فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أَمَّا بَعْدُ:
فمسألة اختلاف المطالع يقع بسببها كثير من الخلاف، و هذا الأمر اختلفت فيه الأنظار، ولم تُراعَ فيه الحكمة.
مسألة اختلاف المطالع: وهل لأهل كل بلد رؤيتهم أم أنه إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد فقد وجب على جميع المسلمين في جميع عموم الأرض أن يصوموا لرؤية من رأى ولثبوت الرؤية عند من ثبتت الرؤية عنده؟
هذا الأمر - وهو اختلاف المطالع - يحدث بسببه خلل كبير، لا يكون واضحا في بدء الشهر؛ لأن الإنسان يمكن أن يصوم ومَن حوله من أهل الإفطار ولا يُشعر به، وحتى لو شعر به غيره فإن ذلك لا يؤدي إلى كبير خلل، ولكن يقع الخلل ويقع التفريق بين الأمة في آخر الشهر؛ لأنه يصبح مفطرا في عيد, والناس من حوله في صيام؛ فيقع خلل كبير جدا، يخرج مكبرا ومهللا في الشوارع والطُّرقات, ويجتمع من هنالك من أهل السنة, يخرجون من أجل أن يجتمعوا في ساحة من الساحات, يخطب فيهم واحد منهم بعد أن يصلي بهم، يقول: نحن اليوم في عيد، وهؤلاء يعصون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يصومون في يوم العيد، وصيام يوم العيد محرم - كما هو معلوم -!
يظهر الخلل لا في أول الشهر وإنما في آخر الشهر.
مسألة اختلاف المطالع تكلم فيها العلماء سلفًا وخلفًا، وعندنا فيها كلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه بعد كلام عبد الله بن عباس في حديث كُرَيب، وهو يُدفع!
حتى يُدفع بقول القائل: هذا من اجتهاده لا من نص رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم!
وحينئذ يُرد اجتهاد ابن عباس رضي الله عنهما لاجتهاد فلان وفلان!
فأي حسرة هذه تنزل في القلوب؟!!
فعندنا كلام عبد الله بن عباس بعد الواقع المشاهد من فعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وأن الأمة لم تجتمع لا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا في عهد بعده إلى يوم الناس هذا على رؤية واحدة.
يعني: حتى الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إلى عموم الأمة بقوله: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) يقولون: هذا الخطاب موجه لعموم الأمة.
هل كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا اعتمد الرؤية يعلم بذلك أهل مكة من ليلتهم حتى يصوموا لصيامه ويفطروا لفطره صلى الله عليه و سلم؟!!
هل ثبت ذلك؟ وكيف كانوا يعلمون؟
ثم لما اتسعت الفتوحات بعد، هل كان أهل الأندلس وأهل المغرب الأقصى، وأهل الشمال من أقصى الأرض, وكذلك أهل الجنوب عند اليمن, وكذلك في أدغال إفريقية، وكذلك في الهند عند الهنود، هل كان ذلك يُتعالم به ويعلمه الناس إذا ما ثبت في صُقعٍ من أصقاع الأرض؟
هل عُمل بذلك في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أو في عهد بعده إلى يوم الناس هذا؟
فإذا؛ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما يقول: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ينبغي أن تُفهم، وقد ذكر فهمَه لها - وهو فهم السالفين من السلف الصالحين - الشيخ صالح العثيمين رحمة الله عليه, ويأتي ذكر ذلك.
هذه المسألة من المسائل المهمة التي وقع التشدد فيها، والتي وقع التمسك بها من جانب من يقول بأن رأي الجمهور وهو: أن الخطاب موجه لعموم الأمة؛ فعلى الأمة جميعا إذا ما ثبت الشهر في أرض من أرض الله رب العالمين - تدين بدين رب العالمين - أن يأخذ جميع أهل الأرض من المسلمين في عموم أصقاع الدنيا برؤية من رآه، الذين يتمسكون بهذا ويقولون به يحدث بسبب تمسكهم خلل كبير جدا.
هم يقولون: ينبغي أن نوحد الأمة.
نعم!
توحدون الأمة بتفريقها!!
وتوحدون الأمة بتمزيقها!!
وتوحدون الأمة بتشتيتها!!
ولذلك كان من حكمة الشيخ ناصر رحمة الله عليه - وهو يأخذ برأي الجمهور -, ويقول بأن النص متوجه لعموم الأمة في عموم الأرض, يقول بذلك ولكنه يقول: ولكني أرى اتِّباعًا للحكمة أن يلتزم أهل كل بلد برؤيته - وهو يقول برأي الجمهور رحمة الله عليه -, لماذا؟
لأن الذي يقول: نريد أن نوحد المسلمين ...
أنت لا تملك شيئا من أمر المسلمين، غاية ما ستصنع أن يتبعك فلان وفلان وفلان إلى ثُلَّة مباركة - لا حرج - ثُلة مباركة من أهل الخير والعلم والفقه والأناة يجتمعون في ساحة يكبرون ويهللون ويصلون ويُعَيِّدُون!
أي شيء هذا؟!
هذا اجتماع للأمة؟!
هذا ما فرضه الله رب العالمين على الأمة؟!
فلننظر في هذا الأمر، ولنبدأ بكلام الشيخ ناصر رحمة الله عليه لما علق في ((تمام المنة)) على كلام الشيخ سيد سابق رحمه الله في ((فقه السنة)) بأن اختلاف المطالع هو المُشاهد ويتفق مع الواقع، قال الشيخ ناصر معلقا:
(قلت: وهذا كلام عجيب غريب؛ لأنه إن صح أنه مُشَاهَد موافق للواقع فليس فيه أنه موافق للشرع أولا؛ ولأن الجهات - كالمطالع - أمور نسبية، ليس لها حدود مادية يمكن للناس أن يتبينوها ويقفوا عندها ثانيا).
يعني: الأرض منساحة بعضها في بعض، فكيف نقول أن هذا المطلع يختلف عن هذا المطلع؟
يقول الشيخ: (هذه أمور - أي الجهات والمطالع - نسبية ليس لها حدود مادية يمكن للناس أن يتبينوها ويقفوا عندها) يقول هذا ثانيا.
وأما أولا: (فإنه وإن كان مشاهدا وموافقا للواقع فينبغي أن يُقدم على ذلك أن يكون موافقا للشرع)، وهذا كلام متين لا حرج فيه ولا عليه.
والشيخ يريد أن يقول: كل شرق هو غرب بالنسبة لشرق قبله، وكل غرب هو شرق بالنسبة إلى غرب بعده، فمشارق ومغارب وتحديد قاطع لا يمكن أن يصل إليه أحد.
يقول: (وأنا - واللهِ - لا أدري ما الذي حمل المؤلف على اختيار هذا الرأي الشاذ, وأنْ يُعرض عن الأخذ بعموم الحديث الصحيح وبخاصة أنه مذهب الجمهور - يعنى بالحديث الصحيح (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته), قال: - هو مذهب الجمهور، كما ذكره الشيخ سيد سابق نفسه، وقد اختاره كثير من العلماء المحققين - قال: - مثل شيخ الإسلام ابن تيمية في ((الفتاوى))، والشوكاني في ((نيل الأوطار))، وصديق حسن خان في ((الروضة الندية))، وغيرهم - قال: -, فهو الحق الذي لا يصح سواه، ولا يعارضه حديث ابن عباس لأمور ذكرها الشوكاني رحمه الله - قال: - ولعل الأقوى أن يُقال: إن حديث ابن عباس ورد فيمن صام على رؤية بلده ثم بلغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم، ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا ثلاثين أو يروا هلالهم. - يقصد حديث كريب، سيأتي إن شاء الله تبارك وتعالى، قال: - وبذلك يزول الإشكال، ويبقى حديث أبى هريرة وغيره على عمومه يشمل كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد أو إقليم من غير تحديد مسافة أصلا كما قال ابن تيمية فى ((الفتاوى)), - قال: - وهذا أمر متيسر اليوم للغاية كما هو معلوم – يعني: أن تعلم أن أهل بلد من البلدان الإسلامية قد ثبتت عندهم رؤية الهلال, أن تعلم ذلك في ذات اللحظة في نفس اللحظة هذا أمر هين جدا كما هو معلوم, قال: -، ولكنه يتطلب شيئا من اهتمام الدول الإسلامية حتى تجعله حقيقة واقعية إن شاء الله تبارك و تعالى).
قال: - و هذا أمر مهم - (وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك؛ فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه؛ فيصوم بعضهم معها وبعضهم مع غيرها).
انظر إلى هذا الفقه وهذه الحكمة وهذا الفهم, بعد أن قال ما قال بكلام قوي جدا في نُصرة ما ذهب إليه رحمة الله عليه، ومهم عندنا جدا أن يكون قد شدد في المسألة جدا؛ لأنه مع تشديده في المسألة, وأن هذا هو الذي تنصره الأحاديث الصحيحة, ولا يحل لأحد أن يخالفها إلى غير ذلك مما قال, مهم جدا عندنا أن يقول ذلك؛ لأنه بعد أن قال ذلك, قال: (وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته, ولا ينقسم على نفسه؛ فيصوم بعضهم معها وبعضهم مع غيرها تقدمت في صيامها أو تأخرت لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف - يعني: عندما يصوم أقوام ويفطر آخرون تتسع دائرة الخلاف في الشعب الواحد، قال: - كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين). يقصد مصر لأن ذلك كان قد وقع فعلا فيها, ووقعت مشاحنات, ووقعت مشاجرات, ووقعت مصادمات داميات, وكل ذلك وقع منَّا بمقربة، وكل ذلك إنما أتى بالتمسك بهذا الرأي الذي لما نصره الشيخ رحمة الله عليه قال: إن الحكمة ألا يُعمل به، وأن يصوم أهل كل بلد مع بلدهم, ويتبع رؤية بلدهم، فيصوموا معا، ثم يفطرون معا، وأما أن ينقسم بعضهم على بعض فهذا ليس من دين الله رب العالمين.
قال شيخ الإسلام: (تختلف المطالع باختلاف أهل المعرفة، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا - قال: -, وهو القول الأصح للشافعية وقول في مذهب أحمد).
وقال الشيخ نجيب المطيعي: (القول بعدم اعتبار المطالع يخالف المعقول والمنقول, أما مخالفته للمعقول: فلِمَا عُلم من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات، ولأن الشمس تشرق على من كان أدنى منا للمشرق، فتشرق عليهم الشمس قبلنا، ويدخلون في حرمة الأخذ بشيء من المفطرات ونحن مفطرون، وكذلك تغرب الشمس عندهم قبلنا؛ فيفطرون ونحن صُوَّام).
إذًا؛ هذا أمر لا يماري فيه أحد، ولا تنتطح فيه عنزان، هذا أمر ثابت، يخالف المعقول من يقول: إن المطالع لا تختلف لِمَا عُلم من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات.
(وأما مخالفة هذا القول في عدم اختلاف المطالع للمنقول: فلأنه مخالف لحديث كُرَيب في صحيح مسلم).
قال كُريب: قدمت الشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم عدت إلى المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة، و صاموا، فقال: ولكنَّا رأيناه ليلة السبت؛ فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه أحمد ومسلم والترمذي وقال: (العمل على هذا الحديث عند أهل العلم).
مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قرروا بقرارهم رقم 2 بالإجماع ما خلاصته:
بعد دراسة المجلس للموضوع، وتداول الرأي فيه تقرر ما يلي:
أولا: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي عُلمت بالضرورة حِسًّا وعقلا، ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين العلماء في اعتبار المطالع من عدمه.
إذن؛ موطن النزاع ليس هو في اختلاف المطالع، فهذا لا يماري فيه أحد، وإنما موطن النزاع في اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتباره, هذا هو موطن النزاع نحدده أولا.
مجلس هيئة كبار العلماء قال:
ثانيا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الاختلاف السائغ، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع, ومنهم من لم يرَ اعتباره، واستدل كل فريق بأدلته، - وهذا إنصاف بَيِّن -.
ثم قال مجلس هيئة كبار العلماء: وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة, ونظرا لاعتبارات قدرتها الهيئة, وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرنا, ولا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد أعياد إسلامية على رؤية واحدة؛ فإن أعضاء الهيئة يقررون بقاء الأمر على ما كان عليه، وأن يكون لكل بلد إسلامي حق اختيار ما يراه بواسطة علمائه من الرأيين المشار إليهما - يعني: أن يكتفي برؤية البلد أو يأخذ برؤية من يرى من أهل الإسلام, فهذان رأيان -.
فيقول مجلس هيئة كبار العلماء: يكون لكل بلد إسلامي الحق في اختيار ما يراه بواسطة علمائه من الرأيين المشار إليهما - يقول: - أما ما يتعلق بإثبات الأهلة بالحساب، فقد أجمع أعضاء الهيئة على عدم اعتباره، وبالله التوفيق.
إذًا؛ الاختيار - كما ترى - أن يظل الأمر على ما كان عليه، أو على ما هو عليه.
الشيخ صالح (العثيمين) رحمة الله عليه سُئل سؤالا:
هناك من ينادي بربط المطالع كلها بمطالع مكة حرصا على وحدة الأمة في دخول شهر رمضان المبارك وغيره، فما رأى فضيلتكم؟
هذا السؤال، ولعل السائل كان يشير إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد محمد شاكر رحمة الله عليه في دعوته إلى توحيد المطالع جميعها في دنيا الله رب العالمين, وربطها بمطلع أو بمطالع مكة خاصة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة : 189].
قال: والحج يكون في مكة، فلمَّا ذكر الأهلة وذكر الحج - ولا يكون إلا بمكة, قال: - كأنما أومأ إلى اعتبار مطلع مكة وحده؛ لأن الناس الذين يحجون إنما يؤولون في المنتهى إلى مطلع مكة في شهر ذي الحجة، وإلا كان لهؤلاء وقفة بعرفات، ولهؤلاء وقفة بعرفات أخرى لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى تقدمت أو تأخرت، ولهؤلاء يوم نحر ولهؤلاء يوم نحر مخالف!
إلى غير ذلك من المناسك التي مرتبطة هي بالزمان الذي يتحدد على حسب مطلع مكة في شهر ذي الحجة.
الشيخ أحمد شاكر رحمة الله عليه أشار إلى ذلك ودعا إليه، واستدل بقول الله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة : 189].
قال: فلمَ ذُكر الحج هاهنا والسؤال عن الأهلة؟
قال: لأن هلال مكة هو الذي ينبغي أن يُتَّبع في جميع الشهور؛ لأنه يُتَّبع قسرا ورغما في شهر ذي الحجة وفي مناسك الحج.
هذا كلام متين، ولكن ما رأي الشيخ صالح (العثيمين) رحمة الله عليه؟
قال: (هذا من الناحية الفلكية مستحيل - أن تتحد جميع المطالع في الأرض كلها بمطالع مكة، قال: - هذا من الناحية الفلكية مستحيل؛ لأن مطالع الهلال كمال قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تختلف باختلاف أهل المعرفة بهذا العلم، وإذا كانت تختلف فإن مقتضى الدليل الأثري - يعنى: النقلي - والنظري - العقلي - أن يُجعل لكل بلد حكمه).
هذا اختياره: أن يُجعل لكل بلد حكمه، ومجلس هيئة كبار العلماء اختياره أيضا أن يكون لأهل كل بلد حكمه، فإن أخذ برؤية البلد فذلك، وإن أخذ أهل البلد برؤية غيرهم فذلك، المهم أن يتحدوا على صورة من الصور.
قال: (أما الدليل الأثري - يعني: الدليل النقلي الوارد, قال: - فقول الله تبارك وتعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة : 185]، فإذا قُدِّر أن أناسًا في أقصى الأرض ما شهدوا الشهر - أي: الهلال - وأهل مكة شهدوا الهلال, فكيف يتوجه الخطاب في هذه الآية إلى من لم يشهدوا الشهر - يعني: من لم يشهدوا الهلال -؟!).
يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} أي: الهلال {فَلْيَصُمْهُ}, يقول: هؤلاء لم يروه، كيف يتوجه لهم الخطاب بقول الله تبارك وتعالى {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة : 185]؟ يقولون: لم نشهده، لم نره، فكيف يتوجه إليهم الخطاب؟!
(أهل مكة شهدوا الهلال فكيف يتوجه الخطاب في هذه الآية إلى من لم يشهدوا الشهر؟!
قال النبي صلى الله عليه و سلم: (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته) متفق عليه، فإذا رآه أهل مكة مثلا، فكيف نلزم أهل باكستان ومن ورائهم من الشرقيين بأن يصوم مع أننا نعلم أن الهلال لم يطلع في أُفُقِهِم؟!), والخطاب متوجه إليهم أيضا (صوموا لرؤيته), يقولون: لم نره، يقول: رآه أهل مكة؛ فصوموا بصيام أهل مكة.
ما هذا؟!
(صوموا لرؤيته) انظر كيف انعكس الفهم في الدليل المُتَمَسَّك به!!
(صوموا لرؤيته) يعني: يا مسلمون .. يا موحدون في جميع آفاق الأرض إذا رأى الهلال أهل مَحَلَّة فعليكم أن تصوموا جميعا.
فُهِمَ هكذا!!
يقول: (ولكن (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته) إن رآه أهل مكة كيف نلزم أهل باكستان ومن ورائهم من الشرقيين بأن يصوموا مع أننا نعلم أن الهلال لم يطلع في أفقهم؟!
والنبي صلى الله عليه وسلم عَلَّق ذلك بالرؤية (صوموا لرؤيته)).
لم نره!
حتى تروه أو تكملوا العدة، أليس هذا هو مقتضى الدليل؟
هُوَ هُوَ.
فلمَ هذا الخلاف؟
يقول: هذا هو الدليل الأثري {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة : 185]، فأناس في أقصى الأرض لم يشهدوا الهلال، لم يروه، كيف تلزمهم برؤية من رآه؟!
وكذلك (صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته) من بأقصى الأرض لم يطلع الهلال في أُفُقِهم، فلم يروه.
تقول: (صوموا لرؤيته).
يقول: لم نره.
تقول: أهل مكة رأوه.
يقول: هذا مستحيل من الناحية النقلية والفلكية أيضًا.
فقد مر الدليل الأثري، (وأما الدليل النظري: فهو القياس الصحيح الذي لا تمكن معارضته، فنحن نعلم أن الفجر يطلع في الجهة الشرقية من الأرض قبل الجهة الغربية، فإذا طلع الفجر على الجهة الشرقية، فهل يلزمنا نحن في الجهة الغربية أن نمسك ونحن في ليل؟).
لهم مطلع، والفجر طلع عندهم فأمسكوا عن الطعام والشراب والشهوة، ونحن لم يطلع عندنا الفجر بعد، فهل إذا طلع الفجر عندهم يلزمنا حكمهم؟
يقول: (الجواب: لا، وإذا غربت الشمس في الجهة الشرقية, ولكننا نحن في النهار - أقبل الليل من هاهنا، فهم في ليل ونحن في نهار، والشمس طالعة، يُقال: الزموا حكم أولئك الذين غربت شمسهم؟! - إذا غربت الشمس في الجهة الشرقية, ولكننا نحن في النهار، فهل يجوز لنا أن نفطر؟ الجواب: لا.
إذًا؛ الهلال كالشمس تماما - الشمس تعلق بها ما مر من طلوع الفجر وإقبال الليل، هذا يتعلق بالشمس، قال: - الهلال كالشمس تماما، فالهلال توقيته توقيت شهري، والشمس توقيتها توقيت يومي، والذي قال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة : 187] - الذي قال هذا - هو الذي قال: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة : 185]، - قال: - فمقتضى الدليل الأثري النقلي والدليل النظري العقلي أن نجعل لكل مكان حكما خاصا به فيما يتعلق بالصوم والفطر، ويُربط ذلك بالعلامة الحسية التي جعلها الله في كتابه، وجعلها نبيه محمد صلى الله عليه و سلم في سنته ألا وهو شهود القمر وشهود الشمس والفجر).
هذا هو الحكم في هذه المسألة، ولو لم يكن فيه إلا قول هذا الحبر وما استدل به من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكان كافيا؛ لأنه أتى بالدليل من الكتاب والسنة, وبالدليل العقلي أيضا.
ولكن دعك من هذا, ودعك أيضا من إجازة مجلس هيئة كبار العلماء في هذا الأمر أيضا، وأنه لكل أهل بلد رؤيتهم، دعك من هذا وهذا، وخذ بكلام الشيخ ناصر, وهو يقول برأي الجمهور: وهو أنه ينبغي على المسلمين إذا ثبت الهلال في بلد - في موضع - أن يصوموا أجمعون، هو يقول بذلك، وينتصر له انتصارا كبيرا.
ولكن ما تقول في قوله: (وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه فيصوم بعضهم معها وبعضهم مع غيرها, تقدمت في صيامها أو تأخرت, لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين)؟؟
ما تقول في هذا الكلام؟؟
يقول من يقول: إنه لا بد أن يصوم المسلمون عموم المسلمين في جميع عموم الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد من بلدان المسلمين, يقول: هذا الكلام الذي يقوله الشيخ ناصر تدليس على الأمة وغش للأمة، هذا لازم قوله الذي لا يمكن أن ينفك عنه. - ولازم القول هل هو قول أو ليس بقول ؟!! - لازم هذا القول أن الشيخ يرى وجوب الصيام على من علم برؤية الهلال في غير أرضه, ويُحل له الفطر.
فكيف يكون هذا مقبولا سائغا في دين الله؟!
وأيضا يأمر من يصبح في عيد أن يصبح صائما، وهو يصبح في عيد على حسب اختيار الشيخ رحمة الله عليه بأخذه بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وقول النبي على العين والرأس (صوموا لرؤيته), ولكن الفهم فيه.
فهو يقول: إذا ثبتت رؤية هلال شوال أصبح الناس في عيد، لم يأخذ بها أهل هذا القطر، يصبحون صائمين، حينئذ يصبحون صائمين في يوم العيد!
يقول الشيخ رحمة الله عليه: عليكم أن تصوموا وأن تظلوا جميعا صائمين, وأن يكون العيد من غد, ولا تأخذوا برؤية الآخرين ما لم تجتمعوا على ذلك.
فهل يجيز الشيخ للمسلمين في قطر كامل بل في أقطار كاملة أن تخالف النبي صلى الله عليه وسلم بصيام يوم العيد, وهو الذي يدعو إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار المطالع مطلعا واحدا؟
هذا تناقض!
إذًا؛ المسألة - كما ترى - فيها هذه السعة، والرأي الذي يميل إليه القلب والعقل معا بالدليل النقلي والدليل العقلي هو ما اختاره الشيخ صالح رحمة الله عليه.
وحينئذ أن يحتج امرؤ بأن في هذا توحيدا للمسلمين وجمعا للكلمة!
هذا فيه تشتيت للمسلمين، وتفريق للكلمة.
أي عبث هذا؟!
هذا عبث - والله - بهذه الأمة المسكينة.
أليس في هذا الرأي مندوحة للفقهاء الجدد؟!
لأولئك الذين يفتاتون على دين الله رب العالمين لإحداث الفتن والقلاقل في كل مَحَلَّة، لم هذا؟!
وهذا الأمر - كما ترى - عقلا ونقلا ثابت.
ثم نقول لك أن تَتَّبع الشيخ ناصر في إجازته فيما أجازه - مع قوله بقول من يقول -, أن تتبع الشيخ في هذا, وأن تتبع قرار مجلس هيئة كبار العلماء, وأن تتبع قول الشيخ صالح رحمة الله عليه, وهو من هو فقها .. فقها, خاصة في الفقه والأصول رحمة الله عليه, فكان من أصحاب الأصول رحمة الله عليه, أن تأخذ بقوله، ومعه الدليل العقلي والنقلي, وأن تأخذ بإجازة الشيخ ناصر، وكذلك بقرار مجلس هيئة كبار العلماء أو أن تسير وراء فلان وفلان وليس معه شيء؟!
لأن الذي معه مَرَّ على هؤلاء جميعا ونظروا فيه هذا النظر الذي مر.
فيترك المرء هذه الجبال الراسية, وهذه القمم الشوامخ، ثم يذهب يتقمم هنا وهناك؟!!
ما هذا؟!
هذا عبث؛ ولذلك أدى إلى كثير من الخلل, عبث في عبث!
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.