فإنَّ من أخطرَ آفاتِ اللسان التي حذَّرَ منها الكتابُ العزيز والسُّنة المُشرَّفة: الجدالَ والمراءَ والمخاصمة.
والجدلُ: دَفْعُ المرءِ خَصْمَهُ عن إفسادِ قولهِ بحجةٍ أو شُبهة، أو يُقصد به تصحيح كلامه وهو الخصومةُ في الحقيقة.
والجدال: عبارة عن مراء يتعلَّق بإظهارِ المذاهب وتقريرها.
قال المناويُّ: ((هو مراءٌ يتعلق بإظهارِ المذاهب وتقريرها)).
وقيل: ((هو التخاصمُ بما يشغلُ عن ظهورِ الحق ووضوح الصواب)).
وقال الكفويُّ: ((هو عبارةٌّ عن دَفْعِ المرء خَصمه عن فساد قوله بحجةٍ أو شبهة، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره)).
والمجادلة: هي المنازعةُ في المسألة العلمية لإلزام الخَصم سواءٌ كان كلامُهُ فاسدًا أو لا.
والجدالُ قد يكونُ محمودًا إذا تعلق بإظهارِ الحق، وقد أمُر بذلك النبي ﷺ في قوله -تعالى-: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ]النحل: 125[
وقد يكون الجدالُ مذمومًا إذا شغلَ عن ظهورِ الحقِّ ووضوحِ الصواب، وهذا هو المقصودُ بقوله ﷺ: ((ما أوتي الجدلَ قومٌ إلا ضلوا)).
وهذا النَّوعُ من الكبائر، قال الذهبي -رحمهُ اللهُ-: ((إنْ كان الجدالُ للوقوفِ على الحقِّ وتقريره؛ كان محمودًا، وإنْ كان الجدال في مدافعةِ الحق أو كان بغير علم؛ كان مذمومًا، وعلى هذا التفصيل تُنَزَّلُ النصوص الواردةُ في إباحتِهِ وَذَمِّهِ)).
أي: ليكُن دعاؤُك للخلقِ مُسْلِمِهم وكافرِهم إلى سبيلِ ربِّك المستقيم المشتمل على العلمِ النافعِ والعملِ الصالح بِالْحِكْمَةِ أي: كل أحدٍ على حسبِ حالهِ وفهمهِ وقبولهِ وانقيادِه.
ومن الحكمةِ: الدعوةُ بالعلمِ لا بالجهل، والبَدءُ بالأهمِّ فالأهمِّ، وبالأقربِ إلى الأذهانِ والفَهم، وبما يكونُ قبولُه أتم، وبالرفقِ واللين، فإن انقاد بالحكمة، وإلا فلينتقل معه بالدعوةِ بالموعظةِ الحسنة، وهو الأمرُ والنهي المقرونُ بالترغيبِ والترهيب، إما بما يشتمل عليه الأوامرُ من المصالحِ وتعدادُها، والنواهي من المضارِ وتعدادُها، وإما بذِكْرِ إكرامِ من قام بدينِ الله وإهانةِ من لم يَقُم به.
وإما بذِكْرِ ما أعدَّ اللهُ للطائعين من الثوابِ العاجلِ والآجل وما أعدَّ للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإنْ كان المَدْعو يرى أنَّ ما هو عليه حق، أو كان داعيةً إلى الباطل، فيُجَادلُ بالتي هي أحسن، وهي الطُّرُق التي تكون أدعى لاستجابته عقلًا ونقلًا.
ومن ذلك الاحتجاجُ عليه بالأدلة التي كان يعتقدُها، فإنه أقربُ إلى حصولِ المقصود، وألا تؤدي المجادلةُ إلى خصامٍ أو مُشاتمة تذهبُ بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها، بل يكونُ القصدُ منها هدايةَ الخَلْقِ إلى الحق؛ لا المغالبة ونحوها.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}: عَلِمَ السببَ الذي أدَّاه إلى الضَّلالِ، وعَلِمَ أعمالَه المترتبة على ضلالتهِ وسيجازيه عليها.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}: عَلِمَ أنهم يصلحون للهداية فهداهم، ثم منَّ عليهم فاجتباهم.
والجدال والمراء بغير حقٍّ والدفاعِ عن الباطل وأهله من كبائرِ الإثمِ وعظائمِ الذنوب.
فالجدلُ في اللغةِ كما مَرَّ: مقابلة الحجة بالحجة.
والمجادلة: المناظرة والمخاصمة.
جاء في (المصباح): ((جَدِلَ الرَّجُلُ جَدَلًا فَهُوَ جَدِلٌ إذا اشتدت خصومُته، وجادَل مُجادَلةً وجِدالًا: إذا خاصمَ بما يشغلُ عن ظهورِ الحقِّ ووضوحِ الصوابِ، فهذا أصلُهُ، ثم استُعْمِلَ على لسان حملة الشرع في مقابلةِ الأدلة لظهور أرجحها، وهو محمودٌ إن كان للوقوف على الحق وإلا فمذموم)).
والمراء: الجدال وهو مصدر مارى يماري.
قال في (المصباح): ((مَارَيْتُهُ أُمَارِيهِ مُمَارَاةً ومِرَاءً جادلته، ويقال مَارَيْتُهُ أيضًا إذا طعنت في قوله تزييفًا للقول وتصغيرًا للقائل، ولا يكون المِرَاءُ إلا اعتراضًا؛ بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداءً واعتراضا)).
ومن استعمالات القرآن المجيد للمراءِ بمعنى المجادلة قوله -تعالى-: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} ]الكهف: 22[.
يُخبر -تبارك وتعالى- أنه ما يجادل في آياته إلا الذين كفروا، والمراد بالمجادلة هنا، المجادلة لردِّ آياتِ الله ومقابلتِها بالباطل، فهذا من صنيعِ الكفار، وأما المؤمنون فيخضعون للحقِّ ليُدحضوا به الباطل، ولا ينبغي للإنسانِ أنْ يغترَّ بحالةِ الإنسانِ الدنيوية، ويظن أنَّ إعطاء الله إياه في الدنيا دليلٌ على محبتهِ له وأنه على الحقِّ؛ ولهذا قال: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} أي: تردُّدُهم فيها بأنواع التجاراتِ والمكاسب، بل الواجب على العبد، أنْ يعتبرَ الناسَ بالحق، وينظر إلى الحقائقِ الشرعية ويَزِنَ بها الناس، ولا يزنَ الحقَّ بالناس، كما عليه من لا عِلم له ولا عقل.
ثم هددَ من جادلَ بآيات الله ليُبطلها، كما فعلَ من قبلَه من الأمم من قومِ نوح وعادٍ والأحزاب من بعدهم، الذين تحزبوا وتجمعوا على الحقِّ ليُبطلوه، وعلى الباطلِ ليَنصروه، وأنه بَلَغَت بهم الحال، وآل بهم التحزُّبُ إلى أنه {هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ} من الأمم {بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي: يقتلوه. وهذا أبلغ ما يكون الرسل، الذين هم قادةُ أهلِ الخير، الذين معهم الحق الصرف، الذي لا شك فيه ولا اشتباه، هَمُّوا بقَتْلِهم، فهل بعد هذا البَغي والضلال والشقاء إلا العذاب العظيم الذي لا يخرجون منه؟
ولهذا قال في عقوبتِهم الدنيوية والأخروية: {فَأَخَذْتُهُمْ} أي: بسببِ تكذيبِهم وتحزُّبِهم {فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب} كان أشدَّ العقابِ وأفظعه، إنْ هو إلا صيحةٌ أو حاصبٌ ينزل عليهم أو يأمرُ الأرض أنْ تأخذهم، أو البحر أنْ يغرقَهم فإذا هم خامدون.
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: كما حقَّت على أولئك، حقَّت عليهم كلمةُ الضلال التي نشأت عنها كلمةُ العذاب؛ ولهذا قال: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.
المراء: هو طعنٌ في كلام الغير لإظهارِ خللٍ فيه ، من غير أن يرتبطَ به غرضٌ سوى تحقيرِ الغَير، وإظهارِ مَزيَّةِ الكِيَاسَة.
والجدال: عبارةٌ عن أمرٍ يتعلقُ بإظهارِ المذاهبِ وتقريرها.
والمجادلة: عبارةٌ عن إفحامِ الغير و تعجيزه وقصدِ ذلك، وتنقيصِهِ بالقدحِ في كلامه، و نسبتِه إلى القصورِ والجهلِ فيه.
والخصومة: لَجَاجٌ في الكلام ليُستَوفَي به مالٌ أو حقٌ مقصود، وذلك تارة يكون ابتداءً، وتارةً يكون اعتراضًا، والمراءُ لا يكون إلا باعتراضٍ على كلامٍ سبق، فالخصومةُ وراءَ الجدالِ والمِراء.
و في الشرع ترهيبٌ شديدٌ من تلك الأخلاقِ المذمومة، والخصالِ المرذولة، ففي ((صحيح البخاري ((عن عبادة بن الصامت -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: خرج النبي ﷺ ليخبرنَا بليلةِ القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: ((خرجتُ لأخبرَكم بليلةِ القدر، فتلاحَى فلانٌ وفلان فرُفعت، وعسى أنْ يكونَ خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعةِ والسابعةِ والخامسة)).
وفي روايةِ أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد الخضري عند مسلمٍ قال: ((فجاء رجلان يحتقَّان، معهما الشيطان، فَنُسِّيتُها)).
قال النووي: ((رجلان يحتقان هو بالقاف، ومعناه: يطلبُ كلُّ واحدٍ منهما حقَّه، ويدَّعي أنه المُحِقُّ، وفيه أنَّ المخاصمةَ والمنازعةَ مذمومة، وأنها سببٌ للعقوبةِ المعنوية)).
وقد بوَّبَ البخاري -رحمهُ اللهُ- لحديث عبادة -رضيَ اللهُ عنهُ- الذي مرَّ بقوله: (باب: رَفْعِ معرفةِ ليلةِ القدرِ لتلاحي الناس).
قال الحافظُ: ((أي: بسببِ تلاحِي الناس، وقيد الرفع بـ (معرفة) إشارةً إلى أنها لم ترفع -يعني ليلة القدر- أنها لم تُرفع أصلًا ورأسًا؛ بل هي باقية)).
عن عائشة -رضيَ اللهُ عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: ((إنَّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم)).
متفقٌ عليه.
الألدٌ: الشديدُ الخُصومة، والخَصِمُ: الذي يَحُجُّ من يُخاصمه.
قال الحافظ: ((الألدُّ: الشديد اللدد أي الجدال، مشتقٌ من اللديدين وهما صفحتا العنق، والمعنى أنه من أي الجهات أخذ من الخصومة قوي، والخصم أي شديد الخصومة)).
وعن أبي سعيد الخدري -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: كنا جلوسًا عند باب رسول الله ﷺ نتذاكر، ينزعُ هذا بآية، وينزعُ هذا بآية، فخرج علينا رسول الله ﷺ كأنما يُفقأ في وجهه حَبِّ الرمان، فقال: ((يا هؤلاء بهذا بُعثتم، أم بهذا أُمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعض)).
وهذا الحديثُ رواه الطبرانيُّ في (الكبير)، وله شواهد.
وعن أبي أُمامة -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: قال رسول ﷺ: ((ما ضَلَّ قومٌ بعد هُدىً كانوا عليه إلا أُوتوا الجَدَل))، ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. رواه الترمذيُّ وابن ماجه وهو حديثٌ حسن.
وقد ورد النهيُ عن المراءِ والجَدَلِ والخصومة وبخاصةٍ في القرآن، قال ربُّنا -جلَّ وعلا-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ]البقرة: 204-205[.
{يَصِدُّونَ} أي: يُسرِفون في خصومتهم لك، ويصيحون، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حُجَّتِهم، وأَفْلَجُوا.
{وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}: يعني عيسى -عليه السلام-، حيثُ نُهِيَ عن عبادةِ الجميع، وشُورِكَ بينهم بالوعيد على من عَبَدَهم، ونزل أيضًا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء 98].
ووجه حُجَّتِهم الظالمةُ الباطلة، أنَّهم قالوا: قد تقرَّرَ عندك وعندنا يا مُحمد، أنَّ عيسى من عبادِ الله المقربين، الذين لهم العاقبةُ الحسنة، فلم سَوَّيتَ بينَهُ وبين الأصنام في النَهيَ عن عبادةِ الجميع؟
فلولا أنَّ حُجَتَك باطلة لم تتناقض.
ولِمَا قلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} وهذا اللفظُ بزعمِهم، يَعُمُّ الأصنامَ، وعيسى، فهل هذا إلا تناقض؟
وتناقض الحجةِ دليلٌ على بُطلَانِهَا، هذا أنْهَى ما يُقرِّرون به هذه الشُبهة التي فَرِحُوا بها واستبشَروا، وجعلوا يَصُدُون ويَتْبَاشَرُون.
وهي -ولله الحمد- من أضعفِ الشُّبَهِ وأبطلِها، فإنَّ تَسويَةَ اللهِ بين النَهي عن عبادةِ المسيح، وبين النهي عن عبادةِ الأصنام، لأنَّ العبادةَ حقٌّ للهِ تعالى، لا يستحِقُها أحدٌ مِنَ الخَلْقْ، لا الملائكةُ المُقربون، ولا الأنبياءُ المرسلون، ولا مَنْ سِوَاهُم مِن الخَلْقْ، فأيُّ شُبهةٍ في تَسويةِ النهيِ عن عبادةِ عيسى وغيرِهِ؟
وليس تفضيلُ عيسى –عليه السلام-، وكَونُه مقربًا عند ربِّهِ ما يَدُلُّ على الفرق بينَهُ وبَيْنَهَا في هذا الموضع، وإنَّمَا هو كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}
فالنبوةُ والحكمةُ والعِلمُ والعمل أنْعَمَ اللهُ -تبارك وتعالى- بِهَا عَليه.
{وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} يعرفون به قدرةَ اللهِ تعالى على إيجادِهِ مِنْ دُونِ أَب.
أحدُها: أنَّ قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} أنَّ (مَا) اسمٌ لِمَا لا يَعْقِل، لا يَدخُل فيه المسيح ونحوه.
الثاني: أنَّ الخطابَ للمشركين، الذين بمكةَ وما حولها، وهم إنَّمَا يعبدون أصنامًا وأوثانًا ولا يعبُدون المسيح.
الثالثُ: أنَّ اللهَ قال بعد هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}، فلا شَكَّ أنَّ عيسى وغيرَهُ مِن الأنبياءِ والأولياء، دَاخِلونَ في هذه الآية.
عن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: ((الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ)).
رواه أبو داوود، وكذلك ابنُ حِبَّان، وأخرجهُ أحمد، وهو حديثٌ صحيح.
وعن أبي أُمَامَة -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: قال رسولَ اللهِ ﷺ: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنَّةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإنْ كان مُحِقًّا، وببيتٍ في وسطِ الجنَّةِ لمَنْ تركَ الكذبَ وإنْ كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه)). رواه أبو داوود وحسَّنَهُ الألباني.
و((رَبَضُ الْجَنَّة)): بفتحِ الراءِ والباءِ المُوَحَّدَة وبالضادِ المعجمة؛ هو ما حولها، فالرَّبَضُ هُنا حَوالِي الجنةِ وأطرَافُهَا، لا في وَسَطِها.
فهذا الحديثُ الذي أخرَجَهُ أبو داوود فيه: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ)).
((فِي رَبَض)): بفتحتين أي حَوالي الجنةِ وأطرافِها، لا في وسطِها، وليس المرادُ خارجًا عن الجَنَّة، ولَكِنْ إنَّمَا هو في الجَنَّة في حَواليِّها.
و((مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ)): بكسرِ الميم والمَدْ؛ أي الجدال خوفًا من أنْ يقعَ صاحبُهُ في اللَّجَاج المُوقِعِ في الباطل.
وقولُهُ: ومن ((حَسَّنَ)) من التحسين.
قال ابن القيم -رحمهُ اللهُ-: ((فجعل البيتَ العلوي جزاءً لأعلى المقامات الثلاثة وهي حُسْنُ الخُلُقِ، والأوسط لأوسطها وهو تَرْكُ الكذب، والأدنى لأدناها وهو تَرْكُ المُمَارَاة وإنْ كان معه حَق، ولا ريبَ أنَّ حُسْنَ الخُلُقِ مُشتَمِلٌ على هذا كُلِّه)).
و((البيتُ)): هُنا هو القَصْرُ في الجَنَّة.
وقوله: ((أَنَا زَعِيم)): يعني أنا ضامنٌ وكفيلٌ وملتزم بأنَّ مَنْ فعل كذا فله كذا.
وهو نظيرُ قول الله -جلَّ وعلا: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف 72]، يعني أنا ملتزمٌ بحِمْلِ البعير لمن أتى بصِوَاعِ المَلِكِ.
{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} يعني بهذا الذي وعدتُ بِه، وهذا الجُعْلُ الذي جُعِل أنا ملتزمٌ به.
والمعنى هنا: أنا كفيلٌ وضامنٌ لمن فعل هذا الفعل أنْ يكون له بيتٌ في الجنة.
قوله: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا)): يعني المجادلة التي تؤدي إلى الخصومةِ والشِّقاقِ والوَحْشَة، فالإنسانُ يبتعدُ عنها حتى تَسْلَمَ القُلُوب، وحتى تُصَفَّى النُّفوس.
وقوله: ((وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا)): فعلى الإنسانِ أنْ يُعَوِّدَ نفسَهُ على الصدق والبُعدِ عن الكذب، فمَنْ تَرَكَ الكذب ولو كان عن طريق المَزْحْ فإنَّه موعودٌ بهذا الوعدِ الكريمِ وهو بيتٌ في وسط الجَنَّة.
قوله: ((وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَه)): هذا محلُّ الشاهدِ من إيرادِ الحديث، وفيه بيانُ منزلةِ حُسْنِ الخُلُقِ، وهذه هي المنزلةُ العالية، والحديثُ يدلُّ على فضلِ حُسْنِ الخُلُق وعلى أهميته.
والجدالُ والمراءُ ليسا من حُسْنِ الخُلُقِ في شيء، وقد يكونان ممدوحَيْن إذا قُصِدَ بهما تأييدُ الحق أو إبطالُ الباطل.
وقد يكونان فَرضَ عين، كما إذا تعيَّنَ على شخصٍ ما؛ الدفاعُ عن الحقِّ أو إبطالُ الباطل،
وقد يكونان فرضَ كفاية، وذلك بأنْ يكون في الأمة من يُدافِعُ عن الحق، ويتبنى بيان مصالحِها، ويَكشِف وجوهَ الباطل ويُزييفُ مقاصده.
وقال رسول الله ﷺ: ((جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ)).
رواهُ أبو داوودُ وصححهُ الألبانيُّ.
وقد أَخَذَ اللهُ العهدَ والميثاقَ على أهلِ العِلم أنْ يجاهدوا في سبيلِ بيانِ الحق، وتعليمِ الناس الخير، ودعوتِهم إلى اللهِ -جَلَّ وعلا-، فقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 87].
وحَدُّ المِراء هُوَ: كلُّ اعتراضٍ على كلامِ الغيرِ بإظهارِ خَلَلٍ فيه، إمَّا في اللفظِ، وإمَّا في المَعنى، وإما في قَصدِ المُتكلم.
وتَرْكُ المراءِ بتَرْكِ الإنكارِ والإعتراضِ، فكلُّ كلامٍ سمعته، فإنْ كان حقًّا فصَدِّق به، وإنْ كان باطلًا أو كذبًا، ولم يكن مُتعلقًا بأمورِ الدينِ فاسكت عنه.
والطعنُ في كلامِ الغير تارةً يكون في لفظه: بإظهار خَلَلٍ فيه مِن جِهةِ النحو، أو مِن جِهةِ اللغة، أو من جِهةِ العربية، أو من جِهةِ النَّظم والترتيبِ بسوءِ تقديمٍ أو تأخيرٍ، وتارةً يكونُ من قصورِ المعرفة، وتارةً يكونُ بطُغيَانِ اللسان، وكيفما كان فلا وَجْهَ لإظهارِ خَللِه.
و أما في المَعنى: فَبِأَنْ يقول: ليس كمَا تقول، وقد أخطأتَ فيه من وجهِ كذا وكذا.
وأما في قَصدِهِ: فمِثْلُ أن يقول: هذا الكلام حقٌّ، ولكن ليسَ قصدَك منهُ الحق، وإنما أنتَ فيهِ صَاحبُ غَرَض، وما يَجرِي مجراه.
وهذا الجنسُ إنْ جَرَى في مسألةٍ علميةٍ رُبما خُصَّ باسمِ الجدل، وهو أيضًا مذموم، بل الواجبُ السكوت أو السؤالُ في مَعرِضِ الاستفادةِ لا على وَجهِ العنادِ والإنكارِ، أو التَّلَطُّفُ في التعريفِ لا في مَعرِضِ الطَعن.
وَأما المُجادَلة: فعبارةٌ عن قصدِ إفحامِ الغيرِ وتعجِيزه وتَنقِيصه بالقدحِ في كلامِه، ونِسبَتِه إلى القصورِ والجهلِ فيه.
وآيةُ ذلك أنْ يكونَ تنَبيهُهُ للحقِّ مِن جهةٍ أُخرَى مَكروهًا عندَ المُجادل، يُحبُّ أنْ يكونَ هُوَ المُظهِرَ له خطأَه، ليُبيِّنَ به فضلَ نفسِه ونَقصَ صاحِبه، ولا نجاةَ من هذا إلا بالسكوتِ عن كلِّ ما لم يَأثَم بهِ لو سَكتَ عَنه.
وأمَّا البَاعِثُ على هذا فهو الترَفُّعُ بإظهارِ العلمِ والفضلِ، والتَّهجُّمُ على غيرهِ بإظهارِ نقصِه، وهُمَا شَهوتَانِ بَاطِنَتانِ للنفسِ قَويَّتانِ لهَا.
أمَّا إظهارُ الفضل فهُوَ مِن قبيلِ تَزكيَةِ النفس، وهي مِن مُقتَضَى مَا في العبدِ مِن طُغيانٍ بدَعوَى العُلُوِّ وَالكِبريَاءِ، وَهذِهِ مِن صِفاتِ الرُّبوبِيَّة.
وأما تَنقِيصُ الآخر فَهُوَ مِن مُقتَضَى طَبعِ السَّبُعِيَّة، فإنه يقتضِي أنْ يُمزِّقَ غيرَهُ ويَقصمَه ويصدمَهُ ويؤذِيَهُ.
وهاتان صفتان مَذمومَتانِ مُهلِكتان، وإنما قوتُهما المِراءُ والجدالُ، فالمُواظبِ على المِراءِ والجدالِ مُقَوٍّى لهذهِ الصفات المُهلِكة، وهذا مُجاوزٌ حدَّ الكراهِية، بل هو مَعصيةٌ مهما حصلَ فيه إيذاءٌ للغير، ولا تَنفكُّ المُمارَاةُ عن الإيذاءِ وتَهييجِ الغَضبِ وحَملِ المُعترَضِ عَليهِ أنْ يَعودَ فَينتَصِر لكَلامِه بما يُمكِنُه من حقٍّ أو باطلٍ، ويَقدحُ في قائلِه بكلِّ ما يُتَصوَّر له، فَيثُورُ الشجارُ بين المُتمارِيين كمَا يَثُورُ الهِراشُ بين الكلبين، يَقصِدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يَعَضَّ صاحِبَه بمَا هو أعظَمُ نِكايَة، وأقوَى في إفحامِه وإلجامِه.
فإنْ قُلت: فإذا كان للإنسانِ حقٌّ فلابد من الخصومةِ في طلبهِ أو في حِفظهِ مهما ظلمَه ظالم, فكيف يكونُ حُكْمُهُ؟ وكيف تُذَمُّ خصومَته؟
فاعلم أنَّ هذا الذَّمَّ يَتناوَل الذِي يخاصمُ بالباطلِ والذي يُخاصِمُ بغيرِ عِلم, ويَتناوَل الذي يَمزَحُ بالخُصومَةِ بكلماتٍ مُؤذِية ليسَ يُحتاجُ إليها في نُصرَةِ الحُجة وإظهارِ الحقِّ, ويَتناوَل الذِي يَحمِلُه على الخُصومَةِ مَحْضُ العِنادِ لقَهرِ الخَصم.
أمَّا إذا كانَ الجِدالُ والمِراءُ في سبيلِ الشيطانِ, والدَّعوةِ إلى البَاطِل وإعلاءِ رايَةِ الفسَاد, وتبَنِّي مَصالِح المُبطِلين, ومُناصَرةِ الظَّلَمَةِ والمجرمين؛ فإنهما عندئذٍ من أبشَعِ أنواعِ الجرائم وأقبحِ ضروبِ المَعاصِي, ولا يَشُكُّ عاقلٌ في أنهما مِن كبائرِ الإثمِ وعظائمِ الذنوب.
وقد أكثر القرآنُ المجيدُ من التنديدِ والتهديدِ والوعيد لكلِّ مَن يتخذُ عِلْمَه ولسانَه ومَواهِبَه في خدمَة الباطلِ وأهلِه, وفي سبيلِ طُغيانِ الشرِّ وجنودِه, قال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا} [الكهف: 56].
وأما المظلومُ الذي ينصُرُ حُجَّتَه بطريقِ الشرعِ من غيرِ لَدَدٍ وإسرافٍ وزيادة لَجَاجٍ على قدرِ الحاجة، من غيرِ قصدِ عنادٍ وإيذاء، ففعلُه ليسَ بحرامٍ، ولكِن الأَوْلَى تركُه مَا وجد إليهِ سبيلَا، فإنَّ ضبطَ اللسانِ في الخصومَةِ على حدِّ الاعتدالِ مُتعَذِّر.
فهذه الآفةُ العظيمةُ التي ضُرِبَت بها المجتمعاتُ الإسلاميةُ سَببٌ لِمَا يَقعُ فيها مِن التحرِيشِ والاختلافِ والفَوضى, وصارَ لكلٍّ وجهةٍ, وصارَ الناسُ مختلفين, صاروا عِزِين, وكلٌّ يَنصُرُ رَأيَه لَا يَحيدُ عنَ رَأيِهِ ولو كانَ خَطأُهُ واضِحًا, وزَيفُهُ لائحًا.
ولكنْ لو أنَّ الأمرَ عادَ إلى كتابِ اللهِ وإلى سُنَّةِ نبيِّه ﷺ؛ لوَقعَ الائتلَافُ وَلَحَلَّت الأُلفَة, ولَرُفِعَ النِّزَاعُ, ولَعَادَت الأُمورُ إِلَى طَبائعِهَا الشرعيةِ كمَا ينبغي أنْ تكُونَ في المُجتمَعِ الذي يتمَسَّكُ بهِدايَةِ الكتَابِ العَزيزِ وَالسُّنَّةِ المُشَرَّفَةِ.
علاج هذه الأداء مبنيٌّ على أنْ: ((يَكْسِرَ الْكِبْرَ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى إِظْهَارِ فَضْلِهِ، وَالسَّبْعِيَّةَ الْبَاعِثَةَ لَهُ عَلَى تَنْقِيصِ غَيْرِه)).
فإنَّ علاجَ كلِّ عِلَّةٍ بإماطةِ أسبابِها، وسببُ المراءِ والجدالِ ما ذُكِر، ثم المواظبةُ عليه تجعلُهُ عادةً وطبعًا، حتى يتمكنَ من النَّفْسِ ويَعْسُر الصبرُ عنه.
رُوي أنَّ أبا حنيفة -رحمة الله عليه- قال لداود الطائي: ((لِمَ آثرت الانزواء والعُزلة؟
قال: لأجاهد نفسي بتركِ الجدال.
قال له أبو حنيفة: احضُر المجالس، واستمع ما يُقال، ولا تتكلم.
قال داود: ففعلت ذلك، فما رأيتُ مجاهدةً أشدَّ عليَّ منها)).
وهو كما قال؛ لأنَّ مَن سمعَ الخطأَ من غيره، وهو قادرٌ على كَشْفِهِ؛ تعسَّرَ عليه الصبر عن ذلك جدًا
ولذلك قَالَ ﷺ: ((مَنْ تَرَكَ المراءَ وهو مُحِقٌّ؛ بُنيَ له بيتٌ في وسطِ الجنة))؛ لشدةِ ذلك على النفس، وأكثرُ ما يغلبُ ذلك في المذاهبِ كما هو معلومٌ في تقريرِ الحُجَجِ والعقائد، فإنَّ المراء طَبْع، فإذا ظنَّ أنَّ له عليه ثوابًا؛ اشتد عليه حِرْصُهُ، وتعاونَ الطبعُ والشرعُ عليه، وذلك خطأٌ مَحض، بل ينبغي للإنسان أنْ يكفَّ لسانَهُ عن أهل القبلة، وإذا رأى مبتدعًا؛ تلطفَ في نُصحهِ في خلوةٍ؛ لا بطريق الجدال؛ فإنَّ الجدالَ يُخَيِّلُ إليه أنها حيلةٌ منه في التلبيس، وأنَّ ذلك صَنعةٌ يقدر المجادلون مِن أهلِ مذهبِهِ على أمثالِها لو أرادوا، فتستمر البدعةُ في قلبِه بالجدلِ وتتأكد، فإذا عرف أنَّ النصح لا ينفع؛ اشتغل بنفسه وتركه، وإذا كان داعيةً إلى بدعتِهِ فلابد أنْ يَحَذِّرَ منه وأنْ يُشَهِّرَ به وأن يُنَفِّرَ عنه.
وكلُّ مَن اعتاد المجادلةَ مُدةً، وأثنى الناس عليه، ووجد لنفسِهِ بسببه عزاً وقبولًا؛ قويت فيه هذه المُهلكات، ولا يستطيع عنها نزوعًا، إذ اجتمع عليه سلطان الغضب، والكبر، والرياء، وحُب الجاه، والتعزُّزِ بالفضل، وآحادُ هذه الصفات؛ يشق مجاهدتها، فكيف بمجموعِها؟!!
وقال أبو عمر بن عبد البر -رحمهُ اللهُ-: ((روى سعيد بن المُسَيِّبِ وأبو سلمة عن أبي هريرة -رضيَ اللهُ عنهُ- عن النبي ﷺ أنه قال: ((المراءُ في القرآنِ كُفْر)).
والمعنى: أنْ يتمادى اثنان في آيةٍ يجحدُها أحدُهما ويدفعُها أو يصيرُ فيها إلى الشك؛ فذلك هو المراءُ الذي هو الكُفر، وأما التنازعُ في أحكامِ القرآن ومعانيه؛ فقد تنازع أصحابُ رسول الله ﷺ في كثيرٍ من ذلك، وهذا يُبين لك أنَّ المراءَ الذي هو كُفْر؛ هو الجحود والشك، كما قال -عزَّ وجَلَّ- {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [الحج: 55].
ونَهَى السلفُ -رحمهم اللهُ- عن الجدالِ فيه والتناظر؛ لأنه عِلْمٌ يُحتَاجُ فيه إلى ردِّ الفروعِ على الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك؛ لأن الله -عزَّ وجَلَّ- لا يُوصف إلا بما وصفَ به نفسَهُ أو وصفه به رسولُ ﷺ.
وقد صف الراغب -رحمهُ اللهُ- سبيلَ التعامل مع أهل اللَّجاج لا الحِجَاج، و مع أهل المراءِ والعناد فقال:
((إذا ابتُليت بمُهارشٍ مُماحكٍ مناوشٍ، قصدُهُ اللَّجاجُ لا الحِجَاجُ، ومراده مناوَأَةُ العلماء، ومماراة السفهاء، كما قال النبي ﷺ: ((مَن تعلم العلم ليُباهيَ به العلماء، ويُماريَ به السفهاء،ويصرف به وجوهَ الناس، أدخله الله جهنَّمَ)).
قال الشاعر:
تراهُ مُعِدًّا للخلافِ كأنه بردٍّ على أهلِ الصوابِ موكّلُ
فحقُّكَ أن تفرَّ منه فرارَك من الأساودِ و الأسودِ، فإنْ لم تجد من مزاولتِهِ بُدًّا؛ فكابر إنكاره الحقَّ بإنكاركَ الباطلَ، ودفاعَهُ الصدقَ بدفاعِكَ الكذبَ، معتبرًا في ذلك قوله تعالى:
{وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [ النمل: 50].
و قوله تعالى: {وَمَكَرَ اللهُ} [ آل عمران: 54].
و قوله تعالى حكايةً عن المنافقين: {إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14-15].
وكذلك انظر في قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5].
وبَالِغ في ذلكَ معهُ، وإياك أن تُعرِّجَ معه إلى بثِّ الحكمةِ، وأن تَذْكَرَ له شيئًا من الحقائقِ ما لم تتحقَّق له قلبًا طاهرًا لائقًا للحكمةِ، و قد قال ﷺ كما في ((الصحيحين)): ((لا تدخل الملائكة بيتًا في كلبٌ)).
فإنَّ لكلِّ تربةٍ غرسًا، ولكلِّ بناءٍ أُسًّا، وما كلُّ الرءوسِ تَسْتَحِقُّ التِّجان، ولا كلُّ طبيعةٍ إفادةَ البيانِ .
و إن كانَ لا بُدُّ فاقتصر معه على إقناعٍ يبلُغُه فهمُهُ، فقد قيل: ((كما أنَّ لُبَّ الثمارِ مباحٌ للنَّحلِ، و التِّبْنَ معدودٌ للأنعامِ، كذلكَ لبُّ الحكمةِ مُعَدٌّ لذوي الألباب وقشورها مجعولةٌ للأنعامِ، وكما أنَّ مِنْ المُحالِ أن يَشُمَّ الأخشمُ ريحانًا؛ فمحالٌ أن يفيدَ الحمارُ بيانًا)).
وقد فصل الخطيب -رحمهُ اللهُ- آداب المجادل وآداب الجدال؛ فقال:
فالعلماءُ مِن سَلفِنا -رحمةُ اللهِ عليهم- لم يَدَعُوا هذا الباب مِنْ غيرِ بيانٍ وتقعيدٍ لقواعدِهِ وتأصيلٍ لأصولِهِ، وتَلْحَظُ أنَّ مدارَ الأمرِ على كلمةٍ واحدةٍ هي الإخلاص، فلو أنَّ الإنسانَ أَخَلَصَ للهِ ظاهرًا وباطنًا، وَرَاعَى اللهَ –تباركَ وتعالى- بقَصْدِهِ ونِيَّتِهِ، ثم ضَبَطَ ذلك على ميزانِ الشَّرْعِ الأغرِّ؛ بمَا جاءَ به رسولُ اللهِ ﷺ؛ لاستقامت أمورهُ كُلُّهَا، فهذا كالميزانِ العام، يَزِنُ به كلَّ ما يَعرِضُ له، أنْ يكونَ العملُ للهِ خالصًا.
ولذلك قالَ سُفيان: ((ما عالجتُ شيئًا كانَ أشدَّ عليَّ مِن نِيَّتِي، وكانوا يُعَلِّمُونَنَا النِّيَّةَ كَمَا يُعَلِّمُونَنَا السُّورةَ مِن القُرآن)).
فهذا الهَرْجُ الذي تراهُ، وهذا الاختلاطُ الذي تَسْمَعُهُ؛ هل أُسِّسَ على أنْ يكونَ للهِ خالصًا، وأنْ يكونَ على ما جاءَ به النبيُّ ﷺ سائرًا؟
هذا سؤالٌ يحتاجُ إلى جواب!!
فعلى الإنسانِ أنْ يبدأَ بِنَفْسِهِ وأنْ يَضبطَ حركةَ حياتِهِ، وأنْ يَضبطَ نِيَّةَ قَلْبِهِ، وأنْ يَتَّقِيَ اللهَ ربَّ العالمينَ في آخرتِهِ، فالكُلُّ مُوقِنٌ أنه سيموت، ولكنْ هل يَعملُ لهذا اليقينِ عملًا صحيحًا، ما رأيتُ يقينًا لا شكَّ فيه أشبهَ بشكٍّ لا يقينَ فيه مِنْ المَوت؛ لأنَّ الناسَ كلَّهم مُوقنونَ أنهم سيموتون بَغْتَةً؛ بمعنى أنهم لا يعلمونَ وقتَ مماتِهم ولا يُحَدِّدُونَ ساعةَ وفاتِهم، ولكنَّهم موقنونَ أنهم سيصيرون إلى الترابِ، ولكنْ مَنْ مع هذا اليقين يعملُ له عَمَلَ مَنْ سيموت، ومَن هو على يقينٍ مِن الموتِ؟!
نحنُ في الحقيقةِ بمَبْعَدةٍ عن حقائقِ الشرعِ الأغَرِّ.
وينبغي على المسلمينَ إذا أَرَادوا أنْ يُعيدوا العِزَّ السليبَ، وأن يجعلوا إلى ما كان عليه سَلَفُهم الأوائل؛ ينبغي عليهم أنْ يجتهدوا في الرجوعِ إلى ما سارَ به السابقونَ من المُفلحين.
وإنَّما عزَّ مَن سَبَقَ بالإخلاصِ والمتابعة، بالإخلاصِ للهِ ربِّ العالمين ومتابعةِ النبيِّ الأمين، ولن يُصِلَحَ آخرَ هذه الأمة إلا ما أَصْلَحَ أوَّلَها، كما قال إمامُ دارِ الهجرة مالكُ بن أنس –رحمه الله رحمةً واسعة: ((لن يّصْلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صَلُحَ به أوَّلَها)).
وإنما صَلُحَ أوَّلُها على اليقين والمتابعة؛ على الإخلاصِ لله ربِّ العالمين ومتابعةِ النبي الأمين، فلا شِرك ولا بدعة؛ لأنَّ الإخلاصَ لا يُجامعه الشركُ بحال، وكذلك السُّنَّة والاتباع لا يمكنُ أنْ يُجامعَ البدعةَ بحال.
فلابد من التخلُّصِ مِن الشركِ ظاهرًا وباطنًا، ولابد من التخلُّص من البدعةِ ظاهرًا وباطنًا، فيُحقِّق المرءُ بذلك الإخلاصَ والمتابعة لرسول الله ﷺ.
إذا وقع ذلك نهضت الأمةُ مِن كبوتِها وانطلقت قائمةً من عَثرتِها واستقامت أقدامُها على سبيلِ المجدِ والعزِّ الذي خُلِقت له، لكنَّها في هذا العصرِ لم تُحقِّقه؛ لأنها أهملت أسبابَه ولم تلتفت إلى بواعثهِ، فَضَلَّت أقدامها هاهنا وهناك، وهي اليوم مُهددةٌ في سويدائِها؛ بتغييرِ شريعتِها ودينِها، فإنَّ المقصدَ الآن أنْ ينجحَ التنويرُ، ومعنى أنْ ينجحَ التنويرُ؛ أنْ يذهبَ الإسلام؛ لأنه عند هؤلاء المُنوِّرين الظَّلاميين إنما هو من الرَّجعية، ومن الأمورِ البائدة التي تجاوزتها العصورُ الحاضرة، وشَرْطُ التقدُّمِ عندهم: هو أنْ يكون على وَقْعِ نِعالِ الغرب المتقدم؛ أنْ يُطلَّقَ الإسلامُ دينُ الأمة من هذه الأمة، بحيث لا يعود إليها ولا بمُحَلِّلٍ، فهذا ينبغي أنْ يكونَ واضحًا عند كلِّ مُسلمٍ؛ لأنه على ثغرٍ من ثغورِ الإسلام فليحذر أنْ يُؤتى الإسلامُ مِنْ قِبَلِهِ، وإلى اللهِ تعالى المُشتكى.
لاَ تُفْنِ عُمْرَكَ في الْجِدَالِ مُخَاصِمًا إِنَّ الْجِدَالَ يُخِلُّ بِالأَدْيَانِ