فعن جماعةٍ مِنَ الأصحابِ - رضوان الله عليهم جميعًا - مِنْ طُرُقٍ شَتَّى يَشُدُّ بعضُها بعضًا: عن أبي بكرٍ وأبي هريرةً و عبدِ اللهِ بن عمرو وأبي ثعلبةَ الخُشَنِي ومعاذِ بن جبل وعوفِ بن مالكٍ وعائشةَ - رضوان الله عليهم جميعًا - عن النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يَطَّلِعُ اللهُ تبارك وتعالى إلى خلقِهِ ليلةَ النِّصفِ مِنْ شعبان فيغفرُ لجميعِ خلقِهِ إلا لمشركٍ أو مُشاحن». وهذا الحديثُ حديثٌ صحيحٌ بمجموعِ طُرُقِهِ لا شكَ في ذلك ولا ريبَ فيه.
فأمَّا طريقُ عائشةَ - رضوان الله عليها - فقد أخرجَهُ الترمذي وابنُ ماجه في قصةٍ في آخرها ذكرت ما ذكرَ الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنَّ الله يغفر في ليلةِ النصفِ من شعبان لأكثرَ من عددِ شعرِ غنم كَلْب». وكلب: قبيلة مغنمةٌ كثيرةُ الأغنام, فذكرت عائشة ما نسبت إلى الرسولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قولٍ في آخرِ قصةٍ تجدُها في المصادرِ المذكورةِ إلا أنَّه حديثٌ ضعيف؛ لأنَّ فيه حجاج بن أرطئة وهو مدلسٌ معروفٌ وقد عنعنه, وأمَّا طريقُ أبي ثعلبةَ الخُشَنِي فإنَّه أخرجه البيهقي في ((الشُّعَب)) بإسنادٍ حسن عنه عن الرسولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: «يَطَّلِعُ اللهُ - جَلَّت قدرتُهُ - إلى خلقِهِ في ليلةِ النصفِ من شعبان, فيغفرُ للمؤمنينَ, ويُملي للكفرينَ, ويدعُ - أي: يترك - أهلَ الحقدِ بحقدِهِم حتى يدعُوهُ». ومن طريقٍ أخرى أخرجها الطبراني في ((المعجم الكبير)) بإسنادٍ حسن مثلُهُ.
وأنت إذا ما نظرتَ إلى ما صَحَّ في ليلةِ النِّصفِ مِنْ شعبان وجدتَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُقررُ: «أنَّ اللهَ - جَلَّت قدرتُهُ - يَطَّلِعُ إلى خلقِهِ في ليلة النصف فيغفرُ للمؤمنين, ويُملي للكافرين, ويدعُ أهلَ الحقدِ بحقدِهِم حتى يدعُوهُ».
وفي الحديث الذي تكاثرت طُرُقُهُ حتى صارت به إلى جَادَّةِ الصِّحَةِ - بلا ريبٍ ولا شك -: «يَطَّلِعُ اللهُ تبارك وتعالى إلى خلقِهِ في ليلةِ النصفِ من شعبان فيغفرُ لجميعِ خلقِهِ إلا لمُشركٍ أو مُشاحن». والحديثان كما ترى يكادان ينطبقان معنى, يغفرُ اللهُ ربُّ العالمين لجميع خلقِهِ إلا لمشركٍ أو مُشاحن, فيغفر للمؤمنين, ويدعُ - بالإِمْلَاءِ - الكافرينَ فيما هم عليه من كفرٍ وشرك, ويدعُ أهلَ الحقدِ بحقدهم حتى يدعوه.
ففي ((صحيح مسلم)) أنَّ الله جَلَّتْ قدرتُهُ - كما روى أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يُفَتِّحُ أبوابَ الجنةِ في كل اثنين وخميس, فيغفرُ اللهُ ربُّ العالمين للمؤمنين إلا رجلًا كانت بينه وبين أخِيهِ شحناءُ - كانت بينه وبين أخيه بغضاءُ - فيقول اللهُ جَلَّ وعَلَا: أَنْظِرَا - أي: أَجِّلَا, أي: دَعَا, أي اتركا - هذين حتى يصطلِحَا. فلا ينعمانِ بالغفرانِ الذي يلحقُ غيرَ المشاحنين في كل اثنين وخميس, إذ تُفَتَّحُ أبواب الجنة, وإذ تَهُبُّ نسماتُ نفحاتِ, رحماتِ اللهِ ربِّ العالمين.
إنَّ العلماءَ - رحمةُ الله عليهم - يصيرونَ في جملتِهِم إلى ما رواه ابنُ أبي شامةَ عن أبي بكر بن العربي المالكي - رحمةُ الله عليه - سواءٌ في ((العارضة)) أو في ((الأحكام)) يقول: إنَّه لم يصح في ليلة النصف من شعبان حديثٌ يساوي سَمَاعَهُ. يقولُ: إنَّه لم يصح في ليلةِ النصفِ من شعبان حديثٌ يساوي سماعه.
وأمَّا الشيخُ الإمامُ - رحمه الله - فإنَّه في ((السلسلة الصحيحة)) بعد ما تَتَبَّعَ مستقرئًا طُرُقَ الحديثِ فأربت على ثماني طُرُق, نظرَ فيها وبحثَ فيها مستقصيًا مستقرئًا حتى خَلُصَ في المنتهى إلى قولِهِ - رحمه الله -: ومِنْ هذا الاستقصاءِ نعلمُ أنَّ الذين قالوا من أهلِ العلمِ بأنَّه لم يصح في ليلةِ النصفِ حديثٌ إنَّما أوتوا من عدمِ بذلِ الجهد في استقصاءِ الطُرُقِ وتَتَبُّعِهَا كما ترى فيما بين يدَيك. فهذا ما قاله - رحمه الله -.
وعليه فإنَّ الصَّنْعَةَ الحديثيةَ تقضي في المنتهى بأنَّه صحَّ في ليلةِ النصفِ أحاديث منها: ما هو مذكورٌ بطُرُقِهِ عن جملةٍ من الأصحابِ: «أنَّ الله جَلَّتْ قدرتُهُ يَطَّلِعُ ليلةَ النصفِ إلى خَلْقِهِ, فيغفرُ لجميعِ خَلْقِهِ إلا لمشركٍ أو مُشاحن». ثم ما قالَهُ أبو ثعلبةَ يرفعُهُ إلي النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أنَّ الله جَلَّتْ قدرتُهُ يَطَّلِعُ إلى خَلْقِهِ في ليلةِ النصف من شعبان فيغفرُ للمؤمنينَ, ويُملي للكافرينَ, ويدعُ أهلَ الحقدِ بحقدِهِم حتى يدعُوهُ». ولكنَّ الحديثَ الذي أخرجَهُ ابنُ ماجه في سننِهِ عن عليٍّ - رضوان الله عليه - يرفعُهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّ اللهَ جَلَّتْ قدرتُهُ عَلَّمَهُ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من لدنه علمًا فهو يبلغُهُ لا يكتمُهُ, وإنَّما يؤديه أداءً للأمانةِ ونُصحًا للأمَّةِ فيقول: «إذا كانت ليلةُ النصفِ من شعبان فقوموا ليلَهَا, وصوموا نهارَهَا». فهذا حديثٌ موضوع, في سندِهِ ابن أبي سَبْرَةَ, قال فيه الإمامان أحمدُ وابنُ معينٍ - رحمهما الله جلَّ وعَلَا -: كان يضعُ الحديث - يعني: ابن أبي سَبْرَةَ -. فكان يكذبُ على النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويضعُ الأحاديثَ, وهذا حديثٌ مكذوبٌ موضوعٌ لا يصحُّ بشيءٍ من وجوهِ الصِّحَةِ, بل إنَّه لا يقعدُ عن مرتبةِ الضعفِ إذ يتنزلُ إلى مرتبةِ الوضعِ والكذبِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فإذن؛ ليس معنى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم دَلَّنَا على أنَّ ليلةَ النصفِ ليلةٌ شريفةٌ يعطي فيها اللهُ ربُّ العالمينَ من قبساتِ أنوارِ رَحَمَاتِهِ خَلْقَهُ, وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى لا يُفيضُ هذا العطاءَ على المشركينَ ولا على المشاحنين, وإنما جمعَهُمَا في قرنٍ, ويا بؤسَ ما جُمِع, وقد جعلَ اللهُ ربُّ العالمين المشركَ مع المشاحنِ في خندقٍ واحدٍ, فلا يغفرُ اللهُ ربُّ العالمين في ليلةِ النصفِ - مع عمومِ المغفرةِ لجميعِ أهلِ الأرضِ - لا يغفرُ لمشركٍ ولا لمشاحن, مَنْ عندَهُ البغضاءُ في قلبِهِ, ومَنْ انطوى صدرُهُ على الغِلِّ والحقدِ والحسدِ فهذا بِمَبْعَدَةٍ عن المغفرةِ.
وفي ((صحيح سنن ابنِ ماجه)) عن عبدِ الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: «قيل للنبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من أفضلُ الناس؟ فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كلُّ مَخْمُومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ - كلُّ مخمومِ القلب صدوق اللسان هذا أفضلُ الناس -, فقالوا: يا رسولَ اللهِ صدوق اللسان عرفناه, فما مخمومُ القلب؟ قال النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الذي لا إثمَ فيه ولا بغي ولا غِلَّ فيه ولا حسد».
فأفضلُ الأعمالِ عند اللهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الخلقِ عند اللهِ جلَّ وعلا سلامةُ الصدرِ ومَنْ كان عن الغِلِّ والحسدِ مُنَزَّهًا, ومِنْ ذلك مُبَرَّئًا, وأمَّا مَنْ انطوى قلبُهُ على شيءٍ من ذلكَ فهو بِمَبْعَدَةٍ من المغفرةِ في ليلةِ النصفِ من شعبان مع عمومِ المغفرةِ لأهلِ الأرضِ, إلا للمشركِ الذي يشركُ باللهِ ربِّ العالمين مَعَهُ غَيرَهُ فإنَّ ذلك لا يُغْفَرُ بحالٍ من الأحوالِ لا دنيا ولا آخرة, إذا ما ماتَ على ذلكَ ولم يَتُبْ منه مُنِيبًا مُوَحِّدًا, وكذلك الذي انطوى قلبُهُ على الشحناءِ, على البغضاء, على الغِلِّ, على الحسد, فهذا متروكٌ مُهْمَلٌ, وهذا بِمَبْعَدَةٍ أنْ ينالَهُ شيءٌ مِنْ عمومِ المغفرةِ التي تتنزلُ على الخَلْقِ في ليلةِ النصفِ من شعبان.
هذا ما صحَّ في هذه الليلةِ لا ما يذهبُ إليه الشيعةُ, ولا ما يتقصى على آثارِهِم فيه قَصًّا المتصوفةُ, إذ يجتمعونَ في المساجدِ في ليلةِ النصفِ في صلاةِ المغربِ, يقومُ قائمُهُم بعدَ الصلاةِ يُصَلُّونَ ما يُسَمَّى بصلاةِ الرَّغَائِبِ! وهي في ليلةِ النصف! وفي أولِ رَجَب! وهي صلاةٌ أَلْفِيَّةٌ لمن استطاعها منهم وكان في بدعتِهِ جَلْدًا وعليها مُقِيمًا, ويُصَلُّونَ مِئَةَ ركعةٍ, كلُّ ركعةٍ تُصَلَّى بسورةِ الإخلاص عَشْرًا عَشْرًا فهذه ألفٌ فهي صلاةٌ ألفية, لم يَتَّبِعْهَا ولم يأخذ بها ولم يفعلْهَا خيرُ البَرِيَّةِ ولا أحدٌ من أصحابِهِ رضوان الله عليهم, وإنَّما هي عملٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ!
ويا الله! العجب كيف يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ ربِّ العالمين بما لم يَشْرَع؟!
وكيف يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ بالضلالةِ؟!
وهذا نبيُّكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم صَحَّ عنه قولُهُ: «كُلُّ بدعةٍ ضلالة, وكُلُّ ضلالةٍ في النارِ». فلم يستثنِ من ذلك شيئًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وإنَّما جَمَعَ ذلك إلى ذلك فهو حَصَبُ النارِ - نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ -.
وأخرج الطُّرْطُوشِيُّ - رحمه الله - في كتاب ((الحوادث والبدع)) أنَّه سَمِعَ من أبي محمدٍ المقدسي رحمه الله - الإمام - قال: إنَّ أولَ ما أُحدثت صلاةُ الرَّغَائِبِ التي تُصلَّى في أول رَجَب وفي النصفِ من شعبان أول ما أحدثت في أول سنةِ أربعٍ وثمانيينَ وأربعمائةٍ من هجرةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, - قال - قَدِمَ علينا ببيتِ المقدسِ رَجُلٌ يُقال له (ابنُ أبي الحمراء) فدخلَ المسجدَ الأقصى, وكانَ حسنَ الصوتِ؛ فصلَّى بعدَ صلاةِ المغربِ فائتمَ به رجلٌ وأَحْرَمَ بعد ذلك وراءَهُ ثانٍ, فما فرغَ مِنَ الصلاةِ حتى كانت جماعةً عظيمة, ثم جاءَ مِنَ السَّنَةِ التي تلت فصلَّى كما صلَّى في السَّنَةِ الفائِتَةِ, ثم استطابت عندنا في بيتِ المقدسِ تلكَ الصلاةِ, يُصَلِّيهَا النَّاسُ في مساجدِهِم, ويصلونها في دُورِهِم وفي بيوتِهِم. فهذا أول العهد بإحداثِ تلك البدعة في القرنِ الخامسِ من هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وبعد القرونِ الثلاثةِ المُفَضَّلَةِ, وما لم يكن يومئذٍ دِينًا فلنْ يكونَ في يومٍ مِنَ الأيامِ دِينًا.
وأمَّا الدعاءُ الذي يُنسبُ إلى عبدِ اللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه وأرضاه - فهو منه بريءٌ, وهو منه بَرَاء, وعبدُ اللهِ أَجَلُّ وأعظمُ عند اللهِ ربِّ العالمينَ مِنْ أنْ يتورطَ - ولا أحدٌ مِنَ الأصحابِ رضوان الله عليهم - في الافتئاتِ على الشَّرْعِ الأَغَرِّ وفي الإتيانِ بالإِحْدَاثِ في دِينِ اللهِ ربِّ العالمينَ وبإلصاقِ شيءٍ بِدِينِ محمدٍ الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وما خانَ أمينٌ قط, ولكن ائتُمِنَ غيرُ أمينٍ فخَان, ولا يُؤتَى النَّاسُ قط مِنْ قِبَلِ علمائِهِم وإنَّما يُسْتَفْتَى غيرُ عالمٍ فَيُفْتِي بالخطأ - لا بالصوابِ - وحينئذٍ يُؤتَى النَّاسُ كذلك كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ عبدِ اللهِ ابن عمرو الذي أخرجَهُ الشيخان: «إنَّ اللهَ لا يقبضُ العِلْمَ انتزاعًا ينتزعُهُ مِنَ النَّاسِ, وإنَّما يقبضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلماءِ, حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا, فَأَفْتَوا بغيرِ عِلْمٍ, فَضَلُّوا وأَضَلُّوا».
هذا الدعاءُ الذي يأخذُ به النَّاسُ في ليلةِ النصفِ من شعبان, يحسبونَ تَبَعًا للشيعةِ وللضُّلَالِ ممن حادوا عن صراطِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّ ليلةَ النصفِ من شعبان هي التي أنزلَ اللهُ ربُّ العالمينَ فيها قوله: ﴿حم*وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾[الدخان :1- 2], ثم يقولُ ربُّنا تبارك وتعالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان :3- 4], فيظنُّ الظَّانُّ أنَّ هذه الليلةَ المباركةَ هي ليلةُ النصفِ من شعبان, وليس كذلك؛ لأنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ لمَّا ذَكَرَ القرآنَ العظيمَ بعدما ذَكَرَ ما ذَكَرَ مِنَ الحروفِ المُقَطَّعَةِ تَحَدِّيًا للعربِ بهذا القرآنِ العظيم وهم أربابُ الفصاحةِ وأُولُوا البيان, ثم بَيَّنَ اللهُ ربُّ العالمينَ أنَّ هذا القرآنَ العظيمَ إنما تكلمَ اللهُ ربُّ العالمينَ به من هذه الحروف التي عندكم مَعْشَرَ البُلَغَاءِ وأهلَ الفصاحة, اللهُ ربُّ العالمينَ جَعَلَ هذا القرآن, اللهُ ربُّ العالمينَ أنزلَ هذا القرآن, اللهُ ربُّ العالمينَ تَكَلَّمَ بهذا القرآنِ العظيم هكذا, ويتحداكم به وعندكم أَبْجَدِيَّتُكُم, فإنْ كنتم صادقينَ حقًّا فلتُقْبِلُوا عليها ولْتَقْبَلُوا التَّحَدِّي, ولْتَأْتُوا بِمِثْلِ أقصرِ سورةِ منه.
ثم ذكرَ القرآنَ العظيمَ - الكتابَ المبين -, ثم قالَ ربُّنا جَلَّ وعَلَا: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, فعادَ الضميرُ إلى القرآنِ المذكورِ, إلى الكتابِ المبينِ, إلى الذِّكْرِ الحكيم, ثم قالَ ربُّنا جَلَّتْ قدرتُهُ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر : 1], ولم يأتِ ربُّنا تبارك وتعالى هاهنا بهذه الكِنَايَةِ ذَاكِرًا قَبْلَهَا ما تعودُ عليه ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر : 1], فالضميرُ في ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ ضميرُ النَّصبِ, ضميرُ المفعولية لا ضميرُ الفاعليةِ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, ربُّنا جَلَّ وعَلَا ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ أي: القرآنَ العظيم, هذا القرآنُ العظيمُ ضميرُهُ هاهنا ضميرُ النَّصبِ, هاهنا ضميرُ المفعوليةِ, في قولِهِ تعالى: ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ على أيِّ شيءٍ يعودُ وليس هنالك من مذكورٍ قبلَهُ يعودُ إليه ويرجعُ عليه؟ وإنَّما جعلَ اللهُ ربُّ العالمينَ ذلك كذلك, وجَعَلَ اللهُ ربُّ العالمينَ هذا الذي يُعَادُ عليه - وهو القرآنُ العظيمُ - مُسْتَغْنِيًا عن الذِّكْرِ لِشُهْرَتِهِ, ومُسْتَغْنِيًا عن الذِّكْرِ لِذِكْرِهِ وعَظَمَتِهِ, فقال ربُّنا جَلَّ وعَلَا - إذ لا يَلْتَبِسُ ذلك على فَهْمِ أحدٍ, ولا يدخلُ ذلك بِاللَّبْسِ على عقلِ أحدٍ -: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, ويسمعُ السَّامِعُ فَيَفْهَمُ أنَّ المَعْنِيَّ هاهنا بالإِنْزَالِ هو القرآنُ العظيم ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ*تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ*سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾[القدر : 1-5], فهذه الليلةُ ليلةٌ ذاتُ قَدْرٍ, ذاتُ شَرَفٍ, أو هي ليلةٌ ذاتُ تقديرٍ؛ إذ القَدْرُ هو التقديرُ كما قال ربُّنا جَلَّ وعَلَا في مطلعِ سورةِ الدُّخَان: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا﴾ - أي: في تلك الليلةِ المباركةِ - ﴿يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان : 3-4].
إذ جَعَلَ اللهُ ربُّ العالمينَ التقديرَ الأزليَّ - التقدير الأزلي - الذي كَتَبَ اللهُ ربُّ العالمينَ فيه مقاديرَ الخلائِقِ قبلَ أنْ يَخْلُقَ اللهُ ربُّ العالمينَ السماواتِ والأرض بخمسينَ ألفَ سنةٍ, كما في الحديثِ الصحيحِ: «إذ خَلَقَ اللهُ ربُّ العالمينَ أولَ ما خَلَقَ القَلَمَ, فقال له: اكتب. قال: ما أكتب أي ربِّ؟ قال: اكتبْ مقاديرَ الأشياءِ إلى يومِ القيامةِ», فجرَى القلمُ بما هو كائنٌ بما سبقَ في عِلْمِ اللهِ ربِّ العالمينَ, وعِلْمُ اللهِ جَلَّ وعَلَا سابقٌ لا سائقٌ, لا يستلزمُ الجَبْرَ ولا يكونُ له لازمًا وإنَّما هو صفةُ انكشافٍ, فكَتَبَ القَلَمُ ما هو كائنٌ قبل خَلْقِ السماواتِ والأرض بخمسينَ ألفَ سَنَةٍ, ثم جَاءَ بعد ذلك التقديرُ الحَوْلِيُّ بعد التقديرِ العُمُرِيِّ الأول والتقديرِ العُمُرِيِّ الثاني, ثم أتى بعد ذلك التقديرُ اليومي, وفي هذا الذي ترى من هذا التقديرِ الحَوْلِيِّ يقولُ اللهُ جَلَّ وعَلَا في كتابِهِ العظيم: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان : 4], يعني: في ليلةِ القدرِ في ليلةٍ ذاتِ قدرٍ وشرفٍ, وفيها يصيرُ من كان خاملًا أرادَ اللهُ ربُّ العالمينَ له الرِّفْعَةَ, وأرادَ اللهُ ربُّ العالمينَ له العِزَّةَ, وأرادَ اللهُ ربُّ العالمينَ به العطاءَ والحبورَ, فهذا يصيرُ ذا قدرٍ من بعدِ ضَعَتِهِ ومن بعد تَنَزُّلِهِ, وفيها يتزوجُ الخَلْقُ ما يتزوجون بينها ثم يُولدُ لهم, وإنَّ الواحدَ منهم قد نَزَلَ الإذنَ بقبضِ رُوحِهِ في تلك الليلةِ فلا يدورُ الحولُ حتى يكون ما يكون, وما يحجُّ من حَاجٍّ ولا يعتمرُ من معتمرٍ إلا وكُلُّ ذلك يجعلُهُ ربُّ العالمينَ في النسخةِ الحوليةِ التي تتنزل بها الملائكةُ المُكَرَّمُونَ من اللوحِ المحفوظِ, ثم ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرحمن : 29], تقديرٌ يومي ويُبدي ربُّك جَلَّ وعَلَا في كونِهِ ما يشاءُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
في التقديرِ العُمُرِيِّ الأول الذي يحدثُ مرةً واحدةً في العُمُرِ - وقد حدث -, إذ حدثَ في عالم الذَّرِّ ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾[الأعراف : 172], فاللهُ ربُّ العالمينَ أشهدنا في عالم الذرِّ على أنفسِنَا فهذا هو التقدير العُمُري الأول.
و أما التقدير العُمُري الثاني ففي جوفِ الرَّحِمَ بعد أربعينَ في أربعين في أربعين, فيأتي المَلَكُ ويكتبُ ما شاءَ اللهُ ربُّ العالمينَ, ثم في هذا التقديرِ السنويِّ يذهب كثيرٌ من الخَلْقِ جَهْلًا - وربما لا قصدَ فيه, وإنَّما هو من سوءِ تَلَقِّي العلم والاضطرابِ فيه - يذهبونَ إلى أنَّ ذلك إنَّما يكونُ في ليلةِ النصفِ من شعبان, وإنَّما هو في الحقيقةِ في ليلةِ القدرِ من رمضان ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ - أي: القرآنَ العظيم - ﴿فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾[الدخان : 3], ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر : 1], ثم ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان : 4] من أمرِ هذا التقديرِ.
فيقفُ الواقفُ في مسجدٍ من مساجدِ المسلمينَ يُقْبِلُ على اللهِ ربِّ العالمينَ - بِزَعْمِهِ! -: اللهمَّ! يا ذا المنِّ و لا يمن عليه, ويا ذا الفضل! ولا يُتَفَضَّلُ عليه إن كنت قد كتبتني عندك في أمِّ الكتابِ شَقِيًّا أو مطرودًا أو محرومًا فامحُ ذلك وأثبت غيره!!
إلى غير ذلك مما يتشدقونَ به وليس كذلك.
وإنَّما الليلة التي يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيمٍ هي ليلةُ القدرِ ليلةُ التقدير, فلم يصحَّ في ليلةِ النصفِ من شعبان إلا عمومُ المغفرةِ لأهلِ الأرضِ خَلَا ما كان مشركًا أو كان مُشَاحِنًا؛ لأنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ لا يحبُّ إلا من كان صدوقَ اللسانِ مخمومَ القلبِ لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ فيه ولا حسدَ؛ لأنَّ الدِّينَ ما أتى إلا من أَجْلِ أنْ يُغَيِّرَ النَّاسَ, فإذا كان الإنسانُ عاجزًا بالدِّينِ عن التغييرِ فأيُّ شيءٍ أفادَهُ الدِّينُ إذن؟!
إنَّما وظيفةُ الدِّينِ في الحياةِ أنْ يُغَيِّرَ المرءُ مما هو عليه من ضلالٍ وانحرافٍ وسوءِ سيرةٍ وسوءِ طَوِيَّةٍ وسوءِ قصدٍ, يُغَيِّرَهُ الدِّينُ إلى ما يحبُّهُ اللهُ ربُّ العالمينَ ويرضَاهُ باطنًا وظاهرًا.
فإذا كانَ عاجزًا عن التغييرِ فقل لي بربِّكَ فأيَّ شيءٍ أفادَهُ دِيْنُ اللهِ ربِّ العالمين؟!
وأمَّا أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كانت أهواؤُهم الغَرَزِيَّةُ الطبيعيةُ التي هي مركوزةٌ في طبائعِهِم لا يستطيعُ الواحدُ معها حِيْلَةً, ولا يستطيعُ لها دفعًا, وإنَّما يسيرُ على مقتضاها مِنْ غيرِ ما تثريبٍ عليه ولا لومٍ لفعلِهِ, ومِنْ غيرِ أنْ يكونَ مُوآخذًا على شيءٍ يأتي به مما جرت به جِبِلَّتُهُ في أمرِ مطعومٍ ومشروبٍ وما أشبه مما جعلَهُ اللهُ ربُّ العالمينَ حلالًا في دنيا اللهِ جَلَّ وعَلَا, بل يضربُ اللهُ ربُّ العالمينَ المثلَ فيه بمحمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ قُدِّمَ له ضِبَابٌ - جمعُ (ضَبٌ) وهو حيوان جبلي معقدُ الذَّنَبِ - فَقُدِّمَ إليه ذلك على مائدتِهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فلمَّا هَمَّ بأنْ يهويَ إلى ذلك آخذًا به قالتْ واحدةٌ من أمهاتِ المؤمنينَ مِنْ داخلٍ - وكان معه بعضُ الأصحابِ رضوان الله عليهم جميعًا قد تَحَلَّقُوا حولَ طعامِ نبيِّهِم صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فأتى الصوتُ: ألا تخبرونَ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما هو آكل؟ فقال: وما هو؟ قالوا: هذه ضِبَابٌ يا رسولَ الله, فرفعَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَدَهُ وتَنَحَّى جانبًا, كان خالدٌ - رضوان الله عليه - عند خالتِهِ في بيتِ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: حرامٌ هو يا رسول الله؟ فقال: لا, ولكنه طعامٌ لم أجده بديارِ قومي فأجدُ نفسي تَعَافُهُ - فأجدُ نفسي تكرهه؛ لأني لم أعتد عليه ولم أتعود على النظرِ إلى مثلِهِ فضلًا عن الإقبالِ عليه طَاعِمًا وآكلًا -, وحينئذٍ لمَّا أخبرَ الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من لا يعافُهُ بأنَّه إنَّمَا امتنعَ عنه لا مِنْ أَجْلِ الحُرْمَةِ وإنَّمَا مِنْ أَجْلِ الطَّبْعِ والجِبِلَّةِ وأنَّه يَعَافُهُ - لا أكثر - أهوى إليه خالدٌ - رضوان الله عليه - فأكلَهُ رَضِيَ اللهُ ربُّ العالمينَ عنه وعن الصحابةِ أجمعينَ.
إذن؛ أمرُ الجِبِلَّةِ أمرٌ مقررٌ محترمٌ في الشرعِ, ومع ذلك تجدُ أصحابَ نبيِّنَا صلى الله عليه وعلى آله وسلم تستقيمُ غرائزُهُم تستقيمُ جِبِلَّاتُهُم على جِبِلَّةِ محمدٍ, وهي أعدلُ فطرةٍ قضاها ربُّ العالمينَ خَلْقًا قطُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
وهذا أنسٌ - رضوان الله عليه – يقول: لم أكن أحبُّ الدُّبَّاءَ. وإنما كان يعافُهَا ويكرهُهَا, وإذا ما طُبِخَتْ في بيتِ أمِّ سُلَيْمٍ - وهي أمُّ أنس - ربما لم يقرب البيتَ حتى تذهبَ رائحتُهَا طُرًّا, ومع ذلك يقول: ولكني لما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحبُّهَا ويتتبعُهَا في جوانبِ الصَّحْفَةِ في جوانب القَصْعَةِ - كان النبيُّ يحبُّ الدُّبَّاءَ ويتتبعُهَا صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جوانبِ القصعةِ - قال: لما رأيتُ ذلك من النبيِّ صلي الله عليه و على آله وسلم وعلمتُهُ صِرْتُ أحبُّهَا, فهي من أحبِّ الأكلِ إليَّ, من أحبِّ الطعامِ إليَّ.
فانظر كيف استقامت الفطرةُ هاهنا على الفطرةِ السَّوِيَّةِ المستقيمةِ أعدلِ فطرةٍ قط وهي فطرةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ غيرِ أنْ يكونَ هناكَ شيءٌ مِنْ إلزامٍ, ومِنْ غيرِ أنْ يكونَ ذلك مُتَقَرَّبًا به في الحقيقةِ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ, وإنَّمَا هي المحبةُ, وإنَّمَا هي المحبةُ تتغلغلُ في ثَنَايَا ذراتِ خلايا البدنِ حتى يستقيمَ الأمرُ على أمرِ المحبوبِ الأكبرِ وعلى أمرِ المُحَبِّ الأعظمِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وحينئذٍ تقتربُ فطرةٌ مِنْ فطرةٍ, وتستقيمُ قدمٌ على قدمٍ, وحينئذٍ تستقيمُ الجَادَّةُ ليلُها كنهارِهَا لا يَزِيغُ عنها ولا يَضِلُّ عنها إلا هالكٌ.
فالنبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانَ أصحابُهُ رضوان الله عليهم أكرمَ الخَلْقِ عندَ اللهِ ربِّ العالمينَ بعدَ الأنبياءِ والمرسلينَ, كان الصحابةُ يتأثرونَ محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ويتتبعونَ أحوالَهُ ظاهرةً وباطنةً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي اللهُ ربُّ العالمينَ عنهم.
فلا تصدق أبدًا أنَّ واحدًا مِنْ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمكنُ أنْ يخالفَ النبيَّ عامِدًا, ولا تصدق أبدًا - فهو أبعدُ عن التصديقِ وأوغلُ في الخيالِ وفي أوديةِ الوَهَمِ - لا تصدق أبدًا أنَّ واحدًا مِنْ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ألصقَ بالدِّينِ ما ليسَ فيه أو اقتصَّ مُنْقِصًا مِنَ الدِّينِ ما هو فيه فذلك كذلك - أي: الزيادةُ في الدِّينِ و الحذف منه حذوَ النعلِ بالنعلِ -.
وأصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكرمُ وأعلى كعبًا وأنقى صدرًا وأصفحُ عندَ اللهِ ربِّ العالمينَ عن كُلِّ دَنِيَّةٍ لا يقربونها أبدًا, اللهُ ربُّ العالمينَ اختارَهُم لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم, تركوا ما تركَ, وأخذوا بما أخذَ, وتكلموا بما قال, وأَدَّوا الأمانةَ, ونصحوا الأمَّةَ, فرضوانُ اللهِ عليهم أجمعين.
أسألُ اللهَ جَلَّتْ قدرتُهُ وتقدست أسماؤُهُ أنْ يَحْشُرَنَا في زُمْرَةِ نبيِّنَا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنَّه على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.
فقد أخرجَ أبو داودَ والنَّسَائي وغيرُهُمَا عن الحِبِّ ابن الحِبِّ أسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنه وعن أبيه وعن أُمِّهِ أمِّ أيمنَ حاضنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وأيمن هو أخو أسامةَ لِأُمِّهِ رضي الله عنه وعن أُمِّهِ وعن أبيه قال: «قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما لي أراكَ تصومُ في شهرِ شعبانَ ما لا تصومُ في غيرِهِ من الشهورِ - يعني خَلَا رمضان -؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هذا شهرٌ يَغْفُلُ عنه أكثرُ النَّاسِ بينَ رجبٍ ورمضانَ, تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى اللهِ جَلَّ وعَلَا؛ فأنا أحبُّ أنْ يُرْفَعَ عملي فيه وأنا صائمٌ».
هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ يوضحُ فيه النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّ الأعمالَ تُرفعُ الرفعَ السنويَّ, تُرفعُ الأعمالُ رفعًا يوميًّا كما هو معلوم إذ يتعاقبونَ فيكم بالليلِ والنهارِ ملائكةٌ كما أخبرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في صلاةِ الصبحِ وفي صلاةِ العصرِ, تُرفعُ الأعمالُ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ هكذا يوميًّا, ثم تُعرضُ على اللهِ ربِّ العالمينَ كما مَرَّ في حديثِ مسلمٍ وغيرِهِ أنَّها تُعرضُ على اللهِ ربِّ العالمينَ, ويغفرُ اللهُ ربُّ العالمينَ إلا لمشركٍ ورَجُلٍ كانت بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناء فيقولُ اللهُ جَلَّ وعَلَا: أَجِّلَا هذين - أَنْظِرَا هذين - حتى يَصْطَلِحَا, فهذا عرضٌ أسبوعيٌّ في كُلِّ يوم اثنين وخَميس.
ثُمَّ يأتي العَرْضُ السَّنَوِيُّ على ربِّ العِزَّةِ بأعمالِ خَلْقِهِ - جَلَّ وعَلَا - في شهرِ شعبان كما أخبرَ خليلُ الرَّحمنِ محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هذا شهرٌ يَغْفُلُ عنه أكثرُ النَّاسِ إذ إنَّه يقعُ بينَ رجبٍ, وهو شهرٌ مِنَ الأشهرِ الحُرُمِ, والعربُ كانت حتى في جاهليتِهَا تقدسُ وتحترمُ الأشهرَ الحُرُم - فكيف واللهُ ربُّ العالمينَ نَصَّ على أنَّها حُرُمٌ بِحُرْمَةِ اللهِ ربِّ العالمينَ إلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها؟! -, فالعربُ كانت تُقَدِّسُهُ في الجاهليةِ, والمسلمونَ أشدُّ معرفةً لقدرِ الأشهرِ الحُرُمِ في هذا الإسلامِ العظيمِ, فالنَّاسُ يعرفونَ قَدْرَ شَهْرِ رجب, وأمَّا شهرُ رمضان فإنَّه شهرُ القرآنِ, وشهرُ القيامِ والذكرِ, وشهرُ الصيامِ, وهو شهرٌ معلومُ الفضيلةِ عند النَّاسِ كافةً, وأمَّا هذا الشهرُ شهرُ شعبان - وما سُمِّيَ شعبانَ إلا لأنَّهُم كانوا يتشعبونَ فيه في أمرِ الغزوِ إذ يخرجونَ مِنَ الشهرِ الحَرَامِ متعطشينَ إلى سفكِ الدماءِ كما كانَ الشأنُ في الجاهليةِ؛ فسُمِّيَ شعبان لهذا الأمرِ الذي مَرَّ ذِكْرُهُ - فيقولُ نبيُّنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنَّ هذا الشهرَ يقعُ بينَ شهرين معلومي القدرِ, معروفي الفضلِ عند النَّاسِ كافةً, وعليه فيغفُلُ عنه أكثرُ النَّاسِ, ثم إنَّه تُعْرَضُ فيه الأعمالُ وتُرْفَعُ, وأنا أحبُّ أنْ يُرفعَ عملي وأنا صائمٌ, هذا كلامُهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وإذا كانَ عملُهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو العملُ الذي تتشرفُ به الإنسانيةُ, وتفخرُ به البشريةُ, والذي لا تجدُ فيه هَنَةً مِنَ الهَنَاتِ, ولا تجدُ فيه - حاشا لله - سقطةً مِنَ السَّقْطَاتِ, ومَعَ ذلكَ يُحِبُّ مع كمالِ تمامِ عملِهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنْ يرفعَ هذا العملُ العظيمُ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ وهو صائمٌ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
في حالةٍ مِنْ حالاتِ شرفِ النَّفسِ معلومة لكل من كان صائمًا بالحقيقةِ, لكل مَنْ صامَ قلبُهُ وصامت جوارحُهُ تَبَعًا فصامَ تَصَوُّرُهُ وصامَ فكرُهُ وصامَ يقينُهُ عن الوقوعِ في كلِّ ما يُغْضِبُ اللهَ جَلَّ وعَلَا, لكل مَنْ كان صائمًا يعلمُ حالةَ شرفِ النَّفسِ التي تكونُ عليها النَّفسُ وشرفِ الروحِ عندما تكونُ موصولةً باللهِ ربِّ العالمينَ قاطعةً حاسمةً لمادةِ اللَّذةِ التي تجري في العروقِ بالشهواتِ لكي تصفوَ النفسُ مقتربةً من ربِّ الأرضِ والسماواتِ.
يُحِبُّ نبيُّكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم مَعَ كمالِ تمامِ عملِهِ أنْ يُعِرَضَ عملُهُ على اللهِ ربِّ العالمينَ وهو صائمٌ, فكيف بِمَنْ عملُهُ بجوارِ عملِ نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كَحَبَّةٍ من رَمْلٍ في صحراءَ متراميةِ الأطرافِ لا يبلغُ الطرفُ مَدَاهَا, ولا تنتهي القدمُ إلى مُنْتَهَاهَا؟
فكيف بِمَنْ عملُهُ بجوارِ عملِ نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كقطرةٍ في بحرٍ أو أقل؟
كيف والنِّسْبَةُ هاهنا غيرُ معقولةٍ ولا مفهومةٍ؟!
كيف لا يُحِبُّ المرءُ ولا يحرصُ الإنسانُ أنْ يُعْرَضَ عملُهُ في هذا الشهرِ على اللهِ ربِّ العالمينَ وهو صائمٌ كما كانَ الشأنُ عند نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟
ونعودُ لما بدأنا به مِنْ أمرِ أحاديثِ نبيِّنَا صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي صَحَّتْ في ليلةِ النصفِ من شعبان, فإنَّ العبادةَ العظيمةَ في ليلةِ النِّصفِ لم يأتِ بها أثرٌ مِنْ كتابٍ ولا مِنْ سُنَّةٍ, ولا مِنْ هَدْيِّ صاحبٍ ولا إجماعِ أُمَّةٍ, ولم يأتِ بها شيءٌ مِنَ الآثارِ ولو كانتْ ضعيفةً منقوصةً أنها تُخَصُّ بقيامٍ, أو أنَّها تُخَصُّ بعبادةٍ بِعَيْنِهَا دونَ ما يفعلُ الإنسانُ في سائرِ ليالِيهِ إنْ كانت تلكَ عادتُهُ, وإنْ كانَ كذلك دَأْبُهُ وكذلك يسيرُ مع اللهِ ربِّ العالمينَ باحثًا عن مَرْضَاةِ رَبِّهِ جَلَّ وعَلَا, فإن كانَ كذلكَ فلا بأسَ.
وأيضًا ليلةُ النِّصفِ مِنْ شعبان هكذا تَخْصِيصُهَا بالقيامِ شيءٌ لم يأتِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابِهِ رضوان الله عليهم أجمعينَ.
وأمَّا صيامُ النِّصفِ فإنْ كانَ تَخْصِيصًا لِتَوَهُّمِ مزيدِ فضلٍ فهذا ابتداعٌ في دِينِ اللهِ ربِّ العالمينَ لم يأتِ به أَثَرٌ مِنْ كِتَابٍ ولا مِنْ سُنَّةٍ ولا مِنْ فعلِ صاحبٍ ولا إجماعِ أُمَّةٍ, وأمَّا إنْ كانَ يصومُ الخامسَ عَشَر مِنْ شهرِ شعبان على أنَّه مِنَ الأيامِ الغُرِّ البِيضِ فهذه بِذَاتِهَا قد وَرَدَ فيها النَّصُّ الصحيحُ, وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حريصًا على أنْ يصومَ الأيامَ البِيض, فإنْ وَقَعَ هذا اليومُ في عادةِ مَنْ يصومُ الأيامَ الغُرَّ البِيضَ مِنْ كُلِّ شهرٍ هجريٍّ مباركٍ فهذا كذلك, وإلا فقد وَقَعَ في ابتداعٍ؛ إذ يحسبُ متوهمًا أنَّ النبيَّ حَضَّ على ذلك, وقد مَرَّ ذِكْرُ حالِ الحديثِ إذ هو حديثٌ مكذوبٌ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت ليلةُ النِّصفِ مِنْ شعبان فقوموا ليلَهَا, وصومُوا نهارَهَا». هذا كَذِبٌ مصنوعٌ مُخْتَلَقٌ موضوعٌ على نبيِّنَا محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأمَّا ما هنالك مِنَ العبادةِ فقد وضَّحَهَا الحديثُ العظيمُ: «إلا لمشركٍ أو مشاحن».
وإذن؛ فإنَّ العبادةَ الجليلةَ التي يحرصُ عليها المرءُ في ليلةِ النصفِ وفي كُلِّ ليالِي العامِ - بل في كُلِّ لحظةٍ من لحظاتِ العُمُرِ الذي أعطَاهُ اللهُ ربُّ العالمينَ هبةً لعبدٍ مِنْ عبادِهِ في دنياه - يحرصُ الإنسانُ على أنْ يكونَ مُبَرَّءًا مِنَ الشركِ مُنَزَّهًا عنه؛ لأنَّ اللهَ جَلَّتْ قدرتُهُ قد مضتْ مشيئتُهُ بأنْ لا يغفرَ أنْ يُشْرَكَ به, فلا يغفرُ اللهُ ربُّ العالمينَ من هذا الدِّيوَانِ شيئًا ولو كانَ يسيرًا - ولا يسيرَ فيه على الإطلاقِ -, إلا أنَّ المرءَ ينبغي أنْ يكونَ حريصًا في ليلةِ النصفِ مِنْ شعبان على أنْ يكونَ طاهرَ الجَنَانِ مُبَرَّأَ الأركانِ مِنْ أنْ يكونَ واقعًا فيما يغضبُ العزيزَ الدَّيَّانَ, بل يكونُ باحثًا عن مرضاةِ الرحيمِ الرحمنِ, على المرءِ أنْ يكونَ مجتهدًا في الخَلَاصِ مِنَ الشركِ ظاهرًا وباطنًا بتصفيةِ القلبِ مما يَعْلَقُ به من الشوائبِ وما يجرُّ إليه الشركُ مِنْ تلك المادةِ القذرةِ بالحَمْئَةِ المسنونةِ من تلك الشحناءِ بالبغضاءِ بالغِلِّ بالحسدِ.
ويا لله! هل تجدُ أحدًا من المسلمينَ نقيَّ الفطرةِ سَوِيَّ الطَّوِيَّةِ يمكنُ أنْ ينطويَ باطنُهُ على مثلِ هذا القَذَرِ لأحدٍ من المسلمين؟!
«ولا يؤمنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ» كما قالَ الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, لا يؤمنُ أحدُكُم إيمانًا صحيحًا كاملًا مُعْتَبَرًا في ميزانِ اللهِ ربِّ العالمينَ مقبولًا عندَ اللهِ ربِّ العالمينَ حتى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ, فكيف بتلك المادةِ القذرةِ مِنَ الشحناءِ, مِنَ الحقدِ, مِنَ الغِلِّ, مِنَ الحسدِ, مِنَ البغضاءِ, تنطوي عليها نَفْسٌ مشوهةٌ حتى يَتَشَوَّهَ الظاهرُ تَبَعًا؟!
ويا لله! والله لو كُشِفَ الحجابُ لرأيتَ هناك نُفُوسًا وراءَ تلكَ المادةِ العظميةِ الجلديةِ اللحميةِ نُفُوسًا سَبُعِيَّةً ونُفُوسًا كَلْبِيَّةً, إلى غيرِ ذلك مِنْ أجناسِ الحيواناتِ, كُلٌّ على حسبِ ما صارَ إليهِ مِنْ تلكَ الميزاتِ التي تميزتْ بها تلك الحيوانات, فنسألُ اللهَ أنْ يُطَهِّرَنَا مِنَ المَعَائِبِ ظاهرًا وباطنًا إنَّهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.
العبادةُ العظيمةُ - عبادَ اللهِ! - في هذه الليلةِ إنَّما هي بتخليةِ القلبِ للهِ ربِّ العالمينَ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ عيبٍ, مُنَزَّهًا مِنْ كُلِّ شركٍ, مُوَحِدًا ربَّهُ جَلَّ وعَلَا توحيدًا صحيحًا بالانطراحِ بينَ يديهِ, وبالانطراحِ على عتباتِ رَحَمَاتِهِ راجيًا ما عندَهُ مِنَ الفضلِ, خائفًا مما لديهِ مِنَ العقابِ والعذابِ أنْ ينزلَ بساحتِهِ, راجيًا وخائفًا, مقبلًا لا مُدْبِرًا, متقصيًا أثرَ نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظاهرًا وباطنًا, بعيدًا عن كُلِّ حقدٍ وغشٍ وحسدٍ, مُنَقِّيًا لذاتِهِ مِنْ داخلِهَا, مخمومَ القلبِ كما قال رسولُ الربِّ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أفضلُ النَّاسِ مَنْ كانَ صدوقَ اللسانِ مخمومَ القلبِ, الذي لا ينطوي على إثمٍ ولا بغي, التقيُّ النقيُّ الذي لا إثمَ فيه ولا بغي, ولا غِلَّ فيه ولا حقدَ ولا حسدَ».
هذا حديثٌ ثابتٌ عن نبيِّكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوضحُ أفضلَ النَّاسِ عند اللهِ وأكرمَ النَّاسِ في ميزانِ اللهِ ربِّ العالمينَ مَنْ هَذَّبَ النَّفْسَ وصَفَّاهَا, وَرَقَّ القَلْبَ وأعلاهُ على منهجِ اللهِ ربِّ العالمينَ كتابًا وسُنَّةً, وأمَّا مَنْ دَسَّاهَا فقد خابَ كما قَرَّرَ ربُّنا جَلَّ وعَلَا في كتابِهِ العظيمِ.
على المرءِ أنْ يُصْلِحَ ما أفسدَهُ, وعلى الإنسانِ أنْ يَصِلَ ما قطعَهُ, وعلى المرءِ أنْ يكونَ مُتَوَقِّيًا حَذِرًا, فإنَّ التقوى كما بَيَّنَ أُبَيٌّ - رضوان الله عليه - للفاروقِ عمرَ - رضي الله عنه وأرضاه - إذ يسألُهُ وهو الفاروقُ الذي أتَاهُ اللهُ ربُّ العالمينَ ما آتاهُ مِنَ الخيرِ والفضلِ والعطاءِ الجزيلِ, الذي يقولُ فيهِ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنَّه مِنَ المُحَدَّثِينَ, مِنْ أصحابِ الإلهامِ, كانَ يتنزلُ القرآنُ على ما يَرَى في كثيرٍ مِنَ المواضعِ كما هو معلومُ - رضوان الله عليه وعلى الصحابةِ أجمعينَ -, لا يستنكفُ أنْ يسألَ إذا لم يعلم عن الأمرِ الذي لا يعلمُهُ مَنْ يَعْلَمُهُ, فيقولُ: يا أُبَي! ما التقوى؟ فيقولُ: يا أميرَ المؤمنينَ: أمَا سِرْتَ في طريقٍ ذِي شوكٍ؟ قالَ: بلى. قال: ما صَنَعْتَ؟ قال: شَمَّرْتُ واجتهدتُ. قال: فتلكَ التقوى.
فانظر إلى هذا الصحابيِّ الجليلِ - الذي هو أَقْرَأُ أُمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كيفَ نَوَّرَ اللهُ ربُّ العالمينَ بَصِيرَتَهُ, وألقَى اللهُ ربُّ العالمينَ النُّورَ على لسانِهِ, وحَمَلَ عمرَ - رضوان الله عليه - حَمَلَهُ من وادِي المعاني إلى وادي المبانِي, وأخذَ بيدِهِ - رضوان الله عليهِمَا - إلى وسيلةٍ توضيحيةٍ تعليميةٍ ظاهرةٍ بأمرٍ حسيٍّ معلومٍ مُشَاهَدٍ - بل هو مُجَرَّبٌ -؛ لأنَّهُ سألَهُ عمَّا يصنعُ عندما يسيرُ في طريقٍ ذي شوكٍ, فَقَرَّرَهُ بدءًا: أمَا سِرْتَ في طريقٍ ذي شوكٍ؟ فعادت في المَخِيلَةِ الذهنيةِ العُمَرِيَّةَ وقائعُ مرتْ - وهي كثيرةٌ -, إذ كان يرعَى الغنمَ للخَطَّابِ, وكان الخَطَّابُ غليظَ الطبعِ جدًّا؛ فكان يضرِبُهُ ويُجِيعُهُ ويؤذيهِ كما أخبرَ هو عن أبيهِ بَعْدُ - رضوان الله عليه -, وكان يُدْعَى (عُمَيْرًا), كان يُدْعَى (عُمَيْرًا) فَسُمِّيَ عُمَر - رضوان الله عليه -, كان مُتَوَقِّيًا, واللهُ ربُّ العالمينَ شهيدٌ على ذلكَ خبيرٌ به, إذ كانَ يَخْطبُ يومًا ومُسترسلًا في خَطَابَتِهِ كما ينبغي أنْ يكونَ لسانُ الفاروقِ - رضوان الله عليه -, ثم فجأةً حَادَ عن النهجِ الذي كانَ فيه سالكًا, وحادَ عن القصدِ الذي كانَ إليهِ قاصدًا, ثم أخذَ يقولُ مخاطبًا نفسَهُ: يا ابن الخَطَّابِ! لقد كنتَ وَضِيعًا فَرَفَعَكَ اللهُ, وكنتَ ذَلِيلًا فَأَعَزَّكَ اللهُ, وكنتَ تُدْعَى (عُمَيْرًا) فأصبحتَ تُسَمَّى (عُمَر), وكنتَ, وكنتَ, وكنتَ...., حتى صِرْتَ أميرًا للمؤمنينَ. ثمَّ عاد إلى وَصْلِ ما انقَطَعَ من خُطْبَتِهِ, فلمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عليه صحبُهُ فقالوا: سمعنَا منكَ اليومَ حديثًا عجبًا, فأيُّ شيءٍ هذا؟! قال: إنِّي قد أعجبتني نفسِي في حالِ خَطَابَتِي فأردتُ أنْ أُؤدِّبَهَا, وأنْ أُلْزِمَهَا حَدَّهَا, وأنْ أُعَرِّفَهَا قَدْرَهَا - رضوان الله عليه -.
ومع ذلك وهو مُعَلِّمُ التقوى الخبيرُ بمسالكِهَا, النَّبِيهُ لجميعِ مَزَالِقِهَا, الحريصُ على تَتَبُّعِ كُلِّ ما أتى فيها يسألُ أُبَي - رضوان الله عليه -: ما التقوى يا أُبَيُّ؟ فيأخذُ أُبَيٌّ يدَاهُ إلى جَادَّةِ المعلومِ المُشاهدِ المُجَرَّبِ: أمَا سِرْتَ في طريقٍ ذي شوكٍ وأنتَ ترعى للخَطَّابِ أغنامَهُ, وأنتَ سائرٌ في سبيلِ اللهِ ربِّ العالمينَ مجاهدًا, وأنتَ تَعُسُّو بالليلِ تتفقدُ أحوالَ الرَّعِيَّةِ التي جعلَهَا اللهُ ربُّ العالمينَ مُعَلَّقَةً بخيطِ رقبتِكَ, أمَا سِرْتَ في طريق ذي شوكٍ؟ قال: بلى. قال: مَا صنعتَ؟ قال - في لَفْتَةٍ عُمَرِيَّةٍ ذكيةٍ مختصرةٍ مِنْ غيرِ ما إسهابٍ ولا تعويلٍ على كلامٍ لا يُفيد قالَ -: شَمَّرْتُ واجتهدتُ.
وانظر إليه مُشَمِّرًا وقد بانتْ ساقُهُ - رضوان الله عليه -, وقد أخذَ بِحُجْزَةِ إِزَارِهِ له رافعًا, ثم هو مجتهدٌ يجعلُ الخَطْوَ رفيقًا, ويجعلُ الأناةَ رائدًا, ويجعلُ التمهلَ سائقًا, وينزلُ على أطرافِ الأصابعِ يُمَكِّنُ لرجلِهِ لقدمِهِ شيئًا مِنْ بعدِ شيءٍ يَتَوَقَّى, فإذا ما أحسَّ بأولِ أثرٍ مِنْ ألمٍ تَوَقَّى عن الألمِ رافعًا, يقولُ: فتلكَ التقوى يا أميرَ المؤمنينَ.
وهذا دربُ الحياةِ مليءٌ بأشواكِهَا, مليءٌ بأشواكِ الحياةِ في التعاملِ مع الخَلْقِ, في التعاملِ مَعَ الخَلْقِ المُفْضِي حتمًا إلى شحناءَ لا يحبُّهَا اللهُ ربُّ العالمينَ ولا يرضَاهَا, إلى أحقادٍ وأحسادٍ, إلى همومٍ و غُمومٍ, إلى ظلمٍ وطغيانٍ وعُدْوَانٍ, وكذا التعاملُ مَعَ البشرِ, كما قالَ الشاعرُ الأولُ:
عَوَى الذئبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بالذئبِ إذ عَوَى*** وَصَوَّتَ إنسانٌ فكدتُّ أطيرُ
هكذا, هكذا في دربِ الحياةِ في أشواكِهَا, فعلى المرءِ أنْ يكونَ مُتَوَقِّيًا, وأنْ يُعْطِيَ كَلَّ ذي حقٍّ حَقَّهُ, وأنْ يأخذَ بزمامِ القلبِ بيدٍ مِنْ حديدٍ حتى يُقِيمَهُ على صراطِ ربِّنَا الحميدِ حتى لا يَزِلَّ ولا يَضِلَّ, وحتى لا يأخذَ الهَوَى بزمامِ قلبِهِ فيُطَوَّحَ به في مَطَارِحَ لا تليقُ بمؤمنٍ أبدًا فضلًا عن أنْ يكونَ محسنًا, فضلًا عن أنْ يكونَ للغفرانِ راجيًا.
فهذا هذا - عبادَ اللهِ! -, فليلةُ النصفِ فيها هذا الفضلُ, فيها عمومُ المغفرةِ إلا لمشركٍ أو مشاحنٍ.
فاللهمَّ! طَهِّرَنَا وبَرِّئْنَا من الشركِ ظاهرًا وباطنًا.
يا أكرمَ الأكرمينَ! ويا أرحمَ الراحمينَ! ويا ذَا القوةِ المتين! أَلِّفْ بينَ قلوبِ المسلمينَ حُكَّامًا ومحكومينَ, واجْمَع الجميعَ على طاعتِكَ - يا ربَّ العالمينَ! -.
اللهمَّ! خُذْ بأيدِينَا إليكَ, وأَقْبِلْ بقلوبِنَا عليكَ. اللهمَّ! احْرُسْنَا بعينِكَ التي لا تنامُ, وبِرُكْنِكَ الذي لا يُضَامُ, وبقدرتِكَ علينَا, لا نَهْلِكُ وأنتَ رَجَاؤُنَا.