فَقَد كانَ (مُحَمَّد أَسَد) -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- نِمْسَاويًّا مِن أصلٍ يهوديٍّ، وكان يُدْعَى قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ (ليو بولد فايس)، وكانَ جَدُّهُ لأبيِهِ حَاخَامًا، وَأَمَّا أبوُهُ فَبِمُقْتَضَى التقاليدِ العائليةِ فَقَد فَرَضَ على ولدِهِ (ليو بولد) أنْ يَدْرُسَ على أساتذةٍ خصوصيينَ العلومَ الدينيةَ العِبْرانيةَ بِتَعَمُّقٍ كبيرٍ، ولم يَكُن مَرَدُّ ذلك إلى أيِّ وَرَعٍ امتازَ به أبواهُ، ذلك لأنَّهُمَا كانا يَنْتَميَان إلى جيلٍ يخضعُ باللسانِ فقط إلى التعاليمِ الدينيةِ التي سَبَكَت حياةَ أسلافِهِمَا، وفي الوقتِ نَفْسِهِ لم يَسْعَ أبواهُ قَطُّ إلى أنْ يَعْمَلَا في حياتِهِمَا العمليةِ بِمُقْتَضى تلك التعاليمِ.
وبعدَ رحلةٍ فِكريةٍ معنوية وبدنيةٍ جسديةٍ؛ حَطَّ رَحْلَهُ في دمشق قَارِئًا فيها كلَّ ما تَصِلُ إليه يَدَاهُ مِن كُتُبٍ عن الإسلامِ الحنيفِ، وَلَقَد لجأَ إلى تَرْجَمتيْن للقُرْآنِ العظيمِ: فرنسية وألمانية؛ استعارَهُمَا مِن إحْدَى المكتباتِ، تلك كانت دراستَهُ إلى ذلك الحِينِ عن الإسلامِ.
قال: «وَمَهْمَا كانت تلكَ الدراسةُ مُؤلَّفَة مِن نُتَفٍ وَشَذَرَاتٍ؛ فإنَّهَا رَفَعَت الغَشَاوَةَ عن عَيْنيِّ، لقد بَدَأْتُ أُمَيِّزُ عَالَمًا مِن الحكمةِ كُنْتُ حتى ذلك الحِين أَجْهَلُهُ جَهْلاً كُليًّا».
قالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَبَدَى لي الإسلامَ طَرِيقًا يَقينيًّا في الحياةِ، ومِنْهَاجًا للسلوكِ الذَّاتيِّ والاجتماعيِّ قَائِمًا على ذِكْرِ اللهِ، لا يُجِيزُ اتخاذَ واسطةٍ بينَ اللهِ وعبدِهِ مِن أَجْلِ الخَلَاصِ، وَلَيْسَ فيه دَعْوَى عَن خطيئةٍ أُولَى مَوروثةٍ تَقِفُ بين الفردِ ومصيرِهِ، ذلك أنْ ليس للإنسانِ إلَّا مَا سَعَى، ولا يتطلبُ فَتْحَ بابِ خَفيٍّ إلى الطهارةِ، ذلك أنَّ الطهارةَ حَقٌّ يَرِثُهُ الإنسانُ بالولادةِ، والخطيئةُ ليست سِوَى زَلَّةٍ طارئةٍ تَمْحُوهَا التوبةُ النَّصُوحُ وَفِعْلُ الحَسَنَةِ بَعْدَهَا، وليس في الإسلامِ مِن أَثَرٍ للثُّنائيةِ في الطبيعةِ الإنسانيةِ، ذلك أنَّ الروحَ والجسدَ في الإسلامِ وَحْدَةٌ مُتكاملةٌ».
قالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «لقد أغْفَلْتُ أَوَّلَ الأمرِ لاهتمامِ الإسلام بكثيرٍ مِن وجوهِ الحياةِ التي كانت تَبْدُو لي دنيويةً تَافِهَةً، إلَّا أَنني مع الزمنِ بَدَأتُ أَفْهَمُ أنَّهُ إذا كان الإنسانُ حَقًّا وحدةً مُتكاملةً مِن جَسَدٍ وَرُوحٍ، فإنَّهُ ليسَ هناك وَجْهٌ مِن وجوهِ حياتِهِ يُمْكِنُ أنْ يكونَ مِن التفاهةِ بحيثُ لا يَقَعُ دَاخِلَ نطاقِ الدِّين.
ومع كلِّ هذا فإنَّ الإسلامَ لا يَدَعُ أتباعَهُ مُطلقًا يَنْسَوْنَ أنَّ الحياةَ الدنيا ليست إلَّا مرحلةً مِن طريقِ الإنسانِ إلى حياةٍ أُخْرَى هي الحياةُ الحقيقيةُ.
إنَّ الرَّخَاءَ الماديَّ مَطْلَبٌ مَشْرُوعٌ: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الْأَعرَاف: 32]، ولَكِنَّ الرخاءَ الماديَّ مع كَوْنِهِ مَطْلَبًا مشروعًا؛ ليس غايةً في ذَاتِهِ، ولذلك فإنَّ شهواتَ الإنسانِ يَجِبُ أنْ تُرْضَى فقط عن طريقِ الالتزامِ الدِّينيِّ بِشَرِيعةِ اللهِ في عَلاقةِ الإنسانِ بِخَالِقِهِ، وفى علاقاتِهِ بِغَيْرِهِ مِن المخلوقاتِ».
لَقَد أَسْلَمَ الرَّجُلُ زِمَامَ قَلْبِهِ للهِ، وَأَسْلَمَ للرسولِ -صلى الله عليه وآله وسلم- طرائقَ حياتِهِ وعبادتِهِ، وَطَوَّفَ في الأرضِ مُتَأمِّلًا وَمُتَعَلِّمًا، وَنَفَذَ بِعُمْقٍ إلى حقيقةِ الصراعِ في النَّفْسِ المُسْلِمَةِ.
قالَ -رَحِمَهُ اللهُ -: «إنَّ عَالَمَ الإسلامِ والغربِ لم يَكُونَا يَومًا مُتَقَاربيْن كَمَا هُمَا اليوم، وهذا التَّقَارُبُ أحْدَثَ صِرَاعًا ظَاهِرًا وَخَفيًّا، ذلك أنَّ قلوبَ الكثيرينَ مِن المُسلمينَ لِتَصْدَأ رُويْدًا رُويْدًا تحتَ تأثيرِ عواملِ الثقافةِ الغربيةِ، إنهم يتركونَ أنفُسَهُم يبتعدونَ عن اعتقادِهِم الصحيحِ بِأنَّ تحسينَ المعيشةِ يَجِبُ أَلَّا يكونَ سوى وسيلةٍ لتحسينِ مصيرِهِم الأُخرويِّ، وإنهم ليَسْقُطُونَ في مَصيدةِ التطورِ نَفْسِهَا التي تَرَدَّى فيها العَالَمُ الغربيُّ بعد أنْ صَغَّرُوا الدِّينَ إلى مُجَرَّدِ صَلْصَلةٍ رَخيمةٍ في مُؤخرةِ حياتِهِم، ولذلك تَرَاهُم يَصْغُرُونَ مَقَامًا ولا يَكْبُرُونَ، ذلك أنَّ كلَّ تقليدٍ ثَقَافيٍّ بخلافِ المحافظةِ على الأصلِ الصالحِ؛ لا بُدَّ أنْ يُحَقِّرَ الأُمَّةَ المُقَلِّدَةَ، وَيُعَزِّزَ شأنَ الأُمَّةِ المُقَلَّدةِ».
قال: «أنا لا أَعْنِي أنَّ المُسلمينَ لا يجوزُ لَهُم أنْ يتعامَلُوا مع الغربِ، ويستخدموا خِبْرَتَهُ في الإدارةِ والفنونِ الصناعيةِ، إنَّ اكتسابَ الخبراتِ والأساليبِ المعيشيَّةِ النافعةِ ليسَ تَقليدًا، ذلك أنَّ الاكتشافاتَ النظريةَ والعمليةَ ليست إلَّا حَلْقَاتٍ في سِلسلةٍ لا نهايةَ لَهَا مِن الجَهْدِ العقليِّ الذي يَضُمُّ الجِنْسَ البشريَّ كلَّهُ، إِنَّ كلَّ عَالِمٍ يَبْنِي على الأُسُسِ التي يُقَدِّمُهَا له أسلافُهُ، سواءٌ كانوا مِن بَني أُمَّتِهِ أو مِن أبناءِ أُمَّةٍ غيرِهَا.
وعمليةُ البِنَاءِ والإصلاحِ والتحسينِ هذه تستمرُّ وتستمرُّ مِن إنسانٍ إلى إنسانٍ، ومِن عَصْرٍ إلى عَصْرٍ، ومِن مدينةٍ إلى مدينةٍ، بحيثُ إنَّ ما يُحَقِّقُهُ عصرُ معينٌ أو مدَنيَّةٌ مُعَيِّنَةٌ مِن إنجازاتِ لا يُمْكِنُ مُطلقًا أنْ يُقَالَ إنهَا تَخُصُّ ذلك العصر أو تلك المَدنيَّة، فَقَد يحدثُ في مُخْتَلَفِ الأزمنةِ والعهودِ أنْ تُسْهِمَ أُمَّةٌ أو أُمَمٌ معدودةٌ بنصيبٍ أكبرَ في صندوقِ المَعرفةِ، وَلَكِنَّ الجميعَ بِقَدْرٍ يَقِلُّ أو يَكْثُرُ مُشْتَرِكُونَ في هذه العمليةِ».
قالَ -رَحِمَهُ اللهُ- نَافِذًا إلى عُمْقِ الجُرْحِ في سَوَاءِ صَمِيمِ قَلْبِ الاعتقادِ عند المُسلمين: «ولو أنَّ المُسلمينَ احتفظوا بِرَبَاطَةِ جَأشِهِم، وارْتَضَوْا المُنْجَزَاتِ الدنيويةِ وسيلةً لا غايةً في ذَاتِهَا، إذن لَمَا خَالَفُوا الشرعَ ولا العَقْلَ، ولَثَبَتُوا في مَوْقِعِهِم الذي ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُم هُدَاةً مُهْتَدِين».
يَرْصُدُ الرَّجُلُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو غَربيٌّ ولادةً ومَرْبَى، يهوديٌّ أُصولًا وسِلَالَةً، ولَكِنَّ اللهَ أَنْعَمَ عليه بِنِعْمَةِ الإسلامِ العظيمِ، يَنْفُذُ الرَّجُلُ مع ذلك كلِّهِ إلى مَوْطِنِ الداءِ في الأُمَّةِ المُسلمَةِ في هذا العصر: «ولو أنَّ المُسلمينَ احتفظوا بِرَبَاطَةِ جَأْشِهِم، وارْتَضَوْا المُنْجَزَاتِ الدنيويةِ وسيلةً لا غايةً في ذَاتِهَا، إذن لَمَا خَالَفُوا الشَّرْعَ، ولا خَالَفُوا العَقْلَ، وَلثَبَتُوا في مَوْقعِهِم الذي ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُم هُدَاةً مُهتدينَ».
لَقَد عَرَفَ الرَّجُلُ الأوروبيُّ مَوْلِدًا وَنَشْأةً، اليهوديُّ أَصْلًا وَدِرَاسَةً حقيقةَ الإسلامِ كَمَا لم يَعْرِفْهَا كثيرٌ مِمَّن وُلِدُوا في ديارِ الإسلامِ وَشَبُّوا وَشَابُوا على سَمَاعِ الكلامِ عنه صَبَاحًا وَمَسَاءً؛ لأنهُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَرَفَ حقيقةَ التوحيدِ الذي جاءَ به الإسلامُ العظيمُ، وَقَامَ المُجَدِّدُونَ في كلِّ قَرْنٍ بِجِلائِهَا للنَّاسِ حتى تَظَلَّ نَاصِعَةً مُنِيرَةً.
قالَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَصِفُ انطباعَهُ عن رؤيةِ الكعبةِ المُشَرَّفَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ في أَوَّلِ حَجَّةٍ مِن حَجَّاتِهِ الخَمْس، قَالَ: «هذه إذن الكعبةُ التي كانت ولا تزالُ مَحَطَّ أشواقِ الأُمَمِ العظيمةِ مِن الناسِ مِنْذُ بَنَاهَا إبراهيمُ وإسماعيلُ -عليهما السلام- بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، إِنَّ حُجَّاجًا لا يُحصَوْنَ ولا يُعَدُّونَ قَد بَذَلُوا تَضْحياتٍ عظيمةً عَبْرَ العصورِ للوصولِ إلى هذ المَحَجَّةِ –يعنى الكعبة المُشَرَّفَة–، فَمَاتَ كثيرونَ مِنْهُم على الطريقِ، وَبَلَغَهَا كثيرونَ مِنْهُم بعدَ مَشَقَّةٍ كُبْرَى وفى أَعْيُنِهِم جَمِيعًا كانَ ذلك المَبْنَى المربع ذَرْوَةَ آمالِهِم وَغَايةَ أَحْلَامِهِم».
يقولُ نَافِذًا إلى حقيقةِ الدِّينِ، وهو الرَّجُلُ الأعجميُّ الذي تَرَبَّى على عقائدِ يَهُود، دراسةً مُمَحِّصَةً، وفى كَنَفِ رَجُلٍ، كان أبوهُ حَاخَامًا، وكانوا يُحَافِظُونَ على تقاليدِ أُسْرَتِهِم في انتمائِهِم ومُعْتَقَدِهِم، يقولُ: «لَيْسَ مِن أَجْلِ التي لا تُحِسُّ ولا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وَلَكِنْ مِن أَجْلِ اللهِ». هذه حقيقةُ التوحيدِ.
«إِنَّ حُجَّاجًا لا يُحصَوْنَ ولا يُعَدُّونَ قَد بَذَلُوا تَضْحياتٍ عظيمةً عَبْرَ العصورِ للوصولِ إلى هذ المحَجَّةِ، فَمَاتَ كثيرونَ مِنْهُم على الطريقِ، وَبَلَغَهَا كثيرونَ مِنْهُم بعدَ مَشَقَّةٍ كُبْرَى، وفى أَعْيُنِهِم جَمِيعًا كانَ ذلك المَبْنَى المُرَبَّعُ ذَرْوَةَ آمالِهِم وَغَايةَ أَحْلَامِهِم، لَيْسَ مِن أَجْلِ التي لا تُحِسُّ ولا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وَلَكِنْ مِن أَجْلِ اللهِ». فهو الذي كرَّمَهَا، وهو الذي أَقَامَهَا أو رَفَعَهَا وَشَرَّفَهَا، وهو الذي فَرَضَ الحَجَّ إليْهَا، فَمِن أَجْلِ اللهِ وَحْدَهُ سعيُهُم وكفاحُهُم وعَنَاؤُهُم وتَعَبُهُم، بَل ومَوْتُهُم على الطريقِ.
لقد عَرَفَ الرَّجُلُ -رَحِمَهُ اللهُ- حقيقةَ الدِّينِ وغايةَ الحياة، ولا جَرَمَ أنَّ المُجتمعَ الإسلاميَّ المُعاصرَ يعيشُ في مستوىٍ أَدْنَى مِمَّا يُؤهِّلُهُ له الإسلامُ، وَإِنَّمَا يَسْتَقْعِدُ أَهْلَهُ الانفصالُ بين العقيدةِ والسلوكِ، والانحرافُ عن الوسيلةِ الكفيلةِ للتَّقَدُّمِ وهي جَليَّةٌ لأَعيُنِهِم قَائِمَةٌ بين أيديِهِم، أَعَلَنَهَا إمامُ دارِ الهجرةِ مَالِكُ بنُ أنسٍ -رَحِمَهُ اللهُ- في مَقُولِتِهِ الجاريةِ على الألسُنِ: «إنَّ هذا الأمرُ لا يَصْلُحُ آخرُهُ إلَّا بِمَا صَلَحَ به أَوَّلُهُ».
إنَّ هذا الأمرَ لا يَصْلُحُ آخرُهُ إلَّا بِمَا صَلَحَ به أَوَّلُهُ، وقد صَلُحَ أَوَّلُ هذا الأمرِ على التوحيدِ والاتِّبَاعِ، على توحيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وإفرادِهِ بالعبادةِ له وَحْدَهُ، واتِّبَاعِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ظَاهِرًا وباطنًا، وَبَدَأَ الفسادُ يَدِبُّ نَاخِرًا في عظامِ هذه الأُمَّةِ لَمَّا قَامَت أَوَّلُ ثورةٍ فيها على عُثمان -رضوان الله عليه-، حتى قُتِلَ شَهيدًا حَمِيدًا -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عنه-، فَكَانَ الأمرُ كَمَا أخبرَ به رسولُ اللهِ.
فَهَل يُعْقَلُ أنْ يَصْلُحَ آخرُ هذه الأُمَّةِ على مَا أَفْسَدَ الأمرَ في أَوَّلِهَا؟!!
أَمْ أَنَّ آخرَهَا لا يَصْلُحُ إلَّا بِمَا صَلُحَ عليه أَوَّلُهَا كَمَا قالَ إمامُ دارِ الهجرةِ -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-.
إنَّ المُسلمينَ أُمَّةٌ نُسِجَت مُقَوِّمَاتُ وجودِهَا وبقائِهَا مِن قِيَمِ الإسلامِ، فَكُلُّ يومٍ يَمُرُّ على الأُمَّةِ دُونَ أنْ تَعْمَلَ بِهَا -أي بِقِيَمِ الإسلامِ العظيمِ- هو يَوْمٌ مِن أيامِ الضَّيَاعِ يُنزِلُ بِهَا الهَزَائِمُ، ويَزِيدُ الغِشَاوَةَ على أبصارِ أبنائِهَا كثافةً، فَيَتَشَاحُّونَ على العَيْشِ الرَّغْدِ، أو على مُجَرَّدِ البَقَاءِ في الأرضِ وإنْ كان فيه المَذَلَّةُ والهَوَانُ، كَمَا أخبرَ رسولُ اللهِ ﷺ، إذ اسْتَجَرَّهُم وَقَعَدَ بِهِم حُبُّ الدُّنْيَا وكراهيةُ المَوْتِ.
إنَّ تصفيةَ الإسلامِ مِمَّا عَلِقَ به عَبْرَ القرونِ مِمَّا ليسَ منه، وتربيةَ الأُمَّةِ على هذا الإسلامِ المُصَفَّى هي حقيقةُ التوحيدِ والاتِّبَاعِ.
وقالَ -صلى الله عليه وآله وسلم-: «لَقّْنُوا مَوْتًاكُم لا إِلَهَ إلَّا الله».
وقالَ -صلى الله عليه وآله وسلم-: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا لا إله إلَّا اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ».
فالتوحيدُ البَدْءُ والمُنْتَهَى، والتوحيدُ مَا بينَ ذلك، وهذا هو ما ينبغي أنْ يَلْتَفِتَ إليه الدُّعاةُ والمُصلحونَ، إذ هو طريقُ المُرْسَلِين أجمعين، وَمَن حَادَ عنه شَذَّ، ومَنْ شَذَّ هَلَكَ، وإنَّمَا تَأْكُلُ الذِّئَابُ مِن الغَنَمِ القَاصية، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم-وإخوانُهُ مِن النَّبيِّينَ والمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ ما بَدَأوا أقوامَهُم بشيءٍ قَبْلَهُ، بَدَأُوا أقوامَهُم بإصلاحِ عقيدتِهِم وبإخلاصِ عبادتِهِم، وَبِصَرْفِهَا لرَّبِّهِم وَحْدَهُ، تَحْقِيقًا للهدفِ الذي لأجلِهِ خَلَقَهُم اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ.
أَمَّا أنْ تَعُدَّ المُجتمعاتُ صاخبةً بِشِرْكِهَا، عَاكِفَةً على أوثانِهَا، مُقْبِلَةً على مُقَدَّسَاتِهَا مِمَّا لم يُقَدِّسْهُ دينٌ ولا شَرْعٌ، ثُمَّ يُرْجَى صَلَاحٌ؟!! فَهَذَا سبيلُ النَّاكصينَ عن الهُدَى، وَهَذَا سبيلُ النَّاكِبينَ عن الحَقِّ، وإلى الله المُشْتَكَى وهو حَسْبُنَا ونِعْمَ الوكيل.
وأمَّا التَّمَسُّكُ بالسُّنَّةِ والحِرْصُ على الاتِّبَاعِ فهو دليلُ النَّجَاةِ والصلاحِ، وعنوانُ السعادةِ والفلاحِ وأمَارَةِ التوفيقِ والتَّسْدِيدِ والنجاح.
والمَرْجِعُ في فَهْمِ نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ إلى فَهْمِ الصحابةِ -رَضِيَ اللهُ عنهم-، فَهُم أَبَرُّ الأُمَّةِ قُلُوبًا، وأَحْسُنُهُم هَدْيًا، وَأَقَلُّهُم تَكَلُّفًا، وَأَصْدَقُهُم اتِّبَاعًا، وَأَفْضَلُهُم فَهْمًا، وَهُم الأَمَنَةُ للأُمَّةِ وَالأُمَنَاءُ على المِلَّةِ، وَهُم وزَرَاءُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- و-رَضِيَ اللهُ عنهم-، فالمَرْجِعُ في فَهْمِ نصوصِ الوَحييْن إليهم وإلى مَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ.
والمُتَّبِعُونَ لا يُقَدِّمُونَ على كلامِ اللهِ تَعَالَى وكلامِ رسولِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كلامًا، ولا على أَمْرِ اللهِ تعالى وأَمْرِ رسولِهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَمْرًا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:1].
إنَّ الإسلامَ يَصُوغُ النَّفْسَ الإنسانيةَ الصِّياغةَ الفِطريةَ الحَقَّةَ التي فَطَرَهَا اللهُ عليها، شَريطةَ أنْ يكونَ مَا أنزلَ اللهُ على رسولِهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- لا تشوبُهُ شوائب البِدَعِ والخُرَافَات التي شَابَت الإسلامَ العظيمَ عَبْرَ القرونِ، ولا تَلْحَقُهُ ولا تُلْصَقُ بهِ آراءُ الرِّجَالِ وأَوْهَامُهُم.
لَقَد صَافَحَ الإسلامُ قَلْبَ ذلك الرَّجُلِ الغربيِّ (ليوبولد فايس) في مَهْبِطِ الوَحْيِ، صَافَحَهُ نَقيًّا صافيًّا، كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ على نَبيِّهِ مُحَمَّد -صلى الله عليه وآله وسلم-، فَقَدْ أَمْضَى الرجلُ بَعْدَ إسلامِهِ أزمنةً طويلةً في دارِ الهِجرةِ يَغْشَى مَسْجِدَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويترددُ مِرَارًا على مكتبةِ الحَرَمِ النَّبويِّ، وَيَسْمَعُ العِلْمَ نَقيًّا صَافيًا، وَأَمْضَى زَمَانًا في مَكَّةَ يَجُوبُ الحَرَمَ وَمَكْتَبَتَهُ، وَيَتَعَلَّمُ التوحيدَ والسُّنَّةَ على مَنْهَجِ السَّلَفِ الذي أَحْيَاهُ اللهُ تَعَالَى في الجزيرةِ على يَدَيْ الإمامِ مُحَمَّد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
وَمَنْهَجُهُ -رَحِمَهُ اللهُ- هو ما كانَ عليه أصحابُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- وَمَن تَبِعَهُم بإحسانٍ وهو مَنْهَجُ السَّلَفِ، وهو: العِلْمُ باللهِ ورسولِهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ودينِ الإسلامِ العظيمِ بِأَدِلَّتِهِ، كَمَا هو الواجبُ على كلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، والعملُ بهذا العِلْمِ والدعوةِ إلى ذلك، والصبرِ على الأذى في ذلك.
وهى صِفَاتُ المُفلِحِينَ التي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ في سورةِ العَصْرِ التي لو أَخَذَ بها النَّاسُ لَوَسِعَتْهُم كَمَا قالَ الإمامُ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-، الإيمان باللهِ -جَلَّ وَعَلَا: مَعرفةُ الحَقِّ بِدَلِيلِهِ، والعملُ به، والدعوةُ إليه، والصبرُ على الأَذَى فيه، فَمَن حَصَّلَ ذلك كان مُفْلِحًا، وَمَن لم يُحَصِّلهُ كان خَاسِرًا؛ لأنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أقسمَ بالعصرِ وهو مَحَلُّ وقوعِ الحوادثِ مِن خيرٍ وشَرٍّ: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر :1-2].
وسِتَّةُ أعوامٍ كاملاتٍ كَفِيلَةٌ لِمُلَاحظةِ الفروق، هذه العبادةُ العظيمةُ المُعْلِنَةُ في كلِّ حَرَكَةٍ وَسَكَنَةٍ، وَنأْمَةٍ ولَفْظَةٍ، بِتوحيدِ الرَّبِّ الجليلِ الأَجَلِّ، واتِّبَاعِ خَيْرِ البَشَرِ -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ صَارَت في الجُمْلَةِ شَيْئًا آخَر.
والسببُ غِيَابُ التربيةِ على المَنْهَجِ الحَقِّ عن أَكْثَرِ الأُمَمِ مع الولوغِ في الخُرَافَاتِ والبدعِ، فتقديمِ الرَّأي والهَوَى على الكتابِ والسُّنَّةِ أَدَّى إلى ظواهر لا تُحْمَدُ مِن الوقوعِ في الشِّرْكيات في أَفْضَلِ الأزمنةِ وَخَيْرِ البِقَاعِ!!
وَلَو رَأيتَ تَهَافُتَ النَّاسِ كالفَرَاشِ على النَّارِ على مَقَامِ إبراهيم مُسْتَلِمِينَ لاَثِمين بَارِكينَ، مَعَ أَنَّ المَقَامَ في وَسَطِ المَطَافِ، وَالمَطَافُ حَقُّ الطَّائِفِينَ، وَأَمَّا هؤلاءِ فَيَسْتَجْلِبُونَ البَرَكَات مِن المَقصورةِ دونَ الحَجَرِ، ويأتونَ بِالشركياتِ في أَجَلِّ مَوْطِنٍ وأعظمِ زَمَانٍ، مُعَادِينَ مُنَافِينَ مَا جَاءَ به رسولُ اللهِ، إِذْ مَا أَرْسَلَهُ اللهُ إلَّا لتوحيدِهِ ونَفِي الشِّرْكِ وإظهارِ حقيقةِ التوحيدِ في الأرضِ، فيُخَالَفُ هذَا كُلُّهُ ويُؤتَى بِالشركِ ظَاهِرًا، قَوْلًا وَفِعْلًا.
وَدَعْكَ مِن الاعتقادِ؛ فاللهُ يَعْلَمُهُ، مَعَ ما هُنَالِكَ مِن سُوءِ الخُلُقِ؛ لأنَّ التربيةَ قائِمَةٌ في كثيرٍ مِن الأُمَمِ التي تَنْطَوِي تَحْتَ رايةِ الإسلامِ العظيمِ، وَصَارَت التَّربيةُ على الاندفاعِ والطَّيْشِ، وغِلْظَةِ القَلْبِ، وَقَسْوَةِ المَنْطِقِ، مَعَ الحِدَّةِ الحديدةِ، والشِّدَّةِ الشديدةِ، واستباحةِ دِمَاءِ المُسلمينَ حتى العَقل نُحِّيَ جَانِبًا، وأُبْدِلوا به هَبَاءً كما قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-، حتى أنَّ الرَّجُلَ لَيَقْتُلَ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وابنَ عَمِّهِ، لا يَرْعَوْن، ولَيْسَت مَعَهُم عُقُولُهُم، يُقْتَادُونَ فَيُقَادُونَ، يُشَارُ إليهم فَيَنْسَاقُونَ، وأين عقولُهُم؟
مع أنَّ كثيرًا منهم تَرَبَّى على الأَقَلِّ ظَاهِرًا على حقيقةِ الاتِّبَاعِ!!
فَرُبُّوا كَثِيرٌ مِنْهُم على أنَّهُ ينبغي أنْ يُطَاعَ الدَّليلُ والأَثَرُ، وألَّا يُسَارَ خَلْفَ أَحَدٍ مِن البَشَرِ خَالَفَ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولَكِنْ ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف :54].
التَّدَافُعُ في المَطَافِ على المَقَامِ مع الحَاجِّ في الطَّوافِ، والحِرْصُ على الصلاةِ وَرَاءَ المَقَامِ، وهو في مُنْتَصَفِ المَطَافِ تقريبًا، الحرصُ على الصَّلَاةِ قَريبًا مِن الكعبةِ مِمَّا يُؤدِّي إلى الجلوسِ لاحتلالِ مَكَانٍ في المَطَافِ قَبْلَ الأذانِ بِوَقْتٍ غَير قَصيرٍ!
يَطُوفُ الناسُ مع زِحَامٍ شديدٍ يجعلُ الطائِفَ لا يكَادُ يُرَكِّزُ في عبادةِ الطَّوَافِ العظيمةِ، فلا يَكَادُ يَعِي دُعَاءً، ولا يُرْسِلُ رَجَاءً، بَلْ هَمُّهُ أنْ يَخْرُجَ مِن هذه المَعركةِ التي تَلَاطَمَت فيها الأجسادُ وَتَدَافَعَت فيه المَنَاكِبُ، وَدِيسَت فيها الأجسادُ بالأقدامِ، ولَم تُرَاعَى فيها حُرْمَةٌ، أنْ يَخْرُجَ مِن هذه المعركةِ حَيًّا!!
و يأتي أقوامٌ رُبَّمَا أَتَى بعضُهُم مِن أَقْصَى الأرضِ حَرِيصًا على أنْ يُصَلِّي قَرِيبًا مِن الكعبةِ إذا أُذِّنَ للفَرْضِ، فَيَجْلِسُ في المَطَافِ قَرِيبًا مِن الكعبةِ ودونَ ذلك، حَتَّى يُشْغَلُ جِزْءٌ عَظيمٌ مِن المَطَافِ وهو حَقُّ الطائفينَ مع ما فيه مِن الازدحامِ العظيمِ، يَجْلِسُونَ قَبْلَ الأذانِ بِوَقْتٍ غيرِ قصيرٍ، حتى إذا ما أُقِيمَ للصَّلَاةِ صَلَّوْا مَكَانَهُم، وَإِنْ أَدَّى ذلك إلى ارتباكٍ عظيمٍ وَخَطَرٍ جَسِيمٍ، مِمَّا يَجْعَلُ الطَّوَافَ وهو عبادةٌ مِن أَجَلِّ العباداتِ مَعْرَكَةً صَاخِبَةً بينَ الطَّائِفِينَ بعضهُم بَعْضًا مِنْ جِهَةٍ، وبينَ الطَّائفينَ والجَالِسينَ مِن جِهَةٍ أُخْرَى، ولا يَنْدُرُ أَنْ تَسْمَعَ سَبًّا وَشَتْمًا وَدُعَاءً وَلَعْنًا في ذلك المكانِ في ذلك الزمان! والله المستعان.
أَتَحْسَبُ أنَّا نحتاجُ إلى كثيرِ جَهْدٍ مِن أَجْلِ بَيَانِ زَيْفِ العَالَمَانِيَّة -على النِّسْبَةِ الصحيحةِ، وهي العَلْمَانيةِ على مَا هو شَائِعٌ ذَائِعٌ-، أَتَحْسَبُ أَنَّا نَحْتَاجُ إلى كثيرِ جَهْدٍ لمُحَارَبِتَهَا ومُحَارَبَةِ الليبراليةِ والديمقراطية وما أَشْبَه؛ لَو أَنَّنَا عَلَّمْنَا حقيقةَ الدِّينِ الذي جَاءَ به النَّبيُّ الأمين؟!!
لا والله ما نَحْتَاجُ رُبَّمَا لِجَهْدٍ يُذْكَرُ، إلَّا لِمَنْ رَانَ على صفحةِ قَلْبِهِ وَغَشَّى عَيْنَ بصيرتِهِ مَا يَحْجُبُ عنه نورَ الهُدَى وحقيقةَ التوحيدِ، وَأَمَّا مَنْ نَفَذْنَا إلى حقيقةِ ذَاتِهِ، وَوَقَعْنَا على ذاتِ فِطْرَتِهِ؛ فَلَو أَنَّنَا عَرَضْنَا عليه مَا جَاءَ به رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لَمَا نَفَذَ إلى قلبِهِ شَكٌّ وَلَا شُبْهَةٌ، وَلَعَلِمَ النَّاسُ دينَ الفِطْرَةِ الذي هو الفطرةُ وَمَا جَاءَ به رسولُ الله.
إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- لَم يُشْغَل عَن تعليمِ حقيقةِ الدِّينِ؛ حقيقةِ التوحيدِ، وإنَّ المَدَنيَّاتِ الصَاخِبَة حَوْلَ مَهْبِطِ الوَحْيِ وجزيرةِ العَرَبِ لَتَضطَّرِمَ بِتَقَدُّمِهَا في ذلك الزَّمَانِ سياسةً واقتصادًا، وقوةً وَعَتَادًا، وتنظيمًا وقانونًا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَتَى بِالحَقِّ الصَّافِي الخَالصِ الصُّرَاحِ، الذي يَنْفِي الزَّيْفَ، والذي لا يُخَالِطُهُ الكَدَرَ، فَاسْتَقَامَ أَمْرُ النَّاسِ على حقيقةِ الإسلامِ تَوْحِيدًا وَمُتَابَعَةً، فَنَهَضَت أُمَّةٌ هي خَيْرُ أُمَّةٍ مَلَكَت زِمَامَ القوةِ بِرُشْدٍ وَعَقْلٍ، وَعِلْمٍ وَعَدْلٍ، وَمِن غيرِ أنْ يَشُوبَ مَسْلَكَهَا جَوْرٌ وَلَا ظُلْمٌ، وَأَدَّت أَمَانَةَ، وَبَلَّغَت رِسَالَة، حتى طَغَت بِدَعٌ فَاشيَةٌ، وَعَمَّت خُرَافَاتٌ هَادِرَةٌ، وَاشْتَبَهَ على النَّاسِ العَالِمُ بِغَيْرِهِ، فَتَبِعُوا الأرَاذَلَ وَتَرَكُوا الأَكَابِرَ، وَصَارَت السُّنَّةُ بِدْعَةً والبِدْعَةُ سُنَّةً، فَصَارَ النَّاسُ إِلَى أَمْرٍ مَرِيجٍ.
وَإِذَا كانَ الرَّجُلُ الكافرُ على غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، يَدِينُ بِغَيْرِ دِينِهِ، وَيَعْتَقِدُ غيرَ مُعْتَقَدِهِ، وَيُرَبَّى عَلَيْهِ، وَيُسْقَاهُ قَطْرَةً قَطْرَةً، حَتَّى ليَجْرِيَ في دِمَاهُ إذ صَافَحَت حقيقةُ الإسلامِ قَلْبَهُ، نَفَت زَيْفَ قَلْبِهِ، وَغَشَّت عَلَيْهِ بِطُهْرٍ طَهُورٍ، إذا كانَ ذلك كذلك فيمَن لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، فَكَيْفَ بِالمُسْلِمِ الذي شَابَ إِسْلَامَهُ شيءٌ، إنَّمَا يَحْتَاجُ تَعْلِيمًا بِرِفْقٍ وَيَحْتَاجُ جِلَاءَ أَمْرٍ بِصِدْقٍ، إنَّمَا يحتاجُ حقيقةَ الدِّينِ الذي جاءَ به النَّبِيُّ الأمين. عَلِّمُوهُم، لا تُضِلُّوهُم!! فَإِنَّهُم في رقابِكِم مُتَعَلِّقُونَ، إذ هُم على آثارِكِم سَالِكُونَ!! فَاتَّقُوا اللهَ فيهم، فَإِنَّ مَنْ أَضْلَلْتُمُوهُ سَيَأتي يومَ القيامةِ مُمْسِكًا بِرِقَابِكُم يقولُ: يا رَبِّ هَذَا أَضَلَّنِي!!
ولأنْ تكونَ ذنَبًا في الحَقِّ خيرٌ مِن أنْ تكونَ رَأْسًا في الباطلِ، لأنْ تَكُونَ ذَنَبًا في الحَقِّ والسُّنَّةِ خَيْرٌ مِن أنْ تكونَ رَأْسًا في الباطلِ والبِدْعَةِ.
صَفُّوا الدِّينَ، وَعَلِّمُوا حَقِيقَتَهُ، وَأَرْشِدُوا الأُمَّةَ إلى اتِّبَاعِ نَبِيِّهَا -صلى الله عليه وآله وسلم-، وَدَعُوا الاستعجِالَ، فَإِنَّ اللهَ لا يَعْجَلُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ، واللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَقَد قَضَى وَقَدَّرَ أَنَّهُ لا يُمَكَّنُ في الأرضِ ولا يُعِزُّ ولا يُعْلِي إلَّا مَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا يَعْبُدُهُ لا يُشْرِك به شَيْئًا، فهذه شروطٌ، فَمَن حَقَّقَهَا وُفِّيَ لَهُ، وَأَمَّا مَن بَخَسَهَا نُقِصَ عَلَيْهِ.
نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أنْ يَرُدَّنَا والشَّارِدِينَ أَجْمَعِينَ إلى الحَقِّ رَدًّا جَمِيلًا، وَأَنْ يُقِيمَنَا على الصِّرَاطِ المُستقيمِ والمَحَجَّةِ البَيْضَاءِ التي تَرَكَ النَّبيُّ عَلَيْهَا الأُمَّةَ.
نَسْأَلُ اللهَ أنْ يُحييَنَا على مِنْهَاجِ النُّبوَّةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا دَاعِينَ إِلَيْهِ، مُرْشِدِينَ إِلَيْهِ، مُتَمَسِّكِينَ به، وأنْ يُمِيتَنَا عَلَيْهِ، وأنْ يَحْشُرَنَا في زُمْرَةِ مَن جَاءَ بِهِ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ يَجْمَعَنَا مَعَهُ في الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى مِن الجَنَّةِ، مُتَمْتِّعِينَ بِلَذَّةِ النَّظَرِ إلى وَجْهِ اللهِ الكَرِيمِ، إِنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ.
وَصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ على نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.