... إني أحذر

للاستماع للمحاضرة

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-

 وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فقد كتب شاعرٌ كان شابًا عندما كتب ما كتب، قصيدةَ يُعبر فيها عن حال جيله وحال أُمته،

قال فيها:

دخلـت معـرةَ النعمـان أعمـى     يرى زحف العُصارة فـي النبـات

يرى بؤس الأجنَّـة وهـي تعـوي     من الأصـلاب بحثًـا عـن فُتـات

وها أنا في الثلاثةِ مـن سجونـي     غُرابُ الروح ينعـب فـي لهاتـي

شُفيت فما شَقيـت بـإرثِ مـاض     وُقيـتُ فمـا سُبيـت بحـلـمٍ آت

ومن أنا والترابُ يغـوص تحتـي     ومن أنا في سمـاءِ الطائـرات

ومـن أنـا فـي سـلام معدنـيٍّ    ومن أنا في حروب الحاسبـات

سلامًـا أيهـا الحاسـوب صرنـا     قوائـم فـي سـلال المهـمـلات

سأبحث عن لزوميـات صمتـي     وعـن قبـرٍ بحـجـم تأمـلاتـي

لـمـاذا لا تتابعـنـي ظـلالـي       لمـاذا لا تشابهـنـي صفـاتـي

لمـاذا خـرَّب النسيـان قلبـي     وخانتنـي شجـاعـةُ ذكريـاتـي

فلا طـربٌ ليأنـس بـي صحابـي     ولاغضـبٌ ليخشـانـي عـداتـي

أنِّـي خـارجٌ مـن كـلِّ شـيء     يسابقنـي إلـي موتـي مـواتـي

بعيدًا عن دمي، عن حزن أهلـي     بعيـدًا عـن عـذاب الكائـنـات

يمـرُّ الفاتحـون علـي عظامـي     فـلا تدمـى ولا تدمـى قنـاتـي

أنـا حجـر النهايـة فاتركـونـي     لأغـرقَ فـي ميـاه تداعيـاتـي

هَـوَت عشـرون أندلسـًا لأبكـي     علـي أطلالهـا مـجـد الحُـفـاة

فمن سيرى قرَابَ السيـف يبكـي     ومـن سيلـمُّ دمـع الصافـنـات

ومن سيشمُّ رائحـة ابـن  رشـدٍ     تُسافـر فـي مـداد الترجمـات

ومن سيضوع مسك الـروح فيـه     ويسكـن فـي بهـاء مُنمنمـاتـي

ومـن سيكـون آخـر عَبشـمـيّ     يمـزقُّـه نحـيـبُ موشحـاتـي

ومـن سيعلِّـق الأجـراس مَّـنـا      قبيل الفجر في عنق الكُمـاة

أتسأل يـا ابـن زيـدون لمـاذا     يعـاف الشـدو جبَّـارَ الشـداة

مضي زمن الذين حمـوا حماهـم     وليس يليق بي زمن اللواتـي

إلي الربع الخـراب نعـود رهـوا     فـلا ثقُلـت بطـون المنجبـات

أنـا المتحـدث الشعبـي باسمـي     وباسـم اليائسيـن مـن النجـاة

مدان بارتكـاب الحـزن جهـرًا     ومتـهـم بـازعـاج الـعتاة

أنـا منـدوب تدشـيـن لجـيـلٍ     تناسـل فـي زحـام الحـافـلات

تساقـط مـن دم الأرحـام كهـلا     لتلعـنـه أكـــفُّ الـقـابـلات

نما في السهو في عَطـنِ الليالـي     وفـي عقـم الخطـى واللافتـاتِ

أبشـرُّكـم بتـنـيـنٍ رهـيــبٍ     تنفـس تحـت سقـف العائـلات

سيرفـضُ إرثكـم دون امتـنـان     ويعبُـرُ سخطكـم دون التـفـات

سيرقـص فـي قميـصٍ أجنبـيٍ     ويحـشـو تبْـغـه  بالموبـقـات

سيهبـطُ نحـو غلمِتـه  لـيـأوي     إلـي قطـط الغـرام الجائـعـات

سيصنـعُ مـن أبوَّتكـم رصاصًـا     لتندلـع الجريمـة فـي الجهـات

سيفـرحُ عندمـا تعطيـه رومـا     معـونـة شـهـوةٍ ومعـلـبـات

سيخرج من ربـاط الخيـل قسـرا     ويُطـرد مـن دعـاء المئـذنـات

سلامًا يا حدود الشرع رومـا     تـوزع خبزنـا وقـت الـصـلاة

لمـاذا تجرحيـن صفـاء يأسـي    وتجترحيـن هــدأة خارطـاتـي

وتبتكـريـن نـافـذة  لـروحـي     وتخترعـيـن ثالـثـة الـرئـات

حنانـك أخطـرُ الغربـاء قلبـي     وأخطـر مـا بقلبـك وشوشاتـي

أخافـك أم أخـاف عليـك منًّـي?     همـا خوفـان: حنَّـانٌ وعــاتِ

أجيئـك فارغًـا مـن كـل حلـمٍ     وممتلئًـا كقبـعـة الـحـواة

من الوعظ الجبانِ، مـن الأغانـي     من الخطب التي التهمـت ثباتـي

ومن كتب الحماسـة والأمالـي     ومـن أشهـي أكاذيـب الــرواة

من اللغو المحنَّـط فـي حواشـي     علـي متنـنٍ لألـغـاز النـحـاة

ومن صنـوفِ الـدراويشِ، التكايـا     دفـوف الـزار شعـوذة الـرُقـاة

من الحـب الـذي لا حـبَّ فيـه     مـن الجسـد المهيـئ للسـُبـات

من النقب، الجليل، القدس، يافـا     من النيـل الكظيـم إلى الفـرات

من التاريخ حيـن يصيـرُ مبغـى     لـديـوثٍ وحفـنـة ساقطات

وداعًـا للجمـال لشـمـس آب     إذا ابتسمـت علـي خـد البنـات

لألعـاب الطفولـة للأحـاجـي     لعصفـور الصبـاح  لسوسنـاتـي

وداعًـا للبكـاء بـصـدر أمــي     لفيـروز العـيـون الصافـيـات

لطعـم البرتقـال لصبـح عيـدٍ     تــلألأ بالثـيـاب الـزاهـيـات

لسطح طفولتـي لدجـاج أمـي     لأفــقٍ باتـسـاع  تخـيـلاتـي

لمقرعـة المعِّلـم حيـن تعـلـو     فتنفـجـر العـنـادلُ صـائحـات

لحكمة جدتي لسعال جدي     لأشجار الحنان الباثقات

لثرثـرة الصـداقـة للنوادي     لقهقـهـة مهـذبـة الـنـكـات

لبيت الحب للغـد حيـن يأتـي     لآلاف الـوعــود الـرافعـات

لقـد ودعـتُ مـا ودعـتُ منـي     لأولـد مـن زمان الأمنـيـات

سأفتـرع الكتابـة وهـي بـكـرٌ     وأجـتـرح الحقـائـق ثيـبـاتِ

وأنتظـر القيامـة فـي هــدوء     وحيـدًا تحـت سقـف مخيماتـي

(وداعًا أيتها الصحراء) يُبين لنا في هذه القصيدة أن ما نشأنا عليه، وأن ما تربينا عليه، وأن ما استقر في قلوبنا، ومضت عليه سُنة حيواتنا، كل ذلك وقع الغزو عليه من مدنيةٍ وثنيةٍ فاجرةٍ كافرة فاستُلِبنا، وفُرِغنا ثم صِرنا بحيث لا ندري أين نحن؟ وأين كُنا؟

ألي في الهوى مالي وللائم العذر         أما يعلم اللوام أن الهوى مصر

فإن يسألوا ما حب مصر فإنه       دمي وفؤادي والجوانح والصدر

لنفسي وفائي إن وفيت بعهدها    وبي لا بها إن خنت حرمتها الغدر

أخاف وأرجو وهي جهد مخافتي   ومرمى رجائي لا خفاءٌ ولا نكر

هي العيش والموت المبغض والغنى   لأبنائها والفقر والأمن والذعر

 

وهبت الصبي والشيب والشوق والهوى         لمصر وإن لم أقض حق الهوى مصرا

بلادٌ حبتني أرضها وسماؤها          حياتي وأجرى نيلها في فمي الدُرا

وما حادثٌ يوماً وإن راع وقعه               بماحٍ هواها أو يطاولها ذكرا

 

وَطَني أَسِفتُ عَلَيكَ في عيدِ المَلا       وَبَكَيتُ مِن وَجدٍ وَمِن إِشفاق

لا عيدَ لي حَتّى أَراكَ بِأُمَّةٍ            شَمّاءَ راوِيَةٍ مِنَ الأَخلاقِ

ذَهَبَ الكِرامُ الجامِعونَ لِأَمرِهِم        وَبَقيتُ في خَلَفٍ بِغَيرِ خَلاقِ

أَيَظَلُّ بَعضُهُمُ لِبَعضٍ خاذِلاً            وَيُقالُ شَعبٌ في الحَضارَةِ راقي

وَإِذا أَرادَ اللَهُ إِشقاءَ القُرى         جَعَلَ الهُداةَ بِها دُعاةَ شِقاقِ

 

يا أهل مصر كِلُوا الأمور لربكم ... فالله خير موئلاً ووكيلا

جرت الأمور مع القضاء لغاية ... وأقرّها من يملك التحويلا

أَخَذَتْ عنانًا منه غير عنانها ... سبحانه متصرفا ومديلا

 

قال الله -جل وعلا-: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الانفال: 24،25].

يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه. وقوله تعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصفٌ ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله، وبيانٌ لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبادة اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام. ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم، فيُحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه، يُقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء. فليُكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، صرف قلبي على طاعتك. {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: تُجمعون ليوم لا ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه.

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} بل تصيب فاعلَ الظلم وغيره، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يُغيَر، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، واتقاء هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يُمكَنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن تعرض لمساخطه، وجانب رضاه.

عن النعمان بن بشير –رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-  قال: ((مَثَلُ القَائِم على حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذين في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن يتَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا)). أخرجه البخاري في ((صحيحه)).

ولفظه فيه: ((مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا: مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِين فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي، وَلَا بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا جَميعا، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ، وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ))

قال الحافظ:

(( (مَثَلُ الْمُدْهِنِ): الْمُدْهِنُ وَالْمُدَاهِنُ وَاحِدٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُرَائِي وَيُضَيِّعُ الْحُقُوقَ وَلَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ. (اسْتَهَمُوا سَفِينَةً): أَيِ اقْتَرَعُوهَا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمًا أَيْ نَصِيبًا مِنَ السَّفِينَةِ بِالْقُرْعَةِ)).

وفي الحديث تعذيبُ العامةِ بذنب الخاصة، والتعذيب المذكور إذا وقع في الدنيا على من لا يستحقه فإنه يُكَفر به من ذنوبه إذا وقع عليه أو يرفع الله له به درجته.

قال الرافعي -رحمه الله-:

((إني كثيرًا ما أقفُ عند الحديثِ الدقيق؛ أتعرفُ أسراره، فإذا هو يشرح لي ويهديني بهديه؛ ثم أُحِسُّه كأنما يقول لي ما يقول المعلم لتلميذه: أفهمت؟

وَقَفت عند قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ قومًا رَكبوا سفينة.... وذكر الحديث))

وَقَفتُ عند هذا الحديثِ فكان له في نفسي كلامٌ طويلٌ عن هؤلاء الذين يخوضون معنا البحر ويسمون أنفسهم بالمجددين، وينتحلون ضروبًا من الأوصاف؛ كحرية الفكر والغيرة والإصلاح؛ ولا يزال أحدهم ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه –أي: بقلمه- زاعمًا أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كما يريد، موجهًا لحماقته وجوهًا من المعاذير والحجج، من المَدَنية والفلسفةِ، جاهلًا أن القانون في السفينة إنمَا هو قانون العاقبة دون غيرها.

فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه كما يُحكم على الأعمال الأخرى؛ بل قبل وقوعه، والعقاب لا يكون على الجرم يقترفُه المجرم كما يعاقب اللص والقاتل وغيرهما، بل على الشروع فيه، بل على توَجُّه النية إليه، فلا حريةَ هنا في عملٍ يفسد خشبَ السفينة أو يمسه من قرب أو بعد ما دامت ملججةً في بحرها، سائرةً إلى غايتها؛ إذ كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، وهناك لفظةُ (أصغر خرق) ليس لها إلا معنًى واحد وهو (أوسع قبر).

ففكِّر في أعظم فلاسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلاقه، فهو هَاهُنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد, تفسرها في لغة البحر حدود الحياة والمصلحة، كما أن لفظة (الخرق) يكون من معانيها في البحر؛ القبرُ والغرقُ والهلاك، فكلمة (الفلسفة) يكون من بعض معانيها في الاجتماع؛ الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة (الحرية) يكون من معانيها؛ الجناية والزيغ والفساد, وعلى هذا القياس اللغوي؛ فالقلم في أيدي بعض الكُتَّاب من معانيه الفأس، والكَاتِب من معانيه المُخرب، والكِتابَة من معانيها الخيانة)).

عن النعمان بن بشيرٍ –رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا –القائم فيها يعني: الذي استقام على دين الله فقام بالواجب وترك المحرم, والواقع فيها: أي في حدود الله, أي: الفاعل للمحرم أو التارك للواجب- كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ –يعني: ضَربوا سهمًا وهو ما يُسمى بالقرعة أيُّهم يكون الأعلى- فَصَارَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا الْمَاءَ – يعني: إذا طلبوا الماء ليشربوا منه- مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ – يعني: الذين في أعلى السفينة لأن الماء لا يُقدَر عليه إلا مِن فوق-، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا – يعني: لو نخرق خرقًا في مكاننا نستقي منه؛ حتى لا نؤذي من فوقنا هكذا قَدَّروا وَأرادوا, قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا- لأنهم إذا خرقوا خرقًا في أسفل السفينة دخل الماء ثم أغرق السفينة-، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ - ومنعوهم من ذلك- نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا – يعني: نجا هؤلاء وهؤلاء-))

وهذا المثل الذي ضربه النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- هو مِن الأمثال التي لها مغزًى عظيم ومعنًى عال, فالناس في دين الله كالذين في سفينةٍ في لُجةِ النهر, فَهُم تتقاذفهم الأمواج, ولابد أن يكون بعضهم إذا كانوا كثيرين في الأسفل, وبعضهم في أعلى؛ حتى تتوازن حمولة السفينة, وحتى لا يُضيِّق بعضهم على بعض.

وفيه أن هذه السفينة المشتركة بين هؤلاء القوم؛ إذا أراد أحد منهم أن يخربها فلابد أن يمسكوا على يديه وأن يأخذوا على يديه؛ لينجوا جميعًا, فإن لم يفعلوا هلكوا جميعًا, هكذا دين الله إذا أخذ العقلاء وأهل العلم والدين على الجهال والسفهاء نجوا جميعًا, وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا, كما قال الله –جل وعلا-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].

ونحن جميعًا في سفينة الوطن وما أكثر الذين يحملون معاولهم وفئوسهم؛ ليخرقوا السفينة ليغرقوها من غير أن يجدوا أحدًا يأخذ على أيديهم!!

إن رأس الدولة ورئيسها يصرح للقوم جميعًا أن الدولة مهددة, وقبل ذلك صرح لهم أن المؤامرة قد أفلحت مصر في تعطيلها, لا في وأدها ولا في إحباطها, وإنما قال: في تعطيلها, فالمؤامرةُ مستمرةٌ ومع ذلك فالقوم لا يرعوون عن سفهاتهم!

وهذا الإعلامُ يضرب في كل سبيلٍ بما يؤزُّ شياطين الإنس والجن على الدولة, ويقلب النفوس بعضها على بعض, ويثير الأحقاد ويهيج الفتن, هؤلاء يحملون معاولهم؛ ليخرقوا سفينة الوطن, ولابد من الأخذ على أيديهم فإن الدولة مهددة.

وعندما يقولُ رأس الدولة ورئيسها إن الدولة مهددة؛ فإنه لا يقول ذلك عن كذبٍ ولا مبالغةٍ وما عهدوا عليه كذبًا ولا مبالغةً, وإنما يقولوه عن رؤيةٍ وبصيرةٍ عن واقعٍ يعلمه علم يقين...

غير أنه من أساسيات الأمن القومي ألا يصرَّح بتفاصيله, ويكفي أن يفهم كل ذي عقلٍ أن الدولة مهددة, فماذا تريدون بعد ذلك؟!

والمؤامرةُ عُطلِّت ولم تحبط, فهي ماضيةٌ تتجمع خيوطها وأطرافها من أجل أن تُحكِم الخناق على هذه الأمة المصرية, والمصريون لا يبالون!! فمتى يرعوون؟ ومتى يدركون؟!

وهؤلاء الذين يخرجون على الإجماع ويخبطون في خشب السفينة؛ ليخرقوها يريدون إغراقها, يعملون لسحاب مَن؟!

إنه مما يتوجب على المرء الآن أن يراعي المصحة العليا لهذا الوطن, فهذا وطنٌ مسلمٌ, وهذه أرضٌ يحيا عليها المسلمون منذ قرونٍ, وينبغي عليهم أن يحافظوا عليها وألا يضيعوها, ولكن طائفة من هذا الشعب الأبيِّ الكريم تأبى إلا أن تدفع سفينةَ الوطنِ إلى الصخور الوعرة؛ من أجل أن ترتطم بها, ويحاولون جاهدين أن يخرقوها ليغرقوها!!

والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول للعقلاء: ((فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا, وَإِنْ تَرَكُوهُم هَلَكُوا وَهَلَكُوا جَمِيعًا))

فعلى كل مصريٍّ أن ينتبه وأن يأخذ على أيدي السفهاء؛ الذين يحملون أقلامهم أو فئوسهم أو يهرفون بألسنتهم تضربُ بين أشداقهم بكل ما يضر الوطن ومصلحته, وبكل ما يعبث بالأمن القومي لهذا البلد, والبلد مهددة من حدودها الغربية بالدواعش والتكفيريين وأصحاب التهريب للمخدرات وللأسلحة الفتَّاكات, ومهددة من جنوبها بسد النهضة وبما يجري في السودان, ومهددة في شمالها الشرقي في سيناء وما بعد سيناء من عصابة صهيون, ومهددة في داخلها بالخونة في كل مكان, لا يتقون الله رب العالمين ويريدون هدم هذا الوطن, وإشاعة الفوضى فيه, وعلى كل مصريٍّ أن ينظر إلى ما يجري في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن.

أين يذهب المصريون إن وقعت الفوضى في هذا الوطن؟!

إن النساءَ يبعن فاحرصوا على أعراضكم, وإياكم أن تشاركوا -ولو بكلمة- في إحداث الفوضى في وطنكم. أين تذهبون؟!!

إن السوريين قد تشتتوا في الأرض!! جمع الله شتاتهم ورفع الله الكرب عنهم.

وما يقعُ من التقاتل في ليبيا حيث يقتل الأخ أخاه! ويعدو المسلم على أخيه!!

وفي اليمن يُمَكَّن للروافض؛ لكي يكونوا شوكةً في ظهر المملكة السعودية, ومن أجل أن يتقدموا إلى الشمال؛ ليستحوذوا على الكعبة, وإلى الشمال إلى حيث قبر رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-, والباقي معلومٌ معروفٌ.

فهذا مثلٌ ضربه لنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-, وينبغي علينا أن نتأمل فيه, لو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا وإذا تركوهم للعبثِ العابثِ, ولهذا السخف السخيف هلكوا وهلكوا جميعًا, وينبغي أن يُعلم أن الأمر يبدأ صغيرًا ثم يكبر, ويمكن أن يُسيطر عليه في مهده, وأن يُوأد, وأن يُمحَق ولكنه إن تُرك فإنه يتمادى ويكبر ويَعسُر التعامل معه إذْ يصير أمرًا واقعًا.

وهاهنا مثالٌ لآخر ولكنه من الشعر ؛

كانَ لِلغربانِ في العصرِ مَلِيكْ *** وله في النخلةِ الكُبرى أريكْ

فيه كرسيٌّ وخِدْرٌ ومُهودٌ *** لصغارِ المُلْكِ أصحابِ العهود

جاءهُ يومًا ندورُ الخادمُ *** وهوَ في البابِ الأمينُ الحازمُ

قال: يا فرعَ المِلوكِ الصالحينْ *** أنت ما زِلتَ تحبُّ الناصحينْ

سوسةٌ كانت على القصرِ تدور *** جازتْ القصرَ ودبتْ في الجدور

فابعث الغربانَ في إهلاكها        *** قبلَ أن نَهلِكَ في أشراكها

ضحكَ السلطانُ مِن هذا المقال *** ثم أدنى خادمَ الخير وقال:

أنا ربُّ الشوكةِ الضافي الجناح *** أنا ذو المنقارِ غلاَّبُ الرياح

أَنا لا أَنظُرُ في هَذي الأُمور *** أَنا لا أُبصِرُ تَحتي يا نُدور

ثُمَّ لَمَّا كانَ عامٌ بَعدَ عام *** قامَ بَينَ الريحِ وَالنَخلِ خِصام

وَإِذا النَخلَةُ أَقوى جِذعُها *** فَبَدا لِلريحِ سَهلًا قَلعُها

فهوتْ للأرضِ كالتلِّ الكبير *** وَهَوَى الديوانُ وانقضَّ السَّرير

فدَها السلطان ذا الخطبُ المهول *** ودعا خادمه الغالي يقول:

يا ندورَ الخيرِ أسعفْ بالصياحِ *** ما تَرى ما فعلَتْ فينا الرياح؟

قال: يا مولايَ، لا تسأل ندور *** أنا لا أنظر في هذي الأمور!

وهيَ العبارة التي قالهَا له عندما نصحه؛ فردها عليه لمَّا فات أوانُ النصح.

فينبغي أنْ نلتفت إلى البدايات, وألا نترك الأمور حتى تتفاقم تسكينًا أو إغضاءً أو مُداراةً ثم نُفاجأ بعد حين بالكوارث الطامات, وبالبلايا المخزيات, هذا وقت عصيب.

قال الله –جل وعلا-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].

قال العلامة السعدي –رحمه الله-:

((هذا تأديبٌ من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق, وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمرٌ من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة؛ عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونَه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالحَ وضدها, فإذا رأوا في إذاعته مصلحةً ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا لهم وتحرزًا من أعدائهم فعلوا ذلك.

وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية هي؛ إذا حصل بحثٌ في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهلٌ لذلك ويُجعل من أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقربُ إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ, وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحةٌ، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟)).

نَحنُ نَحيَا فِي مَرحلَةٍ عبثِيةٍ مِن مراحِل تاريخِنا, الناسُ الآن مَشغولُون بالأحقَادِ, هَدأَت الأُمورُ نَوعًا مِن الهِدوءِ فَذهبَت المُظاهراتُ والاعتِصامَاتُ نَحوَ ذهَاب, وَتَفرَّغ النَّاسُ للأحقَادِ, وَالقُوَّةُ الدَّافِعةُ الآن فِي صِدُورِ كَثيرٍ مِن المِصريينَ هِيَ قُوَّةُ الحِقد!!

وَالنَّاسُ فِي عَبثِيَّةٍ عَابِثَةٍ, حتَّى إِنَّ رَجُلًا أَقامَ دَعوَى قَضَائيةٍ علَى رَجُلٍ؛ لأنَّه مَرَّ عَليهِ فَسَلَّمَ عَليهِ فَلَم يَرُدَّ عَليهِ السَّلام, فَجَرجَرَهُ إِلَى المَحَاكِمِ!! وَأَتى بالشِّهُودِ يَشهَدُونَ أنَّهُ سَلَّمَ عَليهِ وَلَم يَرُدَّ عَليهِ السَّلام!! فَتُشغَلُ المَحاكِمُ بهَذَا.

وَآخَرُ أَقامَ وَحَرَّكَ دَعوَى قَضَائيةٍ علَى رَئيسِ الجمهورِيةِ؛ لأنَّه أَرسَلَ إِليهِ بطَاقَةَ دَعوَةٍ مِن أَجلِ أَنْ يَحضُرَ حَفلَ زَفاف ابنَتِهِ فَلَمْ يَحضُر, وَلَمْ يُنِبْ أَحدًا, وَلَمْ يَعتَذر!!

وَطَالَبَ بمَبلغٍ قَدرُه مِليون جِنيه تَعويضًا لهُ علَى مَا أصابَه, وَيكُونَ هَذا علَى نَحوٍ مِن الأنحَاءِ قَابلًا لِلزيَادَةِ نَظرًا لمَقَامِ رَئيسِ الجمهوريةِ وَحيثِيَّته!! هَذا عَبَث!!

هَذا الذِي نَحنُ فِيهِ يَدُلُّ علَى أنَّنا لَانُبَالي بمُستَقبَلِ وَطنِنَا وَلَا بمُستَقبَلِ أَبنَائِنا, بَل نَحنُ لَا نُبَالِي بِحيوَاتِنَا وَمَا يُمكِنُ أنْ يُصيبَنا, وَأعدَاؤنَا مِن كُلِّ جَانِبٍ يُضَيِّقُونَ عَلينَا الحَلقَةَ وَيجتَهِدونَ فِي مَحقِنَا وَفِي قَتلِنَا وَفِي إِزالَتِنَا وَفِي مَحوِ تَارِيخِنَا وَمَع ذَلِك فَنَحنُ لَا نُبَالِي!!

وَأَخَطَرُ مِن الخَطَرِ  أَلَّا يُحِسَّ مَن هُوَ فِي خَطَرٍ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ

لِأنَّ مَن كَانَ مَحِسًّا بأَنَّهُ فِي خَطَرٍ فَسَيَسعَى حَتمًا لِتَلَافِي هَذا الخَطَرِ أَنْ يَقَعَ عَليهِ, وَأَمَّا أَلَّا يُحِسَّ مَن هُوَ فِي الخَطَرِ -بَلْ فِي عَينِ الخَطَرِ وَسَواءِه- أَلَّا يُحِسَّ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ فَهَذا أَكبَرُ مِن الخَطَرِ !!

هَذِهِ مَرحَلةٌ فَاصِلةٌ مِن تَاريخِ هَذا الوَطَن نَسأَلُ اللهَ رَبَّ العَالمِينَ أَنْ يُمَرِّرَهَا عَلينَا بِأَمْنٍ وَسَلَامٍ, وَإِذَا أَرَادَ بِالنَّاسِ فِتنَةً أَنْ يَقبِضَنَا إِليهِ غَيرَ فَاتِنينَ وَلَا مَفتُونِينَ وَلَا خَزَايَا وَلَا مَحزُونِينَ , إِنَّهُ تَعالَى علَى كَلِّ شَيءٍ قَديرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ:

فإننا:

قَـد غَـفَـونـا وَانتَبَهنا فَإِذا                    نَـحـنُ غَرقى وَإِذا المَوتُ أَمَم

ثُـمَّ كـانَـت فَترَةٌ مَقدورَةٌ                         غَـرَّ فينا الدَهرُ ضَعفٌ فَهَجَم

فَـتَـمـاسَـكنا فَكانَت قُوَّةٌ                       زَلـزَلَـت رُكنَ اللَيالي فَانْهَدَم

كانَ في الأَنفُسِ جُرحٌ مِن هَوىً                          نَـظَـرَ الـلَـهُ إِلَـيهِ فَالْتَأَم

فَـنَـشَـدنا العَيشَ حُرّ طَلَيقاً                          تَـحتَ ظِلِّ اللَهِ لا ظِلِّ الأُمَم

وَحَـقـيـقٌ أَن يُـوَفّى حَقَّهُ                               مَـن بِحَبلِ اللَهِ وَالصَبرِ اِعتَصَم

آفَـةُ الـمَـرءِ إِذا الـمَرءُ وَنى                            آفَةُ الشَعبِ إِذا الشَعبُ اِنقَسَم

لَـيـسَ مِـنّا مَن يَني أَو يَنثَني                         أَو يَـعُقُّ النيلَ في رَعيِ الذِمَم

نَـشءَ مِصرٍ نَبِّئوا مِصراً بِكَم                           تَـشتَرونَ المَقصِدَ الأَسمى بِكَم

بِـنِـضـالٍ يُـصقَلُ العَزمُ بِهِ                         وَسُـهـادٍ في العُلا حُلوِ الأَلَم

فَـالفَتى كُلُّ الفَتى مَن لَو رَأى                         فـي اِقـتِحامِ النارِ عِزًّا لَاِقتَحَم

لا تَـظُـنّوا العَيشَ أَحلامَ المُنى                             ذاكَ عَـهـدٌ قَد تَوَلّى وَانصَرَم

هُـوَ حَـربٌ بَـينَ فَقرٍ وَغِنىً                                    وَصِـراعٌ بَـيـنَ بُرءٍ وَسَقَم

هُــوَ نـارٌ وَوَقـودٌ فَـإِذا                                 غَـفَـلَ الـموقِدُ فَالنارُ حَمَم

فَـاِنفُضوا النَومَ وَجِدُّوا لِلعُلا                            فَـالعُلا وَقفٌ عَلى مَن لَم يَنَم

لَـيسَ يَجني مَن تَمَنّى وَصلَها –أي: العلا-        وانِـيـاً أَو وادِعًـا غَيرَ النَدَم

وَالأَمـانـي شَـرُّ ما تُمنى بِهِ                       هِـمَّـةُ الـمَرءِ إِذا المَرءُ اِعتَزَم

تُخْـمِـدُ العَزمَ وَتَثني حَدَّهُ                         فَـهـيَ كَـالماءِ لِإِخمادِ الضَرَم

 

إنَّ العاملين في وسائل الإعلام مِن أفرادٍ ومسئولين يمارسون دورًا مِن أخطرِ الأمور في هذه الأمة، وينبغي عليهم أن يتقوا الله –جل وعلا-؛ ليوفقهم اللهُ إلى مراضيه.

وأولُّ ذلك: أنه يجب على الإعلامي أن يستشعر عظيمَ الأمانةِ المُلقاةِ على عاتقهِ، وأنه على ثَغْرٍ عظيم، فليُخلص لله قصده، وليجتهد في موافقة مرضاته، وعليه أنْ يأخذَ بالصدق، فإنه واجبٌ على كل مسلم، ويزيد الأمر في حق الإعلامي؛ لأن كلامه يصل إلى شريحةٍ كبيرة، ويتأثر به أناسٌ كثيرون.

والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: ((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا)). متفق عليه وهذا لفظ لمسلم.

وليَحذر الإعلاميون من الكذب أشد الحذر تحت أي ذريعة، سواءٌ بذريعة الفوز بالسَّبقِ الإعلامي كما يُقال أو لغيره من الذرائع، فإن المؤمن لا يكذب.

يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). متفق عليه واللفظ لمسلم.

ولا يُعفِى الإعلامي المسلم أن ينقلَ كلامَ الغير بلا تحرٍّ لصحة الخبر، قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((بِئْسَ مَطِيَّةُ الْقَوْمِ زَعَمُوا)).

وفي رواية: ((بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا)).

وعلى الإعلاميِّ المسلم أنْ يحرصَ على التثبُّت من الأخبار، فليس كلُّ ما يُقال حقًا، ولا كلُّ ما يُنشرُ صدقًا، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وعلى الإعلاميِّ أنْ يأخذ بالتأنِّي في التعاطي مع الأمور العِظام مما تتعلق به مصلحة عُظمى للأمة، فليس كل ما يُعلم في هذا الباب يُقال ولو كان حقًا وصدقًا.

يقول الله –جلَّ وعلا-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

فالطريقُ الشرعي عند ورود الأمور العامة؛ سواءٌ كان الأمرُ يتعلقُ بأمنٍ أو خَوف، أن يُرَدَّ إلى أهل الحلِّ والعقد من الرؤساءِ والعلماء، فما رأوا المصلحةَ في نشْرِهِ وإذاعتهِ نُشر، وما رأوا المصلحة في عدم نَشْرِهِ لا يُنشر؛ حفاظًا على دينِ الناس وأمْنِهم ودُنياهم.

والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

والذي يُقَدِّرُ الخيرَ من عدمهِ في الأمورِ العِظام هُم أولو الأمر، فالواجبُ الرجوع إليهم فيها.

والإعلاميُّ المسلم لا تقتصرُ مهمتهُ على نقلِ الخبر من هنا وهناك، ولا تقفُ مسئوليتهُ عند تحليل الأخبار، كلا؛ بل رسالة الإعلاميِّ المسلم تذهبُ إلى ما هو أبعد من هذا بكثير، فالإعلامي يحملُ أعظمَ رسالةٍ إعلاميةٍ يحملها إعلاميٌّ في هذه الدنيا عندما يكون مُسلمًا، إنها رسالةُ الإسلام التي يجب على كل مسلمٍ أنْ يسعى في إبلاغها؛  كلٌّ على حَسَبِ قدرتهِ واستطاعته.

قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((بلِّغُوا عنِّي ولو آية)). أخرجه البخاري.

ونَشْرُ الإعلاميِّ المسلم لعِلْمِ العلماء الراسخين في العلم وبَثُّهُ في الناس؛ ليُعرِّفَهم ما يجب عليهم من حق الله تعالى وما لا يجوز لهم فِعْلُه ويرسمُ لهم المنهج الصحيح في كلِّ وقتٍ بحَسبهِ، كلُّ هذا واجب على الإعلاميِّ المسلم، وهي رسالةٌ سامية لا يمكن لغير الإعلامي المسلم أن يصلَ لدرجتها ولا يُدانيها مهما كانت رسالته الإعلامية.

الإعلام يجبُ أنْ يَبُثَّ صورةً مُشْرِقةً وصحيحةً للدينِ الذي ينتسبُ إليه، وواجبٌ عليه أنْ يكونَ خاليًا من المُنكراتِ العقدية والعملية والأخلاقية، وأنْ يكونَ قدوةً لغيرهِ في نَشْرِ الخيرات،

كما قال –جلَّ وعلا-: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

ويقول –جلَّ وعلا-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

وفي حالِ الفتن والمِحَن واشتدادِ الأمور واضطرابها؛ يكونُ للإعلامِ وَقْعٌ كبير ودورٌ عظيم في  تسيير الأحداث، وهذا أمرٌ معلومٌ في عصرنا هذا، الذي بات الإعلامُ في حال المدلهمات وعظائم الأمور؛ يؤثر تأثيرًا بالغًا في نفوس الناس، بإثارتِها أو تثبيطِها، بتخويفِها أو تأمينِها؛ لذا كان الواجب الحذر في التعاطي مع الأحداث الجسيمة، فلا تنقل ما يُثبِّط المسلمين ويَفُتُّ في عَضُدِهم، ولا ما يُثيرُهم ويُرجفُ بهم، فإنَّ هذا مُحَرَّم، وقد كان على عهدِ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أناسٌ يستغلون الأحداثِ بمِثْلِ هذه الأمور، ففضح الله أمرهم وتوعدهم.

قال –جلَّ وعلا-: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 81].

وقال –جلَّ وعلا-: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا  مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60].

فما هو موقفُ الإعلام من الأحداث الجِسَام التي تؤثر في الأمة؟

إنَّ موقفه ينبغي أنْ يكون موقفَ المؤمن الثابت، فالواجب أن يُوجَّهَ الإعلامُ لتقوية الإيمان في نفوسِ المؤمنين وتعزيزِ تعلُّقهم بربهم وتوكلهم عليه.

فهذه بعض الضوابط التي ينبغي أن يراعيَها الإعلاميُّ، وأن يتقيَ اللهَ –تبارك وتعالى- في أمتهِ.

ويُقال لجميع هؤلاء: لئن احتفل غيركم وفَرِحوا وتفاخروا بسرعةِ نقلِ الأخبار صادقًا أو كاذبًا، مُصِحًّا أو مُسْقِمًا، لئن تبجحوا بنَشْرِ الفسادِ في الأرضِ بصُنوفهِ، فإنه حقيقٌ بكم أيها الإعلاميون أنْ ترفعوا رؤوسكم بهذا الدين القويم، الذي يبني إعلامًا صادقًا مُخلصًا مُقررًا للحقِّ، داحضًا للباطلِ، ناشرًا للفضيلةِ، مُحاربًا للرذيلة، يستمد تعاليمه وضوابطه من الوحي الصادق من كتابِ الله ومن سُنةِ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-.

رويدكما يا لائمي فإنَّ بي                       على مصر وجدًا جلَّ أنْ يتثلما

بلادٌ سقتني الحبَّ عذبًا ووكلت              بصافيه قلبًا بين جنبي أهيما

يزيد هواها كلما زاد بؤسها                     وتنمو تباريحُ الجوى كلما نما

حفظت لها عهدين عهد شبيبة ٍ              تصرمت اللذات لما تصرما

وآخر يكسوني المشيب مفوفا               ويُلبسني منه الرداء المسهما

وما المرء إلا قومهُ وبلادهُ                        فإن يذهبا يلقَ الأذى حيث يمَّما

وارحمتا للمسلمين تفرقوا                         وتباعدوا في الأرض بعد تدانِ

فلئن بكيت لقد وجدت مصابهم             في منكبي وجوانحي وجناني

ما بالدموع المُستهلة ريبةٌ                       هي في الجفونِ عُصارة الوجدان

من كان أبصر خطبهم فأنا الذي                مارسته ولمسته ببناني

ما زلت أجمع بالقريض شتاتهم             حتى انقضى أدبي وضاع زماني

أيها المصريون:

رعاكم الله وحفظكم في كل مكان وفي كل زمان، ينبغي أن تفهموا ما تمرُّ به بلدُكم من أحوال، وأن تحيطوا بما يُدبر لها من مؤامرات، اجعلوا المصلحة الخاصة تحت أقدامكم، وتأملوا في مصير حريمِكم من أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم، فحافظوا على أعراضكم واتقوا الله –تبارك وتعالى- في أنفسِكم وفي الأجيال القادمة؛ حتى لا تلعنَكم عندما تذكركم، ولن تني عن ذكركم طرفة عين ولا أقل منها إنْ ضيعتم وطنها وأرضها وفرطتم في عقيدتها ودينها.

أيها المصريون: كونوا صفًا واحدًا على قلبِ رجلٍ واحد، فإنَّ الخطب عظيم وإنَّ الخطر جسيم.

وكل من آتاه الله –تبارك وتعالى- بصيرة يعلم هذا حق اليقين.

اتقوا الله رب العالمين، ألا تُبصرون؟

إن المؤامرة تُحاك أطرافها تحت أعينكم وأنتم تعلمون.

فلماذا لا تبالون؟

ولماذا لا ترعوون؟

ولماذا لا تفكرون؟

لماذا لا تنظرون؟

أم أنتم تنظرون ولا تُبصرون.

أسأل الله رب العالمين أنْ يُنجي وطننا وجميع أوطان المسلمين من كلِّ مكروهٍ وسوء.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.