مع سيد قطب رحمه الله

للاستماع للمحاضرة

                            
الخطبة الأولى

   

     إنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومِنْ َسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ له ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلي الله عليه وعلى آله وسلم.

     {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

     {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].

     {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].

     أَمَّا بَعْدُ:

     فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

     أَمَّا بَعْدُ: 

     فإنّ من أصول الاعتقاد عند أهل السنّة, من أتباع محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الحقيقة؛ أنّهم تسلم صدورهم لأصحاب رسول الله  صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وأنّهم يسلم الأصحاب رضوان الله عليهم من ألسنتهم, يمدحون الأصحاب ويثنون عليهم بما هم له أهل, ويَكُفُّون عمّا شجر بين الأصحاب رضوان الله عليهم بعد موت النبيّ صلى الله عليه وعلى آله  وسلم.

     الكفُّ عمّا شجر بين الأصحاب رضوان الله عليهم, والامتناع والإمساك عن ذكر ذلك, وقراءته و إقراءه, بل وإعدام الكتب التّي تنطوي على شيء من ذلك؛ موقف واضح صريح لأهل السنّة, ولا يكون سنّيا ولا سلفيا من يرضى عن إساءة لواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ولا يكون صحيح الاعتقاد من يرضى بوجود كتاب فيه انتقاص لواحد من أصحاب النبيّ  صلى الله عليه وعلى آله  وسلم؛ لا يجتمعان, ولجمعك النّار والماء في يد أهون وأسلم و أبقى في ضمير المرء وفي سلامة العقل من الجمع بين صحّة المعتقد والرّضاء عن الإساءة إلى واحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وعلى آله  وسلم.

     موقف فارق هو: أصحاب النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما ينبغي من تعزيرهم وتوقيرهم واحترامهم, والدّفاع عنهم عند انتقاصهم, وسلامة الصّدر لهم, موقف فارق بين من كان كذلك وكان منتميا إلى ما جاء به النبيّ  صلى الله عليه وعلى آله  وسلم ظاهرا وباطنا, ومن يعتدي على جناب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وهم حملة الشريعة, وهم نقلة الآثار, وهم الذين بلّغوا الدّين عن المختار صلى الله عليه وعلى آله  وسلم؛ عدول كلّهم, فإذا جُرِحَ شهداؤنا, و إذا جرح نَقَلَة الشرع إلينا وإلى الأمّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فهذا سعي في إبطال الشريعة, وهو اّتهام وتنقيص للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه ضلّ تلك المدّة المتطاولة يربّي أصحابه رضوان الله عليهم فلم يصحّ له منهم أحد, فكأنّما يرمون النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالفشل في تربيته وفي تعليمه وفي تهذيبه صلى الله عليه وعلى آله  وسلم.
     بل إنّ في انتقاص أصحاب النبيّ صلى الله عليه وعلى آله  وسلم ؛ اتهام لربّ العزّة جلّ وعلا بعدم الحكمة وعدم العلم؛ لأنّ الله ربّ العالمين علم ما سيكون منهم بعدُ, ومع ذلك أنزل القرآن شاهدا ومزكّيا لهؤلاء الأصحاب ممّن تبع محمّدا صلى الله عليه وعلى آله  وسلم, فإنّ الله ربّ العالمين زكّاهم في كثير من المواطن, وقد علم ما سيكون منهم, و بيّن أنّه غفر لهم, فإذا جاء من يقول : "إنّ الأصحاب رضوان الله عليهم لم يكونوا كذلك ولا عند ذلك"؛ فكأنّما يتّهم الله ربّ العالمين في علمه, وفي حكمته, وفي بلاغه لهذه الأمّة سبحانه وتعالى سبحانه.

     وإذن؛ فينبغي على كل مسلم حريص على دينه شحيح بيقينه متّبع لنبيّه صلى الله عليه وعلى آله  وسلم أن يبحثَ هذا الأمر بحثا دقيقا ممحّصا؛ من أجل أن تكون قدمه على الصّراط المفضي إلى الجنّة خلف نبيّه صلى الله عليه وسلم.
     ولا يعلم كثير من المسلمين الطيّبين أنّ من عقيدة أهل السنّة, أنّ من أصول الاعتقاد؛ أنّه يجب الكفّ والإمساك والامتناع عن الكلام فيما شجر بين الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين, هذا أصل من أصول اعتقادك أيّها المسلم المتّبع أن تكفّ عمّا شجر بين الأصحاب رضوان الله عليهم, وأن تمتنع عن ذكر ما كان هنالك ممّا دار بينهم, هذا أصل من أصول الاعتقاد إن لم تفعله ففي اعتقادك ما يسوء.
     قال النبيّ صلى الله عليه وعلى آله  وسلم :( إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا, وإذا ذكر النجوم فأمسكوا, وإذا ذُكر القدر فأمسكوا) وهذا الحديث حسّنه الحافظ العراقي في ((تخريج الإحياء)), وحسّنه الحافظ بن حجر في ((فتح الباري)), و صحّحه الشيخ ناصر في ((السلسلة الصّحيحة)) وفي ((صحيح الجامع)), وهو مروي عن عبد الله بن مسعود  رضي الله عنه, أخرجه الطبراني في ((الكبير)), وأبو نعيم في ((الحلية)), ورواه بن عدي واللاّلكائي, وروى الحديث أيضا الطبراني وابن عدي عن ثوبان رضي الله عنه, ورواه بن عدي عن بن عمر رضي الله عنهما, ورواه عبد الرزّاق في ((أماليه)) عن طاووس مرسلا؛ حديث ثابت لا مغمز فيه ولا مطعن, وفيه هذا الأمر الظاهر الجليّ :(إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا).

     فما معناه؟

     قال المُناوي في ((فيض القدير)): (إذا ذكر أصحابي أي بما شجر بينهم من الحروب والمنازعات, أي إذا ذكروا بغير جميل؛ فأمسكوا وجوبا فأمسكوا وجوبا عن الطعن والخوض في ذكرهم بما لا يليق, فإنّهم خير الأمّة وخير القرون رضوان الله عليهم أجمعين).
     وذكر الخلاّل في ((السُّنّة)) عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنّه سُئِل عمّا جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم فقال: (أمر أخرج الله يدي منه لا أُدخل لساني فيه).
     وقال إبراهيم النخعي رحمه الله عمّا جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم قال: (تلك دماء طهّر الله أيدينا منها أفَنُلَطِّخ ألسنتنا؟!) .

ما لك؟!

     وذكر الخلاّل في ((السنّة)) أنّ أحمد بن الحسن الترمذي قال: (سألت أبا عبد الله, قلت: ما تقول في ما كان من أمر طلحة والزبير وعلي وعائشة, وأظنّ ذكر معاوية؛ فقال الإمام أحمد: (من أنا أقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه  وسلم؟!,كان بينهم شيء, الله أعلم)). أعلم)). أعلم)). أعلم)). أعلم)).

     وقال الإمام البربهاري رحمه الله في ((شرح السُّنَّة)): (و إذا رأيت الرّجل يطعن على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه  وسلم فاعلم أنّه صاحب قول سوء وهوى؛ لقول رسول الله صلى الله عليه  وسلم (إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا), قد علم النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يكون منهم من الزّلل بعد موته فلم يقل فيهم إلاّ خيرا, ولا تُحَدِّث بشيء من زللهم, ولا حربهم, ولا ما غاب عنك علمه, ولا تسمعه من أحد يُحَدِّثُ به, فإنّه لا يَسلَم لك قلبُك إن سمعت).

 إي والله, فإنّه لا يسلم لك قلبك إن سمعت.

     وقال الإمام أبو عبد الله ابن أبي زمنين الأندلسي رحمه الله في ((أصول السُّنّة)): (ومن قول أهل السنّة أن يعتقد المرء المحبّة لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم, وأن ينشر محاسنهم, وفضائلهم, ويمسك عن الخوض فيما دار بينهم).ا دار بينهم).ا دار بينهم).ا دار بينهم).

  من أصول الاعتقاد عند أهل السنّة الإمساك عن الخوض فيما دار بين الأصحاب رضوان الله عليهم.

     وقال الإمام أبو عبد الله ابنُ بطّة العُكْبَرِي رحمه الله تعالى في ((الشرح والإبانة على أصول السُّنّة والديانة)): (نكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد شهدوا المشاهد معه, وسبقوا النّاس بالفضل؛ فقد غفر الله لهم, وأمرك بالاستغفار لهم, والتقرب إليه بمحبّتهم, وفرض ذلك على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم, وهو يعلم ما سيكون منهم, وأنّهم سيقتتلون, وإنّما فُضِّلوا على سائر الخلق لأنّ الخطأ والعمد قد وُضِعَ عنهم, وكل ما شجر بينهم مغفور لهم).
     الذي أذكره ذكره إمام من أئمة أهل السنّة في بيان اعتقاد أهلها يقول: (ولا تنظر في كتاب صفّين والجمل ووقعة الدّار- أي في وصف مقتل عثمان رضوان الله عليه -, وسائر المنازعات التي جرت بينهم, ولا تكتبه لنفسك, ولا لغيرك, ولا ترويه عن أحد, ولا تقرأه على غيرك, ولا تسمعه ممّن يرويه - فعلى ذلك يقول -: اتفق سادات علماء هذه الأمّة من النّهي عمّا وصفناه - ما هو الذي وصفه؟ يعني من النظر في كتاب صفين والجمل ووقعة الدّار وسائر المنازعات التي جرت بينهم, ثم ذكر بعضا من سادات الأمّة في اتّفاقهم على هذا الأمر فقال-: منهم - أي من العلماء النّاهين عن ذلك - حمّاد بن زيد, ويونس بن عُبيد, وسفيان الثوري, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن إدريس, ومالك بن أنس, وابن أبي ذئب, وابن المبارك, وشعيب بن حرب, وأبو إسحاق الفزاريّ, ويوسف بن أسباط, وأحمد بن حنبل, وبشر بن الحارث, وعبد الوهّاب الورّاق؛كلّ هؤلاء قد رأوا النّهي عنها, والنظر فيها - أي في تلك الكتب -, والاستماع إليها, وحذّروا من طلبها, والاهتمام بجمعها

- أفتترك هؤلاء وتروي عن كَسْتُور بن ضَمُّور؟! -

وقد روي عنهم رحمة الله عليهم فيمن فعل ذلك أشياء كثيرة بألفاظ مختلفة متّفقة المعاني على كراهة ذلك, والإنكار على من رواها واستمع إليها).

     فهذه عقيدة أهل السُّنّة في وجوب الإمساك عمّا شجر - أي عن ذكر ما شجر - بين الصّحابة, وفي وجوب الكفّ عن الكلام فيه ونحو ذلك.

     وقال الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الدانيّ في عقيدته ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السُّنّة)) قال رحمه الله: (ومن قولهم - يعني أهل السُّنّة - أن تُحسن القول في السادات الكرام أصحاب محمّد عليه السلام, وأن تذكر فضائلهم, وتنشر محاسنهم, وتُمسك عمّا سوى ذلك ممّا شجر بينهم؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم (إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا) يعني إذا ذُكِروا بغير جميل, - قال: - ويجب أن يُلتمس لهم أحسنُ المخارج, وأجمل المذاهب لمكانهم من الإسلام, وموضعهم من الدين والإيمان, وأنّهم أهل الرأي والاجتهاد, وأنصحُ الناس للعباد, وهم من قال الله جلّ شأنه فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر : 47].
هذا كلام الإمام الدّاني رحمه الله تعالى.

     وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابونيّ رحمه الله في كتابه ((عقيدة السّلف و أصحاب الحديث أو عقيدة السّلف أصحاب الحديث)) قال: (ويَرَونَ - يعني أهل السنّة - الكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, وتطهيرَ الألسنة عن ذكر مّا يتضمّن عيبا لهم ونقصا فيهم).
     وقال الشيخ عديّ بن مُسَافر الهَكَّارِيُّ رحمه الله فيما يجب اعتقاده, قال : (والكفّ عمّا شجر بين أصحاب نبيّنا صلى الله عليه وسلم, ونشر محاسنهم, والكفّ عمّا جرى بينهم, وأنّ الله قد غفر لهم).
     وقال الإمام الطحاوي رحمه الله في ((العقيدة)): (ونحبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم, ولا نُفْرِط في حبّ أحد منهم - كما فعلت الرافضة إدّعاءًا لا محبة في عليّ رضوان الله عليه, قال: - ولا نتبرّأ من أحد منهم, ونُبغض من يُبغضهم, وبغير الخير يذكرهم, ولا نذكرهم إلاّ بخير, وحُبُّهُم دين وإيمان وإحسان, وبُغضُهُم كفر ونفاق وطغيان).
     وقال الإمام الموفّق المقدسي رحمه الله في ((لُمعَة الاعتقاد)): (ومن السُّنّة تَوَلِّيهِم - يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم -, ومحبّتهم, وذكر محاسنهم, والترحّم عليهم, والاستغفار لهم, والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم, واعتقاد فضلهم, ومعرفة سابقتهم رضوان الله عليهم أجمعين).
     وقال الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه في ((الواسطية)) عن أهل السنة: (ويُمسكون عمّا شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم, ويقولون: إنّ الآثار في مساويهم منها ما هو كذب, ومنها ما قد زِيدَ فيه ونَقَص, وغُيِّرَ عن وجهِهِ, والصّحيح منه هم فيه معذورون إماّ مجتهدون مصيبون, وإمّا  مجتهدون مخطئون).

فَهُم دائرون بين الأجر والأجرين, وأمّا الذي يخوض فيهم فبين أي شيء يدور؟!

     وقال رحمه الله في ((الوصية الكبرى)): (وكذلك نؤمن بالإمساك عمّا شجر بينهم يعني الأصحاب رضوان الله عليهم).
     وقال في ((منهاج السُّنّة)): (ولهذا أوصوّا - يعني أهل السُّنّة من أصحاب الاعتقاد الصّحيح والاتّباع السّليم - أوصَوا بالإمساك عمّا شجر بينهم لأنّا لا نُسأل عن ذلك).

تلك دماء طهّر الله منها أيدينا فلم نلطّخ بها ألسنتنا؟!

     وقال رحمه الله في ((اللّامِية)):

يا سَائِلي عَنْ مَذْهَبـِي وعَقيدَتِي                   رُزِقَ الهُدى مَنْ لِلْهِدايةِ يَسْأَل
اسمَعْ كَـلامَ مُحَقِّقٍ في قَـولـِه                   لا يَنْـثَني عَنـهُ ولا يَتَبَـدَّل
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلِّهُمْ لي مَذْهَبٌ                   وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّــل
ولكلّهم قدر علا وفضائل                       لكنّما الصدّيق منهم أفضل

     يعني رحمه الله بقوله: (ومودّة القربى بها أتوسّل) يعني آل البيت رضي الله عنهم يتوسّل بحبّهم لا بذواتهم, يتوسّل بحبّهم إلى الله ربّ العالمين, وبالسّير على منهاجهم, إذ هم سائرون خلف النبيّ الأمين صلى الله عليه وسلّم.
     ولكلّهم: يعني الصحابة رضي الله عنهم وآل البيت رضوان الله عليهم.

حُبُّ الصَّحابَةِ كُلِّهُمْ لي مَذْهَبٌ                      وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّــل
ولكلّهـم قدر عـلا وفضائل                      لكنّما الصدّيق منهم أفضل

- رضوان الله عليه وعليهم أجمعين -

     وقال السَّفارِنِيّ في بيان العقيدة رحمه الله تعالى:

واحذر من الخوض الذي قد يُزري            بفضلهم مما جَرَى لو تدري
فإنه عن اجتهادٍ قد صَدَر                      فَاسْلَم أَذَلَّ اللهُ من لهم هَجَر

أذلّ الله من لهم هَجَر, أذلّ الله من لهم هَجَر رضوان الله عليهم أجمعين.

     وقال الحكمي رحمه الله في ((سُلَّم الوصول)):

ثمّ السّكوت واجب عمّا جَرَى                      بينهم من فِعل ما قَد قُدِّرا
فكلُّهم مجتهد مثابُ                      وخِطْؤهُم يغفره الوهّاب

     ثمّ قال في شرح هاذين البيتين في ((معارج القبول)): (أجمع أهل السنّة والجماعة, الّذين هم أهل الحلّ والعقد, الّذين يُعتدّ بإجماعهم على وجوب السّكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصّحابة رضي الله عنهم.
     فهذا إجماع ممّن يعتد به من أهل الحلّ والعقد, وأصحاب العقيدة الصّحيحة في هذه الأمّة المرحومة, إجماع على أي شيء؟ - على وجوب السّكوت عن الخوض في الفتن الّتي جرت بين الصّحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه -, والاسترجاع - أي من الإجماع أيضا الذي أجمع عليه أهل الحلّ و العقد  ممّن يعتد بإجماعهم  وبقولهم في دين الله تعالى- والاسترجاع على تلك المصائب الّتي أصيبت بها هذه الأمّة, والاستغفار للقتلى من الطرفين, والتَّرَحُّم عليهم, وحفظ فضائل الصحابة رضوان الله عليهم, والاعتراف لهم بسوابقهم, ونشر مناقبهم عملا بقول الله عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر : 10]).
     وقال أيضا في ((أعلام السُّنَّة المنشورة)): (الواجب للصّحابة رضوان الله عليهم علينا - الواجب علينا لهم - سلامة قلوبنا وألسنتنا لهؤلاء الأصحاب المكرّمين رضوان الله عليهم أجمعين, ونشر فضائلهم, والكفّ عن مساويهم وما شجر بينهم, والتنويه بشأنهم, كما نوّه تعالى بذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن, وثبتت الأحاديث الصّحيحة في الكتب المشهورة من الأمّات وغيرها في فضلهم رضوان الله عليهم أجمعين).

     النّقول في هذا أكثر من أن يحاط بها؛ لكثرتها وطيب عَرفِها, وموفور بهائها, وكلّها مجمعة على وجوب الكفّ والإمساك والامتناع عن ذكر ما شجر بين الأصحاب رضوان الله عليهم بعد مقتل عثمان رضوان الله عليه, كما نقل الإجماع عن ذلك غير واحد ممّن يعتدّ بهم من علماء هذه الأمّة الذين يتّبعون السنّة, ويسيرون خلف النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم.

فما موقف أهل السنّة من الكتب الّتي فيها ذِكر ما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم؟

     قال الذهبي رحمه الله في ((سير أعلام النبلاء)): (تقرّر الكفّ عن كثير ممّا شجر بين الصّحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين, ومازال يمر بنا ذلك في الدّواوين والكتب والأجزاء, ولكنّ أكثر ذلك منقطع وضعيف, وبعضه كذب, وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا؛ فينبغي طيّه وإخفاؤه - لا إذاعته وبثّه ونشره, قال: - فينبغي طيّه وإخفاؤه بل إعدامه, لتصفو القلوب, وتتوفّر على حبّ الصحابة رضوان الله عليهم والترضّي عنهم, وكتمان ذلك مُتَعَيَّن عن العامّة وآحاد العلماء - كتمان تلك الكتب الّتي قد انطوت على ما فيه ثلب وتنقيص وحطّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم, إعدام تلك الكتب واجب, وإخفاؤه وطيّه واجب, ولا يُظهر شيء من ذلك للعامة ولا لآحاد العلماء, بَلهَ طلاب العلم ولو كانو كبارا -, وقد يُرخّص في مطالعة ذلك خَلوة للعالم المنصف الحريّ بأن يصل إلى الحقّ, العريّ من الهوى بشرط أن يستغفر لهم كما علّمنا الله حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر : 10] - أُمِروا بالاستغفار لهم؛ فلعنوهم بل وكفّروهم وشتموهم وانتقصوهم, وما عرفوا لهم فضلهم, ولا ردّوا لهم بعضا من جميلهم عليهم كما سترى إن شاء الله ربّ العالمين -, فالقوم لهم سوابق وأعمال مُكَفِّرَة لما وَقَعَ منهم, وجهاد مَحَّاءُ, وعبادة مُمَحَّصَةٌ - يعني للّه ربّ العالمين -).
     هذا كلام الإمام الذهبي رحمة الله عليه, وفيه أنّه ينبغي أن تُطوى تلك الكتب, وأن تُخفى, بل ينبغي أن تُعدم؛ لتصفو القلوب على محبّة أصحاب نبيّنا صلى الله عليه وعلى آله وسلّم, ولا يُرخّص في إبراز شيء من ذلك للعوامّ ولا لآحاد العلماء الذين لم يتثبّتوا بعد من القضية, ولم يحيطوا بها علما, ولم يبلغ بهم علمهم تلك القِمّة السّامية الشّامخة العالية التي يمكن إذا ما وصلوا إليها أن يدركوا المرامي الّتي كانت وراء بواعث الأصحاب رضوان الله عليهم فيما أتوا وما تركوا, وما قالوا وما عنه كفّوا وسكتوا رضوان الله عليهم أجمعين.

     عقيدة أهل السنّة أن تُمزّق تلك الكتب, وأن تُحرق, وأن تعدم كما قال الذّهبيّ الإمام رحمة الله عليه, وقد بدأ كلامه بقوله: (وقد تقرّر) يعني هذا ما عليه العلماء من أهل السنّة من أصحاب الاعتقاد الصّحيح والمنهج السويّ, سلفا وخلفا.

     وهذه فتوى للعلاّمة الشّيخ  عبد العزيز رحمه الله سُئِل عن قول سيّد قطب رحمه الله في كتابه ((كتب وشخصيات)) صفحة 242 طبعة دار الشروق, فيما قاله عن معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهما, قال سيّد: (إن معاوية وزميله عمروا لم يغلبا علياً لأنهما أعرف منه  بدخائل النفوس, وأخبر منه بالتصرّف النافع في الظرف المناسب, ولكن لأنّهما طليقان في استخدام كل سلاح, وهو مقيّد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع, وحين يركن معاوية وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذّمم؛ لا يملك علي أن يتدلى إلى هذا الدّرك الأسفل, فلا عجب ينجحان ويفشل, وإنه لفشل أشرف من كلّ نجاح).
     قال الشيخ رحمه الله لمّا قُرِأ هذا  عليه: كلام قبيح, هذا كلام قبيح, سبّ لمعاوية وسب لعمرو بن العاص, كلّ هذا كلام قبيح وكلام منكر.
     قال السائل: قوله: (إن فيهما نفاقا) أليس تكفيرا؟  - يعني لهما رضوان الله عليهما -.
     قال الشيخ رحمه الله: هذا خطأ وغلط لا يكون كفرا, فإنّ سبّه لبعض الصّحابة أو واحدا من الصّحابة منكر وفسق؛ يستحقّ أن يُأدّب عليه - نسأل الله العافية -, ولكن إذا سبّ الأكثر أو فَسّقهم يرتدّ لأنّهم - أي الصحابة - حَمَلَة الشرع؛ إذ سَبُّهُم معناه قدح في الشرع.
     قال السائل: ألا يُنهى عن هذه الكتب التي فيها هذا الكلام؟
     قال الشيخ رحمه الله: ينبغي أن تُمَزّق.
     ثم قال الشيخ: هذا في جريدة؟
     قال السائل: في كتاب أحسن الله إليك.
     قال الشيخ: لمن؟
     قال السائل: لسيّد قطب.
     قال الشيخ: هذا كلام قبيح.
     قال السائل:في ((كتب وشخصيات)).

     وهذا إن أردت الرّجوع إليه في شرح الشيخ رحمه الله لرياض الصالحين, وكان في يوم الأحد 18/07/1416 من هجرة المختار صلى الله عليه وسلّم.

     فهذا موقف علماء أهل السنّة سلفا وخلفا من الكتب الّتي فيها إساءة للأصحاب وانتقاص لهم رضوان الله عليهم أجمعين.

تقرّر هذا؟
الله المستعان!

وهنا أمور لعلّ الله تبارك وتعالى يجعل في بيانها جمعا للشمل المُفَرّق, ورَتْقا للفَتق المُمزّق:

     أوّلا: بيان خطأ المخطئ, والكلام في النّاس تعديلا ومدحا أو تجريحا وقدحا؛ لا علاقة له بمقاديرهم عند الله, ولا بمصائرهم في الدّار الآخرة؛ فهذا للّه وحده, وبيان الخطأ والكلام جرحا وتعديلا عند الحاجة واجب على أهل العلم ممّن توفّرت فيهم شروطه, وحقّ للأمّة في أعناق أهل العلم لا يسعهم - أعني أهل العلم - عدم أدائه, لا علاقة للكلام في بيان خطأ المخطئ وبدعة المبتدع بغفران الله ربّ العالمين للمخطئ أو للمبتدع, ولا بمصيره عند ربّه, هذا بمعزل عن الكلام فيه؛ أمر يعلمه الله ربّ العالمين.
     ذكر الخطيب في ((الكفاية)) أنّ عبد الرحمن بن أبي حاتم دخل عليه يوسف بن الحسين الرازيّ وهو الصوفيّ, وكان عبد الرحمن يقرأ في كتابه في ((الجرح والتعديل)), فقال له يوسف الصوفيّ: (كم من هؤلاء القوم قد حطّوا رحالهم في الجنّة منذ مئة سنة أو مئتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم؟) فبكى عبد الرحمن.
     وذكر ابن الصّلاح رحمه الله في كتابه ((معرفة أنواع علم الحديث)) المعروف بـ((مقدّمة ابن الصّلاح)): (قال يحيى بن معين رحمه الله: (إنّا لنطعن على أقوام لعلّهم حطّوا رحالهم في الجنّة منذ أكثر من مئتي سنة)).
     نطعن عليهم ونبيّن أخطائهم ونحذّر الأمّة من بدعتهم واجب ذلك وإلاّ فهو الدّخول في إثم الكتمان, وهو ممّا يستوجب العذاب بالنيران.
     فهذا أوّلا, فبيان خطأ المخطئ وبدعة المبتدع, والكلام في من أساء لا علاقة له بمقادير الخلق عند ربّهم, ولا بمصائرهم في الآخرة؛ فهذا لله وحده.

     ثانيا: لابدّ من رعاية حقّ الدينّ ببيان الخطأ, وجرح من يستحقّ الجرح, وذلك بعلم وعدل لا بجهل ولا بظلم.
     قال شيخ الإسلام رحمه الله في ((مجموعة الرسائل والمسائل)): (وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرّواية, ومن يغلط في الرأي والفُتيا, ومن يغلط في الزّهد والعبادة, وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطأه, وهو مأجور على اجتهاده, فبيان القول والعمل الّذي دلّ عليه الكتاب والسُّنّة واجب, وإن كان في ذلك مخالفة قوله وعمله - يعني وإن كان في بيان ذلك الواجب من المخالفة في القول والعمل لمن غلط كائنا من كان ما فيه, ثمّ قال الشيخ رحمه الله:- ثمّ القائل في ذلك بعلم لابد ّله من حسن النيّة, فلو تكلّم بحقّ لِقَصدِ العلوّ في الأرض أو الفساد؛ كان بمنزلة الّذي يقاتل حميّة, وإن تكلّم لأجل الله مخلصا له الدّين؛ كان من المجاهدين في سبيل الله ربّ العالمين ومن ورثة الأنبياء والمرسلين).
     ثمّ قال الشيخ رحمه الله: (قيل للإمام أحمد رحمة الله عليه: (الرّجل يصوم ويصلّي ويعتكف أحبّ إليك أو يتكلّم في أهل البدع؟) فقال: (إذا قام وصلّى واعتكف فإنّما هو لنفسه, وإذا تكلّم في أهل البدع فإنّما هو للمسلمين, هذا أفضل) .فبيّن- قال الشّيخ رحمه الله شارحا لكلام الإمام أحمد رحمة الله عليه - فبيّن - يعني الإمام أحمد - أنّ هذا علم للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعه ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتّفاق المسلمين, ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفَسَدَ الدّين, وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدوّ من أهل الحرب, فإنّ هؤلاء إذا استولوّا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدّين إلاّ تبعا - يعني العدوّ من أهل الحرب لو استولى لم يفسد القلوب وما فيها من الدّين إلاّ تبعا -, وأمّا أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً). هذا كلامُه رحمة الله عليه.

     ثالثا: لمّا تأمّلتُ في الخلاف في مسألة الجرح والتعديل؛ وجدته في أمرين:
          الأمر الأوّل - الخلاف في أصل المسألة - يعني في مسألة الجرح والتعديل ذاتها -.
          والأمر الثاني - الخلاف في الأستاذ سيد قطب رحمه الله حصرا.
     فنظرتُ في الأمر الأوّل, وهو الخلاف في مسألة الجرح والتعديل ذاتها؛ فعجبت غاية العجب أن ينكر الجرح والتعديل من يأتي به في إنكاره نفسه؛ فإنّه عند ردّه الكلام وقائله يكون جارحا, وعند قبول ضدّه وقبول قائله يكون معدّلا, فهو في ردّه جارح معدّل, ومع ذلك ينكر المسألة في أصلها.

أيُّ ظلم هذا؟!

     بل إنّ النّاس لا يستطيعون العيش في الدّنيا، ولا يستطيعون التعامل فيما بينهم إلاّ بجرح وتعديل ونقد وتبصير بالمعنى الأعمّ - بالمعنى الأعمّ - حتى في أقلّ شؤونهم: (بِع لهذا، ولا تَبِع لهذا, فهذا ديِّن مليء يؤدّي ما عليه - هذا تعديل -, والآخر مماطل مماكس لا يؤدي ما عليه - هذا جرح -, واشترِ من هذا، ولا تشترِ من هذا؛ فهذا سَمْح في بيعه وشرائه - هذا تعديل -, وأخذه وعطائه – تعديل -, وهذا كَنود عَسِر وكذاب أشرّ - هذا جرح -).
     وعند المداواة والتطبّب: (استشر هذا الطبيب فإنّه حاذق بصير مؤتمن, ولا تستشر هذا فهو جاهل خائن لا يؤتمن - جرح وتعديل -).
     وعند النكاح: (أنكح فلانا فإنّه عفيف ذو دين، ولا تُنكح فلانا فإنّه شيطان من الشياطين - جرح وتعديل -). إلى أشكال لا تُحصى يأتي فيها النّاس بالجرح والتعديل بالمعنى الأعمّ, فإذا تعلّق الأمر بالدّين والعلم الشّرعيّ المتين تبخّر الجرح والتعديل وانمَحَيا.

إنَّ هذا لشيء عُجاب!

     ذكر مسلمٌ رحمه الله في مقدّمة ((الصحيح)) عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: (إنّ هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم).
     وهذا فتح للباب على مصراعيه للجرح والتعديل حتى ولو كان في البدء بالمعنى الأعمّ (إنّ هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم), وهذا القول الذي ذكره الإمام مسلم في مقدمة ((الصّحيح)) عن محمد بن سيرين، أرجعته إلى أبي هريرة رضوان الله عليه وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما ذكر ذلك ابن عبد البر في ((التّمهيد)) وغيرُه في غيره، ومِثله لا يُقال من قِبَل الرّأي فله حكم الرّفع (إنّ هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم).

     فهذا هو الأمر الأول - النّظر في أصل المسألة لمعرفة سبب الخلاف الدّائر حولها.

     وأمّا الأمر الثاني من أمريّ الخلاف في مسألة الجرح والتعديل فهو الخلاف المتعلّق بالأستاذ سيّد قطب رحمه الله تعالى؛ فوجدت ذلك أعجب وأعجب! لأنّ سيّدا رحمه الله هو أكبر الجارحين من المتأخرين - نعم هو أكثر من مارس الجرح في العصور المتأخرة -، ولا تعجب فإنّ الرّمي بالكفر هو أكبر جرح يكون.

هل تعلم جارحا هو أكبر من الرّمي بالكفر والوصم به؟!

     فسيّد رحمه الله تعالى إمام الغلاة في الجرح بلا منازع، ومع ذلك يدور الخلاف حول جرحه وتعديله, هو رحمه الله تعالى إمام الغلاة في الجرح في العصور المتأخرة بلا منازع رحمة الله عليه, فقد كَفَّر المجتمعات الإسلامية كلّها، بل كفّر البشرية جميعها, وقبل أن أسوق إليك بعض نصوص سيّد رحمه الله في ذلك, أذكر لك شهادة الدّكتور يوسف القرضاوي في كتابه ((أولويات الحركة الإسلامية )) صفحة110 قال: (في هذه المرحلة ظهرت كتب الأستاذ سيّد قطب التي تمثّل المرحلة الأخيرة من تفكيره، والتي تنضح بتكفير المجتمع, وتعجيل الدّعوة إلى النّظام الإسلامي بفكرة تجديد الفقه وتطويره، وإحياء الاجتهاد, وتدعوا إلى العُزلة الشعورية عن المجتمع, وقطع العلاقة مع الآخرين, وإعلان الجهاد الهجوميّ على النّاس كافّة ...) إلى آخر ما قال.

     وهذا بعض ما قال سيّد عفا الله عنه في تكفير البشرية:

     قال سيّد عفا الله عنه في ((الظّلال)) في المجلّد الثاني ص1057قال: (لقد استدار الزّمان كهيئته يوم جاء هذا الدّين إلى البشرية، وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزّل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم جاءها الإسلام مبنيا على قاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله).
     ثم قال عفا الله عنه: (لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدّين إلى البشرية بلا إله إلا الله، فقد ارتدّت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلاّ الله، وإن ظلّ فريق منها يرددّ على المآذن لا إله إلاّ الله دون أن يدرك مدلولها).
     ثم قال عفا الله عنه: (البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددّون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع وهؤلاء - يعني الّذين يرددّون لا إله إلا الله على المآذن قال: - وهؤلاء أثقل إثما وأشدّ عذابا يوم القيامة؛ لأنّهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبيّن لهم الهُدى, ومن بعد أن كانوا في دين الله) - فكفروا -. وقال رحمه الله مثل هذا المعنى في نصوص كثيرة في ((الظّلال)) وغيره من كتبه.
     وقال غفر الله له في ((المعالم)) صفحة98: (ما هو المجتمع الجاهلي؟ - ثم عرّفه قال: - إن المجتمع الجاهليّ هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم).
     ثم ذكر صورا من صور المجتمع الجاهليّ, ثم قال صفحة101: (وأخيرا يدخل في إطار المجتمع الجاهلي - يعني الّذي هو سوى المجتمع المسلم - تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنّها مسلمة).

     فالمقصود: أن سيّدا غفر الله له كان غاليا في التّجريح جدّا, بل هو إمام أئمة الغلوّ فيه, وقد رمى عمرًوا رضي الله عنه بالكذب والغشّ والخديعة والنّفاق والرشوة وشراء الذّمم, وجرّده رضي الله عنه من كلّ فضيلة, مع أن سيّدا مَدِين لعمرو رضي الله عنه خاصّة بإسلامه - أي: بإسلام سيّد نفسه -, لأنّه ما من مصريّ مسلم إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله ربّ العالمين إلاّ ولعمرو بن العاص خاصّة رضي الله عنه في عنقه دَين كبير, وجميل جليل, فعمرو رضي الله عنه هو قائد الأجناد الذين فتح الله بهم مصر, وأجداد أجداد سيّد - عفا الله عنه - إلى زمن الفتح ممّن دخل في الدّين إنّما أسلموا بسبب عمرو وجنده رضي الله عنهم أجمعين.
     وفي الحديث الّذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السّنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا), فما سجد سيّد لله سجدة, ولا كتب حرفا يُرضي الله, ولا كُتِب في صحيفة حسناته حسنة إلاّ ولعمرو رضي الله عنه مثلها.

أفهذا هو ردّ الجميل؟! أفهذا هو ردّ الجميل؟!

     لقد طاش قلم سيّد في أعراض جملة من الصّحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين, فطال قلمه معاوية وعمروا وأبا سفيان وهندا, بل طال قلمه الخليفة الرّاشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه, وأسقط خلافته من الخلافة الرّاشدة, واعتبرها فجوة بين خلافة عمر وخلافة عليّ رضي الله تبارك وتعالى عنهما في كلام يجيء إن شاء الله ربّ العالمين.

وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
 

الخطبة الثانية 

     الحمد لله وحده, والصّلاة والسّلام على من لا نبيّ بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلّم.

     أمّا بعد:

     فقد قال سيّد رحمه الله في كتابه ((العدالة الاجتماعية في الإسلام)) طبعة دار الشّروق لسنة 1975 صفحة230, لعلّ الطّبعات بلغت إلى الآن عشرين طبعة أو تزيد, كما أنّ طبعات ((الظّلال)) ربّما وصلت الآن إلى الأربعين إن لم تكن تجاوزته.
     قال سيّد غفر الله له: (نحن نميل - هو - إلى اعتبار خلافة علي رضي الله عنه امتدادا طبيعيّا لخلافة الشّيخين قبله, - يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يقول:- وأنّ عهد عثمان الّذي تحَكّم فيه مروان كان فجوة بينهما).

     قال الطّحاويّ رحمه الله في ((العقيدة)): (ونُثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوّلا لأبي بكر رضي الله عنه تفضيلا وتقديما على جميع الأمّة, ثمّ لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه ثمّ لعثمان بن عفّان رضي الله عنه, ثمّ لعليّ رضي الله عنه, وهم الخلفاء الرّاشدون والأئمة المهتدون).

     عقيدة أهل السنّة أنّ خلافة عثمان كانت من الخلافة الرّاشدة, فجاء سيّد - رحمه الله - فأسقط خلافة عثمان من الخلافة الرّاشدة.

بأيّ دليل وبأيّ حجّة؟!

     وقال في ذات الكتاب صفحة 212: (وأخيرا ثارت الثائرة على عثمان, واختلط فيها الحقّ بالباطل والخير بالشرّ, ولكن لابدّ لمن ينظر إلى الأمور بعين الإسلام, ويستشعر الأمور بروح الإسلام؛ أن يقرّر أنّ تلك الثّورة في عمومها - أي الثورة الّتي أدّت إلى مقتل عثمان رضوان الله عليه - كانت فورة من روح الإسلام, وذلك دون إغفال لما كان وراءها من كيد اليهوديّ ابن سبأ عليه لعنة الله).

     فالثّورة على عثمان رضي الله عنه الّتي كان وراءها اليهوديّ عبد الله بن سبأ لعنة الله عليه كانت في نظر سيّد وفي حساباته أقرب إلى روح الإسلام من خلافة عثمان الرّاشدة, ثورة السّبئية من أتباع بن السّوداء عبد الله بن سبأ اليهوديّ, ثورة هؤلاء كانت أقرب إلى روح الإسلام من خلافة عثمان!

تصدّقون هذا؟
يا أهل السنّة, يا من تدعون إلى السّلفية وتنتسبون إليها!


     فالثّورة على عثمان رضي الله عنه الّتي كان وراءها اليهوديّ عبد الله بن سبأ لعنة الله عليه كانت أقرب إلى روح الإسلام من خلافة عثمان!


     وقال في نفس الكتاب صفحة 213: (مضى عثمان إلى رحمة ربّه, وقد خلّف الدّولة الأمويّة قائمة بالفعل بفضل ما مكّن لها في الأرض, وبخاصّة في الشّام, وبفضل ما مكّن للمبادئ الأمويّة المجافية لروح الإسلام - يعني كان عثمان يعمل ضدّ الإسلام وضدّ روح الإسلام؟! - من إقامة الملك الوراثي, والاستئثار بالغنائم والأموال والمنافع ممّا أحدث خلخلة في الرّوح الإسلاميّ العام, وليس بالقليل ما يَشِيع في نفس الرّعية إن حقّا وإن باطلا أنّ الخليفة يُؤثر أهله, ويمنحهم مئات الألوف, ويعزل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ليُوَلِّي أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلّم -).


عثمان يستأثر ويولّي أعداء رسول الله ويعزل أولياء رسول الله؟!
يولّي أعداء رسول الله ويعزل أولياء رسول الله!


     إلى آخر ما قال من طعنه في الخليفة الرّاشد عثمان رضوان الله عليه.

     طغى قلم سيّد, وأطلق كلاما في الّذين فضّلهم عمر وعثمان في العطاء, وهؤلاء في الجملة هم من المهاجرين والأنصار من أهل بدر وبيعة الرّضوان وأهل الشّورى, فكان عمر يفضّلهم في العطاء, وكان عثمان على سنن عمر يفضّلهم في العطاء رضوان الله عليهم أجمعين.

     فقال سيّد في نفس الكتاب صفحة 216: (ولقد كان من الطّبيعي أن لا يرضى المُستَنفِعُون - الصّحابة من المهاجرين والأنصار من أهل بدر وبيعة الرّضوان وأهل الشّورى كانوا من المستنفِعِين؟!- أن لا يرضى المُستَنفِعُون عن عليّ, وأن لا يقنع بِشِرعَة المساواة من اعتادوا التّفضيل, ومن مَردوا على الاستئثار؛ فانحاز هؤلاء في النّهاية إلى المعسكر الآخر معسكر أميّة حيث يجدون فيه تحقيقا لأطماعهم على حساب العدل والحقّ اللّذين يصرّ عليهما عليّ رضي الله عنه هذا الإصرار).


     الكتاب في جملته طعن في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم, وتطاول على الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين.
     سنعود إلى تفصيل ذلك يوما من الدّهر إن شاء الله جلّ وعلا, فنسرد ذلك ونكشفه في ضوء الكتاب والسُّنّة ليحيى من حيّ عن بيّنة ويهلك من هلك عن بيّنة.

     بل طغى قلم سيّد وطاش فنال من نبيّ الله وكليمه موسى صلّى الله عليه وسلّم فقال في كتابه ((التّصوير الفنيّ في القرآن)) تحت عنوان (رسم الشّخصيات في القصّة) صفحة162-163- 164 قال: (ولنأخذ موسى - عليه السّلام -؛ إنّه نموذج للزّعيم المندفع العصبيّ المزاج).

     لو قلت لعلّ سيّدا كان في ذلك الوقت متأثّرا بالدّسائس الّتي كانت تُحاك في الفترة الملكية من حياة مصر, بل ما كان هنالك في أيّام الحرب العالمية الثانية, وما وقع من أودولف هتلر, وموسوليني, وأولئك الطّغاة, فكان يكتب؛ فإنّ القول هاهنا ينبغي أن يُقال فيه ما يُصحّحه, لو أنّ المرء كان متأثّرا في الكتابة عن أولئك السادة الكرام بهذا الّذي يكتبه, وهذا الّذي يسطره عن أولئك الطّغاة, أفيُقال عن موسى عليه السّلام نموذج للزّعيم المندفع العصبيّ المزاج؟! لو قيل لك هذا؛ فإنّ الصّورة الذّهنية الّتي ستأتي إلى خاطرك هي: أنّ الّذي سيتكلّم عنه من كَتَبَ هذا - مادمت لا تعلم بعد عمّن يتكلّم - أنّه سيتكلّم عن أودولف هتلر أو واحد من أولئك الطغاة.

     زعيم مندفع عصبيّ المزاج, زعيم!
     ما دخل الزّعامة في النّبوة؟!

     مندفع!
     غير مسدّد بالوحي هو؟!

     عصبيّ المزاج!
     يخضع للتحليل النّفسي في مدرسة سيجموند فرُويد؟!

     يقول: (فها هو ذا قد رُبِّي في قصر فرعون, وتحت سمعه وبصره, وأصبح فتى قويّا{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص : 15]).
     قال سيّد: (هنا يبدو التعصّب القوميّ, كما يبدو الانفعال العصبيّ - تعصّب قوميّ! -, وسرعان ما تذهب هذه الدّفعة العصبيّة, فيثوب إلى نفسه؛ شأن العصبيّين . {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص 15 : 17].
     {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ}[القصص : 18].

     قال سيّد: (وهو تعبير  مصوّر لهيئة معروفة: هيئة المتفزّع المتلفّت المتوقّع للشرّ في كلّ حركة, وتلك سمة العصبيّين أيضا, ومع هذا, ومع أنّه قد وعد بأنّه لن يكون ظهيرا للمجرمين؛ فلننظر ما يصنع إنّه ينظر: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ}[القصص : 18], مرّة أخرى على رجل آخر {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}[القصص : 18], ولكنّه يهُمُّ بالرّجل الآخر كما همّ بالأمس ويُنسِيه - أي يُنسِي موسى - التعصّب والاندفاع استغفاره وندمه وخوفه وترقّبه).

     لو قيل هذا عن آحاد الصّالحين لكان سيّئا, وكان مردودا, فكيف وهو يقال لكليم الله موسى صلىّ الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلّم.

     قال: (لولا أن يذكّره من يهمّ به بفعلته فيتذكّر ويخشى {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}[القصص : 19], وحينئذ يَنصح له بالرّحيل رجل جاء من أقصى المدينة يسعى, فيرحل عنها كما عَلمنا, فلندعه هنا لنلتقي به في فترة ثانية من حياته بعد عشر سنوات؛ فلعلّه قد هدأ, وصار رجلا هادئ الطّبع حليم النّفس, كلاّ! فها هو ذا يُنادى من جانب الطّور الأيمن: أن ألق عصاك. فألقاها؛ فإذا هي حيّة تسعى, وما يكاد يراها حتى يثب جريا لا يعقّب ولا يُلوَى, إنّه الفتى العصبيّ نفسه, ولو أنّه قد صار رجلا؛ فغيره كان يخاف نعم, ولكن لعلّه كان يبتعد منها, ويقف ليتأمّل هذه العجيبة الكبرى).

     وأجزم أنّ سيّدا لو كان حيّا لو كان شاهدا ما وقع لموسى من تلك المعجزة, وأعطاه الله ربّ العالمين الحياة إلى يوم القيامة؛ لكان في جريه إلى يوم النّاس هذا.

     قال: (ثمّ لندعه فترة أخرى لنرى ماذا يصنع الزّمن في أعصابه. - نعم كان ينبغي أن يقصد طبيبا يعالجه !- لقد انتصر على السّحرة, وقد استخلص بني إسرائيل, وعبر بهم البحر, ثمّ ذهب إلى ميعاد ربّه على الطّور, وإنّه لنبيّ - يتكلّم عنه وهو يعلم أنّه في هذا المقام -, ولكن ها هو  ذا يسأل ربّه سؤالا عجيبا {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ}[الأعراف : 143], ثمّ حدث ما لا تحتمله أيّة أعصاب إنسانية, بَلهَ أعصاب موسى - كلامُه -,{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف : 143]. عودة العصبيّ في سرعة واندفاع! - يعني كان يجب عليه أن يتروّى لكي يستغفر ويتوب ويعود؟! -, ثمّ ها هو ذا يعود, فيجد قومه قد اتّخذوا لهم عجلا إلها, وفي يديه الألواح التي أوحاها الله إليه, فما يتريّث وما يَنِي, {وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}[الأعراف : 150], وإنّه ليمضي منفعلا يشدّ رأس أخيه ولحيته, ولا يسمع له قولا: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}[طه : 94], وحين يعلم أنّ السّامري هو الّذي فعل الفعلة؛ يلتفت إليه مغضبا, ويسأله مستنكرا حتّى إذا علم سرّ العجل: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً}[طه : 97]. - فقال معلّقا - هكذا في حنق ظاهر وحركة متوتّرة).
     قال: (فلندعه سنوات أخرى, لقد ذهب قومه في التّيه, ونحسبه قد صار كهلا حينما افترق عنهم, ولقي الرّجل الّذي طلب إليه أن يصحبه ليعلّمه ممّا آتاه الله علما, ونحن نعلم أنّه لم يستطع أن يصبر حتّى ينبئه بسرّ ما يصنع مرّة ومرّة ومرّة فافترقا).
 

     ثمّ قال: (تلك شخصية موحّدة بارزة, ونُموذج إنسانيّ واضح في كلّ مرحلة من مراحل القصّة جميعا).

     قال: (وتقابل شخصية موسى شخصية إبراهيم, إنّه نُموذج الهدوء والتّسامح والحلم{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}[هود : 75]).

     والإتيان بهذه الصّورة في مقابل شخصية موسى عليه السّلام من باب قولك: وبضدّها تتميز الأشياء.

فهل هذا كلام يقال في حقّ كليم الله موسى؟!

     أن يُغفر لقائل الكلام أو لا يُغفر؟ لا شأن لنا به, أن ينزل الفردوس الأعلى أو قرارة الجحيم؟ لا علاقة لنا بذلك, نسأل الله أن يغفر له, ولكن هذا الكلام يا أصحاب العقيدة الصّحيح: كيف يُسكت عليه وهو يُتداول بين الشّبيبة؟ في هذا الكتاب, في هذا الكتاب الّذي وسمه بـ((التّصوير الفنّي في القرآن)), وجمع فيه من كلّ موبقة, وهو يُدَرّس في كلّيات الآداب, وفي كلّيات اللّغة العربية, ويُنَوّه به, ويُعلَى من ذكره, وفيه هذه الطّامة وحدها, ولو كانت وحدها في كتاب لاستحقّ إعدامه.

     وبعد:

     فإنّ هذه المسألة قد صارت لأهل السنّة محكّا, ولمسيرتهم مَضِيقا, والحقّ فيها واضحا وضوحا لا يلتبس إلاّ على جاهل أو ذي هوى, فعلينا أن نردّ الأمور إلى الكتاب والسُّنّة بفهم سلف الأمّة, وأن نتجرّد من أهوائنا متذكّرين قول ربّنا سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}[النساء : 135].

     فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا.

     وقوله - أي: ونتذكّر قوله - تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ} {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة : 8].

     ولنعلم أنّ الذي يُثير الفتن, ويأجّج نارها هو الّذي يخالف الكتاب والسُّنّة, وأنّ الّذي يأمر النّاس باتّباع الكتاب والسُّنّة, واتّباع السلف الصّالح من الصّحابة ومن تبعهم بإحسان هو ساع في رفع العداوة والبغضاء عن الأمّة, قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}[المائدة : 14].
     فنسيان حظّ أي: ترك قدر ممّا ذُكّرت به الأمّة من الكتاب والسُّنّة مستجلب للعداوة والبغضاء بين أبناءها, والسّاعي في التذكير بالكتاب والسُّنّة هو ساعٍ في رفع العداوة والبغضاء عن الأمّة.

     لمّا تأملت في تلك المسألة بشِقّيها وجدتها أوضح من الوضوح, وأجلى من الشّمس في رائعة النّهار في كبد السّماء ليس دونها غمام ولا سحاب ولا ضباب, فعجبت!

فلمَ الخلاف إذن؟!لمَ الخلاف وما سببه؟!

     الأمر واضح جداّ, وجليّ جدّا, والأمر في المنتهى أمر عقيدة, ومصائر النّاس - لثالث مرّة - وأقدارهم في الآخرة لا يتدخّل فيه أحد, لأننّا لا نشهد لأحد بجنّة ولا نار إلاّ من شهد له النبيّ المختار, هذا أصل من أصول عقيدتنا أهل السُّنّة, ولا نقول لأحد شهيد, وفي ((البخاري)) ((باب: لا يقال فلان شهيد)).

من أدراك؟

     ونسأل الله أن يكون قد ختم لمن مات من أهل القبلة بخير, وأن يختم لنا بخير, وأن يحشرنا جميعا في الجنّة على سرر متقابلين, وأن ينزع ما في قلوبنا من الغلّ لإخواننا من المؤمنين والمسلمين والمحسنين الذّابين عن دين ربّ العالمين إنّه على كلّ شيء قدير.

     وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
 

الآن
اخترنا لك (عقيدتنا الإسلامية)