ دِمَائَكُم وأمْوَالَكُم وأَعْرَاضَكُم وأَبْشَارَكُم عليكُم حَرَام, كَحُرْمَةِ يَومِكُم هذا في شَهْرِكُم هَذَا في بَلَدِكُم هَذَا».
متفقٌ عليه.
وقالَ -صلى الله عليه وآله وسلم-: «كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَام, دَمُهُ ومَالُهُ وعِرْضُه». رواهُ مسلم.
وعن أبي بَكْرَةَ -رضيَ الله عنه- قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بسَيْفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ». فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ هذا القَاتِلْ فمَا بَالُ المَقْتُول؟!
قالَ: «إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على قَتْلِ صَاحِبِهِ». متفقٌ عليه.
وَعَنْ عبدِ اللهِ ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما- قال: قالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُم رِقَابَ بَعْض».
متفقٌ عليه.
وعن عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «سِبابُ المسلمِ فسوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْر». متفقٌ عليه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله ﷺ قال: «لا يشيرُ أحدُكم إلى أخيهِ بالسلاح، فإنه لا يدري لعلَّ الشيطانُ يَنْزِعُ في يدهِ -أي يرمي في يده-، فيقعُ في حفرةٍ مِن النَّار». متفقٌ عليه.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم ﷺ: «من أشار إلى أخيه بحديدةٍ، فإنَّ الملائكة تلعنهُ حتى ينتهي وإنْ كان أخاهُ لأبيه وأُمِّهِ».
رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم-: «أوَّلُ ما يُقْضَى بين الناسِ يومَ القيامةِ في الدِّماء». متفقٌ عليه.
وعن ابنِ عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزالُ المؤمنُ في فُسْحَةٍ من دينهِ ما لا يُصِب دَمًا حَرَامًا».
أخرجَهُ البخاريُّ.
وقالَ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ».
أخرجَ هذا الأثر البخاريُّ في «صحيحه».
والورطات: جمع ورطة، وهي الشيءُ الذي قلَّ ما ينجو منه أو هي الهلاك، «لا مخرج» أي: لا سبيل له إلى الخلاص منها، وأمَّا «سَفْكُ الدَّمِ الحَرَامِ» فهو قتلُ النفسِ المعصومة، «بغيرِ حِلِّهِ» أي: بغير حقٍّ يُبيح القتل.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «كلُّ ذنبٍ عسى اللهُ أنْ يغفرَه إلا مَن مَّات مُشْرِكًا أو مؤمنٌ قَتَلَ مؤمِنًا متعمدًا».
وعن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- عن رسول الله ﷺ قال: «لزوالُ الدنيا أهونُ عند اللهِ مِن قَتْلِ رجلٍ مُسلم».
وعن عبد الله بن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: «قتلُ المؤمنِ أعظمُ عند الله من زوالِ الدنيا».
والأحاديث في هذا كثيرة.
بل نَهَى النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- عَمَّا هو دون ذلك بكثير؛ عن ترويع المسلم:
فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحابُ مُحمد ﷺ أنهم كانوا يسيرون مع النبي ﷺ، فنامَ رجلٌ منهم، فانطلق بعضُهم إلى حَبْلٍ معه فَأَخَذَهُ؛ ففَزِعَ.
فقالَ رسولُ الله ﷺ: «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يَروِّع مُسْلِمًا».
فكيف بتكفيره بلا مُوجِب؟!
وتكفيرُهُ أعظمُ آثارًا مِن قَتْلهِ.
وعن التكفيرِ بلا مُوجبٍ وبلا مستندٍ شرعيٍّ قال الشوكانيُّ:
فأهل السُّنة وسطٌ بين الفِرَق، ودينُ اللهِ –جلَّ وعلا- وسطٌ بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين الجَبَليْن، والهُدَى بين ضَلَالتيْن، والوَسَطِ بين طَرَفيْن ذميميْن.
وَكَمَا أنَّ الجافي عن الأمرِ مُضَيَّعٌ له، فَالغَالِي فيه مُضَيَّعٌ له، هذا بِتَقْصِيرِهِ عن الحَدِّ، وهذا بِتَجَاوزِهِ الحَدِّ، قالَ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]؛ أي: عدولًا خيارًا، وَكَمَا أنَّ الأُمَّةَ وَسَطٌ بين الأُمَمِ، فكذلك أَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بين الطوائفِ والفِرَقِ.
*ففي أبواب الإيمان:
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَسَطٌ بين التكفيريينَ الغُلاة والمُرجئةِ الجُفاة، وفي إثباتِ الإيمانِ من أنه قولٌ وعَمَلٌ واعتقادٌ، أَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بين هؤلاء وهؤلاء.
*وفي بابِ الأسماءِ والصفات:
هُم وَسَطٌ بين المُعطلة والمُمثلة.
*وفي بابِ القضاءِ والقَدَرِ:
أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطٌ بين القدريةِ والجبريةِ.
*وأهلُ السُّنةِ والجماعةِ وَسَطٌ في أهلِ الكبائرِ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بين الخوارجِ والمعتزلة وبين المُرجئة.
وأهل السُّنة لا يُكفِّرون أهل القبلة بمُطلقِ المعاصي والكبائر كما يفعلهُ الخوارج، بل الأخوةُ الإيمانيةُ ثابتةٌ مع المعاصي، ولا يَسلبونَ الفاسقَ المِليِّ الإيمانَ بالكلية، ولا يُخَلِّدُونَهُ في النارِ، بل الفاسقُ يدخل عندهم في اسمِ الإيمانِ المُطلق، وقد لا يدخلُ في اسمِ الإيمانِ المطلق، ونقول: هو مُؤمنٌ ناقصُ الإيمان أو مؤمنٌ بإيمانهِ فاسقٌ بكبيرته، فلا يُعطى الاسمَ المطلق ولا يُسْلَبُ مطلقُ الاسم.
قال ابن أبي العز –رحمهُ الله- «واعْلَمْ -رحِمكَ اللهُ وإيَّانَا- أنَّ بَابَ التَكفِيرِ وعدمِ التَكفِير، بابٌ عَظُمَت الفِتنَةُ والمِحنَةُ فيه، وكَثُرَ فيه الافتراقُ، وتَشَتَّتْ فيهِ الأهواءُ والآراء، وَتَعَارَضَت فيه دلائلُهُم، فالنَّاسُ فيه في جِنْسِ تكفيرِ أهلِ المقالاتِ والعقائدِ الفاسدةِ المُخَالِفَةِ للحَقِّ الذي بَعَثَ اللهُ به رسولَهُ في نَفْسِ الأمرِ أو المخالفةِ لذلك في اعتقادِهم؛ على طرفيْن وَوَسَط مِن جِنْسِ الاختلافِ في تكفيرِ أهلِ الكبائر العملية».