وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإن من أعظمِ آفات اللسان: الكلام فيما لا يعني:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ)).
أخرجه الترمذيُّ وابن ماجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأخرجه أحمد والطبرانيُّ في (الكبير) عن الحسين ابن علي -رضي الله عنهما-، وصححه الألبانيُّ في (صحيحِ الجامع) وغيرُه.
وهذا الحديثُ العظيم: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ)) أصلٌ كبيرٌ في تأديبِ النفس وتهذيبها، وتركِ ما لا جدوى فيه ولا نَفْع.
قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: ((هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي مُحمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانهِ أنه قال: جِماعُ آدابِ الخير وأزِمَّتُه تتفرعُ من أربعة أحاديث:
قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليَصْمُت)).
وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ))
وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- للذي اختصر له الوصية: ((لا تغضب)).
وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((المؤمن يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)).
وهذا الحديث قد ورد معناه في الكتاب والسُّنة من غير وجه.
من مظاهر حُسنِ إسلامِ المرء ومن أدلةِ كماله، وصِدقِ إيمان صاحبه، والتزامهِ بدينِ ربِّه -جلَّ وعلا- قولًا وعملًا، فهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ)).
والمرء: هو الإنسانُ أو الشخص وهو شاملٌ للذكر والأنثى، ((ترْكُه)): أي ابتعاده قبل وقوعه فيما لا يعنيه وذلك بالتوقِّي منه، وأيضًا بعد وقوعه فيه وذلك بالتوبةِ منه، ((ما لا يعنيه)): أي ما لا يُهمُّه أو ينفعه في دينه ودنياه من الأقوالِ والأعمال.
وقد عدَّ حمزةُ الكنانيُّ هذا الحديث العظيم ثُلُثَ الإسلام.
كما عدَّه أبو داوود أحدَ أحاديث أربعة يدورُ عليها العلم.
وذكر ابن القيم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ الورعَ كله في هذا الحديث.
وعدَّ بعضُ العلماءِ هذا الحديث من جوامعِ كَلِمِ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- التي لم يَصح نظيرها عن أحدٍ قبله؛ لأنه جمع نِصفَ الدين؛ لأن الدين فعلٌ وتَرْك، وقد نص على التَرْك، وقال بعضهم لقد جمع الدين كله؛ لأنه نصَّ على التَرْك ودلَّ على الفعل.
وقال ابن القيم: ((فهذا يعمُّ التَرْكَ لِمَا لا يعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه كلمةٌ كافية في الورع: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ)).
ومعني قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ)): أنَّ مَن حَسُنَ إسلامُه؛ تَرَكَ ما لا يعنيه من قولٍ وفِعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال؛ ومعنى يعنيه: أنْ تتعلقَ عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه.
والعنايةُ: شدة الاهتمام بالشيء، يُقال: عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه يتركُ ما لا عناية له به ولا إرادة بحُكمِ الهوى وطلب النفس، بل بحُكمِ الشرعِ والإسلام؛ ولهذا جعله من حُسْنِ الإسلام، فإذا حَسُن إسلام المرء، تَرَكَ ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال.
فإنَّ الإسلامَ يقتضي فعل الواجبات، وإنَّ الإسلامَ الكامل الممدوح يدخلُ فيه ترك المحرمات، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمون من لسانهِ ويده)). متفقٌ عليه.
وإذا حَسُنَ الإسلام، اقتضى تَرْكُ ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضولِ المباحات التي لا يحتاج إليها، فإنَّ هذا كله لا يعني المسلمَ إذا كَمُل إسلامه، وبلغ إلى درجةِ الإحسان، وهو أنْ يعبدَ اللهَ تعالى كأنه يراه، فإنْ لم يكن يراه، فإنَّ اللهَ يراه.
فمن عَبَدَ الله على استحضار قُربهِ ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قُرِبِ اللهِ منه واطلاعه عليه؛ فقد حَسُنَ إسلامُه، ولَزِمَ من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين: الاستحياء من الله وترْك كل ما يُستحيا منه.
قال بعضهم: ((استحي من الله على قدر قُربِه منك، وخَف اللهَ على قدْرِ قدرته عليك)).
وقال بعض المحققين: ((إذا تكلمتَ، فاذكر سمعَ الله لك، وإذا سكتَ، فاذكر نظرَهُ إليك)).
وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كثيرة:
كقوله -تعالى- :{ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}] ق: 18]
وأكثر ما يُراد بتَرْكِ ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في سورة ]ق[: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}
قال مُورِّقٌ العجليُّ: ((أمرٌ أنا في طلبهِ منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه، ولستُ بتاركِ طلبِهِ أبدًا.
قالوا: وما هو؟
قال: الكفُّ عما لا يعنيني)).
وقال الحسن: ((من علامةِ إعراضِ اللهِ تعالى عن العبد؛ أن يجعلَ شُغلَهُ فيما لا يعنيه)).
وقال سهل بن عبد الله التُّستري :((من تكلمَ فيما لا يعنيه، حُرِمَ الصدق)).
وقال غيره: ((كلامُ العبد فيما لا يعنيه خذلانٌ من الله -جلَّ وعلا- للعبد)).
وقال الأوزاعي: ((كتب إلينا عمرُ بن عبد العزيز-رحمه الله-: أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت رضيَ من الدنيا باليسير، ومن عدَّ كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه)) .
وقد يتكلم المرءُ فيما هو مباح لا ضرر عليه فيه ولا على مسلمٍ أصلًا، إلا أنه تتكلم بما أنت مُستغنٍ عنه ولا حاجةَ به إليه، فهو بهذا مضيعٌ به زمانه، وهو محاسبٌ على عملِ لسانهِ، ومستبدلٌ الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأنه لو صرف زمان الكلام إلى الفكر؛ ربما كان ينفتح له من نفحات رحمات الله عند الفكر ما يعظم جدواه، ولو هلل الله سبحانه وذكره وسبحه لكان خيرًا له فكم من كلمةٍ يبنى بها قصرًا في الجنة، واللسان شبكةٌ يقدر أن يقتنصَ بها الحور، فإهماله ذلك وتضييعه خسرانٌ مبين، ومن قَدَرَ على أن يأخذَ كنزًا من الكنوز فأخذ مكانه مدرًا أو حجارةً لا ينتفعُ بها كان خاسرًا خسرانًا مبينًا.
وحدُّ الكلام فيما لا يعنيك:
أن تتكلم بكلام لو سكتَ عنه لم تأثم ولم تستضرَّ به في حالٍ ولا مئال، مثاله: أنْ تجلسَ مع قوم؛ فتذكر لهم أسفارك وما رأيتَ فيها من جبالٍ وأنهار، وما وقعَ لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمةِ والثياب, فأنت إذا بالغتَ في الاجتهادِ، حتى لا يمتزجَ بحكايتك زيادةٌ ولا نُقصان ولا تزكيةُ نَفْسٍ؛ فأنت مع ذلك مُضيعٌ لزمانك, وأنَّى تَسلم من الآفات!
ومن جملتها؛ أي ومن جملة الآفات التي لا يُسلم منها:
أن تسأل غيرك فيما لا يعنيك, فأنت بالسؤال مضيعٌ وقتك، وقد ألجأت صاحبكَ بالجواب إلى التضييع، هذا إذا كان الشيءُ مما يتطرقُ إلى السؤال عنه آفة، وأكثرُ الأسئلةِ فيها آفات.
فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلًا؛ فتقول له: هل أنت صائم?
فإنْ قال نعم، كان مُظهِرًا لعبادته، فيدخلُ عليه الرياء، وإنْ لم يدخل، سقطت عبادتُه من ديوان السِّرِّ، وعبادة السِّرِّ تفضل عبادة الجهر بدرجات.
وإن قال: لا، كان كاذبًا.
وإن سكت كان مستحقرًا لك وتأذيت به إذ لم يجيبك ولم يرُد عليك.
وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه.
فقد عرَّضته بالسؤال إما للرياءِ أو للكذبِ أو للاستحقارِ أو للتعبِ في حيلةِ الدَّفع، وكذلك سؤالك عن سائر عباداته.
عن مجاهد قال: ((سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: خمس لهن أحسن من الدُّهْم الموقوفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك؛ فإنه فَضْل ولا آمن عليك الوِزر، ولا تتكلم فيما يعنيك؛ حتى تجد له موضعًا، فإنه رُبَّ مُتكلمٍ في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فيعنت، ولا تُمار حليمًا ولا سفيهًا، فإنَّ الحليم يَقليك -أي يبغضك- وإنَّ السفيهَ يؤذيك، واذكر أخاك إذا تغيَّبَ عنك بما تحب أن يذكرُك به، وأعفه مما تحب أن يُعفيّك منه، واعمل عَمَلَ رجل يرى أنه يجازى بالإحسان وانه مأخوذ بالإجرام)).
قال مُوِّرقٌ العجلي: ((أمرٌ أنا اطلبه منذ عشر سنين فلم أقدر عليه ولست بتارك طلبه.
قالوا: ما هو يا أبا المعتمر?
قال: الصمت عما لا يعنيني)).
ففيه مشقة، وهؤلاء من السابقين، الذين جعل الله -تبارك وتعالى- لهم قدم صدقٍ في العلم والعمل والدعوة إلى دين الله -جل وعلا- ،وهم مع ذلك يُصرِّحون بعظم المشقة في ألا يتكلموا إلا فيما يعنيهم، وهم مع ذلك يُقرُّون بإخفاقهم وفشلهم مع إصرارِهم على الوصول إلى ما يُرضيهم.
((قالوا: وما هو يا ابا المعتمر?
قال: الصمت عما لا يعنيني)).
يحاولُ ويزاولُ عشر سنين فلا يصل من ذلك إلى ما يُرضيه.
قال أبو جعفر محمد ابن علي: ((كفى عيبًا أن يبصرَ العبدُ من الناس ما يَعمى عليه من نفسه، وأن يؤذيَ جليسه فيما لا يعنيه)).
وعن زيد بن أسلم قال: ((دُخل على ابن أبي دجانة وهو مريض، ووجهه يتهلل، فقال: ما من عملي شيءٌ أوثقَ في نفسي من اثنتين: لم أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا)).
وهذا الحديثُ الذي مرَّ يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حُسنِ إسلامه، فإذا ترك ما لا يعنيه، وفعل ما يعنيه كله، فقد كمُل حُسْنُ إسلامه، وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسُن إسلامه، وأنه تضاعف حسناته، وتكفر سيئاته، والظاهر أنَّ كثرةَ المضاعفة تكون بحسَبِ حُسْنِ الإسلام.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال:
((إذا أحسنَ أحدكم إسلامَه، فكلُّ حسنةٍ يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكلُّ سيئةٍ يعملها تكتب بمِثلِها حتى يلقى الله -عزَّ وجَلَّ-)). متفقٌ عليه.
فالمضاعفةُ للحسنة بعشرِ أمثالها لابد منه، والزيادةُ على ذلك تكون بحسبِ إحسانِ الإسلام، فليس كلُّ من أتى بحسنة كان له سبعمائة ضِعفٍ، وإنما يكونُ ذلك لمَن أحسنَ إسلامَه، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((إذا أحسن أحدُكم إسلامَه، فكلُّ حسنةٍ يعملُها تُكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكلُّ سيئةٍ يعملُها تُكتب بمِثلها حتى يلقى الله -عزَّ وجَلَّ-))
فالمضاعفةُ للحسنةِ بعشر أمثالها لابد منها، والزيادة على ذلك تكون بحسبِ إحسانِ الإسلام، وإخلاصِ النية، والحاجة إلى ذلك العمل وفضلِه، كالنفقةِ في الجهاد، وفي الحجِّ، وفي الأقاربِ، وفي اليتامى والمساكين، وأوقاتِ الحاجةِ إلى النَّفقة.
وعن أبي سعيدٍ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: ((إذا أسلمَ العبدُ فحَسُنَ إسلامُهُ، كَتبَ الله له كُلَّ حَسنةٍ كان أزلَفَها، ومُحِيتْ عنه كُلُّ سيئة كان أزلَفَها، ثم كان بَعْدَ ذلك القِصَاصُ، الحسَنَةُ بِعَشْرِ أمثالِها إلى سَبعمائةِ ضِعفٍ، والسَّيِّئَةُ بمِثلِها إلَّا أنْ يتجاوَزَ الله)). أخرجه النسائي وصححه في ((صحيح سنن النسائي)).
المرادُ بالحسناتِ والسيئات التي كان أزلفَها: ما سبقَ منه من الحسناتِ والسيئاتِ قبل أن يُسْلِمَ، وهذا يدلُّ على أنَّه يُثابُ بحسناتِهِ في الكُفرِ إذا أسلَم وتُمحَى عنه سيئاتُه إذا أسلم، لكنْ بشرطِ أنْ يَحْسُنَ إسلامُه، ويتقي تلك السيئاتِ في حالِ إسلامِه، فحينئذ يُثابُ بحسناتِهِ في الكُفر -يعني التي عَملِها قبل أن يسلم- وتُمحى عنه سيئاته إذا أسلم، ويدلُّ على ذلك حديثُ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنؤاخذُ بما عَمِلنا في الجاهلية؟
قال: ((أمَّا مَنْ أحسَنَ منكم في الإسلامِ؛ فلا يُؤَاخَذُ بها، ومن أساءَ أُخِذَ بعملهِ في الجاهليةِ والإسلام)). متفق عليه.
وقد قِيل: إنَّ حسناتِه يُثابُ عليها، وأمَّا سيئاتُهُ التي كانت في الشِّركِ فإنَّها تُبدَّل حسنات، ويُثابُ عليها أخذًا من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان 68-70]
واختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين:
*فمنهم مَنْ قال: هو في الدنيا بمعنى أنَّ اللهَ يُبَدِّلُ مَن أسلمَ وتابَ إليه بَدَلَ ما كان عليه من الكُفرِ والمعاصي، الإيمانَ والأعمالَ الصالحة.
*وقال آخرون: التبديلُ في الآخرة، جُعلت لهم مكانُ كل سيئةٍ حسنة، فالتائبُ يُوقَفُ على سيئاتِه ثم تُبدَّلُ حسنات.
وعن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه-، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-قال:
((إنِّي لأعْلَمُ آخِرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولاً الجنَّة، وآخِرَ أهلِ النار خروجاً منها، رجلٌ يُؤتَى به يوم القيامةِ.
فيُقال: اعرضُوا عليه صِغارَ ذنوبه، وارفَعُوا عنه كِبارَهَا، فيعْرِضُ الله عليه صِغَارَ ذنوبهِ.
فيقال له: عَمِلْتَ يوم كذا وكذا؛ كذا وكذا، وعَمِلْتَ يوم كذا وكذا؛ كذا وكذا.
فيقول: نعم، لا يستطيعُ أنْ يُنكر وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه أنْ تُعرضَ عليهِ.
فيقال له: فإنَّ لك مكانَ كُلِّ سيئةٍ حسنةً.
فيقول: يا ربِّ قد عمِلْتُ أشياء لا أراها هاهنا.
قال أبو ذر -رضي الله عنه-: فلقد رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ضَحِكَ حتَّى بدتْ نواجذُهُ)). أخرجه مسلم.
فإذا بُدِّلَت السيئاتُ بالحسَنات في حقِّ من عوقِبَ على ذنوبهِ بالنار كما في حالِ ذلك الرجل، الذي هو آخرُ أهلِ النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولًا فيها.
إذا بُدِّلَت السيئاتُ بالحسناتِ في حقِّ من عوقِبَ على ذنوبهِ بالنار، ففي حقِّ مَن مَحا سيئاتِه بالإسلامِ وبالتوبةِ النَّصوح أَوَلَى؛ لأنَّ مَحْوَها بذلك أحبُّ إلى الله من مَحوِها بالعقاب.
فإن قيل: يَلْزَمُ من ذلك أنْ يكونَ مَنْ كَثُرَت سيئاتُه أحسنَ حالًا ممن قلَّتْ سيئاتُهُ.
فيقال: إنَّما التبديلُ في حقِّ مَنْ نَدِمَ على سيئاتِه، وجعلها نُصْبَ عينيه، فكلما ذَكَرَها ازداد خوفًا ووجلًا، وحياءً من الله، ومسارعةً إلى الأعمال الصالحة المُكَفِّرة، كما قال -جلَّ وعلا-: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان 70]
وما ذُكِرَ كُلُّهُ داخلٌ في العمل الصالح ومن كانت هذه حَالَه، فإنَّه يتجرَّعُ مِن مرارةِ الندمِ والأسف على ذنوبهِ أضعافَ ما ذاقَ من حلاوتِها عندَ فِعْلها، ويصيرُ كلُّ ذنبٍ من ذنوبه سببًا لأعمالٍ صالحةٍ ماحيةٍ له، فلا يُستنكرُ بعد هذا تبديلُ هذه الذنوبِ حسنات.
وقد ورَدَت أحاديثُ صريحة في أنَّ الكافرَ إذا أَسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه، تبدَّلت سيئاتُه في الشِّرْكِ حسنات.
فعن شطبٍ الطويل: أنَّه أتى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: أرأيتَ رجلًا عَمِلَ الذنوب كُلَّها، فلم يترك حاجةً ولا داجةً -والحاجةُ هي الحاجة الصغيرة، والدَّاجةُ: هي الحاجة الكبيرة- أرأيتَ رجلاً عَمِلَ الذنوب كُلَّها، فلم يترك حاجةً ولا داجةً، فهل له مِنْ توبة؟
فقالَ: ((أسلمتَ؟))
قال: نَعَمْ.
قال: ((فافعلِ الخيراتِ، واترك السيئاتِ، فيجعلها اللهُ لك خيراتٍ كلَّها)).
قال: وغَدَرَاتي وفَجَرَاتي؟
قال: ((نعم)).
قال: فما زال يُكبِّرُ حتى توارَى.
أخرجه البزَّارُ في ((زوائده)) والطبراني في ((الكبير)) وصححه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب والترهيب)).
أرأيتَ رجلًا عَمِلَ الذنوب كُلَّها، فلم يترك حاجةً ولا داجةً، فهل له مِنْ توبة؟
فقالَ: ((أسلمتَ؟))
قال: نَعَمْ.
قال: ((فافعلِ الخيراتِ، واترك السيئاتِ، فيجعلها الله لك خيراتٍ كلَّها)).
قال: وغَدَرَاتي وفَجَرَاتي؟
قال: ((نعم)).
قال: فما زال يُكبِّرُ حتّى توارَى.
والضابطُ في تحديدِ ما يعني وما لا يعني، هو الشرع المُطَهَّر، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله قاعدةً في ضابط ذلك فقال: ((كلُّ مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوضُ فيها خوضٌ فيما لم يدلَّ على استحسانِه دليلٌ شرعي)).
وما لا يعني الإنسان جزءان:
*جزءٌ في أمور لا تعنيه ولا تهمه من أصلها؛ كشئونِ الآخرين وخصوصياتهم في كيفياتِ معايشِهم، وجهاتِ تحرُّكِهم، ومقدار تحصيلهم من الدنيا.
*وجزءٌ في حاجاتٍ تَهُم الإنسان في أصلها كشئون المعايشِ من الطعامِ والشراب وغيرها، وما لا يعني فيها هو الزيادةُ فيها على قدرِ الحاجة وهو ما يُعرف بفضولِ المُباحات.
ومن الأخطاءِ الشائعة في هذا الباب أنَّ بعض الناس قد يترُك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوى أنَّ هذا مما لا يعنيه، وهذا خطأٌ بَيَّنٌ وفهمٌ خاطئ لهذا الحديث الشريف، ولذلك خشيَ الصديق –رضي الله تعالى عنه- مثل هذا اللبْس في الفهم، فصعد المنبر وقال:
((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ:} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ {المائدة 105، وإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا ظَّالِمَا فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ منه)).
أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه وصححه الألبانيُّ وغيره.
وقوله: ((لا يعنيه)): أي لا يَهُمُّه شرعًا، قولًا كان هذا الشيء أو فعلًا محرمًا كان أو مكروهًا أو مباحًا، وذلك ما دام هذا الشيء زائدًا عن حاجته مما لا تدعوا إليه حاجة، وهذا هو الفضول كُله على اختلافِ أنواعه.
والمقصود بالعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يُقال: عناه الأمر يعنيه إذا احتاج إليه وتعلقت عنايتُه به، وكان من مطلوبهِ ومقصوده.
وفي القرآن المجيد: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وقُرِأ {يعنيه}؛ أي له شأن لا يُهمُّه معه غيره.
والفِعل أصله من (عنى) الذي يدل على القصد للشيء بانكماشٍ فيه وحرصٍ عليه.
وفي لفظِ الحديث اكتفاءٌ بذِكر التركِ عن الفعل، لكنَّ المقصود يتعدى إلى فعلهِ ما يعنيه كذلك، وفيه إشارة إلى أنَّ الشيء من القول أو الفعل إمَّا يعني الإنسان أو لا وعلى كلً إمَّا أنْ يتركَه أو يفعلَه، فصارت الأقسام بذلك أربعة:
القسم الأول والثاني: فِعل ما يعني، وتَرْكُ ما لا يعني، وهما حسنان.
القسم الثالث والرابع: تَرْكُ ما يعني، وفعل ما لا يعني، وهما قبيحان.
والذي يعني الإنسان قسمان:
*قسمٌ يتعلق بضرورة حياته في معاشهِ مما يُشبعه من جوع، ويرويه مِن عطش، ويسترُ عورتَه، ويُعِفُّ فَرْجَه ونحو ذلك مما يدفعُ الضرورة دون ما فيه توسعٌ في الملذات واستكثارٌ منها، وهذا القسم لا شكَّ في أنَّه مما يعني الإنسان وصلاحهُ وسيلةٌ لصلاحِ الآخرة.
*وقسمٌ يتعلق بسلامتهِ في معاده، وهو الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ والإخلاص، وهذا القسم لا شك في أنَّه أهمُّ ما يعني الإنسان.
فهذان القسمان هُما ما دعا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الحرص عليه بقوله: ((احرص على ما ينفعك))، فإذا فعل الإنسان ما يعنيه واقتصرَ عليه؛ سَلِمَ من سائر الآفات، وجميع الشرور والمخاصمات، وكان ذلك دالًا على حُسْنِ إسلامِه، ورسوخِ إيمانِه، وحقيقةِ تقواه، ومجانبتِه لهواه، لاشتغالهِ بمصالحهِ الأُخرَويَّة، وإعراضِه عمَّا لا يعنيه من الأمورِ الدنيوية.
وقيل في ضابط ما يعني الإنسان وما لا يعنيه:
*الذي يعنيه: هو الذي يعود عليه منه منفعة لدينه أو لدنياه المُوصِلَةِ لآخرته.
*وما لا يعنيه: ما لا يعود عليه منه منفعة لدينه ولا لدنياه المُوصِلَةِ لآخرته.
وهذا شاملٌ لجميع أنشطة الإنسان وأعماله من الأقوال والأفعال، كما أنَّه شاملٌ للمحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات، التي لا يَحتاج إليها، وكلها مما يحاول الشيطانُ إيقاعَ العبدِ فيه متدرجًا من الأشدِّ إلى الأخَف.
قال النووي: ((واعلم أنه ينبغي لكلِّ مُكلَّفٍ أنْ يحفظَ لسانَه عن جميعِ الكلام إلا كلامًا فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة؛ فالسُّنَّةُ الإمساكُ عنه؛ لأنه قد يَنجَرُّ الكلام المباح إلى حرامٍ ومكروهٍ، وذلك كثيرٌ في العادة، والسلامةُ لا يَعدلُها شيء)).
والضابطُ لتركِ ما لا يعني هو الشرعُ فحسب، لا اتباع حظوظ النَّفس, فما لا يطلب الشرعُ الاعتناء به فهو مما لا يعني.
فإذا تَرَكَ الإنسان بعض الواجبات أو المستحبات ظانًّا أنَّ هذا مما لا يعنيه؛ فقد أخطأَ وأساءَ واتبعَ هواه, والحديثُ قاعدةٌ عظيمةٌ فيما يأتي الإنسانُ وما يذَر, وفيه تنبيهٌ على الركنِ الأول في تزكيةِ النفسِ وهو جانب التخلية لتَرْكِ ما لا يعني, ويلزم من هذا الركن؛ الركن الثاني وهو التحليةُ بالانشغالِ بما يعني.
وتزدادُ الحاجةُ لفهمِ مِثلِ هذا الحديث والعملِ بمقتضاه في زمنٍ تزاحمت فيه الواجبات وتنازعت فيه الأولويات, وصعبُت فيه الأمور فكانت الخطوةُ الأولى تركيزَ الاهتمامِ فيما ينفع, وتَرْكَ كل ما لا يعني, وهي أولويةٌ تربويةٌ مُلِّحَةٌ في تربية النفس وفي تربية الآخرين.
كما تزدادُ الحاجةُ لإحياءِ العمل بهذا الحديث الشريف, في ظلِّ انتشارِ بعض المشاكل الاجتماعية الناجمة عن عدمِ التحلِّي بهذا الخُلُقِ الكريم الذي أشار إليه هذا الحديث الشريف, وهو أنه لا يخوضُ فيما لا يعنيه.
*فمن هذه المشاكل: انغلاقُ بعض الناس على نفسِه وتفضِيلُه قطعَ صِلَاتِه بإخوانِه المسلمين من الجيرانِ وذوي الأرحام وغيرِهم مخافةَ كثرةِ تدخُّلاتهم وتحرُّشاتِهم بحياته الشخصية, مما أدى إلى وجود نوعٍ من ضعفِ الولاءِ والبِرِّ والصِّلةِ بين أفرادِ المجتمع المسلم.
*ومن هذه المشاكل أيضًا التي نجمت من إهمال التوجيه النبوي السديد في هذا الحديث الشريف: تلك المشاكل التي تكون بين الزوجين بسبب تَدَخُّلِ الآخرين في شؤون الأسرة, وقد يكون هذا التدخُّل أحيانًا من الأبوين الذيْن يسترسلان في السؤال عن شؤون أبنائِهما المتزوجين, ومحاولةِ توجيه دَفَّةِ أُسُرِهم على ما يريانه مناسبًا مما ينتج عنه مشاكلُ لا تخفَى ولا تُحصَى.
وهنا لابد للأبناء من الجمع بين البِرِّ بهما –أي: بالوالدين-, والحكمةِ في التَّصرُّفاتِ الأسرية بما تستقيمُ معه الحياة, كما يجمُلُ بهؤلاء الآباءِ الكِرام أنْ ينهلوا من مَعِين هذا الحديث النبوي الشريف، ويتلمسوا سعادةَ أبنائِهم على وَفْقِ ما رَسَمَهُ الشرعُ لعلاقات الناس بعضِهِم ببعض.
وعلاج الانشغال بما لا يعني يكون بـ:
أولًا: إخلاصُ النية ومعرفةُ الدافع الذي ينبغي أنْ يكونَ وراء الحرص على التخلُّصِ من هذه الآفة.
ثالثُا: الاشتغالُ بما يعني؛ فإنه من أنجحِ العلامات, والمرءُ لو اعتنى بما كُلِّفَ به لوجد فيه شغلًا شاغلًا عمَّا لا يعنيه.
رابعًا: الشعور بقُبْحِ هذه الآفة وشَيْنها, فإنَّ الإنسانَ العاقل الذي يحافظ على كرامته لا يرضى أن يُوصمَ بأنه من الفارغين البطالين الفضوليين, الذين يدسُّون آنافهم فيما لا يعنيهم ويتجسسون ويتلصصون على الآخرين.
خامسًا: تذكُّرُ الحرمان الذي يجنيه الإنسانُ بسبب هذه الآفة, وهو على ألوان.
نسألُ الله –جل وعلا- أنْ يُطهِّرَنا وأنْ يُطهِّرَ قلوبنا وألسنتنا من كل ما يُغضبه, ومن كل ما لا يرضيه, وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فإنَّ علاجَ هذه الآفةِ العظيمةِ من آفاتِ اللسان, ويدخلُ مع اللسان الجوارحُ والأركان, والقلبُ كذلك من الانشغالِ بما لا يعني.
من الأسبابِ التي تكون جالبةً للشفاء من هذا الداء:
*إخلاصُ النية لله, والاستعانةُ به –جلَّ وعلا- ودوامُ مراقبته, والاشتغالُ بما يعني, فإنَّ المرءَ لو اعتنى بما كُلِّفَ به لوجدَ فيه شُغلًا شاغلًا عما لا يعنيه.
*ومما تعالج به هذه الآفة؛ الشعورُ بقُبحِها وبشَيْنها؛ لأن الإنسان العاقل الذي يحافظ على كرامته، لا يرضى أن يُوصمَ بأنه من الفارغين البطالين الفضوليين.
خامسًا: تذكُّرُ الحرمان الذي يجنيه الإنسانُ بسبب هذه الآفة ومن ذلك:
*الحرمانُ من الصِّدق والورع:
قال سهل التستري: ((من تكلم فيما لا يعنيه حُرم الصدق, ومن اشتغل بالفضول حُرم الورع, ومن ظن السوء حُرم اليقين, ومن حُرم هذه الثلاثة هَلَكَ)).
*والحرمان من الحكمة:
قيل للقمان: ما حكمتك؟
قال: (( لا أسأل عما قد كُفيت ولا أتكلف ما لا يعنيني)).
*والحرمان من الحلم:
قال معاوية -رضي الله عنه- لرجل: ((ما بقيَ من حِلمك؟))
قال: ((لا يعنيني ما لا يعنيني)).
*الحرمان من السيادة الحقيقية واحترام الناسِ له:
قيل للأحنف: بما سُدت قومك وأنت لست بأنقبِهِم ولا أشرفِهِم؟
قال: ((إني لا أتناولُ –أو قال: لا أتكلف- ما كُفيت ولا أُضيع ما وُلِّيت)).
*الحرمان من لين القلب وقوة البدن وبركة الرزق:
قال مالك بن دينار: (( إذا رأيت قساوةً في قلبك, ووَهنًا في بدنِك, وحِرمانًا في رزقِك؛ فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك)).
*الحرمان من الطمأنينة وراحة النفس:
فترك ما لا يعني يُمكِّنُنَا من راحةٍ نفسيةٍ تامةٍ, ننام ونحن نتمتع باطمئنانٍ تام, ونأكلُ ونشربُ بانشراحٍ وحيوية, في حينَ أن الفضولي المتطلع إلى ما لا يعنيه من قريبٍ أو بعيد يعيش في قلقٍ دائمٍ, وحَيْرةٍ قاتلةٍ, واستفساراتٍ لا يَجِدُ لها جوابًا.
تُرَى ما سِرُّ علاقة فلانٍ الفلاني بفلان؟!
وما هي أحوالُ فلانٍ المالية؟! ومن أين اكتسبَ هذه الأموال؟!
وما سرُِّ هذا السرورُ البادِي على وجهِ فلانٍ هذا اليوم؟!
والمسكين لا يَجِدُ لتساؤلاتِه أجوبةً شافيةً!!
*وأخطرُ من هذا التعرض للحرمان من علو القدرِ والدرجة عند الله -عزَّ وجَلَّ-:
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: ((فإذا خاضَ فيما لا يعنيه نَقَصَ من حُسْنِ إسلامه فكان هذا عليه؛ إذ ليس من شرطِ ما هو عليه أنْ يكونَ مستحقًا لعذاب جهنم وغضبِ الله، بل نقْصُ قدره ودرجته عليه))، وكفى بهذا خسرانًا.
وفي منثور الحكم: ((أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيهم)).
سابعًا: مما تُعالجُ به آفة الكلام فيما لا يعني؛ حفظُ الأبوابِ الأربعة التي يدخل منها الشيطان على العبد ليشغله بما لا يعنيه.
وهذه الأبوابُ الأربعة هي؛ النظراتُ والخطراتُ واللفظاتُ والخُطواتُ:
فينبغي أن يكونَ المرءُ بوابَ نفسِه على هذه الأبواب, يُلازِمُ الرباطَ على ثِغورِها
*فأما النظرات: فيجتهد المرء في كفِّها عن كثيرٍ من فضول المباحات من بيوتٍ ومراكب ومتاجر وكماليات, فضلًا عن المكروهات كالنظرِ للقراءة في غثِّ الكتب والمجلات, والانشغالِ بأخبارِ الرياضة والفنِّ والكرة وما أشبه, والأشدُّ من ذلك النظرُ في المحرمات.
*وأما الخطرات والأفكار: فيجبُ صرفُها فيما يعني الإنسان, ويجب إشغالها عن التفاهات والسفاسف والحرام, وذلك بالتفَكُّرِ في الدار الآخرة ومعاني آياتِ الله المقروءةِ والمنظورة, وفي نعمهِ تعالى, وكذلك التفكيرُ في عيوبِ النفس مع التفكير في واجب الوقت ووظيفته.
هذا وإنْ لم يضبط المرءُ خطراته فلا غَرْوَ إذن أن يهيمَ على وجهه في أوديةِ الوهم مع القاعدين العاجزين, الذين عجزوا عن تنفيذِ ما يريدون في الحياة، ففَرُّوا إلى الوهمِ أُنسًا به, فقد وجدوا فيه ما يَشتهون.
*وأما اللفظات: فلا يخفى عظيمُ خطرِها.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)).
فيجب على الكيسِِّ الفَطِنِ أنْ يصونَ لسانَهُ، ويتَّبع في ذلك الوصيةَ العُمريةَ التي أهداها عمر بن عبد العزيز لمن يريد ضبط لسانه؛ إذ قال: ((مَن أكثر ذِكرَ الموت؛ رضيَ من الدنيا باليسير, ومَن عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامُه إلا فيما ينفعُهُ والسلام)).
ثامنًا: مما تعالج به هذه الآفة المردية –وهي آفة الكلام فيما لا يعني- تذكُّرُ حضور الملائكة الكاتبين {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 18].
وكذلك قد يحتاج الأمرُ إلى معاقبةِ النفس, كما فعل حسَّان بن أبي سنان عندما مرَّ بغرفةٍ فسأل: متى بُنيت هذه؟
فأدّبَ نفسه بصيامٍ لأنها تسأل عن ما لا يعنيها.
ولا يستغني الإنسان عن قدرٍ من الكلام مِن قبيل المُباسطة والتودُّد لبلوغِ مصلحة أو دفعِ مفسدة, لكن لاشك أنه بابٌ يشق ضبطُه إلا على الجادين الموفقين.
*وأما الحركات والخطوات: فحفظها بألَّا يَنقُل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه, فإن لم يكن في خُطاه مزيدُ ثوابٍ من الله؛ فالقعودُ عنها خيرٌ له, ويُمكن للعبد الموفق أن يستخرج من كلِّ مباحٍ يخطو إليه قُربةً ينويها لله, فتقعُ خطاهُ قربةً وهكذا سائرُ حركاتِ الجوارح وأعمالِ البدن.
قال قتادة: ((كان يُقال: لا يُرى المسلم إلا في ثلاث: في مسجدٍ يعمرُه، أو بيتٍ يسكنُه، أو ابتغاءِ رزقِ الله من فضلِ ربِّه)).
ومن الأمور التي ليست من الكلام فيما لا يعني:
الزيادة في جواب بعض الأسئلة والفتاوى إنْ ظنَّ المفتي حاجةَ السائل لذلك, كأن يسأل عن الصلاة؛ فيذكرُ الوضوء والصلاة وأذكارَهما ونحوَ ذلك.
ومن ذلك جواب رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَن طلبَ منه أن يُعلِّمه الصلاة وذلك في حديثِ المسيء في صلاته, وكذا ما كان من جوابه لمن سأله عن الوضوء بماء البحر, فقد أجابه وزاده -صلى الله عليه وسلم-.
قال النووي -رحمه الله-: ((وفيه أنَّ المفتيَ إذا سُئل عن شيء وكان هناك شيءٌ آخر يحتاجُ إليه السائلُ ولم يسأله عنه؛ يُستحب له أنْ يذكره له, ويكونُ هذا من النصيحة لا من الكلامِ فيما لا يعنى)).
يتتبعون الأمور إلى هذه الدرجة لِمَا كانوا عليه من صِدقِ القلوب وحُسْنِ النيات وعظيم الإقبال على الله –تبارك وتعالى-, فيبحثون في هذا المأزِق الذي قد يقعُ فيه من يقعُ من أهلِ العِلمِ من المفتين إذا ما سُئلوا عن أمرٍ من أمرِ أحكامِ رب العالمين, فيقولُ قائلهم:
أهذا من الكلام فيما لا يعني, أو هو مما ليس منه؟
فيبحثون من أجل أنْ يُقرِّروا حقيقة الأمر حتى لا يتورطَ واحدٌ منهم في الوقوعِ في الكلامِ فيما لا يعنيه؛ لأنها آفةٌ عظيمة تمحَقُ البركة, بركةَ الإيمانِ في القلوب وبركةَ اليقين في الظهور, بل إنها تمحقُ بركةَ الرزق لأنها من المعاصي, والمعاصي قَواطِعُ للأرزاق.
إلى هذه الدرجة فكذلك يقولون: إذا سُئل عن شيء وكان هناك شيءٌ آخر يحتاج إليه السائل ولم يسأله عنه, يُستحبُّ له أن يَذكره له, ويكون هذا من النصيحةِ لا مِن الكلامِ فيما لا يعني, وموضعُ الدلالةِ أنه قال: عَلِّمْني يا رسول الله, أي: علمني الصلاة, فعَلَّمّهُ الصلاة واستقبالَ القبلة والوضوء وليسا من الصلاة ولكنهما شرطان به.
*مما يُظَنُّ أنه من الكلامِ فيما لا يعني وليس منه: الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكر: خاصةً إذا لم يُوجد مَن يقومُ بذلك سواه، فيتعينُ عليه حينئذ القيامُ بذلك مهما كان، ولا يكونُ ذلك من الاشتغالِ بما لا يعني.
*ومما يُظَنُّ أنه من الكلامِ فيما لا يعني وليس منه: ملاعبةُ الأهلِ والأولاد على سبيلِ المُباسَطةِ والتَّودد: لكنْ لا ينبغي الإفراطُ في ذلك، حتى لا يكونَ سببًا في ضياعِ الأوقات وفسادِ الأهلِ والأولاد، وغرسِ روحِ الهزلِ والسَّفهِ واللعبِ في نُفوسِهِم، والسعيدُ مَن وفَّقَهُ اللهُ –جلَّ وعلا-.
رأسُ مالِ العبدِ أوقاتُه، فهما صرَفَها إلى ما لا يعنيه، ولم يَدَّخر بها ثوابًا في الآخرة؛ فقد ضيَّعَ رأسَ مالِهِ؛ لهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ)).
وسببُهُ الباعثُ عليه هو الحِرصُ على معرفةِ ما لا حاجة به إليه أو تزجيةُ الأوقات بحكاياتِ أحوالٍ لا فائدة فيها.
علاج ذلك كلِّهِ: أنْ يعلمَ أنَّ أنفاسَه رأسُ مالِه، وأنَّ لسانَه شبكةٌ يقدرُ أنْ يقتنصَ بها الخيرات الحِسان، فإهمالهُ ذلك وتضييعهُ خُسرانٌ مُبين.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ –رضي الله عنهما-: ((إِنَّ أَحَقَّ مَا طَهَّرَ الرَّجُلُ لِسَانَهُ.((
وَفِي أَثَرٍ: ((مَا أُوتِيَ رَجُلٌ شَرًّا مِنْ فَضْلٍ فِي لِسَانٍ))؛ أي: من زيادةٍ في كلام، من فضولِ الكلام، وهو يَدخلُ فيه ما لا يعنيه.
وفي حديثِ رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم-، الذي رواه عنه بلالُ بن الحارثِ –رضي الله عنه-: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ –عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الرَّجُلَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ القيَامَةِ)).
رواهُ أحمد والترمذيُّ والنَّسائيُّ وابن ماجه، وهو حديثٌ صحيح.
وعن الحسن قال: ((يا ابن آدم؛ بُسِطَت لك صحيفة ووُكِّلَ بك مَلَكَانِ كَريمَان يكتُبانِ عَملَك، فأَكثِر ما شئت أو أَقِل)).
وكان رحمه الله يقول: ((مَنْ كَثُرَ مَالُهُ؛ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَ كَلامُهُ؛ كَثُرَ كَذِبُهُ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ؛ عَذَّبَ نَفْسَهُ)).
وكان طاووسٌ يعتذر من طُولِ السكوت؛ ويقول: ((إني جَربتُ لساني)).
وقال إبراهيمُ التَّيميِّ: ((إذا أراد المؤمنُ أنْ يتكلَّم نظر؛ فإن كان له تكلَّم، وإلَّا أمسك، والفاجرُ إنما لسانهُ رِسْلًا رِسْلًا)).
الكلامُ على لسانهِ سهلٌ مُتَهاوَنٌ فيه.
أيها المسلمون؛ لو أننا كَفَفنا عن الكلامِ فيما لا يعني؛ فلن نتكلم؛ لأننا لا نتكلمُ في الحقيقةِ إلَّا فيما لا يَعْنينَا، ارجع إلى نَفسكِ صادقًا، وفَتِّش في نَفسكِ واعيًا؛ وسَتَرَى صِدْقَ ما أقول –إنْ شاءَ اللهُ جلَّ وعلا-.
ما نِسبةُ ما يعنيكَ إلى ما لا يَعنيكَ فيما تتكلمُ به إلَّا كتَفْلَةٍ في بحر، إلَّا كرَمْلَةٍ في صحراءَ جرداءَ لا أمدَ لها.
أَمْسِك لسانَك حتى تتوفرَ عليك طاقةُ عقلِك وطاقةُ قلبِك؛ مِن فَهمِك؛ من حِفظِك؛ مِن عِلمِك؛ مِن ذِكْرِك؛ مِن تُقاك وتقواك، فهذا كلُّهُ بسببِ هذه الآفة، فلو أنَّ كلَّ مسلمٍ؛ لو أنَّ كلَّ إنسان، فهذا نافعٌ لكلِّ إنسان، هذا مبدأٌ إنسانيٌّ عام، كقولهِ –صلى الله عليه وسلم-: ((احرِص على ما يَنْفعُك))، هذا ينفعُ الكافر وينفعُ المسلمَ نفعًا مُضاعفًا؛ لأنَّ ما ينفعُهُ بالضرورة وبالأوَّليَّةِ يتعلقُ بآخرتِه، وأمَّا الكافرُ فإنه يحرصُ على ما ينفعُه من أمرِ دُنياه فيستفيدُ أيضًا.
فكذلك لا تتكلم فيما لا يَعنيك، وَفِّر طاقةَ عقلِك وطاقةَ قلبِك واحفظ على نفسِك وقتَك واستثمرهُ؛ لأنه من المعلومِ أنَّ المالَ فرعُ الوقت، ومَنْ تَصَدَّقَ بالوقتِ فقد تَصَدَّقَ بالأصل؛ لأنَّ المالَ إنما هو حصيلةُ عملٍ وبذلِ مجهود في وقت، والوقتُ هو الأصل، وعليه؛ فعليكَ أنْ تتصدقَ بهذا الوقت في مصالحِ المسلمين، في الإصلاحِ بين المُتخَاصِمِين، في تقريبِ ما بينَ المُتنَازعين، في بثِّ العلمِ النافعِ، في الدعوةِ إلى العملِ الصالح.
خطرُ اللسانِ عظيم، ولا نجاةَ منه إلا بالنُّطقِ بالخير:
فعن النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ العَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).
رواه أحمد وابن أبي الدنيا في ((الصمت))، وهو حديثٌ حسن.