فهذه بعضُ المَبَاحِثِ المجموعةِ عَنْ هذا الأمرِ الكبيرِ والظاهرةِ الخطيرةِ التي انْتَشَرَتْ فِي الأمةِ، واسْتَشْرَتْ فِيها كالنارِ فِي الهَشِيمِ، وهي «ظاهرة الْإِلْحَاد».
وهذه مقدمةٌ عَن الْإِلْحَاد تُعَرِّفُ به، وبالأَسْبَاب التي دعت إِلَى انتشاره وَفُشُوِّهِ، كما وَرَدَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي الموسوعَتَيْنِ: المُفَصَّلَةِ والمُيَسَّرَةِ.
الإِلْحَاد: هو مَذْهَبٌ فَلْسَفِيٌّ يقومُ على فكرةٍ عَدَمِيَّةٍ أساسُها إنكارُ وُجُود اللهِ الخَالِق -سبحانه وتعالى-.
فهَؤُلَاءِ من رؤوس الْإِلْحَاد فِي أُورُوبَّا، وهم من الْفَلَاسِفَة والأدباء.
وأما أعلام الْإِلْحَاد فِي العالم الإسلامي:
فعلى رأسهم: «إسماعيل أحمد أدهم»: الَّذِي هَلَكَ سنة أربعين وتسعمائة وألف «1940»، كَانَ من دعاة الشعوبية، وحاول نشر الْإِلْحَاد فِي مصر، وألف رسالة بعنوان: «لماذا هو ملحد؟»، وهو جعل مكانها «أنا»؛ لِأَنَّهُ يتكلم عَنْ نفسه، لَكِن لا يَجْمُل أن نعيد ذَلِكَ كما قيل،
والشيطان يدعو بالويل على نفسه، ولَكِن أتى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ بضمير الغائب؛ حتى لا يحكي ما قَالَه الشيطان، كما فِي هذا النص.
فكتب «إسماعيل أحمد أدهم» رسالة بعنوان: «لماذا هو ملحد؟»، وطبعها بمطبعة التعاون بالإسكندرية، حَوَالَيْ سنة ست وعشرين وتسعمائة وألف «1926م».
من أعلام الْإِلْحَاد أَيْضًا فِي العالم الإسلامي:
«إسماعيل مظهر»: الَّذِي هَلَكَ سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف «1381» من التاريخ الهجري، وهو أحد دعاة الشعوبية والداروينية، أصدر فِي سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وألف «1928م» «مجلةَ العصورِ» فِي مصر، وكانت مجلة العصور تدعو للإِلْحَاد والطعن فِي العرب والعروبة طعنًا قبيحًا، معيدًا تاريخ الشعوبية، تمامًا كما فعل إسماعيل أدهم؛ فإنه كَانَ من دعاة الشعوبية.
وكذَلِكَ «إسماعيل مظهر» أصدر هذه المجلة – وهي «مجلة العصور» - تدعو للإِلْحَاد والطعن فِي العرب والعروبة طعنًا قبيحًا، معيدًا تاريخ الشعوبية، ومتهمًا العقلية العربية بالجمود والانحطاط، ومُشِيدًا بأمجاد بني إسرائيل ونشاطهم.
وقد تاب إسماعيل مظهر إِلَى الله بعد أن تعدى مرحلة الشباب، وأصبح يكتب بعد ذَلِكَ عَنْ مزايا الإسلام، وأَلَّفَ كتابًا أسماه: «الإسلام لا الشيوعية».
وقد أُسِّسَتْ فِي مصر سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وألف «1928» جماعةٌ لِنَشْرِ الْإِلْحَاد تحت شعار الأدب، واتخذت دار العصور مَقَرًّا لها، واسمها: «رابطةُ الأدبِ الجديد»، وكان أمينَ سِرِّها «كَامِلْ كِيلَانِي»، وقد تاب كَامِلْ كِيلَانِي إِلَى الله بعد ذَلِكَ.
ومن الشعراء الملاحدة الَّذِينَ كَانَوا ينشرون فِي مجلة العصور الداعية إِلَى الْإِلْحَاد فِي مصر؛ كَانَ من الشعراء الناشرين فِيها:
«الشاعر عبد اللطيف ثابت»: الَّذِي كَانَ يشكك فِي الأديان فِي شعره، و«الشاعر جميل صِدْقِي بن محمدِ بنِ فيضِي الزَّهَاوِي-جميل صدقي الزهاوي-: » وهو شاعر عراقيٌّ يُعَدُّ عميدَ الشعراءِ المشكِّكِينَ فِي عصره.
وكذَلِكَ «صادق جلال العَظْم»: وهو أحد أساطين الفكر الشيوعي المادي ممن أخذ يجاهر بالإِلْحَاد، ويدعو إِلَيْهِ، وأَلَّفَ كتابًا يقرر فِيه الْإِلْحَاد، أسماه: «نَقْدَ الفِكْرِ الدِّينِيّ»، زعم أَنَّهُ أقام فِيه براهين تثبت عدم وُجُود الله، وأن كل ذَلِكَ ـ يعني: ما عليه المؤمنون من إثبات وُجُود الله تعالى والرسالة والوحي والبعث والقيامة ـ أن كل ذَلِكَ من الأوهام والأساطير، وقد رد على هذا الرجل الكثيرون.
كذَلِكَ من أعلام الْإِلْحَاد فِي العالم الإسلامي:
«عبد الله بن عليٍّ القصيمي»: وهو أحد أشهر الملاحدة المعاصرين، له كتب عَنْ الإسلام، وكان الْعُلَماء يَسْتَمْلِحُونَهَا ويُثْنُون عليها، ثم أعلن بعد ذَلِكَ ردته و إِلْحَاده، وجاهر بدعوته الجديدة إِلَى الْإِلْحَاد، وألَّفَ مجموعة كبيرة من الكتب الداعية للتحرر من سلطة الدين والفضيلة والأخلاق، منها: «هذه الأغلال»، ومنها: «أيها العقلُ مَن رَآك»، ومنها: «الإنسانُ يَعْصِي لهذا يَصْنَعُ الحَضَاراتِ».
وهو من دعاة الصهيونية العرب، وله مقالات وعبارات بَشِعَةٌ فِي حق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وحق رسله، وممن رَدَّ عليه - كما هو معلوم -: «العلامة السعدي -رحمه الله تعالى-»، فإن كتابه فِي قَطْعِ وإبطالِ أصولِ الْمُلْحِدِينَ؛ إنما كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى هذا الرجل، وإِلَى دعوته، وقد أَبْطَلَ اللهُ رب العالمين دعوتَه، وَأْخَمَلَ ذِكْرَهُ، كما هو معلوم فِي كل مَن حَادَّ دينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فإن الله -عز وجل- يُخْمِلُه، ويَجْعَلُ آثارَه بعد ذَلِكَ فِي مزبلة التاريخ؛ لِأَنَّهُ لا يَبْقَى إلا الْحَقُّ، ولا يَبْقَى إلا الخيرُ، والله جَلَّ وَعَلَا لا يُصْلِح عمل المفسدين.
كذَلِكَ من أعلامِ الْإِلْحَاد فِي العالم الإسلامي:
«فهدُ بنُ صالحِ بنِ محمدٍ العَسْكَرُ»: وهو شاعرٌ كُوَيْتِيٌّ مَاجِنٌ، وداعيةٌ إِلَى التمردِ على الأخلاق والفضيلة، ومِن كبارِ المُتَشَكِّكِينَ والساخرينَ بالأديانِ فِي شِعْرِه، وقد هلك سنة سبعين وثلاثمائة وألف «1370» من التاريخ الهجري.
ومنهم أَيْضًا:
«أحمد لطفي السيد»، و«طه حسين»، و«زكي نجيب محمود»، و«علي أحمد سعيد» -المعروفُ بِ«أَدُونِيسْ» الذي يقالُ عَنْه أَنَّهُ شاعرٌ!!
فهَؤُلَاءِ بعض أعلامِ الْإِلْحَادِ فِي العالم الإسلامي.
*مِن أفكارِ الْإِلْحَاد: أنَّ الكون والإنسان والحيوان والنباتَ وُجِدَ صدفةً، وسينتهي كما بدأ، ولا توجد حياة بعد الموت.
وهذا كله تَفْرِيعٌ على الأصل الَّذِي أنكروه، على أصل الأصول وكُبْرَى اليَقِينِيَّاتِ، وهو وُجُود الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فإن الإنسان إِذَا أنكر وُجُود الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فإنه حينئذٍ يَقُول: إنَّ الخَلْقَ الَّذِي لا بد له من خالق؛ إنما خَلَقَتْهُ الصُّدْفَةُ، أو أَوْجَدَتْهُ الطبيعةُ، أو أَوْجَدَ نفسَه!!
فلا بد أنْ يُجِيبَ عَنْ أسئلةٍ؛ فتأتي هذه الأسئلةُ مؤسَّسَةً على الأصل الَّذِي أنكره، وهو وُجُود الرب -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ ولِذَلِكَ تَجِدُ مِن أفكارِهم:
*وأيضًا يُنكِرون معجزاتِ الأنبياء؛ لأنَّ تلك المعجزاتِ لا يَقْبَلُها الْعِلْمُ كما يزعمون، ولَكِن هم يُنكِرونَها ابتداءً؛ لِأَنَّهُم يُنكِرونَ مَنْ أَرْسَلَهُمْ، وهم ينكرون وُجُود اللهِ الَّذِي أَرْسَلَ الرسل، ونَبَّأَ الأنبياءَ، وَأَنْزَلَ الكتب، والذي كَانَ منه الوحيُ المعصوم.
*مِن العَجَبِ: أنَّ الْمُلْحِدِينَ المادِّيِّينَ يَقْبَلُونَ معجزاتِ الطَّفْرَةِ الوحيدةِ التي تقولُ بها «الدَّارْوِينِيَّةُ»، ولا سَنَدَ لها إلا الهَوَسُ والخَيَاُل؛ لأنَّ الدَّارْوِينِيَّةَ ليس عَنْدها تفسيرٌ للتطور، ثم إنَّ دَارْوِنُ - كما سيأتي إن شاء الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النقلُ عَنْه مِن كتابِه فِي طبعتِهِ الثانيةِ- هو لم يَقُلْ فِي نَظَرِيَّتِهِ: إنَّ التَّطَوُّرَ خالقٌ، وإنما هو يريدُ أنْ يُفَسِّرَ شيئًا، فجَعَلَ التطورَ مُفَسِّرًَا، لا خالقًا، فَيَبْقَى السؤالُ على حالِه؛ فمَن الَّذِي خَلَقَ؟!!
إِذَن؛ «دَارْوِنْ» حتى فِي أصلِ نظريته لم يقل إنَّ التطورَ الَّذِي زعمه وجاء به فِي أصل الأنواع هو الَّذِي أَحْدَثَ الخلقَ، وهو الَّذِي أنشأه، وإنما هو يفسِّر به أمرًا على حَسَبِ نظريتِه التي ابتدعها.
فهَؤُلَاءِ الملاحدة يَقْبَلُونَ معجزاتِ الطَّفْرَةِ الوحيدةِ: أن الإنسان كَانَ قردًا، فجاءت طَفْرَةٌ، فنَقَلَتْهُ مِن القِرْدِيَّةِ إِلَى الإنسانية!
فإذا قيل لهم: كيف جاء ذَلِكَ؟
قَالَوا: هذا يأتي بالطفرة، فمن الحيوان الأول، من الخلية الوحيدة، ثم بعد ذَلِكَ إِلَى ما ارتقى إِلَيْهِ الإنسان حتى صار قردًا، ثم ارتقى بعد ذَلِكَ حتى كَانَ إنسانًا !!
يقولون: إن هذا الانتقال من هذه الأنواع، إنما يَحْدُثُ بما يسمى بالطفرة الوحيدة!
فيقال لهم: وهذه الطفرة فِي كل مرة تحدث على هذا النحو من أجل أن تنشئ شيئًا أحكم؟!
من أجل أنْ تُنشئ شيئًا أتقن؟!
فلماذا تقبلون هذا؟!
وهذا فِي حدِّ ذاته مخالف لمقرَّرات العقل، مخالف للبدهيات الفطرية، ولَكِنْ هَمُّهم وقَصدهم: أن ينكروا وُجُود الخَالِق الْعَظِيم، فهم من أجل ذَلِكَ لا يعترفون بالمفاهيم الأخلاقية، ولا بالحق، ولا بالعدل، ولا بالأهداف السامية، ولا بالرُّوح، ولا بالجمال فِي الكون؛ ولِذَلِكَ كنتَ تجد فِي فترةِ استحواذِ الاتحادِ السوفييتيِّ على الدول الإسلامية التي ابْتَلَعَها فَلَمْ يَهْضِمْهَا، حتى خَلَّصَها الله رب العالمين مِن نِيرِه؛ كنتَ تجد الصناعة الروسية على الضد من الصناعة الغربية.
فالصناعة الروسية لا جمال فِيها من حيث الشكلُ الظاهر؛ لِأَنَّهُم لا يعترفون بالروح، ولا بالجمال، ولا يعترفون بالمفاهيم الأخلاقية، ولماذا يعترفون بالمفاهيم الأخلاقية والماديون يَعْتَقِدُونَ أن الحياة هي نهاية كل كائن حي، وأنه بعد ذَلِكَ لا بعث ولا قيامة؟!!
فإذا كَانَ الإنسان فِي هذه الحياة يَحْيَا، حتى إِذَا ما مات لم يُبْعَثْ، ولم يُحَاسَبْ على شيء؛ فلماذا يتمسك بالأخلاق؟!
بل لماذا توجَدُ الأخلاقُ أصلًا؟!
وحينئذ يَحْيَا الإنسانُ فِي الحياة أَحَطَّ مِن الحيوان البَهيم، يُحَصِّلُ اللذَّات، ويستحوذُ على الملذَّاتِ والشهوات، وليس له ارْتِقَاءٌ فِي خُلُقٍ، ولا نَظْرَةٌ إِلَى هدفٍ سامٍ!!
*وينظر الملاحدة تبعًا للأصل الَّذِي قرروه فِي أصل الوجود والخلق؛ ينظرون للتاريخ باعتباره صورة للجرائم والحماقة وخيبة الأمل، ويقولون: إن قصة التاريخ لا تَعْنِي شيئًا.
*وأما المعرفة الدينية فِي رأي الملاحدة؛ فتختلف اختلافًا جِذْريًّا وكليًّا عَن المعرفة بمعناها العقلي أو الْعِلْمي؛ لِأَنَّهُم لا يَخْضَعون للعقل، ولا يخضعون للعلم، وَبَدَاهَةً هم لا يخضعون للنقل والشرع.
*الإنسان عَنْد الْمُلْحِدِينَ الماديين: مادَّةٌ، تنطبق على الإنسان عَنْدهم قوانين الطبيعة التي اكتشفتها العلوم، كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية.
فالكائن الإنساني عَنْدهم لا ميزة فِيه، هو مثل الحيوان البهيم؛ بل هو مثل الحجارة، مثل الجماد، تنطبق على هذا الإنسان قوانينُ الطبيعة التي اكتشفتها العلومُ، كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية.
وعند هَؤُلَاءِ الملاحدة أن الحاجات هي التي تحدد الأفكار، وليست الأفكار هي التي تحدد الحاجات.
و«نظرياتُ مَارْكِسْ» فِي الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ، و«نظريةُ فْرُويِدْ» وهي «نظريةٌ جنسيةٌ مَحْضَةٌ» فِي علم النفس، و«نظرية دَارْوِنْ» فِي أصل الأنواع، و«نظريةُ دُورْكَهَايِمْ» فِي علم الاجتماع من أهمِّ أُسس الْإِلْحَاد فِي العالم، وجميع هذه النظريات هي مما أثبت الْعُلَماءُ أَنَّهُا حَدْسٌ وخيالاتٌ، وأوهامٌ شخصيةٌ، ولا صلةَ لها بالْعِلْم.
ما هي القواسم المشترَكَة بين الملاحدة العرب؟
القواسم المشتركة بين الملاحدة العرب هي:
*إنكارهم للغيب جملة وتفصيلًا، وقَصْرُهُم الإيمان بحدودِ الملموسِ والمحسوسِ فقط، دون ما غاب عَن العين، أو ما يمكن إدراكه بالحس.
*ومن القواسم المشتركة بينهم: استهزاؤهم بالشعائر الدينية جميعها، ووَصْفُهم للمتمسكين بالشعائر الدينية بالرجعيين والمتخلفين، ومحاربة أي دعوة تدعو إِلَى التدين، أو صَبْغِ الحياةِ بمَظَاهِرِ الدين.
*ومن القواسم بينهم: مَيْلُهُمْ نَحْوَ احتقار العرب، وهي الشعوبية التي مرَّ ذكرها، وكان عليها أوائل الدعاة إِلَى الْإِلْحَاد فِي العالم العربي والإسلامي، فهم يميلون نحو احتقار العرب، واحتقار عاداتهم وسلوكهم، ويمدحون الشعوبية والباطنية؛ بل منهم دعاة للصهيونية، كما كَانَ «القصيمي»؛ فإنه كَانَ داعية من دعاة الصهيونية.
*وكذَلِكَ هم يدعون للتغريب؛ لِأَنَّهُم إِذَا احتقروا الجنس العربي، واحتقروا العروبة؛ يريدون بذَلِكَ احتقار الدين، وإذا احتقروا اللغة العربية؛ فأي شيء يُقَدِّرُون؟!!
هم يَدْعُون للتغريب، والالتحاق بالغرب، والأخذ بجميعِ ثقافاتِهم وأمورِهم الحياتية، والتَّعَلُّم منهم ومِن سلوكياتهم، حتى إنَّ مِن غُلاة الدَّاعين إِلَى ذَلِكَ: وهو «طه حسين» كما فِي «مستقبل الثقافة فِي مصر»، وهو الآن يُعاد طَبْعُهُ، ويُنشر نَشْرًا مُوَسَّعًا، والرجلُ يُقرِّر فِيه أَنَّهُ ينبغي علينا من أجل أنْ نلحق بالرَّكْبِ العالَمِيِّ فِي التقدم والتِّقْنِيَةِ: أن نتخلى عَنْ كل ما نحن عليه، وأن نأخذ بما هم عليه فِي كل مجالات الحياة، حتى تكونَ فضلاتنا كفضلاتهم.
*وهم يَشُنُّونَ الحرب الشرسة على الأخلاق والعادات الحميدة.
*ويَدَّعُون أَنَّهُ لا يوجد شيء ثابت مطلقًا، فكل الأمور نسبية!!
الدين نسبي! يتغير ويتطور! ويرتقي الناس فِيه!
والشرف كذَلِكَ نسبي!
فما كَانَ يقاتل المرء عَنْه ودونه فِي القديم صار شيئًا مبذولًا، لا تهتز شَعْرَةٌ فِي مَفْرِقِ أحدٍ إذا ما اعْتُدِيَ على عِرْضِه، وإذا ما دُنِّسَ فِرَاشُه، فذَلِكَ عَنْده من الأمور العادية!!
*فهَؤُلَاءِ شَنُّوا الحرب الشرسة على العاداتِ والأخلاقِ الحميدة، وادَّعَوْا أَنَّهُ لا يوجد شيءٌ ثابتٌ مطلقًا، وأن الحياة والأخلاق والعادات فِي تطورٍ مستمر، وأن الثبات على الشيء إنما هو مِنْ شَأْنِ الغَوْغَائِيِّينَ والمُتَخِّلِفِينَ والرَّجْعِيِّين.
*فعندهم أنَّ الأخلاق تتطور وترتقي، وكذَلِكَ الأديان تتطور وترتقي، وبالتالي؛ المُثُلُ والقِيَمُ تتطور وترتقي، فما كَانَ يتمسك به الناس قديمًا ينبغي أن يُهْجَرَ!
ينبغي أنْ يُطَلَّقَ البَتَّةَ، وأَلَّا يَلْتَفِتَ الناسُ إِلَيْهِ!!
*ويعظمون المادة والطبيعة، ويعظمون جميع العلوم الطبيعية، ويجعلون ذَلِكَ أساس كل الحضارات، بافتعال الصراع المزعوم بين الدين والْعِلْم المادي التطبيقي.
ومعلوم أن ذَلِكَ إنما كَانَ فِي الغرب لَمَّا تَحَجَّرَتِ الْكَنيسةُ علي معتقداتها البالية، وحاربت الْعِلْمَ التطبيقيَّ الماديَّ بحقائقه الثابتة، فلما وقع الصدام بين الْعِلْم والدين بِسَبَب تَعَنُّتِ وجهلِ الْكَنيسة الغربية؛ تم الفصل بين الدين والْعِلْم.
هذا وقع فِي الغرب.
ثم أرادوا أن يمدُّوا ذَيْلَ ذَلِكَ علي المجتمعات الإسلامية، فَتَسَلَّلُوا لَمَّا ذهبت البِعْثَاتُ إلي تلك الديار من أجل أن تنقل لا العاداتِ ولا الأخلاقَ ولا التقاليدَ، وإنما من أجل أنْ تنقلَ ما وصلوا إِلَيْهِ من التقدم التقني، ومن الْعِلْم المادي، فما عادوا إلا بنقلِ العاداتِ والتقاليد، كما فعل «الطَّهْطَاوِيُّ» وغيرُه، عَنْدما كَانَ شيخًا مرافقًا للبِعثة من أجل أنْ يَؤمَّهُمْ فِي الصلاة، وأنْ يُفْتِيَهُمْ فِي ديار الغُرْبَةِ فِيما يَعْرِضُ لهم من مسائل الدين.
فلما رَأَى المَسَارِحَ الفَرَنْسِيَّةَ، وأَبَصَرَتْ عَيْنَاهُ النساءَ الفرنسياتِ، وقد تَهَتَّكْنَ وَتَبَذَّلْنَ وَتَعَرَّيْنَ، وكان الرجل من الجنوب فِي مصر، والمرأة فِيه فِي غاية المحافظة، فلما انتقل هذه النقلةَ؛ عاد مَبْهُورًا بالذي رآه، يدعو إِلَيْهِ، فكتب فِي ذَلِكَ كتابًا سماه ب«تلخيصِ الإِبْرِيزِ فِي أحوالِ أو فِي شُئُونِ باريس»، أو كما سماه.
و«التَّنْوِيرِيُّونَ» الآنَ فِي هذا العصر يبعثون هذه الكتب من كهوفها وقبورها، ويريدون أن يقرأها الناشئة من المسلمين، لَمَّا وَجَدُوا أنَّ الناشئة من المسلمين قد أقبلوا فِي الجملة على معرفة الدين، وعلى التمسك بالتعاليم، فجاءهم الشيطان بهذه الأفكار الشيطانية، من أجل أن يَحْرِفُوا الناس عما وصلوا إِلَيْهِ من الْحَقِّ.
الْمُلْحِدُونَ الماديون فِي الدول الإسلامية والعربية؛ مِنَ القَوَاسم المشترَكَة بينهم:
*أَنَّهُم يمنعون من محاربة الاحتلال، يَقِفُونَ دائمًا ضد مقاومة الاحتلال.
يدْعون إِلَى الرضا بالأمر الواقع، وأن هَؤُلَاءِ إنما جاءوا لتنويرنا، وإخراجنا من الجهالة والمرض والفقر؛ فِينبغي علينا أن نشكرهم !!
كما وقع ذَلِكَ بالنسبة للحملة الفرنسية على مصر، وما زالوا إِلَى يوم الناس هذا يحتفلون بذكرى الاحتلال الفرنسي لمصرَ على أَنَّهُ بداية التنوير فِي العصر الحاضر، وفي الواقع المعاصر للأمة المصرية، وكذَلِكَ للشرق بأجمعه!!
وهذا مَحْضُ الوَهْمِ، وإنما جاءت الحملة الفرنسية لِوَأْدِ النهضة الإسلامية فِي مصر، وكذَلِكَ فِي العالم الإسلامي العربي، وكانت هذه النهضة الإسلامية على وَشْكِ أنْ تُؤْتِيَ أُكُلَها، وأنْ تقومَ على سوقِها وتستويَ عليه، فجاءت الحملة الفرنسية من أجل وَأْدِ هذا.
ومن القواسم المشتركة بين ملاحدة العرب:
*تعاونُهم الوثيق مع الصهيونية والماسونية، ومَدْحُهم اللَّامَحْدُود للصهاينة واليهود.
هذه سِمَةٌ غالبةٌ على جميع الملاحدة والمرتدين؛ لأنَّ الملحدَ فِي الْحَقّ مشرك، وقد يُسٍتَغْرَبُ من ذَلِكَ؛ لأن الملاحدة المعاصرين على وجه الخصوص لما أنكروا وُجُودَ الخَالِقِ الْعَظِيم، فذهبوا إِلَى نظرياتٍ يفسرون فِيها الخلق، وينظرون فِيها إِلَى سبب الوجود؛ فبعضهم يَقُول: الطبيعة!!
فجعلها إلهًا معبودًا!!
فهذا مشركٌ بالله -جَلَّ وَعَلَا-.
وأما الملحد؛ فهو الَّذِي لا يُثْبِتُ خالقًا فِي الأصل، فينكر وُجُود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وينكر أن يكون سَبَبٌ مَّا قد أدى إِلَى خلق الخلق وإيجاد الوجود.
فأما هَؤُلَاءِ؛ فهَؤُلَاءِ مشركون على هذه الصورة وعلى هذا النحو، وسيأتي بسط هذا إن شاء الله -جَلَّ وَعَلَا-.
*يَدَّعِي الملاحدة أنَّ الدينَ سببٌ للتناحُرِ ونَشْرِ البغضاء فِي الْأَرْض، وأنه تسبب فِي إشعال وإذكاء نار الحروب فِي الكثير من بقاع الْأَرْض، وقد حان الوقت لتركه والتخلِّي عَنْه!!
وهل قامت الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية لأسباب دينية؟!!
ألم تقم الحرب العالمية الأولى، وكذا الحرب الثانية بأسبابٍ علمية؟!
بأسبابٍ تِقْنِيَّةٍ؟!
لم تَقُمْ بأسبابٍ دينية!!
فهَؤُلَاءِ الكذبة يَقُولون: إن الدين هو الَّذِي يؤدي إِلَى نشر التناحر، ونشرِ البغضاء فِي الْأَرْض، فينبغي أن يُتَخَلَّى عَنْه!!
هذه هي فكرة «الماسونية» التي تجمع تحت لوائِها كلَّ منحرفٍ على ظهرِ الْأَرْضِ؛ مهما كَانَ دينه!!
ويقولون: نحن لا نناقش هذه الأمور، ثم إِذَا ما اسْتَمَرَّ مَرِيرُهُ مع الماسون؛ صار بعد حينٍ ملحدًا بلا دين؛ لِأَنَّهُ يتخلى مع الوقت بِسَبَب التعايش السلمي بين هذه الأديان المتضادة والمتباينة، فإنه بعد حينٍ يتخلى عَنْ دينه؛ حتى يصير ماسونيًا ملحدًا.
انتشر الْإِلْحَادُ أَوَّلًا فِي أُورُوبَّا، وكانت له أَسْبَابُه التي سيأتي بسطها إن شاء الله جَلَّ وَعَلَا.
انتقل بعد ذَلِكَ الْإِلْحَادُ إِلَى أمريكا، ومن أُورُوبَّا وأمريكا إِلَى سائرِ بقاع العالم.
عندما حَكَمَت «الشيوعيةُ» فِيما كَانَ يُعْرَفُ ب«الاتحادِ السُّوفْيِيتِيِّ» قبل انْهِيَارِهِ وتَفَكُّكِهِ؛ فَرَضَتِ الْإِلْحَادَ فرضًا على شعوبه، وأَنْشَأَتْ له مَدَارِسَ وَجَمْعِيَّاتٍ.
كَانُوا يحاربون الدين الإسلامي خاصة؛ فإنَّ الدول التي وقعت تحت الحكم الشيوعي كَانَ أفرادُها يُؤْمَرُون؛ بل يُجْبَرُونَ على تغييرِ أسمائهم، وكان الواحد منهم إِذَا ضُبِطَ تاليًا لآية من كتاب الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ أُعْدِمَ بِأَبْشَعِ صُوَرِ الإِعدامِ.
وكان التفتيش لا يَفْتُرُ أبدًا عَن النظر إِلَى ما عَنْد المسلمين فِي بيوتهم؛ لأن هذه الدول كَانَت دولًا إسلامية، فلما جاءت الشيوعية على يَدَيْ ماركِسْ ومَنْ تَبِعَهُ، ثم انتشرت بعد ذَلِكَ؛ احْتَلَّت الدُّوَلَ الإسلاميةَ التي تُجَاوِرُ روسيا الشيوعيةَ، وهي دُوَلٌ إسلاميةٌ، وأهلُها كَانُوا من المسلمين، وكان لهم مَوَاقِفُ صِدْقٍ فِي نُصْرَةِ دينِ ربِّ العالمين، فَبَسَطُوا النُّفُوذَ عليهم، واحْتَلُّوا ديارَهم، وأَدْخَلُوهَا فِيما سُمِّيَ بالاتحادِ السُّوفْيِيتِيِّ الشُّيُوعِيِّ، وفَرَضُوا الشيوعيةَ عليهم فرضًا، فنقلوهم من الإسلام إِلَى الشيوعية!!
هذه نَقْلَةٌ لا تَقْبَلُها الطبيعةُ البَشَرِيَّةُ.
ففَرَضُوا عليهم ذَلِكَ، فكَانُوا فِي جملتهم فِي البداية يقاوِمون بعضَ المقاومةِ السَّلْبِيَّةِ، يُعَلِّمُونَ أبناءَهم فِي الخَفَاءِ ما تَيَسَّرَ مما يعرفونه من دين الله، وربما كَانَ الواحد منهم مالكًا لنسخةٍ من القرآنِ الْعَظِيمِ فَيُخْفِيهَا، بحيث إِذَا وَجَدَ غَفْلَةً من السُّلُطَاتِ؛ اِنْتَحَى ناحيةً فِي خَفَاءٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتْلُوَ آيةً مِنْ آياتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
إذا ضُبِطَ عَنْده ورقةٌ من المصحفِ أُعْدِمَ؛ بل وَأُعْدِمَ أهلُه، حتى أجبروهم على تغيير أسمائهم؛ حتى تصير كأسماءِ أُولَئِكَ القوم، فلما جاء هذا الاتحاد بهذا البلاء؛ أُنْشِأَتْ للإِلْحَاد وللشيوعية فِي تلك الدولِ الإسلاميةِ مدارسُ وجمعياتٌ.
حاولت «الشيوعيةُ» نَشْرَ الْإِلْحَادِ فِي شَتَّى أنحاءِ العالَمِ عَنْ طريق أحزابها، وسقوطُ الشيوعيةِ فِي الوقت الحاضر يُنْبِأُ عَنْ قُرْبِ سقوط الْإِلْحَاد بإذن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي العالم كلِّه؛ لأن الْإِلْحَاد لم يَجِدْ على مَدَارِ تاريخِ البَشَرِ فِي الْأَرْض سُلْطَةً تَنْشُرُهُ بالسيفِ، تَفْرِضُهُ بالقوةِ، بالقوةِ الْمُفْرِطَةِ، مع ما الناسُ عليه مِن الضَّعْفِ والْمَسْكَنَةِ.
لم يَحْدُثْ ذَلِكَ فِي تاريخِ البَشَرِ إلا فِي هذا العصرِ لَمَّا نَشَأَ الاتحادُ السُّوفْيِيتِيُّ، ونَشَرَ الْإِلْحَادَ فِي الدول التي احتلها بالسيف وبالسلاح؛ ولَكِنَّ كثيرًا من المسلمين بعد أنْ سَقَطَ وانْهَارَ عَادُوا إِلَى دين الله رب العالمين، وأكثرُهم يَتَلَمَّسُ طريقَ الْحَقِّ، وهم مَعْذُورُونَ فِي الجملةِ فِي بعض الأمور؛ لِأَنَّهُم خَرَجُوا مِنْ هذا التَّهَرُّءِ الأخلاقيِّ؛ بل مِنَ الِانْعِدَامِ الأخلاقيِّ إِلَى دينِ اللهِ ربِّ العالمين.
يوجد الآن فِي الهند جمعيةٌ تُسَمَّى ب«جمعيةِ النَّشْرِ الْإِلْحَاديةِ»، وهذه الجمعياتُ حديثةُ التكوينِ، وتُرَكِّزُ نشاطَها فِي المناطِقِ الإسلاميةِ، ويَرَأْسُهَا «جُوزِيفْ إِيدْيَامَارْ»، وكان نصرانيًا من خطباء التنصير، ومعلمًا فِي إحدى مدارس الأَحَد، وعضوًا فِي «اللجنة المركزية للحزب الشيوعي»:
أَلَّفَ سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وألف «1953» كتابًا يُدْعَى: «إنما عيسى بَشَر».
نال جائزةَ الْإِلْحَادِ العالميةَ سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وألف «1978»، ويُعْتَبَرُ أولَ مَن نالها من آسيا.
فيتضح مما سبق: أنَّ الْإِلْحَاد مذهب فلسفي يقوم على إنكار وُجُود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويذهب إِلَى أن الكون بلا خالق.
مذهب فلسفي عَنْد الملاحدة من المفكرين والفلاسفة والأدباء وغيرهم.
وأما الملاحدة من العوام والجهلاء الَّذِينَ يَتْبَعُونهم؛ فإِلْحَادهم ليس إِلْحَادًا فلسفيًا، إنما هو إِلْحَادُ بَطْنٍ وَفَرْجٍ؛ من أجل تحصيل اللذات، ومن أجل تحصيل الملذَّات.
يُعَدُّ أتباعُ «العقلانيةِ» المؤسسينَ الْحَقيقيينَ للإِلْحَاد الَّذِي يُنْكِرُ الحياةَ الآخرة، ويرى أنَّ المادة أزلية أبدية، وأنه لا يوجد شيء اسمه: «معجزاتُ الأنبياء»؛ فذَلِكَ مما لا يقبله الْعِلْمُ فِي زعم الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ لا يعترفون أَيْضًا بِأَيَّةِ مفاهيمَ أخلاقيةٍ؛ لأن الَّذِي يُؤَسِّسُ المفاهيمَ الأخلاقيةَ هو الدينُ، هو الوحيُ، فإذا أنكروه، وإذا أنكروا وُجُود الخَالِق الْعَظِيم، وأنكروا الرسالة والوحي، وأنكروا البعث والجزاء؛ فلا شك أَنَّهُم ينكرون الأخلاق، وتصير الحياة مادية محضة؛ حتى إن الإنسان لَيَتَسَفَّلُ حتى يكون أقل من البهائم.
لا يعترفون بقيم الْحَقّ والعدل، ولا بفكرة الروح؛ ولذا فإن التاريخ عَنْد الْمُلْحِدِينَ -كما مرَّ- هو صورةٌ للجرائم والحماقات وخَيْبَة الأمل!!
وقصة التاريخ عَنْدهم لا تعني شيئًا، والإنسان مجرد مادة تُطَبَّقُ عليه القوانينُ الطبيعيةُ كافةً.
وكلُّ ذَلِكَ مما ينبغي أن يَحْذَرَهُ الشابُّ المسلمُ عَنْدما يُطَالِعُ أو يَسْمَعُ أفكارَ هذا المذهبِ الخبيثِ، وهو الآن -كما مَرَّ- يَجِدُ مُؤَسَّسَاتٍ تدعو إِلَيْهِ، ومَجَلَّاتٍ وجَمْعِيَّاتٍ، وجوائزَ لِلْحَضِّ عليه والترغيبِ فِيه.
وهو يُزَيِّنُ للشباب المسلم؛ بل للمسلمين فِي كل مكان؛ من أجل أن يَتَهَافَتُوا عليه تهَافُتَ الفَرَاشِ على النار، وقد وَصَلُوا من ذَلِكَ إِلَى درجةٍ مَّا، حتى ظَهَرَ فِي مصرَ فِي هذه الآَوِنَةِ مِنَ الملاحدةِ مَنْ يَخْرُجُ لِلْمُنَاظَرَةِ على شاشاتِ التِّلْفَازِ، فَيُنَاظِرُ عَنْ مَذْهَبِهِ الْإِلْحَاديِّ، وهذه مِنْ أَعْظَمِ الدعوةِ إِلَى الْإِلْحَادِ بينَ المسلمينَ وفي المجتمعِ المسلم.
وأيضًا ظهر من الملاحدة فِي مصر مَنْ طَالَبَ اللجنةَ التي كَانَت تُعِدُّ مشروعَ الدُّستورِ المصري؛ مَنْ طَالَبَ اللجنةَ بإقرار حقوق الملاحدة فِي الدستور المصري الجديد، وذهب بعضهم للاجتماع برئيس تلك اللجنة من أجل أن يُبَيِّنَ له ما هم عليه، ومن أجل أن يعرضَ عليه وعلى اللجنة تبعًا مَطَالِبَ الملاحدةِ فِي مصر!!
ولا شك أن الَّذِي يظهر من هذا إنما هو قمة جبل الثلج، وجبلُ الثلج -كما هو معلوم- لا يَظْهَرُ منه إلا قِمَّتُهُ، وهي بالنسبة إِلَى قاعدة جبل الجليد الَّذِي يكون مَطْمُورًا أو مَغْمُورًا تحت سطح الماء؛ هذه القمةُ لا شيءَ بالنسبةِ لِبَقِيَّةِ جبلِ الجليدِ.
فالذي يظهر الآن إنما هو قمة جبل الجليد فِي هذا الْإِلْحَاد المعاصر، وما خفي كَانَ أعظم، والله المستعان وعليه التكلان.
كثيرٌ جدًا من المسلمين يحاولون، كُلٌّ بطريقته، وكُلٌّ فِي تخصصه، يحاولون صد الهجمة الْإِلْحَادية، ويكتبون الكتب، وينشرون النشْرات، ويُبَيِّنُون للمسلمين فِي المحاضرات وفي الخطب وغير ذَلِكَ خطورةَ الْإِلْحَاد، ولا يَلْتَفِتُ إِلَى خطورة الْإِلْحَاد فِي الجملة إلا جمعٌ قليل بالنسبة إِلَى المتكلمين فِي الدين.
فأكثر الَّذِينَ يتكلمون فِي الدين فِي هذا الوقت قومٌ فارغة عقولهم، غَلَبَت عليهم حماقاتهم، يَشْغَلُون المسلمين بأمور غريبة، ويُشَتِّتُونهم، ويفرقون صَفَّهَم، ويَدْعون إِلَى إحداثِ الفوضى والفساد فِي مجتمعاتِهم، وهي أفضل بيئة للإِلْحَاد؛ لأن الْإِلْحَاد مِنْ غَرَضِه: أنْ يُحدِثَ الفوضى، فإذا وقعت الفوضى؛ فهذه هي البيئة المناسبة للإِلْحَاد؛ لِذَلِكَ لم يُسْمَعْ فِي هذا الوقت ولا فِي وقت سبق عَنْ الدعوة إِلَى الْإِلْحَاد فِي مصر؛ إلَّا لَمَّا وقعت الاضطراباتُ التي وقعت فِيها، ووقع من الفوضى فِي مصر ما وقع، فظهر الْإِلْحَادُ برأسه، وَأَطَلَّ على هذا المجتمع المسلم بوجهِهِ الكَالِحِ القَبِيحِ، وارتفع صوتُ الْإِلْحَادِ يدعو إِلَى تقرير حقوقه، لا بالأمر الواقع، وإنما بقوة القانون!!
يريدون أن يَفْرِضُوا لأنفسِهم فُرُوضًا فِي هذا المجتمع بقوةِ القانون!!
ما الَّذِي دعاهم إِلَى هذا؟!!
ما الَّذِي أَفْسَحَ لهم المَجَالَ؟!!
ومَنْ أَفْسَحَ لهم المَجَالَ؟!!
ما وقع فِي مصر من هذه الاضطرابات وهذه الفوضى التي إنما كَانَت فِي مُعْظَمِها باسم دين الله رب العالمين؛ فانظر إِلَى أيِّ شيء صارت؟!!
مِن النقيض إِلَى النقيض!!
من الدعوةِ إِلَى تطبيق الشريعة، والالتزامِ بها، وإقامةِ دينِ الله فِي الْأَرْض، وإقامةِ وإعادةِ الخلافةِ الإسلاميةِ، إِلَى غير ذَلِكَ من هذه الدَّعَاوَى الفارغةِ؛ إِلَى ظهورِ الْإِلْحَادِ فِي المجتمع المسلم!!
وأما ما دُونَ الْإِلْحَادِ فَحَدِّثْ عَنِ انتشارِهِ وفُشُوِّهِ بِلا حَرَجٍ؛ مِنَ انْحِلَالِ الأخلاقِ، وَمِنَ انهيار المنظومة الأخلاقية فِي المجتمع المسلم، وفي مصر على وجه التحديد؛ فإنك ما عدت تجد صغيرًا يحترم كبيرًا، ولا كبيرًا يحنو على صغير!!
وما وجدتَ أحدًا ينظر إِلَى فضيلةٍ إلا مَنْ رَحِمَ الله!!
وصار البنات والنساء يتهافتن على أمورٍ فِيها من الانحلالِ ما فِيه باسمِ الحرية!!
ألم تَقُمْ ثورتُهُم مِنْ أجل الحرية؟!!
فهذه هي الحرية فِي جانبٍ من جوانبها!!
والله وحده يعلم إِلَى أي شيءٍ تؤول الأمور، والله المستعان.
في كتاب «الفيزياء ووجود الخَالِق» بحثٌ عَنِ الْإِلْحَادِ فِي العصر الْحَدِيث:
كان الناس فِي العصور الماضية يَعْتَقِدُونَ اعتقادًا جازمًا بوجود خالقٍ مُدبِّرٍ للكون، وكَانُوا يعدون هذا من البدائه العقلية، وكان الْإِلْحَاد بمعناه الْحَدِيثِ الَّذِي هو إنكار وُجُود هذا الخَالِق؛ كَانَ أمرًا شاذًّا لا يَقُول به إلا فرد بعد فرد من الناس، وكان الناس يجتنبونه كما يُجْتَنَبُ المرض الشديد، وَيُجْتَنَبُ المريضُ الَّذِي يُخْشَى مِنْ مرضه.
فكان الواحد بعد الواحد يُلْحِدُ هذا الْإِلْحَادَ، وظل الأمر على ذَلِكَ حتى القرنِ الثامنَ عَشَرَ الميلاديِّ على وجه التقريب، ثم بدأ الْإِلْحَادُ يَحُلُّ محل الإيمان عَنْد كثير من قادة الفكر الأوروبي، وصار بعد مَقْدَمِ الشيوعيةِ الدينَ الرسميَّ لِدُوَلِهَا.
ولما صارت للإِلْحَاد هذه المكانةُ فِي الغرب، ولما كَانَت الحضارة الغربية هي الحضارةَ السائدةَ فِي هذا العصر؛ فقد انتشر هذا الْإِلْحَاد، وانتشرت أكثرُ منه لَوَازِمُهُ فِي أرجاءِ الْمَعْمُورَةِ انتشارًا لم يُعْهَدْ له مَثِيلٌ فِيما مَضَى من الزمان على طُولِ تاريخِ الإنسانِ فِي الْأَرْض.
وكان من نتائج ذَلِكَ: أنْ صار الْإِلْحَاد من الناحية الْعِلْمية والعقلية الموقفَ الطبيعيَّ الَّذِي لا يحتاج إِلَى دليل ولا برهان، وصار المؤمن هو المطالَبَ بمثل هذا الدليل، أي انعكست الصورة، وانعكس الوضع والقاعدة!!
قديمًا كَانَ مَنْ أَلْحَدَ يُطَالَبُ بالدليلِ على إِلْحَاده، فلا يملك دليلًا، فلما فَشَا الْإِلْحَادُ، وصار الدينَ الرسميَّ لكثير من الدول الأوروبية؛ صار الملحدُ هو الَّذِي يطالِبُ المؤمنَ بأنْ يأتي بالدليل على وُجُود الخَالِق الْعَظِيم!!
وهذا انعكاسٌ للوضع، انعكاسٌ للحقيقة!!
صار الملحد الَّذِي يتحدى المؤمن، ويتهمه بعدم الْعِلْميَّةِ وعدم العقلانية، ويتهمه بالتقليد والانسياق وراء العواطف، وصار إظهار الاهتمام بالدين - لاسيما فِي وسائل الإعلام العامة - أمرًا مُسْتَغْرَبًا؛ بل منكَرًَا.
قال صاحب كتاب «ثقافة الْكُفْر»:
إنه ما أَنِ انْتَشَرَتْ بعضُ الأخبارِ ونشرَت فِي مجلة «نِيُوزْوِيكْ»، فَنُشِرَ فِيها مقالٌ عَنِ الدين، مَا أنْ نُشِرَ حتى جاء المجلةَ خطابٌ نَشَرَتْهُ من قارئٍ يَلُومُهَا على إفساح المجال لِمثْلِ هذا الهراء.
ثم يُعَلِّق على ذَلِكَ قائلًا من حيث الإحصاء:
فإنَّ كاتب الخطاب ينتمي إِلَى الأقلية -أي هذا الملحدُ ينتمي إِلَى الأقلية-، وأما سياسيًا وثقافيًا؛ فإنه ينتمي إِلَى التيار الأمريكي الغالب؛ لأن أُولَئِكَ الَّذِينَ يصلون بانتظام؛ بل أُولَئِكَ الَّذِينَ يؤمنون بالله يحرصون على إبقاء ذَلِكَ فِي السر؛ بل على عَدِّهِ سِرًا يُخْجَلُ مِنْ إفشاءه.
وذَلِكَ أَنَّهُ فِيما عدا الالتجاءِ إِلَى اللهِ الشعائريِّ الظاهريِّ المتوقَّعِ مِنْ سياسيينَ -هذا ما نشرَتْهُ المجلة!!-؛ فإنَّ الأمريكي الَّذِي يأخذ دينه مأخذ الجِدِّ، ويعده شيئًا مأمورًا به، لا مجردَ خيارٍ، يُخَاطِرُ بأنْ يُعَدَّ من المارِقِين.
صار الدينُ هو الظاهرةَ الاجتماعيةَ التي تحتاج إِلَى تفسير؛ فيقال: هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنُونَ؛ لماذا هم متدينون؟!!
هذه المجتمعات المتخلفة الرجعية، لا بد من اتخاذ الوسائل من أجل إخراجها من رجعيتها وتخلُفِها !!
كيف؟!!
بإخراجها من دينها؟!!
فصار الدينُ الظاهرةَ الاجتماعيةَ التي تحتاج إِلَى تفسير!!
وأما عدم التدين؛ فهو الأمر الطبيعي الَّذِي لا يحتاج دراسة ولا بحثًا ولا تنقيبًا!!
صار الْإِلْحَادُ القاعدةَ المعلنةَ أو المُضمرةَ التي تقوم عليها فلسفة العلوم؛ طبيعيةً كَانَت أم اجتماعيةً أم إنسانيةً؛ فصار الْإِلْحَاد لِذَلِكَ جزءًا من مفهوم الْعِلْم، ومن هنا جاءت المقابلة بين ما يسمى بالتفسير الْعِلْمي والتفسير الديني.
فالتفسير الْعِلْمي: هو التفسير الَّذِي يفترض أنَّ الكونَ مُكْتَفٍ بنفسه، لم يَخْلُقْهُ ولا يُصَرِّفُ أمرَه خالقٌ.
وأما التفسير الديني: فهو الَّذِي يجعل للإرادة الإلهية تَدَخُّلًا فِي حوادث الكون.
فصار عَنْدنا تفسيران:
تفسير علمي: وهو التفسير الْإِلْحَادي الَّذِي ينكر وُجُود الخَالِق الْعَظِيم.
وتفسير ديني: وهو الَّذِي يجعل للإرادة الإلهية تَدَخُّلًا فِي حوادث الكون.
وإذا كَانَ الْعِلْمُ قد وُضِعَ بِسَبَب فلسفته الْإِلْحَادية فِي مقابل الدين؛ فقد وُضِعَ الدينُ -مهما كَانَ نوعه- فِي زُمْرَةِ الكَهَانَةِ وَالسِّحْرِ وسائرِ أنواعِ الشعوذةِ والأساطير، أو عُدَّ حين يُحْتَرَمُ -أي الدينُ- مِنْ قَبِيلِ الأدبِ والفن الَّذِي يعبِّرُ عَنْ المشاعر، ولا يقرر الْحَقائق.
صاحَبَ هذا الْإِلْحَادَ فِي أُورُوبَّا تطورٌ هائلٌ لم يُعْهَد له مثيلٌ فِي مجالات العلوم الطبيعية، وما يقوم عليها من تِقْنِيَةٍ دَخَلَتْ نَوَاحِيَ الحياةِ المختلفةِ وسَهَّلَتْهَا، فَرَبَطَ الناسُ فِي الغرب بين هذا وذاك، فاعتقدوا أن هذا التطورَ ما كَانَ لِيَحْدُثَ لولا اطِّرَاحُ الدينِ وإحلالُ الفلسفةِ الماديةِ الْإِلْحَاديةِ العقلانيةِ التجريبيةِ مَحَلَّهُ.
وتَبِعَ الغربيين فِي هذا الاعتقادِ خَلْقٌ كثير من الأمم الأخرى، فظنوا أَنَّهُم لا يمكنهم أنْ يَبْلُغُوا شَأْوَ الغربيين فِي التقدم الْعِلْمي والتقني؛ إلا إِذَا هُمْ حَذَوْا حَذْوَهم فِي اطِّرَاحِ الدين واعتماد الفلسفة الْإِلْحَادية، وهو ما جاءنا به مَن بُعِثَ إِلَى الغرب من أجل أن يَنْقُلَ إلينا ما وَصَلَ إِلَيْهِ الغربُ من التقدم الْعِلْمي المادي، فرجعوا إلينا بأمثال هذه العقائد، وجَهِدُوا فِي أنْ يَنْشُرُوها بين المسلمين، وَوَجَدَتْ بين المسلمينَ صَدَى؛ لِأَنَّهُ تم احتضانهم من جهاتٍ بعينها، وفُرِضَتْ أفكارُهم فرضًا، وغُيِّبَ الإسلامُ بِدَرْسِهِ عَنِ الْمَدَارِسِ والجامعاتِ.
وصار عَنْدنا اتجاهانِ فِي الْعِلْم، وكان الاتجاهُ قبل ذَلِكَ واحدًا، وهو الْعِلْمُ الديني، وكان يشمل تحت عباءته الْعِلْمَ المادي، فلما وقع الفِصَامُ بين هذا وذاك؛ صار الْعِلْمُ الدينيُّ مقصورًا على أقوام بأعيانهم.
هَؤُلَاءِ لا يرتقون فِي الحياة أيَّ مرتقى، ولا يعود عليهم دينهم وتَدَيُّنُهُمْ بما يُرَقِّي حياتهم المادية بحيث يَحْيَوْنَ فِي كفاية؛ فضلًا عما وراء ذَلِكَ من التَّرَفُّهِ.
وأما الَّذِينَ سلكوا مسلك الْعِلْم المادي، أو سلكوا مسلك التعليم المدني؛ فهَؤُلَاءِ فُتِحَتْ لهم الأبوابُ، وَأُعِدَّتْ لهم الوظائفُ، وأُغْدِقَ عليهم مِنَ الأموالِ ما أُغْدِقَ مِنْ رَوَاتِبِهِمْ وَمُكَافَآَتِهِمْ، حتى صار الناس يحتقرون مَنْ يسلك مسلكَ طلبِ الْعِلْمِ الديني، ويحترمون مَنْ يسلك مسلك طلب «الْعِلْم المدني اللاديني!!»
ثم جاءت أمور شُوِّهَ فِيها مَن يتمسكُ بالدين فِي مظهره أو فِي كلامه، وصارت الرِّطَانَةُ الأعجميةُ هي السائدةَ والغالبةَ.
فالدينُ إِذَا ما احْتُرِمَ؛ فإنه يُعَدُّ مِن قبيل الأدب والفن الَّذِي يعبِّر عَنِ المشاعر، ولا يقرر الْحَقائق!!
أساطير!!
ولَكِن؛ كذَلِكَ فِي الأدبِ أساطيرُ؛ فلماذا نقبل أساطير الأدب ولا نقبل أساطير الدين؟!!
فلْنجعلْ هذا مع هذا فِي قَرَن، ولْنَنْظُرْ إِلَيْهِ على أَنَّهُ من نَتَاجِ الأدبِ والفَنِّ، فهو مُعَبِّرٌ عَن المشاعر، وليس بمقرر للحقائق، حتى إنَّ «جُومْ مِلْتُنْ» فِي «الفردوسِ المفقود» أخذ يبين طبقات الجحيم، ويجعل الناس فِي طبقات الجحيم كما يحب، فَتَصَوَّرَ أَنَّهُ قد نزل إِلَى الجحيم، وتَجَوَّلَ فِي طبقاته، وَمَرَّ على الناس الَّذِينَ يَعْرِفُهُم، إِلَى غير ذَلِكَ من تخاريفه!! وكان فِي ذَلِكَ تابعًا لِ«دَانْتِي» فِي «الكُومِيدْيَا الإلهيةِ» حذوَ النعل بالنعل؛ ولَكِنْ هي نسخةٌ معاصرة.
صاحَبَ هذا الْإِلْحَادَ فِي أُورُوبَّا تطورٌ هائلٌ -كما مَرَّ-، فرَبَطَ الناسُ بين هذا وهذا، وقالوا: هذا الَّذِي بَلَغْنَاه من التطور الماديِّ إنما بلغناه بِسَبَب المعتقدِ الَّذِي صِرْنَا إِلَيْهِ، وهو الْإِلْحَاد.
ولم يقتصر أثرُ هذا الفكر الْإِلْحَادي على مجال العلوم؛ بل دَخَلَ حياةَ الناسِ الاجتماعيةَ والسياسيةَ، فكما أن الدين أُقْصِيَ عَن المجال الْعِلْميِّ المشترَكِ بين الْعلماءِ، وصار فِي أحسن حالاته مسألةً خاصةً بالعالِمِ، ولا يَجْرُؤُ على ذِكْرِهَا !!
فلْيَتَدَيَّنْ ما شاء؛ ولَكِن ما عَلَاقةُ تَدَيُّنِهِ بالْعِلْمِ الَّذِي يُزَاوِلُهُ؟!!
دَعْكَ مِن الدفاعِ عَنْ معتقدِه أو الدعوة إِلَيْهِ!!
هذا فِي مجال العلوم !!
وأيضًا أُقْصِيَ الدينُ عَنْ المجال السياسي، حتى فِي البلاد الإسلامية إلا ما رحم ربك، وكاد أن يصير كما صار فِي الغرب مسألةً ذاتيةً تخص الفرد، ولا تتعلق بدساتيرِ البلادِ أو قوانينِها، أو سياساتِها الداخليةِ أو الخارجيةِ، أو التعليميةِ أو الإعلاميةِ.
هذا شيءٌ من مكونات الثقافة فِي المجتمعات!!
فالدين من مكونات الثقافة، لا أَنَّهُ الأصل الَّذِي تَصْدُرُ عَنْه جميع المقومات!!
ولَكِنْ يَقُولون: لا يمكن أن نستغني عَن الدين؛ ولَكِن على أَنَّهُ من مقومات الثقافة فِي المجتمع، مع ما يَدْخُلُ معه من هذه المقومات!!
فهكذا بدأ الْإِلْحَاد فِي هذا العصر، وعلى هذا النحو انتشر فِي العالم.
وأما أَسْبَاب انتشاره فِي هذا العصر الَّذِي جعل الأمور تنقلب هكذا رأسًا على عقب، بعد أن كَانَ الملحد يتوارى ناحية، وإذا طولب بالدليل عل إنكاره وجحده للخالق الْعَظِيم لم يأت بدليل؛ صار هو الَّذِي يتعجب من وُجُود مَنْ يؤمن بوجود الخَالِق الْعَظِيم!!
الذي أدى إِلَى انقلاب الأمور هكذا رأسًا على عقب، وتَحَوُّلِ كثيرٍ من الناس فِي الغرب هذا التحولَ العجيبَ مِنَ الاعترافِ بربوبيةِ الخَالِقِ إِلَى إنكارِ وُجُودِه؛ بل إِلَى محاربةِ المؤمنينَ بوجودِه حَرْبًا ضَارِيَةً بالأقلامِ، وأحيانًا بِحَدِّ السِّنَانِ، كما حَدَثَ فِي البلاد الشيوعية.
حاول كثيرٌ من الغربيين أنفسِهم أن يفسروا هذه الظاهرة، وأن يجيبوا عَنْ مثل هذه الأسئلة، وكتبوا فِي ذَلِكَ كتبًا كثيرة.
وما ذكروه من الأَسْبَاب يُجْمَلُ فِي:
*ما كَانَ من التناقض الشديد بين كثيرٍ من دعاوى الدين الَّذِي ورثوه، والْعِلْم التجريبي الَّذِي اكتشفوه -كما مر تقرير ذَلِكَ-؛ فقد وجدوا وما زالوا يجدون كثيرًا من دعاوى دينهم مخالفةً لِمَا أَثْبَتَتْهُ عُلُومُهُمُ التجريبيةُ، والأمثلةُ على ذَلِكَ كثيرةٌ جدًا.
ويكفي أن تنظر فِي كتاب «مُورِيسْ بُوكَايْ»: «الْعِلْم والكتاب المقدس والقرآن» أو «القرآن والتوراة والإنجيل فِي ضوء الْعِلْم الْحَدِيث»، كما هو فِي الطبعة المترجمة إِلَى العربية.
*كذَلِكَ كَانَ من الأَسْبَاب: التناقض بين منهج الْعِلْم التجريبي القائم على الدليل الحسي أو العقلي، ومنهجِ دينهم التسليمي؛ لأن قادتهم الدِّينِيِّينَ لم يكونوا يقبلون نقاشًا، ولا يلتزمون بالإتيان بدليل، وإنما هكذا يقررون!!
فما قرروه فهو الْحَقيقة التي لا يُشَكُّ فِيها!!
فوقع التناقض بين منهج الْعِلْم التجريبي الَّذِي يقوم على الدليل الحسي أو العقلي، وهذا المنهجِ التسليمي، بين منهجِ الْعِلْم الَّذِي يشترط الاتساق المنطقي، ومنهجِ دينِهِم الَّذِي يقبل المتناقضاتِ العقليةَ على أساس أن حقائق الدين يقبلها القلب؛ وإن رآها مخالفة لصريح العقل!!
فكذَلِكَ كَانَوا يُوهِمُونَ أتباعَ الَكِنيسةِ الغربيةِ؛ أَنَّهُ ينبغي عليك أن تقبل هذا، وأن تعتقده، وألا تناقش فِيه، فإنْ نَاقَشَ كَانَ مُهَرْطِقًا، وربما حُكِمَ بقتله.
*من الأَسْبَاب أَيْضًا: خوض كثير من علماء الدين وغيرهم من المثقفين الْمُتَدَيِّنِينَ فِي المسائل الغيبية، والحديثُ عَنْها بمجرد الرأي الَّذِي لا سند له من كتابهم، ولا دليل عليه من غيره.
مِنْ ذَلِكَ مثلًا: ما كتبه «نِيُوتِنْ» من كلامٍ مُفَصَّلٍ عَنْ طُوبُوغْرَافِيَّةِ جهنم. تكفل نِيُوتِنْ بأن يبينها لنا!!
مِن أين جاء بهذا؟!!
أَمِنْ كتابه؟! أَمْ مِن غيره؟!
أليس عالمًا؟!
فما دام عالمًا فِي فرعٍ من فروع الْعِلْم المادي؛ فلْيتكلمْ فِيما شاء!!
من ذَلِكَ: أنَّ «المُطْرَان جِيمْزْ أَشِرْ» -وهو دارسٌ مشهور للكتاب المقدس- اِسْتَنْتَجَ مِن تحليلٍ مُتَأَنٍّ لنصوصِ الكتاب المقدس أن الْأَرْض خُلِقَتْ فِي عامِ أربعٍ وأربعةِ آلافٍ «4004» قبل الميلاد!!
هكذا!!
ونُشِرَتْ هذه النتيجةُ التي تَوَصَّلَ إِلَيْهِا رئيسُ الْأَسَاقِفَةِ فِي سنةِ خمسينَ وستمائةٍ وألف «1650» من التاريخ الصليبي، ولم تلبث أن أُلْحِقَتْ بهامشِ سِفْرِ التكوينِ، إِلَى النسخة المعتَمَدَةِ للكتاب المقدس!!
كأنها نُزِّلَتْ وحيًا معصومًا!!
وظَلَّتْ به حتى زمانِ دِكْتُورْيَا، ولا يزالُ مِن المُمْكِنِ وُجُودُها أحيانًا حتى اليومِ.
لم يكن غريبًا أنْ يَأْتِيَ هذا الزَّعْمُ مِنْ رجلِ دينٍ يَعْتَمِدُ على كتابِهِ؛ لَكِنَّ الغريبَ أنَّ مُعَاصِرًا لهذا الأُسْقُفّ -وهو مُدِيرُ جامعةِ «كَامْبِرِيدج» آنذاك أَيَّدَ هذا الزعم؛ بل ذهب إِلَى أبعدَ من هذا؛ إذ زعم أنَّ الثالوثَ خَلَقَ الإنسان فِي الثالث والعشرين مِنْ أُكْتُوبر سنةَ أربعٍ وأربعةِ آَلَافٍ «4004» قَبْلَ المِيلَادِ، عَنْدَ الساعةِ التاسعةِ صباحًا!!
كما أَوْضَحَ «رُونَالْدْ مِلَرْ»؛ قَالَ: إنَّ مُدِيرَ جامعةِ «كَامْبِرِيدج» هو وحدَه الَّذِي تَبْلُغُ به الْجُرْأَةُ أنْ يَجْعَلَ تاريخَ خَلْقِ الإنسانِ وَوَقْتَه مُوَافِقًا لِبِدَايَةِ العَامِ الدراسِيِّ!!
إذا رَأَىَ الناسُ هذا كَفَرُوا بالدين.
يقولون: هذا من الدين، ونَطَقَ به الكتابُ!!
فالناس حينئذٍ لا بد أن يَشُكُّوا فِي هذا الدين، أو أن يَكْفُرُوا به.
فكان هذا من الأَسْبَاب التي أدت إِلَى ظهور هذا الْإِلْحَاد الأوروبِّيِّ وانتشارِهِ.
*وكذَلِكَ من الأَسْبَاب: الخلافُ بين الْعِلْم والدينِ الَّذِي لم يَقْتَصِرْ على مسائلِ الدينِ الفرعيةِ؛ بل شَمِلَ مسائلَه الأُصوليةَ.
فمِنَ المعروفِ الآنَ حتى عَنْد علماءِ اللَّاهُوت: أَنَّهُ ليس هُنَاكَ مِنْ دليلٍ عِلْمِيٍّ على أن الكتاب الَّذِي يَقُومُ عليه الدينُ كلُّه هو مِنْ قَوْلِ المسيحِ.
بل المعروفُ أَنَّهُ كتبه أناسٌ آَخَرُون، منهم مَنْ هو معروفٌ، ومنهم مَنْ ليس بمعروفٍ -هذا مقرَّرٌ حتى عَنْد علماءِ اللاهوت!-، وأنهم كتبوه بعدَ رَفْعِهِ بِآَمَادٍ طويلة -هم يَقُولون: بَعْدَ مَوْتِهِ، أو بَعْدَ صَلْبِهِ!!-، وأن هُنَالِكَ تناقضًا فِي أقوالِ هَؤُلَاءِ الكُتَّاب، حتى صارت دراسةُ مِثْلِ هذا التناقضِ تُسَمَّى عَنْدهم ب«النقضِ الأعلى».
هذا مشهورٌ عَنْدَهم، ليس بِمُنْكَرٍ.
فالدين لم يَدْخُلْ فِي الصِّدَامِ مع الْعِلْمِ بالمسائلِ الدينيةِ الْجُزْئِيَّةِ؛ بل بأصلِ الأصولِ فِيهِ، هذا كُلُّه هو دينُ الْكَنيسَةِ الغَرْبِيَّةِ!!
*كذَلِكَ من الأَسْبَاب: أَنَّهُ قد شَمِلَ التناقضُ فكرةَ الألوهيةِ نفسَها، فبينما يوصَفُ الإلهُ بأنه هو الخَالِقُ؛ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الولد!!
وبينما يقال: إن عيسى ابن الله؛ يقال: أَنَّهُ صُلِبَ!!
رَأَى بعضُ المؤمنين من النصارى أنَّ وصفًا كهذا لله إِذَا أُخِذَ على ظاهره التي تَدُلّ عليه اللغة؛ جَعَلَ الخَالِق تعالى مشابِهًا للمخلوقات، ففروا من هذا التشبيه إِلَى ما سماه علماؤنا من أهل السُّنة بالتعطيل، فلم يكتفوا بتأويل هذه الصفات التي تَدُلّ على المشابهة؛ بل أَوَّلُوا كل الصفات الأخرى، فجعلوا الخَالِق شيئًا مجردًا، فهو لا يوصف بالعُلو، ولا بالمباينة للمخلوقات، ولا بأنَّ له ذاتًا؛ ولا أن له صورةً؛ وإنما هو شيءٌ مُجَرَّدٌ لا يوصَفُ بصفةٍ مِنَ الصفاتِ الثُّبُوتِيَّةِ؛ كالحياةِ والسمعِ والبصرِ والكلامِ وما أشبه!!
كَتَبَ أحدُ القَسَاوِسَةِ قريبًا كتابًا أسماه: «الإلهُ الباطنيُّ»، زعم فِيه أَنَّهُ ليس لله تعالى وُجُودٌ خارجي، وأن الإيمان بالله إنْ هو إلا إيمانٌ بمجموعةٍ مِن المُثُلِ والمبادئِ الخُلُقيةِ.
هذا التصورُ التعطيليُّ للخالقِ أَصْبَحَ الآنَ التصورَ الشائعَ بين جماهيرِ المثقفينَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَتَيْنِ: النصرانيةِ واليهوديةِ.
فهذا الإيمانُ بالله عَنْدَهم، صار هذا التصورَ التعطيليَّ للخالق الْعَظِيم؛ بل ربما كَانَ الأمرُ قريبًا من ذَلِكَ؛ حتى بَيْنَ كثيرٍ مِن المثقفين من المسلمين أنفسِهم.
إنَّ المسافةَ ليست بعيدةً بين هذا التصورِ التجريبيِّ للخالقِ وبين الْإِلْحَاد.
الإِلْحَاد: إنكارٌ لوجود الخَالِق، وهذا –أي التصورُ التجريبيُّ- إنكارٌ لكلِّ صفاته، وهل يكون وُجُودُ أيِّ ذاتٍ إلا بصفاتٍ ثبوتيةٍ؟!
فمَن أنكر كلَّ الصفاتِ الثبوتيةِ؛ فقد أنكر الوجودَ، شَعَرَ بذَلِكَ أم لم يشعر؛ ولذا كَانَ مِثْلُ هذا التصورِ لِوُجُودِ الخَالِقِ مقدِّمةً مُمَهِّدَةً للإِلْحَاد، وقد فَطِنَ أئمةُ علماءِ السنةِ قديمًا إِلَى مثل هذا، فكَانُوا يَقُولون: إنَّ المُشَبِّهَ يَعْبُدُ صَنَمًا، والمُعَطِّلَ يَعْبُدُ عَدَمًا.
المشبِّهُ هو الَّذِي يَجْعَلُ صفاتِ الخَالِقِ كصفاتِ المخلوقين، وهكذا مع فارقٍ واحدٍ، هو: عِظَمُ هذه الصفاتِ حينَ يُوصَفُ بها الخَالِقُ؛ لَكِنْ يَجْعَلُونَ المُشَابَهَةَ -بل المُمَاثَلَةً- واقعةً بَيْنَ صفاتِ الخَالِق وصفاتِ المخلوقين.
وأما المُعَطِّلُ؛ فهو الَّذِي يَفِرُّ من تشبيهِ اللهِ بالمخلوقات؛ لِيَقَعَ فِي تشبيهٍ شَرٍّ منه؛ وهو: تشبيه الخَالِقِ الْعَظِيمِ بالمعدوماتِ والمستحيلاتِ؛ لأن المعدوم هو الَّذِي يوصَفُ بكل صفةٍ سَلْبِيَّةٍ؛ كَأَنْ تَقُولَ: هُوَ لَيْسَ داخِلَ العالَمِ ولا خَارِجَهُ، ولا أَمَامَ وَلَا خَلْفَ، وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ، ولا عَنْ يمينٍ ولا عَنْ شمالٍ.
وهكذا لا يوصَفُ بصفةٍ ثُبُوتيةٍ، ولا تُثْبَتُ له صفةٌ مِن الصفاتِ الثبوتيةِ؛ كَالْعَظَمَةِ، كَالْكِبْرِيَاءِ، كَالْبَصَرِ، كَالسَّمْعِ، كَالْحَيَاةِ، كَالْعُلُوِّ.
وقد أَدْرَكَ علماءُ أهلِ السنةِ خَطَرَ هذا التَّصَوُّرِ للخالقِ، فَأَلَّفُوا الكُتُبَ الكثيرةَ فِي الرَّدِّ على أصحابِهِ مِنَ الجهميةِ والمعتزلةِ قديمًا، ولولا ذَلِكَ لوُجِدَ الْإِلْحَادُ فِي العالَمِ الإسلاميِّ قديمًا، كما وُجِدَ فِي العالَمِ الغَرْبِيِّ تَبَعًا لِمَا قَرَّرَهُ المُعَطِّلَةُ الَّذِينَ ما زَادُوا فِي وَصْفِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِسَلْبِ الصفاتِ عَنْه على أنْ جَعَلُوهُ مَعْدُومًا.
فَلَوْ أنَّ إنسانًا أراد أن يُبَيِّنَ حقيقةَ المَعْدُومِ، أو صِفَةَ المَعْدُومِ، أوْ حَدَّ وتَعْرِيفَ المَعْدُومِ؛ ما وَجَدَ أَبْلَغَ مما أَتَى به أهلُ السُّلُوبِ الَّذِينَ سَلَبُوا عَن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كلَّ الصفاتِ؛ ولَكِنَّ أنواعًا مِن هذا التصورِ التعطيليِّ تَعُودُ الآنَ، فَتَنْتَشِرُ بين المُثَقَّفِينَ فِي العالَمِ الإسلاميِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ التاريخِ القديمِ، ثم بِسَبَب الْإِلْحَاد المُعَاصِرِ.
فنسأل الله أنْ يَحْفَظَ علينا وعلى المسلمين دِينَنَا، وأنْ يُثَبِّتَنَا على الْحَقِّ الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ.