لو صدق لكان خيرًا له

للاستماع للمحاضرة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما بعد:

فإنه لا يقومُ دين، ولا تستقيم دنيا إلا بالصدق، ولعظمةِ الصدق وجلاله وحُسنه وكماله، وصف الله تعالى به نفسه.

فقال –سبحانه-:{قُلْ صَدَقَ اللَّـهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95].

والله تعالى موصوفٌ بالصدق في ذاته، وفي أقواله، وفي أفعاله، وفي وعده، وفي وعيده، وفي أخباره، وفي شرعه.

قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].

وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّـهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ قِيلًا} [النساء: 122].

وقال تعالى -بعد أن ذكر إرسال المرسلين-: {ثُمَّ صَدَقناهُمُ الوَعدَ فَأَنجَيناهُم وَمَن نَشاءُ وَأَهلَكنَا المُسرِفينَ} [الأنبياء: 9]، وقد وصف الله النبيين بالصدق، وأيدهم بالآيات البينات والمعجزات الباهرات؛ ليكون ذلك برهانًا على صدقهم، وإقامة للحجة على مُكذبيهم.

وقال تعالى في الثناء على نبيه الخاتم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37].

ووصف الله المؤمنين المتقين:

فقال تعالى -بعد أن ذكر جملة من إيمانهم وأعمالهم-: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وقال -جل وعلا-: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].

وأمر الله تعالى المؤمنين بتقواه، وأن يكونوا مع الصادقين، فقال -جل وعلا- :{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ} [التوبة: 119].

وقال –جل وعلا-: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّـهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21].

قال العلامة الصالح محمد بن صالح-رحمه الله تعالى-: ((والصدق معناه مطابقة الخبر للواقع؛ هذا في الأصل، ويكون في الأخبار، فإذا أخبرت بشيء وكان خبرك مطابقا للواقع قيل أنه صدق، كأن تقول عن هذا اليوم: اليوم يوم الجمعة، فهذا خبرٌ صِدق؛ لأن اليوم يوم الجمعة، وإذا قلت اليوم يوم الاثنين، فهذا خبر كذب.

فالخبر إن طابق الواقع فهو صدق، وإن خالف الواقع فهو كذب، وكما يكون الصدق في الأقوال، يكون الصدق أيضا في الأفعال، فالصدق في الأفعال هو أن يكون الإنسان باطنه موافقًا لظاهره، بحيث إذا عَمل عملا يكون موافقًا لما في قلبه، فالمرائي مثلا ليس بصادق؛ لأنه يُظهر للناس أنه من العابدين وليس كذلك، والمشرك مع الله ليس بصادق؛ لأنه يُظهر أنه موحدٌ وليس كذلك، والمنافق ليس بصادق، لأنه يُظهر الإيمان وليس بمؤمن، والمبتدع ليس بصادق؛ لأنه يظهر الإتباع للرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وليس بمتبع.

فالمهم أن الصدق مطابقة الخبر للواقع وهو من سمات المؤمنين، ومن صفاتهم، وعكسه الكذب وهو من سمات المنافقين ومن خصالهم)).

قال ربنا-جلا وعلا-:{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ} [التوبة: 119].

وهذه الآية نزلت بعد ذكر قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، وقد تخلفوا عن غزوة تبوك، ومنهم كعب بن مالك-رضي الله تعالى عنهم- وكان هؤلاء الثلاثة حين رجع النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من غزوة تبوك، كانوا قد تخلفوا عنها بغير عذر، وأخبروا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بأنهم لا عذرَ لهم، فخلفهم؛ أي: تركهم.

فمعنى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] أي: تُركوا، فلم يُبت في شأنهم، ولم يُفصل في أمرهم؛ لأن المنافقين لما قدم النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من غزوة تبوك، جاؤوا إليه يعتذرون ويحلفون بالله إنهم معذورون، وفيهم أنزل الله –عز وجل- هذه الآية: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(95)يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95،96].

أما هؤلاء الثلاثة فصدقوا النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-، وأخبروه بالصدق بأنهم تخلفوا عن الغزو بلا عذر، فأرجأهم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خمسين ليلة، {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} [التوبة: 118].

ثم أنزل الله توبته عليهم، ثم قال ربنا –جل وعلا- بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، فأمر الله تعالى المؤمنين بأن يتقوا الله، وأن يكونوا مع الصادقين، لا مع الكاذبين.

وقال –جلا وعلا-: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَات} [الأحزاب:35]، وهذه في جملة الآية الطويلة التي ذكرها الله –جلا وعلا- في سورة الأحزاب وهي: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} إلى أن قال جل وعلا-:{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَات} إلى أن قال –جل وعلا-: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[الأحزاب:35]، فذكرَ الله الصادقين والصادقات في مقام الثناء، وفي بيان ما لهم عنده من الأجر العظيم.

وقال-جل وعلا-:{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21]؛ أي: لو عاملوا الله بالصدق لكان خيرًا لهم، ولكن عاملوا الله بالكذب فنافقوا وأظهروا خلاف ما في قلوبهم، وعاملو النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالكذب، فأظهروا أنهم متَّبِعون له وهم مخالفون له، فلو صدقوا الله بقلوبهم وأعمالهم وأقوالهم لكان خيرًا لهم، ولكنهم كَذَبوا الله-جل وعلا- فكان شرًّا لهم.

وقال ربنا-جل وعلا-: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]، فقال سبحانه: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}، فدلَّ ذلك على أن الصدق أمره عظيم، وأنه محلٌّ للجزاء من الله –جل وعلا-، إذنْ علينا أن نصدق، وعلينا أن نكون من الصادقين، وعلينا أن نكون صُرحاء، علينا أن لا نخفي الأمر عن غيرنا مُداهنةً و مراءاةً.

فكثير من الناس إذا حَدَثَ له أمرٌ أو حدَّثَ عن شيءٍ فَعَله وكان لا يرضيه؛ كذب، وقال: ما فعلتُ.

لماذا؟

ينبغي عليك أن لا تستحييَ من الخَلق، وألا تبارِزُ الخالق  -جل وعلا- بالكذب، قُل الصدقَ ولا تبالي بأحد، وأنت إذا عوَّدت نفسَك الصدق، فإنك في المستقبل سوف تُصلح حالك، أما إذا أخبرت بالكذب وصِرت تكتم عن الناس وتكذب عليهم، فإنك سوف تستمرُّ في غيِّك، ولكن إذا صدقت؛ فإنك سوف تُعدِّل مسيرك ومنهاجك، فعليك بالصدق فيما لك وفيما عليك؛ حتى تكون مع الصادقين الذين أمرك الله أن تكون معهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذبُ حتى يُكتب عند الله كذابًا)). والحديث في الصحيحين.

عليكم بالصدق؛ أي: الزموا الصدق، والصدق: مطابقة الخبر للواقع.

والخبر يكون باللسان ويكون بالأركان:

1-أما باللسان: فهو القول.

2-وأما بالأركان: فهو الفعل.

ولكن كيف يكون الكذب بالفعل؟

إذا فعل الإنسان خلاف ما يُبطن؛ فهذا قد كذب بفِعله، فالمنافق مثلاً كاذبٌ لأنه يُظهر للناس أنه مؤمن، يُصلي مع الناس ويصوم مع الناس، ويتصدقُ ولكنه بخيل، وربما يحجُّ، فمَن رأى أفعاله حكمَ عليه بالصلاح، ولكنَّ هذه الأفعال لا تُنبئ عما في الباطن؛ فهي كذب.

ولهذا يُقال: الصدق يكون باللسان ويكون بالأركان، فمتى طابق الخبر الواقع فهو صدقٌ باللسان، ومتى طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صدق بالأفعال.

ثم بيَّن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما أمر بالصدق؛ بيَّن عاقبته، فقال–صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة)).

البرُّ: كثرة الخير، ومنه من أسماء الله-جل وعلا-: البَرُّ: أي كثير الخير والإحسان -عز وجل-.

فالبر يعني كثرة الخير، وهو من نتائج الصدق، وقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((وإن البر يهدي إلى الجنة))، فصاحب البر يهديه برُّهُ إلى الجنة، والجنة غاية كل مطلب، ولهذا يُؤمرُ الإنسان أن يسأل اللهَ الجنة ويستعيذ به من النار {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

وقول النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا))، وفي رواية: ((ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا)).

والصدِّيق في المرتبة الثانية من مراتب الخلقِ من الذين أنعم الله عليهم، كما قال الله –جلا وعلا-: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، فالرجل الذي يتحرى الصدق يُكتب عند الله صدِّيقًا.

ومعلومٌ أن الصِّدِّيقِيَّة درجةٌ عظيمةٌ لا ينالها إلا الأفذاذ من الناس، وتكون الصِّدِّيقِيَّة في الرجال وتكون في النساء، قال الله –جل وعلا-: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75].

وأفضل الصَّدِّيقين على الإطلاق أصدُقُهم، وهو أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة، الذي استجاب للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حين دعاه إلى الإسلام ، ولم يحصُل عنده أي تردد وأي توقُّف، فبمجرد ما دعاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام؛ أسلم، وصدَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- حين كذَّبَه قومه، وصدَّق النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- حين أخبر عن الإسراء والمعراج وكذبه الناس وقالوا: كيف تذهب يا محمد من مكة إلى بيت المقدس وترجع في ليلة واحدة، ثم تقول: إنك صعدت إلى السماء؟

فهذا لا يمكن، ثم ذهبوا إلى أبي بكر –رضي الله عنه- وقالوا له: أما تسمع ما يقول صاحبك؟

قال: وماذا قال؟

قالوا: إنه قال كذا وكذا.

فقال الصديق -رضي الله تعالى عنه-: ((إن كان قال؛ فقد صدق))، فمنذ ذلك اليوم سُمِّيَ بالصِّدِّيق -رضي الله تعالى وتبارك عنه-.

وأما الكذب فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حذر منه، فقال: ((وإياكم والكذب)).

إياكم: للتحذير؛ أي: احذروا الكذب، والكذب هو الإخبار بما يخالف الواقع، سواءٌ كان ذلك بالقول أو بالفعل، فإذا قال لك قائلٌ: ما اليوم؟ فقلت: اليوم يوم الخميس، أو يوم الثلاثاء وهو يوم الجمعة؛ فهذا كذب؛ لأنه لا يطابق الواقع؛ لأن اليوم هو يوم الجمعة، المنافق كاذب؛ لأن ظاهره يدل على أنه مسلم وهو كافر، فهو كاذب بفعله.

وقوله –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((وإن الكذب يهدي إلى الفجور)).

الفجور: الخروج عن طاعة الله؛ لأن الإنسان يفسق ويتعدى طوره ويخرج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته، وأعظم الفجور الكُفر -عياذًا بالله ولياذًا بجنابه الرفيع-، فإن الكَفَرَةَ فَجَرة، كما قال -جل وعلا-:{أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42].

وقال -جلَّ وعلا-: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين : 7 ـ 11].

وقال -جلَّ وعلا-: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14].

فالكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار -نعوذ بالله تعالى منها-، وقول النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((وإن الرجل ليكذب)).

وفي لفظ مسلم: ((لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذَّابًا))، والكذبُ من الأمورِ المحرمة، بل هو من كبائر الذنوب؛ لأن الرسول -صلى الله علي وآله وسلم- توعَّدَ الكذاب بأنه يُكتب عند الله كذَّابًا.

ومن أعظم الكذب:

ما يفعله بعض الناس اليوم، يأتي بالمقالة كاذبًا يعلم أنها كذب، لكن من أجل أن يُضحك الناس، وقد جاء في الحديث الوعيد على هذا، فقد قال النبي  -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ويلٌ للذي يُحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)). أخرجه أبو داود بإسنادٍ حسن.

وهذا وعيدٌ على أمرٍ سهلٍ عند كثيرٍ من الناس، يأتي بالكَذِبة ويُلقي بالكلمة من أجل أن يُضحك بها جلساءه، يكتب الله تعالى عليه بذلك سخطَه إلى يوم يلقاه، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فالكذب كلُّه حرام، ولو كان من أجل هذا الذي مرَّ؛ أي: من أجل أن يُضحك الناس، الكذب كله حرام ، وكله يهدي إلى الفجور، ولا يُستثنى منه شيء.

وقد رد في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، أنه يُستثنى من ذلك ثلاثة أشياء: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث المرأة لزوجها وحديثه إياها.

ولكن بعض أهل العلم قال: إنَّ المراد بالكذب في هذا الحديث: التورية وليس الكذب الصريح، قال: التورية قد تُسمى كذبًا، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله سلم- قال: ((لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله تعالى: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وواحدة في شأن سارة . . . )) الحديث، والحديث في الصحيحين.

وإبراهيم الخليل - صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم تسليما كثيرا-  لم يكذب، وإنما ورَّى تورية هو فيها صادق، فسمى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تلك التروية كذبًا.

وأما الكذب المعهود؛  فإن الله -تبارك وتعالى- برَّئ منه أنبيائه، وخليل الرحمن إبراهيم، قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم عنه-: ((لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثة كذبات))، والعلماء يقولون: إن الكذب إن الذي ذكره الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم - عن خليل الرحمن إبراهيم إنما هو تورية، فقد ورَّى تورية هو فيها صادقٌ -صلى الله عليه وآله وسلم-.

وهذا هو اللائق بحق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فمقامهم محفوظ ومقامهم عالٍ عند الله –تبارك وتعالى- وعند الناس، فينبغي أن يُبرَؤوا من كل ما يمكن أن يكون مثيرًا نقصٍ عند بعض الناس؛ لذلك قال العلماء في هذا الموضع: إن إبراهيم -عليه السلام- إنما ورَّى تورية هو فيها صادق، سواء كان هذا أو هذا، فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على رأي كثيرٍ من أهل العلم، وبعض العلماء يقول: ((الكذب لا يجوز مطلقًا لا مزحًا، ولا جدًّا، ولا إذا تضمن أكل مال أو لا)).

وأشدُّ شيء من الكذب: أن يكذب ويحلف ليأكل أموال الناس بالباطل، كأن يَدَّعي عليه رجلٌ حقًا ثابتا، فيأتي هذا فينكر ويقول: والله ما لك عليَّ حق،

أو يدَّعي ما ليس له فيقول: لي عندك كذا وكذا، وهو كاذب.

فهذا إذا حلف على دعواه وكذب، فإن ذلك هو: اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم، ثم تغمسهُ في النار -والعياذ بالله-.

ومعلومٌ أنَّ اليمين الغموس لا كفارةَ لها، أما التي يحنثُ فيها؛ فهي التي يُكفِّر عنها،

وأما اللغو فلا شيء فيه، وأما اليمين الغموس، فهذه لا كفارة لها، يتوب إلى الله رب العالمين، ويرد المظالم إن ترتب على هذه اليمين شيء من الظلم وقع بسبب يمينه، ولكنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم تغمسه في النار -والعياذ بالله-.

وثبت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((من حلف على يمين صَبْرٍ يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر-أي في تلك اليمين-، لقي الله وهو عليه غضبان)). أخرجه مسلم في صحيحه.

فالحاصل أن الكذب حرام، ولا يجوز للإنسان أن يكذب مطلقًا، لا هازلاً ولا جادًّا، إلا في المسائل الثلاث، على خلاف بين العلماء في معنى الحديث الذي مر، فمنهم من يقول: أنه لا يجوز الكذب مطلقًا لا في جدٍّ ولا في هزل، وإنما يكون ذلك على سبيل التورية كما مرَّ بشأن إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام-.

عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنهما- قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)).

رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، وكذلك أخرجه أحمد والنسائي، وهو صحيح كما قال الترمذي.

((دع ما يريبك)) دع: أي اترك.

ما يَريبُك: بفتح الياء؛ أي ما تشك فيه، ولا تطمئن إليه.

((إلى ما لا يريبك)): إلى الشيء الذي لا ريْب فيه ولا شك.

قال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((فإن الصدق طمأنينة))، فهذا وجه الشاهد لهذا الحديث لهذا الباب وهو باب الصدق، كما عقد لذلك النووي -رحمه الله- في الرياض.

فالصدق طمأنينة، لا يندم صاحبه أبدًا، ولا يقول: ليتني وليتني؛ لأن الصدق منجاة، والصادقون يُنَجِّيهُم الله تعالى بصدقهم، وتجد الصادق دائمًا مطمئنًّا؛ لأنه لا يتأسف على شيء حصل أو شيء يحصُل في المستقبل؛ لأنه قد صدق، و مَنْ صَدَقَ نجا.

أما الكذب، فقد بيَّن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- أنه ريبة، ولهذا تجد أول من يرتاب في الكاذب نفسَهُ، فيرتاب الكاذب هل يصدِّقه الناس أو لا يصدقونه؟

ولهذا تجد الكاذب إذا أخبرك بالخبر قام يحلف بالله أنه صدَق؛ لئلا يُرتاب في خبره، مع أنه محلُّ ريبة.

تجد المنافقين مثلًا يحلفون بالله ما قالوا ولكنهم في ريبة.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74].

فالكذب لا شك أنه ريبة وقلقٌ للإنسان، ويرتاب الإنسان هل عَلِمَ الناس بكذبه أم لم يعلموا؟ فلا يزال في شك واضطراب.

فنأخذ من هذا الحديث: أنه يجب على الإنسان أن يدَع الكذب إلى الصدق؛ لأن الكذب ريبة، وأما الصدق فطمأنينة، وقد قال النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالصدق من بداية البعثة، وكان ذلك واضحًا عند الكافرين، عند المدعوين، كان واضحًا لا امتراء فيه.

فعن أبي سفيان صخر بن حرب -رضي الله عنه- من حديثه الطويل في قصة هِرَقْل.

قال هرقل: بماذا يأمركم؟ -يعني النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-

قال أبو سفيان -وكان لم يدخل في الإسلام بعد -رضي الله تعالى عنه-: قال: قلت: يقول  -صلى الله عليه وآله وسلم-: (( اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق، والعفاف، والصِّلَة)). وحديث أبي سفيان –رضي الله عنه- في الصحيحين.

فأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم– في أول ما أمر به منذ بداية البعثة بالصدق، عليكم بالصدق ظاهرا وباطنا، في الأقوال والأعمال والنيات، فإذا صدقتم أفلحتم ونجحتم، وإن كذبتم فإنَّ عليكم من الله بعد ذلك جزاء الكاذبين الذين يكذبون على الله رب العالمين.

أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغَه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)).

وعند البخاري ومسلم من طريق حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما)).

البيِّعان: البائع والمشتري، أُطلق عليهما اسم البيع من باب التغليب، كما يقال القمران: للشمس والقمر، وكما يقال العُمَران: لأبي بكر وعمر-رضي الله تعالى عنهما-.

فهذا بعض ما ورد في الكتاب والسنة في فضل الصدق، وذم الكذب، فإذا ابتلينا برجل يكذب ويقسم على الكذب وأُقيم الدليل القاطع على كذبه في قوله وقسمه، فالواجب الإعراض عنه، وإهماله حتى يتوب من كذبه، ويُنيب إلى ربه؛ فإذا لجَّ في طغيانه وإفكه، وجمع إلى كذبه المراء والجدال، فراح يماري وينافح بالمراء دون إفكه، ودون كذبهِ، وجمع إلى الكذبِ والمراءِ بدعًا شنيعة، ومخالفات فظيعة، فالواجب ألا يكون الكلام معه، بل يُحذر منه ولا يُلتفت إلى هراءه وشغبه، وإنما يُرد على بدعه ومخالفاته مع التحذير منه والحط عليه، وأن يقول له أهل السنة وهم بها أحق وأولى.

نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا****ولم يهن بيد التشتيت غالينـــا

ولا يحــول لنا صبغٌ ولا خُلـُق      ****إذا تلون كالحرباء شانينــــا

يا طالب العـلم:

العلم أعلى وأحلى ماله استمعت  **** أذنٌ وأعرب عنه ناطقٌ بفم

العلم غايتهُ القصوى ورتبته العلياء  ****فاسعوا إليه يا أولي الهِممِ

العلم أشرف مطلوبٍ وطالبه لله    **** أكرمُ من يمشي على قدمِ

العلم نورٌ مبينٌ يستضيء به أهلُ   **** السعادة والجهال في الظُلمِ

العلم أعلى حياة للعباد كما        **** أهل الجهالة أموات بجهلهم

لا سمع لا عقل بل لا يبصرون       **** وفي السعير معترف كلٌّ بذنبهم

فالجهل أصل ضلال الخلق قاطبةً     **** وأصل شِقوتهم طُرا وظلمهمِ

والعلم أصل هداهم مع سعادتهم فلا **** يضل ولا يشقى ذوو الحكمِ

والخوف بالجهلِ والحزن الطويل به     **** وعن أولي العلم منفيان فاعتصمِ

العلم والله ميراث النبوة لا             **** ميراث يشبهه طوبى لمقتسمِ

لأنه إرثُ حق دائمٍ أبدا               **** وما سواه إلى الإفناءِ والعدمِ

ومنه إرْثُ سليمان النبوة والـ           **** فضل المبين فما أولاه بالنِّعمِ

العلم يا صاح يستغفر لصاحبه        **** أهل السماوات والأرضين من لممِ

كذاك تستغفر الحيتان في لجج        **** من البحار له في الضوء والظلم

وخارج في طلاب العلم محتسبا       **** مجاهدٌ في سبيل الله أي كمِ

وإن أجنحة الأملاك تبسطها        **** لطالبيه رضًا منهم بصنعهمِ

يا طالب العلم:

إياك واحذر مماراة السفيه به    **** كذا مباهاة أهل العلم لا ترُمِ

فإن أبغض كل الخلق أجمعهم  **** إلى الإله ألد الناس في الخصم

قال الخطيب البغدادي –رحمه الله- في ((الفقيه والمتفقه)): ((ينبغي لمن اتسع وقته و أصلح الله له جسمه، وحبب إليه الخروج عن طبقة الجاهلين، وألقى في قلبه العزيمة على التفقه في الدين، أن يغتنمَ المبادرةَ إلى ذلك خوفًا من حدوثِ أمرٍ يقطعه عنه، وتجدد حال تمنعه منه وليستعملَ الجدَّ في أمره وإخلاص النيةِ في قصده والرغبة إلى الله في أنْ يرزقه علما يوفقه فيه، ويُعيذه من علمٍ لا ينتفع به، وليحذر أن يكون قصدُهُ فيما يطلب المجادلة به والمماراة به وصرف الهمم إليه أخذ الأعواض عليه)). انتهى كلامه -رحمه الله-.

فاحذر المراء، وإياك وإياه، ولو أن الأمر مرَّ كفافًا لا له ولا عليه؛ لكان هينًا، وكان محتملا، ولكنَّ العقاب مُرٌّ أليم، والعذابُ مُهينٌ عظيم.

عن أبي هريرة—رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((إن أول الناس يُقضي يوم القيامة عليه؛ رجلٌ اسُتشهد فأُتى به فعرَّفه نعمه فعرَفها.

قال: فما علمت فيها؟

قال: قاتلت فيك حتى اسُتشهدت.

قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقال جريء فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقى في النار.

ورجلٌ تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتى به، فعرَّفه نعمه فعرفها.

قال: فما عملت فيها؟

قال: تعلمت العلم وعلَّمته وقرأتُ فيك القرآن.

قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليُقال عالم، وقرأت القرآن ليُقال هو قارئ؛ فقد قيل، ثم أُمر فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار.

ورجلٌ وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتي به فعرَّفه نِعمه فعرَفها.

فقال: فما عملت فيها؟

قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك.

قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد؛ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم أُلقي في النار)). أخرجه مسلم في صحيحه.

فذكر الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث: الغازي، والعالم، والجواد الذين يراءون بأعمالهم، ولا يبتغون به وجه الله تعالى.

قال النووي في شرح الحديث: ((قوله -صلى الله عليه وآله سلم- في الغازي والعالم والجواد، وعقابهم على فِعلِهم ذلك لغير وجه الله وإدخالهم النار؛ دليلٌ على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته، وعلى الحثِّ على وجوب الإخلاص في الأعمال، كما قال -جلا وعلا-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وفيه أن العمومات في فضل الجهاد إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصاً، وكذلك الثناء على العلماء، وعلى المتفقهين في الدين، والمنفقين في وجوه الخير، كلُّه محمولٌ على من فَعلَ ذلك لله تعالى مخلصًا)).

فتعلُّم العلم لغير وجه الله تعالى ابتغاءً لشهوةٍ فارضة، وشهرةٍ باطلة، وطلبًا لشهوةٍ عاجلة، وسعيًا وراء تقدير يصيرُ إلى عدم، وعدْوًا خلف فرح يؤول إلى ندم، كلُّ ذلك مما يُدخل في دائرة الوعيد، وينظم في سلك التحريم الشديد.

عن كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من طلبَ العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ أدخله الله النار)).أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.

قال القاضي بن العربي-رحمه الله-: ((قد يكون العلم هلاكًا على صاحبه إذا طلبه لغير وجه الله تعالى، والمعنى في الحديث: أن النية هي ركنُ العمل أو شرطه والذي لا يُعتد به إلا بها، فإذا عُدمت؛ لم يكن العمل شيئا، فإذا فسدت فسد الهوى، ويكون فسادهُ على قدر مُفسده، فإن أراد مجاراة العلماء دخل في باب الحسد للظهور والمباهاة على الأقران، فقلبَ ما للآخرة للدنيا، وإن أراد مماراة السفهاء فهو مثْلُهم، وإن أراد صرف وجوه الناس ليكتسبَ الحطام، فقد باع دينه بعرَضٍ من الدنيا، فهو عاصٍ فاسقٍ تحت رجاء الخاتمة في الموت على الشهادة، فيكونُ في المشيئة أو في تزعزعٍ من العقيدة تضعُف عند الموت وقوة الفتنة أو في ذهابٍ من ذلك؛ فيكونُ من أهل النار)).

عن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرْفَ الجنة يوم القيامة-يعني ريحها-)). أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسنادٍ صحيح.

ينبغي أن يُقيد هذا بما إذا كان العلمُ في ذاته مشروعًا غير ممنوع، وأما إذا كان العلمُ الذي تُبتغى به الدنيا محظورًا، فالوعيد محيطٌ بمن طلب الدنيا به، وإن كان مما لا يُبتغى به وجه الله -جل وعلا-.

عن جابر –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنارُ النار –أو فالنارَ النار)). أخرجه ابن ماجة، وابن حبان والحاكم وصححه الألباني وغيره.

لا تعلموا؛ أي: لا تتعلموا بحذف إحدى التائين، ولا تخيروا؛ أي: لا تختاروا به خيار المجالس وصدورها، فالنار؛ أي: فله النار، أو فيستحق النار -والنارُ مرفوعٌ على الأول منصوبٌ على الثاني-.

عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار)). رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((من تعلم العلم ليباهيَ به العلماء ويُجاري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه؛ أدخله الله جهنم)). رواه أبن ماجه، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وصححه في ((صحيح الجامع)).

عن عبد الرزاق فيما أخرجه في ((المصنف)): موقوفًا عن سليم بن قيس قال: خطب عمر –رضي الله عنه- فقال: ((إن أخوف ما أتخوف عليكم عندي أو بعدي، أن يُؤخذ الرجل منكم البريء؛ فيؤشر كما يؤشر الجزور –أي: فيُنشر كما تُنشر الناقة المجزورة-، ويُشاط لحمه كما يُشاط لحمها –أي: إذا دُخِّن ولم يُنضج-، ويقال: عاصٍ وليس بعاص.

قال: فقال عليٌّ وهو تحت المنبر: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ أو بما تشتد البليَّة، وتظهر الحميَّة، وتُسبى الذُّرية، وتدقُّهم الفتن كما تدقُّ الرحى ثِفْلَهَا –والثِّفلُ: هو الجلد الذي يكون تحت الرحى-، وكما تدقُّ النار الحطب.

قال: ومتى ذلك يا عليّ؟

قال: إذا تُفقه لغير الدين، وتُعلِّم لغير العمل، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة)).

وقد رواه الحاكم أيضا من طريق المصنف وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)).

فنسأل الله –تبارك وتعالى- أن يرزقنا الصدق في الأقوال والأعمال والنيات، وأن يرزقنا الإخلاص في القصد والنية، والإحسانَ في القول والعمل، إنه على كل شيء قدير.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

أما بعد:

للخطيب البغدادي رحمه الله في ((الجامع)) باب معقود في بيان النية في طلب الحديث، قال فيه -رحمه الله-: ((يجب على طالب الحديث أن يُخلص نيته في طلبه، ويكون قصده بذلك وجه الله –عز وجل-، وليحذر أن يجعله سبيلا إلى نيل الأعراض، وطريقا إلى أخذ الأعواض, فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه، وليتق المفاخرة والمباهاة به, وأن يكون قصدهُ في طلب الحديث نيْل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس, فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه، وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية، لا حفظ رواية, فإنَّ رواة الحديث كثير, ورعاة العلوم قليل, ورُبَّ حاضر كالغائب، وعالمٍ كالجاهل، وحاملٍ للحديث ليس معه منه شيء، إذ كان في اطِّراحه لحكْمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه، وليعلمَ أن الله تعالى سائله عن علمه فيما طلبه، ومجازيه على عمله به)).

فينبغي أن يُعلم أنَّ طلب الدنيا بالآخرة عقوبةٌ في الدنيا عاجلة، ومحق لبركة العمر، وذهابٌ لخيره، وفي الآخرة عذابٌ شديد وعقابٌ أليم.

قال الحسن: ((عقوبة العالِم موت القلب)).

قيل له: وما موت القلب؟

قال: ((طلب الدنيا بعمل الآخرة)).

وقال جعفر بن محمد: ((إذا رأيتم العالم محبًا لدنياه فاتهموه على دينكم، فإنَّ كل محب لشيء يحوط ما أحب)).

وقال سفيان الثوري: ((إنما يُتعلم العلم ليُتقي به الله، وإنما فُضِّلَ العلم على غيره؛ لأنة يُتقي به الله)).

وقال أيضا: ((زينوا العلم ولا تزينوا به)).

قال الذهبي -رحمه الله- في ترجمة ((هشام الدستوائي)): ((هو الحافظ، الحُجة، الإمام، الصادق أبو بكر هشام بن أبي عبد الله البصري الربعي، صاحبُ الثياب الدستوائية، كان يتجر في القماش الذي يُجلب من دستوا، ودستوا: بُليدة من أعمال الأهواز)).

قال عون بن عمارة: سمعت هشامًا يقول: ((والله ما أستطيعُ أنْ أقول إني ذهبتُ يومًا قط أطلب الحديث أريد به وجه الله - عز وجل-))

قال الذهبي -رحمه الله-: ((والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبُلوا، وصاروا أئمة يُقتدى بهم، وطلبه قومٌ منهم أولًا لا لله، وحصَّلوه، ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرَّهم العلم إلى الإخلاص في أثناءِ الطريق، كما قال مجاهدٌ وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبيرُ نية، ثم رزق اللهُ النيةَ بعد، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكونَ العلمُ إلا لله، فهذا أيضًا حسن، ثم نشروه بنيةٍ صالحة.

وقوم طلبوه بنيةٍ فاسدةٍ لأجلِ الدنيا، وليُثنى عليهم، فلهم ما نووا، وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنورِ العلم، ولا لهم وقعٌ في النفوس، ولا لعِلمهم كبيرُ نتيجةٍ من العمل، وإنما العالمُ من يخشى الله –عز وجل-.

وقوم نالوا العلم، وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيُّد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش، فتبًا لهم، فما هؤلاء بعلماء! وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحِيل، وأفتى بالرُّخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث، فهتكهُ الله، وذهبَ علمه، وصار زاده إلى النار.

وهؤلاء الأقسامُ كلُّهم رووا من العلمِ شيئًا كثيرًا، وتضلعوا منه في الجُملة، فخلف من بعدهم خلفٌ بان نقصُهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يُتقنوا منه سوى نزْرٍ يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يَدُر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله; لأنهم ما رأوا شيخًا يُقتدى به في العلم، فصاروا همجًا رعاعًا، غايةُ المدرسِ منهم أن يُحصل كتبًا مثمنةً يخزنها وينظرُ فيها يومًا ما، فيصحِّفُ ما يورده ولا يُقرره، فنسأل الله النجاة والعفو، كما قال بعضهم: ما أنا عالمٌ ولا رأيت عالمًا)). انتهى كلام الذهبي.

فإذا كان الذهبي يقول هذا، ويُعقِّبُ مُقسمًا على كلام هشام أنه لا يستطيع أن يقول -وقد أقسم على ذلك- أنه ما ذهب يومًا يطلب الحديث لوجه الله، ثم يقول الذهبي: والله ولا أنا، يعني لا أستطيع أن أُقسم أني ذهبت يومًا أطلب الحديث لوجه الله؛ لخفاءِ ذلك في قلبه، ولخوفه من نيتهِ وضميره، فإذا كان هؤلاء الأعلام يقولون هذه المقالة، فماذا نقولُ نحن؟

نسأل الله أن يسترنا دنيا وآخرة.

إنما الأعمال بالنيات، وعلى الإنسانِ أنْ يجتهد، في أن يخلص نيته لله -جل وعلا-، فإنَّ كثيرًا من الناس تختلف عليه نيته وهو لا يدري، وتقع منه آفات العلم كلُّها، يماري بعدما كذبَ يقينًا، وبعدما أقسمَ اليمينَ الغموس على ما يكذبهُ، فإذا ما رُوجع وقد قامت الدلائل البينات، ولاحت العلائمُ الصادقات على كذبهِ الذي لا يَمتري فيه اثنان، ولا تنطحُ فيه عنزان، إذا ما قام الدليلُ على كذبهِ، أقسمَ باليمينِ الفاجرة، فإذا ما أُخذ راح يُماري، هذا المماري ما تصنع معه؟

وصف الراغبُ سبيلَ التعاملِ مع أهل اللَّجاجِ لا الحِجَاج، ومع أهل المراء والعناد فقال: ((إذا ابُتليت بمهارشٍ مماحكٍ مُناوش، قصده اللَّجاجُ لا الحِجَاجُ، ومراده مناوَأَةُ العلماء، ومماراة السفهاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( من تعلم العلم ليُباهي به العلماء، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوهَ الناس، أدخله الله جهنّمَ)).

قال الشاعر:

تراهُ معداً للخلاف كأنه****بردٍّ على أهلِ الصواب موكّلُ

فحقُّكَ أن تفرَّ منه فرارَك من الأساودِ والأسودِ، فإن لم تجد من مزاولتِه بُدًّا، فكابر إنكاره الحقَّ بإنكارك الباطل، ودِفاعَهُ الصِّدقَ بدفاعِكَ الكذب، معتبرًا في ذلك قوله تعالى: {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [ النمل: 50 ].

وقوله تعالى: {وَمَكَرَ اللَّـهُ} [ آل عمران: 54 ]،

وقوله تعالى حكايةً عن المنافقين: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14-15 ].

وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ} [ الصف: 5 ].

وبَالِغ في ذلكَ معهُ، وإياكَ أن تُعرِّجَ معهُ إلى بثِّ الحِكمةِ، وأن تذكرَ له شيئًا من الحقائقِ ما لم تتحقَّق له قلبًا طاهرًا لائقًا للحكمةِ، وقد قال -صلى الله عليه وآله  سلم- كما في الصحيحين: ((لا تدخل الملائكة بيتًا في كلبٌ)).

فإنَّ لكلِّ تُربةٍ غرسًا، و لكلِّ بناءٍ أُسًّا، و ما كلُّ الرءوسِ تستحقُّ التيجان، ولا  كلُّ طبيعةٍ تستحقُ إفادةَ البيان، وإنْ كانَ ولابُدَّ فاقتصر معه على إقناعٍ يبلُغُه فهمُهُ، فقد قيل: كما أنَّ لُبَّ الثمارِ مباحٌ للنَّحلِ، و التبنَ معدودٌ للأنعامِ، كذلكَ لبُّ الحكمةِ مُعَدٌّ لذوي الألباب وقُشورها مجعولةٌ للأنعامِ، وكما أنَّه من المُحال أن يَشُمَّ الأخشمُ ريحانًا فمحالٌ أن يُفيدَ الحمارُ بيانًا.

فإذا ابُتلينا بمُمارٍ، فإنَّا نقول له محالٌ أنْ يفيدَ الحمارُ بيانًا.

والله المستعان وعليه التكلان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.