فمسألةُ التكفيرِ مِنْ المسائلِ العظيمة التى تترتبُ عليها آثارٌ خطيرة وأحكامٌ عظيمةٌ في الدنيا والآخرة, كاعتقادِ رِدِّةَ المَحكُومِ عليه وخروجِه مِنْ الدين بالكُلِيَّة, ووجوبِ قَتْلِه بالرِدَّة, وسقوطِ ولايته, وتحريمِ مُنَاكَحَتِه وذبِيحَتِه, والمنعِ مِنْ موارثتهِ والصلاةِ عليه والدعاءِ له, وإعتقادِ أنَّه في الآخرةِ خالدٌ مخلدٌ في النار أبدَ الآباد, لا ينتفعُ بدعاءٍ ولا بشفاعةٍ, ولا يغفرُ الله له بسببٍ مِنْ الأسباب. فالخطأُ في الحُكمِ بالتكفيرِ أعظمُ مِنْ الخطأِ في غيره مِنْ المسائلِ التى لا يترتب على الخطأِ فيها ما يترتبُ على تكفِير مَنْ لا يستحق التكفير مِنْ المفاسدِ العظيمة, ولهذا كان العلماءُ يُعَظِّمون هذا واشتد تحذيرُهم مِنْ المسارعةِ في تكفيرِ مَنْ لم يتبين كُفرُه بيقينٍ مِنْ المسلمين, وعَدُّوا ذلك مِنْ أعظمِ البغي والظلم.
قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله " وأما تكفيرُ شخصٍ عُلِمَ إيمانُهُ بمجردِ الغلطِ فذلك عظيم "
وقال ابنُ أبي العز رحمه الله " فإنه مِنْ أعظمِ البغي أنْ يُشهَدَ على مُعيَنٍ أنَّ الله لا يغفرُ له ولا يرحمه بل يُخلِّده في النار, فإنَّ هذا حكمُ الكافرِ بعد الموت ". والبلاءُ مُوَّكَلٌ بالمنطقِ, واللسان مَرْكَبٌ خطرٌ مِنْ مراكبِ العَطَب. وقد حذرنا الله مِنْ شرهِ في آياتٍ كثيرةٍ جدًا مِنْ كتابهِ العزيز, لأنَّ المرءَ مسئولٌ يوم القيامةِ عما قاله في الدنيا, قال الله جلَّ وعلا (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ومن الآفاتِ اللسانية التى يُسأل عنها, تكفِيرُ المسلمِ بغير حق, كاتباع الظن أو المبالغةِ في ردِ عدوانِه إلى حد تكفيرهِ بلا مُسَوَّغ أو جعلِ كبائرهِ نواقضَ لإيمانه. قال الله جلَّ وعلا (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) وفى الصحيحين عن ابن عمرَ رضيَ الله عنهما قال, قالَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا قال الرجلُ لأخيه يا كافر فقد بَاء بها أحدهما، فإنْ كانَ كما قال وإلَّا رجعت عليه) وفى الصحيحين عن أبى ذرٍ رضي الله عنه أنَّه سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول(مِنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ) وقال صلى الله عليه وآله وسلم (مِنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ) رواه الطبرانىُّ مِنْ حديثِ هشامِ ابن عامر وصححهُ الألبانيُ في صحيحِ الجامع. وعلى هذا فينبغي للناصحِ لنفسه أنْ يتجنبَ أعراضَ المسلمين, ففي الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( سِبابُ المسلمِ فسوقٌ وقتالهُ كُفْر). وإنَّمَا كانَ إثمُ التكفيرِ عائدًا على صاحبهِ إذا لَمْ يكن المُكَفَر أهلًا لذلك لأنْ الجزاءَ مِنْ جنسِ العمل.
وقد ذكرَ ابنُ رجبٍ رحمه الله في "النصيحة" (أنَّه لمَّا رَكِبَ ابنُ سيرينَ الدينُ وحُبِسَ به قال إني أعرفُ الذنبَ الذي أصابني بهذا, عَيَّرتُ رجلًا منذ أربعين سنة فقلت له يا مُفلِس), هذه الكلمة قالها صاحِبُها منذ أربعينَ سنةً فلم يَنْسها لأنَّ السلفَ لم يكونوا عن أنفسهم غافلين, فكيف إذا كانَ المرءُ يلوكُ كلمةَ يا كافر التى هى شرٌ مِنْ يا مُفلِس صباحَ مساء ؟
وعن أبي سفيانَ قال سألتُ جابرًا وهو مجاورٌ بمكة, وكان نازلًا في بني فِهر, فسأله رجل(هل كنتم تزعمونَ أحدًا مِنْ أهلِ القِبلةِ مُشركا؟ فقال معاذَ الله وفزِع لذلك، فقال هل كنتم تَعدُّون أحدًا منهم كافرا؟ قال لا) رواه أبو يعلى وأحمد مختصرًا وأبو نُعيم في صفةِ النفاق بنحوه والطبراني وصححه ابن حجر في المطالب. وعن حذيفةَ رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ, حَتَّى إِذَا رُأَيْتَ بَهْجَتَهُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ انْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَسَعى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ , وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ. قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ الرَّامِي ، أَوِ الْمَرْمِيِّ ؟ قَالَ: " بَلِ الرَّامِي) أخرجه البخارىُّ في التاريخ وابن حبان وصححه الألبانيُ في السلسلة الصحيحة. وقال شيخُ الإسلام رحمه الله تعالى " لا يجوزُ تكفيرُ المسلمِ بذنبٍ فَعَلَه ولا بخطأٍ أخطأ فيه، كالمسائلِ التي تنازع فيها أهلُ القِبلة؛ فإنَّ اللهَ جلَّ وعلا قال: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )" وقد ثبتَ في الصحيحِ أنَّ اللهَ تعالى أجاب هذا الدعاءَ وغفرَ للمؤمنينَ خطأهُم.
والخوارجُ المارقونَ الَّذين أمرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقِتَالِهم, قاتَلَهُم أميرُ المؤمنينَ عليُ ابن أبي طالبٍ رضي الله عنه أحدُ الخلفاءِ الراشدين، واتفقَ على قتالِهم أئمَة الدين مِنْ الصحابة والتابعين مِنْ بعدهم, ولم يُكفِّرهُم عليُ ابن أبي طالب وسعد ابن أبي وقاص وغيرُهما مِنْ الصحابة، بل جعلوهم مسلمينَ مع قتالهم . ولم يقاتِلهم عليٌ حتى سفكوا الدمَ الحرام، وأغاروا على أموالِ المسلمين، فقاتَلهم لدفعِ ظلمِهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يَسْبِ حريمَهم ولم يَغْنَمْ أموالَهم . وإذا كان هؤلاء الذين ثبتَ ضلالُهم بالنصِ والإجماع لم يُكَفَّروا مع أمرِ الله ورسولِه بقتالِهم، فكيف بالطوائفِ المختلفينَ الذين اشتبه عليهم الحقُ في مسائل غَلِطَ فيها مَنْ هو أعلمُ منهم ؟ فلا يحلُّ لأحدٍ مِنْ هذه الطوائف أنْ تُكَفِّرَ الأخرى, ولا تستحلَّ دمَها ومالها، وإن كانت بدعةً محققة، فكيف إذا كانت المُكَفِّرة لها مُبتدعةً أيضا ؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعًا جهالٌ بحقائق ما يختلفونَ فيه.
قال شيخُ الإسلامِ رحمهُ الله تعالى في بيانِ العِلَّةِ المانعةِ مِنْ التكفير بالذنوب " أما العِلَّةُ المانعة مِنْ التكفيرِ بالذنوب فإن قُلتَ: فالذنوبُ تنقسمُ إلى تركِ مأمور، وفِعْلِ مَنهيٍّ عنه، قُلتُ لكن المأمور به إذا تركه العبد فإمَّا أنْ يكون مؤمنًا بوجوبه أو لا يكون، فإنْ كان مؤمنًا بوجوبه تاركًا لأدائهِ فلم يترك الواجب كلَّه، بل أدَّى بعضه وهو الإيمانُ به وتركَ بعضه وهو العملُ به، وكذلك المُحرَّمُ إذا فعله إمَّا أنْ يكون مؤمنًا بتحريمه أو لا يكون، فإنْ كان مؤمنًا بتحريمه فاعلًا له فقد جمع بين أداءِ واجبٍ وفِعْل محرم فصار له حسنةٌ وسيئة. فدلت النصوص وأقوال الأئمة على أنَّ المسلمَ لا يَكفُرَ بمجرد ارتكابهِ للذنوب، سواءٌ كانت هذه الذنوب مُتعلقة بتركِ المأمورات أو بفعْلِ المحظورات، لكنْ ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنبُ منصوصًا على الكُفرِ بهِ كفرًا أكبر كتركِ الشهادتين مثلا، وأن لا يكون الذنبُ مما ينافي الإيمانَ بالله جلَّ وعلا، ولذا امتنعَ بعضُ العلماءِ مِنْ إطلاق القول بأننا لا نُكفِّرُ أحدًا بذنب بل قال: لا نُكفِّرهم بكلِّ ذنب, لا أننا لا نكفِّرهم بذنب بل قال لا نُكفِّرُهُم بكل ذنب, كما يفعلُ الخوارج، وفَرْقٌ بين النفي العام ونفي العموم، والواجبُ إنما هو نفي العموم مناقضةً لقولِ الخوارجِ الذين يُكفِّرون بكل ذنب. - ويزيدُ هذا الأمر بيانًا وتوضيحًا بقوله رحمه الله- والمقصود هنا أنَّه لا يُجعلُ أحدٌ بمجردِ ذنبٍ يُذنبه ولا ببدعةٍ ابتدعها ولو دعا الناس إليها ألَّا يُجعل كافرًا في الباطن، إلا إذا كانَ منافقا، فأما مَنْ كان في قلبهِ الإيمانُ بالرسول، وما جاء به، وقد غلِطَ في بعض ما تأوَّله مِنْ البدع، فهذا ليس بكافرٍ أصلًا، والخوارجُ كانوا مِنْ أظهرِ الناسِ بدعةً وقتالًا للأمةِ وتكفيرًا لها، ولم يكن في الصحابةِ مَنْ يُكفِّرُهم لا عليُ ابن أبي طالبٍ ولا غيره، بل حَكَمُوا فيهم بِحُكمِهم في المسلمين الظالمين المعتديـــن".
التكفيرُ حقٌ لله تعالى ولرسولِه صلى الله عليه وسلم, ولا يجوزُ التَقدُّمُ بين يَدَيِ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, قال الله جلَّ وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) والمعنى يا أيُّها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تقضوا أمرًا دونَ اللهِ ورسوله مِنْ شرائعِ دينكم فتبتدعوا, وخافوا الله في قولِكم وفعلِكم أنْ يُخالف أمرَ الله ورسولِه, إنَّ الله سميعٌ عليم بنياتِكم وأفعالِكم. وفى هذا تحذيرٌ للمؤمنين أنْ يبتدعوا في الدين أو يُشرعوا ما لم يأذن به الله.
ولا يجوزُ أنْ يُطلقَ التكفيرُ في مسألةٍ أو على مُعيَّنٍ إلا بدليلٍ مِنْ الكتاب والسُنَّة، فلا يُكَفَّرُ بمعصية ولا بذنب ولا بمجردِ بُغْضٍ أو كراهية أو لشهوةٍ أو شُبْهَة ولكن لابد مِنْ دليلٍ شرعى وحُجَّةٍ وبرهان, فإنَّ مَنْ كَفَّرَ مسلمًا فقد كَفَر.
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمهُ الله " ولهذا كانَ أهلُ العِلمِ والسُنَّة لا يُكَفِّرون مَنْ خالفهم وإنْ كان ذلك المُخَالِفُ يكَفِّرهم لأنَّ الكُفْرَ حُكْمٌ شرعي, فليس للإنسانِ أنْ يُعاقِبَ بمثلِه كَمَنْ كَذَبَ عليك و زَنَى بأهلك ليسَ لَكَ أنْ تَكْذِبَ عليه وتَزنِيَ بأهلِه, لأنَّ الكَذِبَ والزِّنا حرامٌ لحقِ الله تعالى, وكذلك التكفِير حقٌ لله تعالى فلا يُكَفَّرُ إلَّا مِنْ كَفَّرَهُ الله ورسولُه, وكما أنَّ الإيمانَ أصلٌ ذو شُعَبْ فالكُفْرُ كذلك, ولا يَلْزَمُ وجودُ شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ الكُفْرِ بالعبدِ أنْ يَصِيرَ كافرًا الكُفْرَ المُطْلَقْ حتى تقومَ به حَقيقةُ الكُفر, كما أنَّه ليسَ كلُ مِنْ قامَ به شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ يصيرُ مؤمنًا حتى يقومَ به أصلُ الإيمان ".
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ الله تعالى في بيانِ أنَّ الحُكْمَ المُطْلَقَ لا يستلزِمُ الحُكْمَّ على المُعيَّن " فقد يكونُ الفِعلُ أو المقالةُ كُفرًا ويُطْلَقُ القولُ بتكفيرِ مِنْ قالَ تلكَ المقالة أو فَعَلَ ذلكَ الفِعْلْ، ويقال مَنْ قالَ كذا فهو كافر أو مَنْ فَعَلَ ذلك فهو كافر, ولكنَّ الشخصَ المُعيَّن الذي قالَ ذلك القول أو فَعَلَ ذلك الفِعْلْ لا يُحْكَمُ بِكُفْرِه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ التي يَكْفُرُ تاركُها, وهذا الأمرُ مُطَّرِدُ في نصوصِ الوعيدِ عندَ أهلِ السُنَّةِ والجماعة, فلا يُشْهَدُ على مُعيَّنٍ مِنْ أهلِ القِبلةِ بأنَّه مِنْ أهلِ النار، لجوازِ ألَّا يلحقه، لفواتِ شرطٍ أو لثبوتِ مانع، فلا تجري الأَّحْكَامُ إلَّا بعدَ تّحقق الشروط, وانتفاءِ الموانع وقيامِ الحُجَّة, والأَّحْكُامُ في الدنيا تجري على الظاهرِ وآخرِ الأمر, فالحُكْمُ على الناسِ في الدنيا بحَسَبِ ما يظهرُ منهم مِنْ غيرِ أنْ يُفَتَشَ في بَواطِنِهم, فمَنْ كانَ ظاهرهُ الإيمان, حُكِمَ لهُ به, ومَنْ كانَ ظاهرهُ خِلافَه, حُكِمَ عليهِ به, والمُعتَبرُ في ذلك آخرُ أمرِ المُكَلَّفِ وخَاتِمَةُ حالِه, والتكفيرُ حقُ اللهِ تعالى وحقُ رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم" .
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ الله " فإنَّ الإيجابَ والتحرير, والثوابَ والعقاب, والتكفِيرَ والتفسيق, هو إلى اللهِ تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم, ليسَ لأحدٍ في هذا حُكْم, وإنَّما على الناس إيجابُ ما أوجَبَهُ اللهُ ورسولُه وتحريمُ ما حَرَّمَهُ اللهُ ورسولُه, وقد نَهَى اللهُ عبادَهُ المؤمنين أنْ يَنفُوا مُسَمَّى الإيمانِ عن مَنْ أظهرهُ واتصفَ به, وبَيَّنَ تعالى أنَّ عليهم أنْ يقبلوا الظواهر, وَيَكِلُوا البَوَاطِنَ إلى اللهِ جلَّ وعلا , قالَ اللهُ جلَّ وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) ففي الآية إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ يَفعَلُ ذلك فلهُ غَرَضٌ معينٌ على غيرِ مرادِ اللهِ تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم, ولِذا جاءَ التعليلُ في الآيةِ المُشرَّفةِ بقوله (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فقد يكونُ العَرَضُ طَلَبَ مالٍ أو رئاسة, أو حسدًا عليهما، أو تَشفَّيًا أو غيرَ ذلك، إذًا لا يُسارِعُ في التكفيرِ مَنْ كانَ عندهُ مُسْكَةٌ مِنْ ورعٍ ودين, أو بقيةٌ مِنْ علمٍ ويقين, ذلك بأنَّ التكفيرَ وَبِيلُ العاقبة, بَشِعُ الثمرة, تتصدعُ له القلوبُ المؤمنة, وتَفْزَعُ مِنْهُ النفوسُ المطمئنة, وذلك لِمَا يترتبُ عليهِ مِنْ أحْكَامٍ عديدة, ووجوهٍ مِنْ الوعيدِ شديدة, كوجُوبِ اللَّعنَةِ والغضب, والطبعِ على القلب, وحُبوطِ الأعمال, والخِزيِ والعار, وعدمِ المغفرة, ثم الخلودِ أبدَ الآبدِين في عذابٍ مِنْ رجزٍ أليم, هذا إلى جانبِ مفارقةِ الزوجات، وعَدَاوةِ الأهلِ والأصحاب، واستحقاقِ القتل، وعدمِ الميراث، وتحريمِ الصلاةِ عليه، وإبعادِ دَفنِهِ عن مقابرِ المسلمين، إلى غيرِ ذلك مما هو مذكورٌ في مصنفاتِ الفقهِ ودواوين الأحكام، فلا جَرَمَ بعدئذ أنْ يقِفَ الشرعُ الشريف مِنْ أمرِ التكفير موقفًا صارمًا وزاجرا ".
قالَ الشوكانيُ رحمهُ الله " وهَاهُنَا تُسْكَبُ العبرات، ويُنَاحُ على الإسلامِ وأهلِه بما جَنَاهُ التعصبُ في الدينِ على غَالبِ المسلمين مِنْ الترامِي بالكُفر، لا لسُنَّةٍ، ولا قرآن، ولا لبيانٍ مِنْ اللهِ، ولا لبرهان، بل لمَّا غَلَتْ به مراجلُ العصبيةِ في الدين، وتَمَّكَنَ الشيطانُ الرجيم مِنْ تفريقِ كلمةِ المسلمين, لَقَّنَهُم الزاماتِ بعضِهم لبعض, بِمَا هو شبيهُ الهَبَاءِ في الهواء، والسرابِ بقِيعة، فياللهِ ويا للمسلمينَ مِنْ هذه الفَاقِرة التي هيَ مِنْ أعظمِ فواقرِ الدين، والرَّزِيَّةِ التي ما رُزئ بمثلِها سبيلُ المؤمنين, والأدلةُ الدالةُ على وجوبِ صيانةِ عِرْضِ المسلمِ واحترامِه تدلُ بفحوى الخِطاب, على تَجَنُّبِ القدْحِ في دينهِ بأي قَادِحْ، فكيف إخراجُه عن الملةِ الإسلامية إلى الملة الكفرية؟ فإنَّ هذهِ جِنَايَةٌ لا تَعدِلُها جِنَاية، وجَرْأَّةٌ لا تُماثلها جَرأَة، وأين هذا المُجتَرئُ على تكفيرِ أخِيه مِنْ قَولِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم (المُسْلْمُ أخو المُسلِم لا يَظْلِمُهُ، ولا يُسْلِمُه) متفقٌ عليه, وقولِه صلى الله عليه وسلم (سِبَابُ المُسلِمِ فُسُوق وقِتَالُه كُفْر) متفقٌ عليه, وقـولِه صلى الله عليه وآله وسلم (إنَّ دماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكُم حَرَام) وهو في الصحيحينِ أيضًا, إلى جانبِ الأحاديثِ الخاصةِ بالترهيبِ العظيم مِنْ تكفيرِ المسلمين .
فَحَدَّثَ ثابتٌ ابن الضحاك وكانَ مِنْ أصحابِ الشجرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال (مَنْ حَلَفَ بمِلَةٍ غيرِ الإسلامِ كاذبًا فهو كما قال، ومَنْ قَتَلَ نفسَهُ بشيءٍ عُذِّبَ بهِ في نارِ جهنم، ولَعْنُ المؤمنِ كَقَتْلِه، ومَنْ رَّمَى مؤمنًا بكُفرٍ فهو كقتلِه) أخرجهُ البخاري.
وأخبرَ عبدُ الله ابن عمرَ رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (أَيُمَا رجلٍ قالَ لأخيهِ يا كَافِر، فقد بَاءَ بِهَا أحدُهما إنْ كانَ كما قالَ، وإلَّا رَجَعَتْ عليه) متفقٌ عليه، وفي روايةٍ لمسلم (إذا كَفَّرَ الرَّجُلُ أخاه...) الحديثَ.
وعن أبي ذَرٍ رضيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِعَ النَّبِي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (لا يَرْمِي رَجُلٌ رجلًا بالفسوق، ولا يَرْمِيهِ بالكُفْرِ إلَّا ارتدَّت عليه، إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُه كذلك) رواهُ البخاري.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا قالَ الرجُلُ لأخيهِ يا كَافِرْ فقد بَاءَ بِهَا أحدُهما) رواهُ البخاري.
فالحَاصِلُ مِنْ هذهِ الأحاديث "أنَّ المَقُولَ له إذا كانَ كافِرًا كُفرًا شرعيًّا فقد صدقَ القائلُ، وذهبَ بِهَا المَقُولُ له، وإنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعَتْ للقائلِ مَعَرَّةُ ذلكَ القولِ وإثمُه، وهذا مِنْ أعـدَلِ الأجوبةِ" كما يقولُ الحافظُ ابن حجرٍ رحمهُ الله.
وكذا مِنْ أحْسَنِ القول – يعني في معنى الحديث– قولُ الحَليمي رحمهُ الله "إذا قال ذلك مسلمٌ لمسلمٍ، فهذا على وجهين:
• إنْ أرادَ أنَّ الدينَ الذي يعتقِدُه كُفْر، كَفَرَ بذلك.
• وإنْ أراد أنَّه كَافِرٌ في الباطِنِ، ولكنَّه يُظْهِر الإيمانَ نِفَاقًا، لَمْ يَكْفُر.
• وإنْ لَمْ يُرِدْ شيئًا لَمْ يَكْفُر؛ لأنَّ ظَاهَرهُ أنَّه رَمَاهُ بِمَا لا يَعلَمُ في نفسهِ مثلَه, ولكنَّه يَبُوءُ مع ذلك بإثمِ هذهِ الكبيرة.
قال الإمام أبو عبدِ الله محمدُ ابنُ علي " مَنْ كَفَّرَ أحدًا مِنْ أهلِ القِبلَةِ فإنْ كانَ مستبيحًا ذلك فقد كَفَرَ وإلَّا فهو فاسق " يعني مِنْ رَمَى أخاهُ بالكُفْرِ " يجبُ على الحَاكِمِ إذا رُفِعَ أمرُه إليهِ أنْ يُؤَدِّبَه ويُعَزِّره بِمَا يكونُ رادِعًا لأمثالِه، فإنْ تُرِكَ مع القُدْرَةِ عليه فهو إثمٌ, واللهُ تعالى أعْلَم".
وفي التمهيدِ لابنِ عبدِ البر قالَ رحمهُ الله " وقد قالَ جماعةٌ مِنْ أهلِ العِلْمِ في قولِ اللهِ جلَّ وعلا (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيْمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هوَ قَوْلُ الرجُلِ لأخيهِ يا كَافِرُ, يا فاسِق، وهذا موافقٌ لهذا الحديث، فالقرآنُ والسُنَّة يَنْهَيانِ عن تفسِيقِ المسلمِ وتَكْفِيرهِ ببيانٍ لا إشكالَ فيه " .
وعلماءُ الأُمة مِنْ أهلِ السُنَّة أشَدُ الناسِ توقِيًا في هذا الباب, وأعظَمُ الناسِ تَثبّتًا فيه, معَ ما أتَاهُم اللهُ تعالى مِنْ وفُورِ الفِطْنَةِ ورسوخِ العِلم, وقَدَمِ الصِدق في القيامِ بالحق .
قال شيخُ الإسلامِ رحمهُ الله لأُمراءِ الجَهمِيَةِ و قُضَاتِهم " ولهذا كنتُ أقولُ للجَهمِيَةِ مِنْ الحُلولِيَةِ والنُفِاة الَّذين نَفَوا أنَّ اللهَ تعالى فوقَ العرش, كنتُ أقولُ لهُم لمَّا وَقَعَتْ مِحنَتُهم أنَا لو وافَقتُكم كنتُ كافِرًا لأني أعلمُ أنَّ قولَكم كُفر وأنتم عندي لا تَكفُرونَ لِأَنَّكُم جُهَّال وكانَ هذا خِطَابًا لعُلمَائِهم وقُضَاتِهم وشِيوخِهم وأُمرائِهم"
وقالَ رحمهُ الله "هذا معَ أني دائمًا ومَنْ جَالَسَنِي يَعلَمُ ذلك مِني أني مِنْ أعْظَمِ الناسِ نَهيًا عن أنْ يُنسَبَ مُعَيَّنٌ إلى تَكْفِيرٍ وتفسِيقٍ ومعصية, إلَّا إذا عُلِمَ أنَّه قد قامَت عليهِ الحُجَّةُ الرسالية التى مَنْ خالفَها كانَ كافِرًا تارةً وفاسقًا أخرى وعاصِيًا أخرى وإني أُقَرِّر أنَّ اللهَ قد غَفَرَ لهذهِ الأُمةِ خطأَها وذلك يَعُمُ الخَطَأَ في المسائلِ الخَبَرِيةِ القولِية والمسائلِ العَمَلِية"
وقالَ رحمهُ الله "وليسَ لأحدٍ أنْ يُكَفِّرَ أحدًا مِنْ المسلمينَ وإنْ أخطأَ أو غَلِطْ حتى تُقَامَ عليهِ الحُجَّة وتُبيَّنَ له المَحَجَّة, ومَنْ ثبتَ إسلامُه بيقين لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك بل لا يَزُولُ إلَّا بعدَ إقامَةِ الحُجَّة وإزالة الشبهة "
وقالَ العلاءُ ابنُ زيادٍ التابعي رحمهُ الله "ما يَضُرُّك شَهِدتَ على مسلمٍ بكُفرٍ أو قَتلتَه".
وفي الاقتصاد في الاعتقاد "والَّذي ينبغي الاحترازُ منه التكْفِير، ما وَجَدَ إليهِ سبيلًا، فإنَّ استباحَةَ الدِماءِ والأموالِ مِنْ المُصَلِّينَ إلى القِبلَة، المُصَرِّحِينَ بقولِ لا إله إلَّا الله محمدٌ رسولُ الله خطأ، والخطأُ في تركِ ألفِ كَافِرٍ في الحياة, أهونُ مِنْ الخطأُ في سَفْكِ دمِ مسلمٍ" .
وقالَ ابنُ أبي العز "واعْلَمْ رحِمكَ اللهُ وإيانا أنَّ بابَ التَكفِيرِ وعدمَ التَكفِير، بابٌ عَظُمَت الفِتنَةُ والمِحنَةُ فيه، وكَثُرَ فيه الافتراق، وتَشَتَتْ فيهِ الأهواءُ والآراء، وتعارضَتْ فيهِ دلائلُهم، فالناسُ فيهِ في جنسِ تكفِيرِ أهلِ المقالاتِ والعقائدِ الفاسدةِ المُخالِفةِ للحقِ الذي بعثَ اللهُ بهِ رسولَه في نفسِ الأمر، أو المُخالِفةِ لذلك في اعتقادِهم على طرفين ووسط، مِنْ جِنسِ الاختلافِ في تكفِير أهلِ الكبائرِ العملية", ثم قال "إنَّه لمِنْ أعظَمِ البغيِ أنْ يُشْهَدَ على مُعَيَن أنَّ اللهَ لا يَغفِرُ له ولا يرحَمُه، بل يُخَلِّدهُ في النار، فإنَّ هذا حُكْمُ الكَافِرِ بعدَ الموت".
وقالَ ابنُ عبدِ البر: "القرآنُ والسُّنَّة يَنْهَيانِ عن تفسِيقِ المسلمِ وتكفِيره ببيانٍ لا إشكالَ فيه، ومِنْ جِهَةِ النظرِ الصحيحِ الَّذي لا مَدفَعَ له، أنَّ كلَّ مَنْ ثبتَ له عَقْدُ الإسلامِ في وقتٍ بإجماعٍ مِنْ المسلمين، ثم أذنَبَ ذنبًا، أو تأوَّلَ تأويلًا، فاختلفوا بعدُ في خُروجِه مِنْ الإسلام، لَمْ يَكُنْ لاختلافِهم بعدَ إجماعِهم معنىً يوجِبُ حُجَّةً، ولا يَخرجُ مِنْ الإسلامِ المتفقِ عليه إلَّا باتفاقٍ آخر، أو سُنَّةٍ ثابتةٍ لا مُعَارِضَ لها، وقد اتفقَ أهلُ السُنَّةِ والجماعة وهم أهلُ الفقهِ والأثر على أنَّ أحدًا لا يُخرِجُه ذنبُه وإنْ عَظُمَ مِنْ الإسلام- يعني ما دامَ دونَ الشركِ - وخَالَفَهم أهلُ البِدَعْ، فالواجبُ في النظر أنْ لا يُكَفَّرَ إلَّا مَنْ اتفقَ الجميعُ على تَكْفِيرُه، أو قامَ على تَكفِيرِه دليلٌ لا مَدْفَعَ له مِنْ كتابٍ أو سُنَّة"
وقال القرطبي "وبابُ التكفيرِ بابٌ خطير، أقدَم عليه كثيرٌ مِنْ الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلِموا، ولا نَعدِلُ بالسلامة شيئًا"، وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى "الْكُفْرُ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَلَا أَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ كَافِرًا مَتَى وَجَدْت رِوَايَةً أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ" وفي الخلاصة وغيرها " إذا كان في المسالة وجوه تُوجب الكُفر، ووجهٌ واحد يمنعه، فعلى المفتي أنْ يميلَ إلى الوجهِ الذي يمنعُ التكفير، تحسينًا للظن بالمسلم، إلَّا إذا صرَّح بإرادةِ موجبِ الكفر فلا ينفعه التأويل- لَا يُكْفَّرُ بِالْمُحْتَمَلِ - لِأَنَّ الْكُفْر نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ، فيسْتَدْعِي نِهَايَةً فِي الْجِنَايَةِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ فلَا نِهَايَةَ "؛ قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله " لابُدَّ للمتكلم في هذه المباحث ونحوها أن يكون معه أصولٌ كلية يرُدَّ إليها الجزئيات ليتكلمَ بعِلمٍ وعدل، ثم ليعرف الجزئياتِ كيف وقعت، وإلَّا فيبقى في كذبٍ وجهلٍ في الجزئيات، وجهلٍ وظلمٍ في الكليات "، وقال رحمه الله " إنَّ تَسَلُّطَ الجُهالِ على تكفيرِ علماءِ المسلمين مِنْ أعظم المنكرات، وإنما أصلُ هذا مِنْ الخوارج، والروافض، الذين يكفِّرون أئمةِ المسلمين؛ لِمَا يعتقدون أنهم أخطأوا فيه مِنْ الدِّيْن، وقد اتفق أهلُ السُنَّة والجماعة، على أنَّ علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجردِ الخطأِ المحض؛ بل كل واحدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قوله وَيُتْرَكُ إلَّا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل مَنْ يُتركُ بعضُ كلامهِ؛ لخطأٍ أخطئه يَكْفُر، بل ولا يَفَسُّق، بل ولا يأَثَمُ؛ فإنَّ الله تعالى قال في دعاء المؤمنين (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأنَا)"؛ وفي الصحيحِ صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنَّ الله تبارك وتعالي قال: قد فعلت)؛ ومَسْأَلَة التَكْفِيْر مِنْ المسائلِ العظيمة التي أُشكِلت على كثيرٍ مِنْ الناس، بل خَفيَ الحقُّ فيها علي بعض العلماء بسبب عدم التفريقِ بين التكفيرِ المطلق وتكفيرِ المُعَيَّن، وغير ذلك مِنْ دقائقِ هذه المسألة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (وكذلك تنازع المتأخرون مِنْ أصحابنا في تخليدِ المُكفَّرِ مِنْ هؤلاء؛ فأطلق أكثرهم عليه التخليدَ في النار كما نُقل ذلك عن طائفةٍ مِنْ متقدمي علماء الحديث؛ كأبي حاتم، وأبي زُرعَة، وغيرهم، وامتنعَ بعضُهم مِنْ القول بالتخليد؛ وسببُ هذا التنازعِ تعارضُ الأدلة؛ فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكُفر بهم، ثم إنهم يرون مِنْ الأعيانِ الذين قالوا تلك المقالات، مَنْ قام به مِنْ الإيمانِ ما يمتنعُ أنْ يكونَ كافرًا فيتعارض عندهم الدليلان، وحقيقة الأمر – كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله – أنهم أصابهم في ألفاظِ العمومِ في كلامِ الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظِ العمومِ في نصوصِ الشارع؛ كلما رأوهم قالوا: مَنْ قال كذا فهو كافر، اعتقدَ المستمعُ أنَّ هذا اللفظَ شاملُ لكل مَنْ قاله، ولم يتدبروا أنَّ التكفيرَ له شروطُ وموانع, قد تنتقي في حقِ المُعيَّن، وأنَّ تكفيرَ المطلق لا يستلزمُ تكفيرَ المُعيَّن إلاَّ إذا وُجدت الشروطُ وانتفت الموانع"؛ والناظرُ في مسائل الكفر والإيمان يبحثُ في أصلِ الإيمان وثبوته مِنْ عدمه، والناظرُ في مسائلِ الحلالِ والحرام يبحثُ في شعب الإيمان وجزئياته، وما تصحُّ به وتبطل؛ فالبابُ الأول مُقدَّمٌ علي الثاني لأهميته وشمولِه، وبهذا يتبينُ أهمية توفرُ الشروط التي اشترطها العلماءُ للمفتي الناظرِ في مسألةِ التكفير، بل تأُكُدها في حقه أكثرُ مِنْ غيره لِما تَقدَّم مِنْ الكلام، هذا بالإضافة إلي ما يتطلبه النظر في هذه المسألة خاصة، مِنْ معرفةِ أصولِ أهلِ السُنَّة في مسألة التكفير، والإلمَامِ بمواقفِ الأئمة مِنْ المخالفين، ومعرفة طُرقِهم في كيفية تنزيل الأحكام المطلقةِ علي المُعيَّنين؛ والاحتياطُ في هذا الباب مِنْ تكفير ما لم يُتيقن كُفره، ولم يُعلم قيامُ الحُجَّة عليه؛ وإذا تقرَّر هذا وَجَبَ أنْ يُمسك مَنْ لا عِلْمَ عنده بهذا الباب عن الخوضِ فيه، والوقفِ عند حدودِ علمه لقول الله جلَّ وعلا (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم)، وليحْذرُ العاقلُ مِنْ الوعيدِ الشديدِ في تكفيرِ المسلمين، وما يترتب علي ذلك مِنْ آثارٍ سيئةٍ وخطيرةٍ علي الأمة؛ فكم فُتن في هذا الباب مِنْ فُتنوا مِنْ أهل البدع والجهل قديمًا وحديثًا، حتي أصبح التكفيرُ مِنْ سماتِ أهلِ البدعة، كما أنَّ عدمَ التكفيرِ إلا بدليل مع الاحتياط في ذلك مِنْ سِماتِ أهلِ السُنَّة.
قال شيخُ الإسلام رحمه الله "والخوارجُ تُكَفِّرُ الجماعة، وكذلك المعتزلة يُكفِّرون مَنْ خالفَهم وكذلك الرافضة، ومَنْ لم يُكَفِّر فّسَّق، وكذلك أكثرُ أهلِ الأهواء يبتدعون رأيًا ويُكفِّرون مَنْ خالفَهم فيه؛ وأهلُ السُنَّة يتَّبِعون الحقَّ مِنْ ربهم الذي جاء به نبيُّهم صلى الله عليه وسلم ولا يُكفِّرون مَنْ خالفهم، بل هم أعلمُ بالحق وأرحمُ للخلق".
وقال ابنُ ناصرِ الدين الدمشقي في "الرد الوافرِ" "فَلَعْنُ المسلمِ المُعيَّنِ حرام, وأشدُّ منه رميُهُ بالكُفر وإخراجُه عن الإسلام, وفي ذلك أمورٌ غيرُ مرضية منها أنَّه إشماتُ الأعداءِ بأهلِ هذه الملةِ الزكية, وتمكينهم بذلك مِنْ القَدْحِ في المسلمين واستضعافُهم لشرائعِ هذا الدين، ومنها أنَّه رُبَّما يُقتدى بالرَّامِي فيما رمى فيتضاعفُ وِزره بعدد مَنْ تّبِعَهُ مُأثَّمًا، وقلَّ أنْ يَسلمَ مِنْ رَمى بكفرٍ مسلمًا" .
ثم ذكر أحاديث للترهيب مِنْ التكفير ثم قال " فهل بعدَ هذا الوعيد مِنْ مزيدٍ في التهديد، ولعلَّ الشيطانُ يُزيِّن لمَنْ اتبع هواه ورَمَى بالكفرِ والخروجِ مِنْ الإسلامِ أخاه, أنَّه تكلمَ فيه بحقٍ ورمَاه، وأنَّه مِنْ بابِ الجرحِ والتعديل, لا يسعُه السكوتُ عن القليلِ مِنْ ذلك، فكيف بالجليل؟! هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، إنَّ في مجالِ الكلامِ في الرجالِ العقبات مُرتَقِيها على خطر، ومُرتَقبُها هوى لا مَنْجَى له مِنْ الإثْمِ ولا وَزَرْ، فلو حاسبَ نفسه الرامِي أخاه ما السببُ الذي هاج ذلك؟ لتحققَ أنَّه الهوى الذي صَاحِبُه هالك ".
وقال الشوكانيُ رحمهُ الله " اعلم أنَّ الحُكْمَ على الرجلِ المسلم بخروجه مِنْ دينِ الإسلامِ ودخولِه في الكُفر لا ينبغي لمسلمٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخر أنْ يُقْدِمَ عليه إلَّا ببرهانٍ أوضَحَ مِنْ الشمس، فإنَّه قد ثبتَ في الأحاديثِ الصحيحةِ المروية مِنْ طريق جماعة مِنْ الصحابةِ رضيَ الله عنهم أنَّه (مَنْ قالَ لأخيه: يا كَافِر؛ فقد بَاء بها أحدُهما)، ففي هذه الأحاديث ومَا وَرَدَ مَورِدَها أعظمُ زاجر وأكبرُ واعظ عن التَسَرُّع في التكفير " .
وقال الشيخ عبد الله ابن محمد ابن عبد الوهاب رحمهما الله تعالي " وبالجملة فيجبُ على مَنْ نصحَ نفسه ألَّا يتكلمَ في هذه المسألةِ إلَّا بعلمٍ وبرهانٍ مِنْ الله، وليحذر مِنْ إخراجِ رجلٍ مِنْ الإسلامِ بمجردِ فهمهِ واستحسانِ عقلهِ، فإنَّ إخراجَ رجلٍ مِنْ الإسلامِ أو إدخاله مِنْ أعظمِ أمور الدين، وقد استزلَّ الشيطان أكثرَ الناس في هذه المسألة..".
فينبغي علي المسلمِ أنْ يعلمَ أنَّ التكفيرَ حقُ الله وحقُ رسول الله صلي الله عليه وعلي آله وسلم، والله ربُ العالمينَ إذا كَفَّرَ كَفَّرْنَا مَنْ كَفَّرَهُ الله؛ فإنَّ الله تعالي كَفَّرَ مَنْ استهزأ به ومَنْ استهزأ برسولهِ ودينهِ، وليس معني الكلام أنْ يتوقفَ المسلمِ عن تكفيرِ مَنْ كَفَّرَهُ الله جلَّ وعلا، وكذلك مَنْ كَفَّرَهُ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، لقولِه في الحديثِ الذي مَرَّ (إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ) يعني: إنْ كانَ كمَا قال ووَقَعَ تَكفِيرهُ لَهُ علي مَحَلِّه ونُزِّلَ علي مَنْزِله فلا إثمَ عليه ولا تَثريب، (وَإِلا رَجَعَ عَلَيْهِ) يعني: التَكفِيرَ الذي كَفَّرهُ أخاه بغيرِ موجب؛ فلنَعْلَمَ أنَّ التَكفِيرَ هو حقُ اللهِ جلَّ وعلا وحقُ رسولِ الله صلي الله عليه وآله وسلم، وتكفيرُ المسلمينَ بلا مُوجِب هو فتنةُ هذا العصر، والتُّكَأَةُ التي يتَّكئ عليها المُكفِّرون هي الحُكْمُ بغيرِ ما أنزلَ الله، الحُكْمُ بالقوانينِ الوضعية؛ فلننظُر بعدُ بحولِ اللهِ وقوتِه في هذا الأمر، هل فيه قولٌ واحد؟، وهل هو ضربةُ لازم؟ بلا تفصيلٍ فيه ولا تَبْيينٍ ولا توضِيح، أم أنَّ فيه للسلفِ مِنْ العلماء ِالمتقدمينَ مِنْ هذه الأُمة، أم أنَّ لهم فيه تفصيلًا وتَبْيينًا وتوضيحًا.
واللهَ عزَّ وجلَّ أسألُ أنْ يهدينا والمسلمين أجمعين لما يُحبه ويرضاه، وأنْ يُقيمنا علي ذلك حتي نلقي وجهه الكريم إنَّه هو البرُّ الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وأصحابه أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ رب العالمين وأشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريكَ لهُ هو يتولى الصالحين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففتنةُ العصرِ هي في التكفيرِ بلا مُوجِب، وإخراجِ المسلمينَ مِنْ حظيرةِ الإسلامِ العظيم بغير حق.
والتَكِأةُ التي يَتَّكِئُ عليها المُكَفِّرون على اختلافِ مَشَاربِهِم وتنوِّع انتِمَاءاتِهم لأنَّهم يعودون جميعًا إلى حمأةٍ مُنْتِنةٍ واحدة, وهيَ ما كانَ عليه أسلافُهم مِنْ الخوارجِ المُتقدمين، التَكِأةُ التي يَتَّكِئُ عليها المتقدمون والمتأخرون في هذه البَابَة هي "الحُكْمُ بغيرِ ما أنزَلَ الله" وفي هذا العصر "الحُكْمُ بالقوانينِ الوضعية"
وقد سُئلت اللجنةُ الدائمة في فَتْوَها رقم واحدٍ وأربعين وسبعمائة وخمسة آلاف بالإجابة على السؤالِ الحادى عشر(فتوى رقم 5741 بالإجابة على السؤال 11) ونصها كالآتي:
*** السؤال: مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أنزَلَ الله هل هو مسلمٌ أم كافرٌ كفرًا أكبر ؟
الجواب: الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد :
قال الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) {المائدة 44}
لكنْ إنْ استحلَّ ذلك واعتقدهُ جائزا فهو كُفرٌ أكبر وظُلمٌ أكبر وفِسْقٌ أكبر يُخرِجُ مِنْ المِلَّة ، أما إنْ فَعَلَ ذلك مِنْ أجلِ الرِشوة أو لمَقْصِدٍ آخر وهو يعتقدُ تحريمَ ذلك فإنَّه آثِمٌ يُعتبرُ كافرًا كُفْرًا أصْغَر وفاسِقًا فِسْقًا أصغر لا يُخرجُه مِنْ المِلَّة كما أوضحَ ذلك أهلُ العِلْمِ في تفسير الآيات المذكورة .
{عبدُالله بن غُديَّان - عبدالرزَّاق عفيفي - عبدُالعزيز ابن باز}
*** وقال رحمهُ الله:(العلامة ابن باز)
" مَنْ حَكَمَ بغيرِ ما أنزلَ الله فلا يَخْرُجُ عن أربعةِ أمور :
(أ) مَنْ قالَ : أنا أحْكُمُ بهذا لأنَّه أفضلُ مِنْ الشريعةِ الإسلامية فهو كَافِرٌ كُفرًا أكبر .
(ب) ومَنْ قالَ : أنا أحْكُمُ بهذا لأنَّه مِثلُ الشريعةِ الإسلامية والحُكْمُ بهذا جائز, وبالشريعةِ جائز فهو كَافِرٌ كُفرًا أكبر .
(ج) مَنْ قالَ : أنا أحْكُمُ بهذا ، والحُكْمُ بالشريعةِ الإسلامية أفضل ؛ لكنَّ الحُكْمَ بغيرِ ما أنزلَ الله جائز، فهو كَافِرٌ كُفرًا أكبر .
(د) ومَنْ قالَ : أنا أحْكُمُ بهذا وهو يعتقدُ أنَّ الحُكْمَ بغيرِ ما أنزلَ الله لا يجوز, ويقول : الحُكْمُ بالشريعةِ الإسلاميةِ أفضل ، ولا يجوز الحُكْمُ بغيرها ، ولكنَّه متساهِل ، أو يفعلُ هذا لأمرٍ صادرٍ مِنْ حُكَّامِه فهو كَافِرٌ كُفرًا أصغر لا يُخرِج مِنْ المِلَّة ويُعتبرُ مِنْ أكبرِ الكبائر".
وشيخُ الإسلامِ رحمه الله قاتل التتارَ تحت رايةِ المماليك في عصرهِ وكانوا مُمَكَنِين، ليس عندهم مِنْ أثرِ القوى العُظمى في العالمِ يومئذ ما يَمنعُهم مِنْ تمامِ التطبيقِ لشرعِ الله ربِ العالمين، ووقعت أمور...كما قال العلماء إنَّ التبديلَ والتغيير، إنَّ الحيودَ عن الصراطِ المستقيم إنَّما هو قديم، مِنْ بعد الخلفاءِ الراشدين جَدَّت على الأُمةِ أمور؛ فمُقِلٌ ومُستكثر، فَقَاتَلَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ التتارَ تحت رايةِ المماليك ولم يُكَفِّرهُم مع أنَّ القوةَ كانت في أيديهم ولمْ يكُن هنالِك مِنْ مَانِعٍ يمنعهم مِنْ تمامِ التطبيقِ وكمالهِ ولكنْ هوَ يعلم أنَّ دونَ ذلك خَرْطُ القتادِ كما يقولون، لأنَّ أمورًا تَجِدُ ولأنَّ أحوالًا لا تستقر ولأنَّ الجهلَ غالبٌ على الخلقِ فاشٍ فيهم، فكانَ ما كانَ مِنْ ذلك لتمامِ فقهِه رحمهُ الله تعالى.
*** سُئلَ رحمهُ الله تعالى أيضًا {أعنِيَ المفتي السابقَ للمَمْلَكة}: ما حُكْمُ سَنِّ القوانينِ الوضعية؟ وهل يجوزُ العملُ بها؟ وهل يَكْفُر الحَاكِمُ بسَنِّه لهذه القوانين؟
الجواب : (( إذا كانَ القانونُ يوافقُ الشرعَ فلا بأس، إذا سَنَّ قانونًا في شأن الطرقات، في غير ذلك مِنْ الأشياءِ التي تنفعُ الناسَ وليس فيها مخالفةٌ للشرعِ، ولكنْ لتنفيذِ الأمور فلا بأسَ بها. أمَّا القوانينُ التي تخالفُ الشرعَ فَلَا، إذا سنَّ قانونًا مَعْنَاه أنَّه لا حدَّ على الزاني ، ولا حدَّ على السارق ، ولا حدَّ على شاربِ الخمر ، فهذا باطل، وهذه القوانينُ باطلة، وإذا استَحَلَّها الوالي كَفَر ، إذا قالَ إنَّها حلالٌ ، ولا بأسَ بها ، فإنَّه يكونُ كُفْرًا ، أي هذا الإستِحلال يكونُ كفرًا, مَنْ استحلَّ ما حرَّمَ الله كَفَر ))
*** وسُئل أيضًا : هل يُعتبرُ الحُكَّامُ الذين يَحْكُمون بغيرِ ما أنزلَ الله كُفَارًا؟ وإذا قلنا : إنَّهم مسلمون ، فماذا نقول عن قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ؟
فأجابَ رحمهُ الله بقوله : الحُكَّامُ بغيرِ ما أنزلَ الله أقسام، تختلف أحْكَامُهم بحسبِ اعتقادِهم وأعمالِهم، فمَنْ حَكَمَ بغيرِ ما أنزلَ الله, يرى أنَّ ذلك أحسنَ مِنْ شرعِ الله فهو كَافِرٌ عند جميعِ المسلمين ، وهكذا مَنْ يُحَكِّم القوانينَ الوضعية بدلًا مِنْ شرعِ الله ويرى أنَّ ذلك جائزٌ، ولو قالَ : إنَّ تَحْكِيمَ الشريعةِ أفضل فهو كَافِر، لكَونِه اسْتَحَلَّ ما حَرَّمَ الله .
أمَّا مَنْ حَكَمَ بغيرِ ما أنزلَ الله اتباعًا للهوى أو لرِشوةٍ أو لعَداوةٍ بينه وبين المَحكُومِ عليه ، أو لأسبابٍ أخرى ، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ عاصٍ للهِ بذلك ، وأنَّ الواجبَ عليه تَحْكِيمُ شرعِ الله، فهذا يُعتبرُ مِنْ أهلِ المعاصي والكبائر، ويُعتبرُ قد أتى كُفرًا أصغر وظُلمًا أصغر وفِسقًا أصغر، كما جاءَ هذا المعنى عن ابن عباس رضيَ الله عنهما وعن طاووسٍ وجماعةٍ مِنْ السلفِ الصالح، وهو المعروفُ عند أهلِ العِلم ، واللهُ ولي التوفيق .
*** وسُئل أيضًا : كثيرٌ مِنْ المسلمين يتساهلونَ في الحُكْمِ بغيرِ شريعةِ الله والبعضُ يعتقدُ أنَّ ذلك التساهُلَ لا يؤثِر في تمسُكِهِ بالإسلام ، والبعضُ الآخر يستَحِلُّ الحُكْمَ بغيرِ ما أنزلَ الله ولا يبالي بما يترتبُ على ذلك ، فما هو الحقُ في ذلك؟
الجواب : (( هذا فيه تفصيل وهو أنْ يُقال : مَنْ حَكَمَ بغيرِ ما أنزلَ الله وهو يَعلَمُ أنَّه يجبُ عليه الحُكْمُ بما أنزلَ الله وأنَّه خالفَ الشرعَ ولكنْ استباحَ هذا الأمرَ ورأى أنَّه لا حَرَجَ عليه في ذلك وأنَّه يجوزُ لهُ أنْ يَحْكُمَ بغيرِ شريعةِ الله فهو كَافِرٌ كُفْرًا أكبر عند جميعِ العلماء؛ كالحُكْمِ بالقوانينِ الوضعية التي وضعَها الرجالُ مِنْ غيرِ المسلمين ممن زعمَ أنَّه يجوزُ الحُكْمُ بها ، أو زعمَ أنَّها أفضلُ مِنْ حُكْمِ الله ، أو زعمَ أنَّها تساوي حُكْمَ الله, وأنَّ الإنسانَ مخيرٌ إنْ شاءَ حَكَمَ بالقرآن والسُنَّة وإنْ شاءَ حَكَمَ بغيرهما، مَنْ اعتقدَ هذا كَفَرَ بإجماعِ العلماء كما تقدم .
أما مَنْ حَكَمَ بغيرِ ما أنزلَ الله لهوىً أو لحظٍ عاجلٍ وهو يَعلمُ أنَّه عاصٍ لله ولرسولِه وأنَّه فَعَلَ مُنْكَرًا عظيمًا وأنَّ الواجبَ عليه الحُكْم بشرعِ الله فإنَّه لا يَكفُرُ بذلك الكُفْرَ الأكبر لكنَّه قد أتى مُنْكَرًا عظيمًا ومعصيةً كبيرة وكُفرًا أصغر، كما قال ذلك ابن عباسٍ ومجاهدٍ وغيرهما مِنْ أهلِ العلم ، وقد ارتكبَ بذلك كُفرًا دون كُفْر، وظُلمًا دون ظُلم، وفِسقًا دون فِسق، وليس هو الكُفرَ الأكبر ، وهذا قولُ أهلِ السُنَّةِ والجماعة )) .
وقد يَحولُ دونَ التطبيقِ حائل حتى يأذنَ اللهُ تعالى بالخير فيأتي الأمرُ تدريجًا شيئًا بعد شيء، وفلولُ الإخوانِ المسلمين ومَنْ تابعَهم و شايعَهم مِنْ المُكَفِّرينَ المجرمين، هؤلاءِ شاهدوا بأعيُنِهم أنَّ الإخوانَ لمَّا تمَلَّكوا أمرَ هذا البلدِ الطيب وحَكَمُوه عامًا كاملًا أكْتَعًا أبْصَعًا, لم يستطيعوا أنْ يفعلوا شيئًا فِيمَا يتعلقُ بالحُكْمِ بما أنزلَ الله جلَّ وعلا. فهل يُحْكَمُ عليهم بأنَّهم كُفَّار ؟؟ الآن هم يَحْكُمون على غيرِهم بالكُفرِ للعِلَّةِ نفسِها بالحُجَّةِ ذاتِها مع أنَّها إنْ حُكِمَ بها فإنَّها تشمَلُهم مِنْ بابِ أولى.
فنسألُ الله أنْ يهديَ المسلمينَ أجمعين إلى العودةِ إلى حظيرةِ الكتابِ والسُنَّةِ على التَمَامِ والكَمَالِ برحمَتهِ وهو أرحمُ الراحمين.
*** سُئل الشيخ أيضًا – رحمه الله - : عن تبديلِ القوانين ، وهل يُعتبرُ كُفرًا مُخرِجًا مِنْ المِلَّة؟
فأجابَ رحمهُ الله بقوله : إذا استباحَها يُعتبرُ كَافِرًا كُفرًا أكبر، أمَّا إذا فَعَلَ ذلك لأسبابٍ خاصة، مِنْ أجلِ الرِشوةِ ، أو مِنْ أجلِ إرضاءِ أشخاص، ويَعلمُ أنَّها مُحرَّمَة فإنَّه يَكْفُر بذلك كُفرًا دونَ كُفر- يعني لا يَخْرُج بذلك مِنْ المِلَّة - ، أمَّا إذا فَعَلَها مستبيحًا يكونُ كُفْرًا أكبر، أي إذا استَحَلَّ الحُكْم بتلكَ القوانين بغيرِ الشريعة, فإنَّه يكونُ كَافِرا، أمَّا إذا فَعَلَها لأسباب كالرِشوة ، أو العَدَاوةِ ، أو مِنْ أجلِ إرضاءِ بعضِ الناس – أو لِمَا يتعرضُ لهُ مما لا يُطِيقُه مِنْ داخلٍ وخارج, فهو يتلمَّسُ السُبُل مِنْ أجلِ الوصولِ إلى الجادةِ المستقيمةِ والقيامِ عليها, فإنَّه لا يكونُ حينئذٍ كافرا- أمَّا إذا استَحَلَّ الحُكْمَ بقانونٍ بغيرِ الشريعة فإنَّه يكونُ كَافِرا، أمَّا إذا فَعَلَها لأسبابٍ كالرِشوة ، أو العَدَاوةِ ، أو مِنْ أجلِ إرضاءِ بعضِ الناس أو مَا أشبهَ ذلك ، فإنَّ ذلك يكونُ كُفْرًا دونَ كُفْر، وهذا الحُكْمُ يشملُ جميعَ الصُور سواءٌ التبديل وغيرُ التبديل. ويجبُ على وليِ الأمْر أنْ يمنعَ ذلك وأنْ يَحْكُمَ بشرعِ اللهِ جلَّ وعلا ما أمْكَنَه.
*** سُئل الشيخ أيضًا : عن الذي يصفُ أهلَ السُنَّة الذين لا يُكَفِّرون بالذنبِ أنَّهم مُرجِئة، ما هو الموقفُ منه؟
فأجابَ الشيخُ رحمهُ الله: إنَّ المُرجِئة هم الذين يَرونَ مَنْ لا يُصلِّي، ولا يُزكِّي، ولم يَصُم ، يَرَونَه كاملَ الإيمان ، أمَّا أهلُ السُنَّة والجماعة فيقولون مَنْ تركَ الزكاةَ عاصٍ، وناقصُ الإيمان، وكذلك مَنْ لم يَصُم ، ومَنْ لم يَحُج وهو يستطيعُ الحَج ناقصُ الإيمان، ومَنْ زنى هو ناقصُ الإيمان، ولكن لا يّكْفُرُ بزِناه كما تقول الخوارج، ولا يكونُ مخلدًا في النار كما قالت الخوارجُ المعتزلة، ولكنه على خطرٍ عظيم ومُعرَّضٌ للوعيد، فمنهم مَنْ يدخلُ النَّارَ بذنوبه، ثم يشفعُ فيه مَنْ شاء الله مِنْ الشفعاءِ، ولا يُخلَّدُ في النار إلَّا الكَفَرَةُ الذين أشركوا بالله، أو استَحَلُّوا محارمَه.
أما الزاني فلا يكونُ مُخلدًا في النارِ ولو ماتَ على زناه، كذلك شاربُ الخمر لا يُخلَّدُ ، كذلك عاقَ الوالدين إذا دخلَ النارَ لا يُخلَّد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يَشْفَعُ عِدةَ شَفَاعَاتٍ في العصاة ، ويُخرِجُهم الله مِنْ النار بشفاعته, ثم يَبقى بعد هذا بقيةٌ مِنْ العصاةِ يُخرِجُهم مِنْ النَّارِ بغير شفاعة بعدما يحترقون، ثم يأذنُ الله لهم في دخولِ الجنة ، ولا يَبقى في النار إلا الكَفَرَة ، فهم المُخلدونَ فيها أبد الآبدين، أمَّا العصاةُ فلا ، وهذا قولُ أهلِ السُنَّة، وليس قولَ المُرجِئة .
*** سُئل الشيخ عن الردِ على مَنْ يقول إنَّ هذا قولُ المُرجِئة ، ماذا ترُدُّ به عليه؟
فقال : نقولُ له إنك لا تعرفُ قولَ أهلِ السُنَّة ، راجع كلامَ شيخِ الإسلام، بل كلامَ الأشعري في المقالات، راجع كلامَ غيرهما مِنْ أهلِ السُنَّة ، راجِع فتحَ المجيد، راجِع شرحَ الطحاوية ، راجِع كتابَ التوحيد حتى تعرفَ كلامَ أهلَ السُنَّة.
و دَعْك مِنْ كلامِ الخوارجِ المعاصرين، و دَعْك مِنْ كلامِ الخوارجِ المتقدمين، ألْقِ به إلى حيثُ ألقت رَحْلَها أمُ قَشْعَمِ وأقْبِل على الحقِ المَبْنِىِّ على الكتابِ والسُنَّة بفهمِ الصحابةِ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان.
*** سُئل الشيخُ رحمه الله
هناك فتوى للشيخِ محمد ابن إبراهيم آل الشيخ رحمهُ الله, يستدلُّ بها أصحابُ التَكْفِيرِ هؤلاء على أنَّ الشيخَ لا يُفرِّقُ بين مَنْ حَكَمَ بغيرِ شرعِ الله عزَّ وجل مُستحلَّا ، ومَنْ ليس كذلك كما هو التفريقُ المعروفِ عند العلماء ...
وهي رسالةٌ مشهورةٌ منتشرة ويجتهدُ أهلُ التكفيرِ في طبعِها ونشرِها وتوزيعها وبثِّها بين أوساط الشباب فيما يتعلق بتَحكِيمِ القوانين للمفتي الأسبق محمد ابن إبراهيم آل الشيخ.
أجاب المفتي السابق وهو مِنْ تلامذتهِ بل مِنْ أجلِّ، بل هو أجلُّ تلامذته: هذا الأمرُ مستقرٌ عند العلماء، كما قَدَّمْتُ أنَّ مَنْ استحَلَّ ذلك فقد كَفَر، أَّما مَنْ لم يستحِلَّ ذلك كأنْ يَحْكُمَ بالرِشوةِ ونحوها فهذا كُفْرٌ دونَ كُفْر، أمَّا إذا قامت دولةٌ إسلاميةٌ لديها القدرة فعليها أنْ تُجاهدَ مَنْ لا يَحكُمُ بما أنزلَ الله حتى تُلزِمه بذلك.
*** سئل : هم يستدلِّون بفتوى الشيخ ابن إبراهيم!
فقال : محمد ابن إبراهيم آل الشيخ ليس بمعصوم فهو عالمٌ مِنْ العلماء ، يُخْطِئُ ويُصِيب ، ليس بنبيٍ ولا رسول، وكذلك شيخُ الاسلامِ ابنُ تيمية وابنُ القيم وابنُ كثير ، وغيرُهم مِنْ العلماء كلهم يُخطِئ ويصيب ، ويُؤخَذْ مِنْ قولهم ما وافقَ الحَقْ، وما خالفَ الحَقْ يُرَدُ على قائله.
والحقُّ أنَّ للشيخِ محمد ابن إبراهيم آل الشيخ كلامًا آخر, يذهبُ فيه إلى التفصيل وذلك في فتواه، في الفتوى الأولى في الصفحةِ الثمانين، يقول في كلامٍ أوضحَ مِنْ أنْ يُوضَّح، وهو مُؤرخٌ باليوم التاسع مِنْ الشهر الأول سنة خمسٍ وثمانين وثلاثمائة وألف 1385، أي بعدَ طباعةِ رسالةِ تحكيمِ القوانين بخمسِ سنين ... فهذا لَاحِقْ ، فيكونُ هذا القول ناسخًا لقوله الأول, لأنهما متعارضانِ لا يجتمعانِ ولا يأتلِفان ... إذنْ هذا رجوعٌ عن القولِ الأول ...
قال رحمه الله : وكذلك تحقيقُ معنى محمدٍ رسولِ الله مِنْ تحكيمِ شريعته والتَقيُّدِ بها ونبْذِ ما خالفها مِنْ القوانينِ والأوضاعِ وسائر الأشياء التي ما أنزلَ الله بها مِنْ سلطان، والتي مَنْ حَكَمَ بها أو حَاكَمَ إليها معتقدًا صحةَ ذلك وجوازَه فهو كَافِرٌ الكُفرَ الناقِلَ عن المَلَّة، وإنْ فعل ذلك بدون اعتقادِ ذلك وجوازِهِ فهو كافرٌ الكُفرَ العملي الذي لا ينقُلُ عن المِلَّة.
هذا قولٌ لَاحِق، لَاحِقٌ للقولِ الأولِّ السابق مِنْ قَوليّْ صاحبِ تحكِيمِ القوانين، فالمُنصِفُ إلى أيهما يَصير؟ العاقلُ بأيهما يأخذ ؟
معلومٌ أنَّ العَالِمَ إذا كانَ لهُ قولان متضَادَّن لا يجتمِعان ولا يأتلِفان ولا يمكنُ الجمعُ بينَهما ،،، نُظِرَ في الأخيرِ مِنْ قَولَيْهِ وحُكِمَ بِه على القولِ الأول ...
وهذا معروف لا يُماري فيه ولا يَرُدُه إلَّا أصحابُ الدسيسةِ الخفيَّةِ النَجِسة في القلوبِ المريضة, قلوبِ التكفيريينَ للمسلمينَ بغير حق، الذين يستحلِّونَ مِنْ المسلمينَ الدماءَ والأموالَ والأعراض والأعراض ,,،، يقولون هؤلاء سَبَايَا، ثم يُوزَّعن، والمرأةُ في عِدَّتِها مِنْ زوجها تُوطئ وتَحْمَلُ ، وقد يكونُ حمْلُها سابقا ، وخَلطٌ وخبط, وضلالٌ وزَيغ, وتمردٌ على الدينِ وضياع وإنَّا لله وإنا إليه راجعون.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.