وهذا المُلْكُ الذي يُؤتيهِ اللهُ مَن يشاءُ لا يَقدِرُ أحدٌ على إزالتِه، بل اللهُ هو الذي يُزيلُهُ مَتى شاء وكيفَ شاء وبمَا شاء، فإزالتُه على يدِ مَن لمْ يُكتَب لهُ إزالتُهُ أبعدُ مِن زوالِ الجبالِ الراسِياتِ عن أماكِنِها.
عن محمد بنِ الحنفِيَّةِ -رحمهُ الله- قالَ: «اتقوا هذه الفتن فإنه لا يستَشرِفُ هَا أحدٌ إلا استبقَته, أَلَا إن هؤلاء القوم لهُم أجلٌ ومُدةٌ, لو اجتمعَ مَن في الأرضِ أن يُزيلُوا ملكَهم لم يقدِروا على ذلكَ؛ حتى يكونَ اللهُ هو الذِي يأذنُ فيهِ, أتستَطِيعُونَ أن تُزيلُوا هذهِ الجبَال؟»
أخرجه ابن أبي شيبَة في كتابِ «الفتن» بإسنادٍ صحيحٍ.
وعن سعدِ بن حُذيفة قالَ: «رُفع إلى حذيفةَ عُيوبُ سعيدِ بن العاص، فقال: ما أدري أيَّ الأمرين أرَدتُم؛ تناولَ سلطانِ قومٍ ليس لَكُم، أم أرَدتُم ردَّ هذهِ الفتنَة، فإنها مُرسلةٌ مِن الله تَرتَعِي في الأرضِ حتى تطَأَ خِطامَها، ليس أحدٌ رادَّها ولا أحدٌ مَانِعَهَا، وليس أحدٌ متروكٌ يقول: اللهُ اللهُ إلَّا قُتِل».
واعلَم أنَّ زوالَ مُلْكِ المُلوكِ له سببان: شرعيٌّ وكونيٌّ
«اللهم إني وضَعتُ لك خالدَ بنِ الرَّيَّان؛ اللهم لا تَرفعهُ أبدًا، ثم نظرَ عمرُ في وجوهِ الحَرسِ، فدَعا عمرو بن المُهاجِر الأنصاريِّ فقال: واللهِ إنك لَتعلَمُ يا عمرو أَنهُ مَا بيني وبينَكَ قَرابَةٌ إِلَّا الإسلام, وَلكنِّي قد سمِعتُكَ تُكثِرُ تِلاوَة القرآن, ورأيتُك تُصلِّي في مَوضعٍ تظنُ أنْ لَنْ يَراكَ أحدٌ, فَرأيتُك تُحسِنُ الصلاة, خُذْ هذا السيفَ قَد وَلَّيتُكَ حَرَسِي».
لَقَد جَاءَ اللهُ سُبحَانَهُ بِالإِسلَامِ إلى أرضِ مِصر -أَدَامَ اللهُ عَليهَا إِسلَامَهَا-: *فَكَانَ أَوَّلُ غَلَاءٍ وقع بمصر في سنة «سبعٍ وثمانين من الهجرة»: والأمير يومئذٍ بمصر «عبد الله بن عبد الملك بن مروان» من قِبَلِ أبيه.
*ثم وقع غلاء في سنة «إحدى وأربعين وثلاث مئة»: فَكَثُر الفارُّن في أعمالِ مصر، وأُتلفت الغلَّات وأُتلف الكروم وغير ذلك، ثم قَصُرَ مَدُّ النيل فَنَزَعَ السعر -أي ارتفع- في شهر رمضان.
*وفي سنة «ثلاثٍ وأربعين وثلاث مئة»: عظُمَ الغلاءُ حتى بِيعَ القمحُ؛ كل وَيْبَتَيْن ونصفٍ بدينار، ثم طُلِبَ فلم يُوجد.
*ثم وقع الغلاء في «الدولة الإخشيدية» أيضًا، واستمر تِسعَ سنين متتابعة، وابتدأ في سنة «اثنتين وخمسين وثلاث مئة»: والأميرُ إذ ذاك «علىُّ بن الإخشيد» وتدبيرُ الأمور إلى الأستاذ أبى المسك كافور ، وكان سببُ الغلاء أنَّ النيلَ انتهت زيادتُهُ إلى خمسة عشر ذراعًا وأربعة أصابع، فَنَزَعَ السعر –أي: ارتفع-، ارتفع السِّعرُ بعد رِخَصٍ، فما كان بدينارٍ واحدٍ صار بثلاثةِ دنانير، وعَزَّ الخبزُ فلم يُوجد، وزادَ الغلاءُ حتى بلغَ القمحُ كلَّ وَيْبَتَيْنِ بدينار، وتمادى الغلاءُ إلى سنةِ أربعٍ وخمسين وثلاثِ مئة، ثم ماتَ كافور، فكثُرَ الاضطراب وتعددت الفتن، وكانت حروبٌ كثيرةٌ بين الجُندِ والأمراء؛ قُتِلَ فيها خلقٌ كثير، وانتُهِبَت أسواقُ البلد، وأُحرِقت مواضعُ عديدة، فاشتدَّ خَوْفُ النَّاسِ، وضاعت أموالُهم وتغيرت نيَّاتُهم، وارتفعَ السِّعرُ، وتعذَّرَ وجودُ الأقواتِ، حتى بِيعَ القمحُ كلَّ وَيْبَةٍ بدينار.
*ثم وقعَ الغلاءُ في أيامِ «الحاكمِ بأمر الله»، وذلك في سنة «سبعٍ وثمانين وثلاثِ مئة»: وكان سببهُ قصورَ النيل، فنزعَ -أي ارتفع- السِّعرُ، وطُلِبَ القمحُ فلَم يُقدر عليه، واشتد خوفُ الناس، وأُخِذَت النساءُ –أي: خُطِفن-من الطُّرق، وعَظُمَ الأمرُ، وانتهي سِعرُ الخبزِ إلى أربعةِ أرطالٍ بدرهم.
*ثم وقع في أيامِ «المُستنصر» الغلاء، الذي فَحُشَ أَمْرُهُ وشَنُعَ ذِكْرُهُ، وكان أَمدُه سبع سنين: وسببهُ ضعف السلطنة, واختلالُ أحوال المملكة, واستيلاءِ الأمراءِ على الدولةِ، واتصالُ الفتن بين العِربان, وقصور النيل، وعَدُمَ من يزرع ما شَمِلَهُ الرَّيُّ، وكان ابتداءُ ذلك في سنةِ «سبع وخمسين وأربع مئة»، فزاد السعرُ وتزايد الغلاءُ وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأراضي من الزراعة، وشَمَلَ الخَوْفُ، وخِيفت السُّبُل برًّا وبحرًا، وتَعَذَّرَ السَّيْرُ في الأماكنِ إلا بالخِفارةِ الكثيرة، وركوب الغَرر، واستولى الجوع لعدم القُوت، حتى بِيعَ رغيفُ خبزٍ في النداءِ بزُقاقِ القناديلِ من الفُسطاط كبيع الطُّرَف بخمسة عشر دينارًا، وبيعَ الإرْدب من القمح بثمانين دينارًا، وأُكِلت الكلابُ والقطط، حتى قلَّت الكلابُ؛ فبِيعَ كلبٌ ليُؤكلَ بخمسةِ دنانير.
وتزايد الحال حتى أكلَ الناسُ بعضُهم بعضًا وتحرزَ الناس، فكانت طوائفُ تجلسُ بأعلى بيوتِها، ومعهم سَلَبٌ وحِبالٌ فيها كلاليب –أي: خطاطيف-، فإذا مَرَّ بهم أحدٌ ألقوَها عليه، ونَشَلوه في أسرعِ وقتٍ وشَرَّحوا لحمَهُ وأكلوه، ثم آلَ الأمرُ إلى أنْ باعَ المستنصرُ كلَّ ما في قصرِهِ من ذخائرِ وثيابٍ وأثاثٍ وسلاحٍ وغيرِه، وصار يجلسُ على حصيرٍ، وتعطلت دواوينُهُ، وذهبَ وَقَارُهُ وكانت نساءُ القصورِ تخرُجن ناشراتٍ شعورهنَّ؛ تَصِحْنَ: الجوعَ الجوعَ، تُرِدْنَ المسيرَ إلى العراقِ؛ فتسقُطنَ عند المُصلي وتَمُتْنَ جُوعًا.
*ثم وقع الغلاءُ في «الدولة الأيوبية» وسلطنة «العادل أبي أيوب» سنة «ستٍ وتسعين وخمس مئة»: وكان سببُهُ تَوقُّف النِّيل عن الزيادةِ وقصورَهُ عن العادة، فتكاثرَ مجيءُ الناسِ مِن القُرى إلى القاهرةِ بسبب الجوع، ودخلَ فصلُ الربيع، فهبَّ هواءٌ أعقبَهُ وباءٌ وفَنَاءٌ وعُدِمَ القوتُ، حتى أكلَ الناس صِغار بني آدم من الجوع، فكان الأبُ يأكلُ ابنَهُ مَشويًّا ومطبوخًا، والمرأةُ تأكلُ وَلَدَها، فعُوقبَ جماعةٌ بسببِ ذلك، ثم فشى الأمرُ وأعيا الحكامَ، فكان يوجدُ بين ثيابِ الرجلِ والمرأةِ كَتِفُ صغير، أو فَخِذُه أو شيء من لحمِهِ، ويدخلُ بعضُهم إلى جارِه، فيَجِدُ القِدْر على النار، فينتظرُها حتى تتهيأ؛ فإذا هي لحمُ طفل!!
وأكثرُ ما يوجد ذلك في أكابرِ البيوت، ووُجِدت لحومُ الأطفالِ بالأسواقِ والطُّرقات مع الرجالِ والنساء مُخبَّأة، ثم تزايدَ الأمرُ، حتى صارَ غذاءُ الكثيرِ مِن الناسِ؛ لحومَ بني آدم بحيث ألِفُوه واعتَادُوهُ، وقلَّ مَنْعُهم منه لعدمِ القُوتِ من جميعِ الحبوب وسائرِ الخضروات وكلِّ ما تُنْبِتُهُ الأرض!!
فلما كان آخرُ الربيعِ؛ احترقَ ماءُ النيلِ في بَرمُودَة، حتى صار المقياسُ في بَرِّ مصر، وانحسرَ الماءُ عنه إلى بَرِّ الجيزة، وتغيرَ طعمُ الماءِ وريحُهُ، ثم أخذَ الماءُ في الزيادة قليلًا قليلًا إلى السادس عشر من مِسْرى؛ فزادَ أُصبعًا واحدًا، ثم وقفَ أيامًا، وأَخَذَ في زيادةٍ قويةٍ أكثرُها ذراع إلى أنْ بلغَ خمسةَ عشرَ ذراعًا وستة عشرة أُصبعًا، ثم انحطَّ من يومِهِ، فلم تنتفع به البلادُ لسرعةِ زوالِهِ، وكان أهلُ القرى قد فَنَوا، حتى إنَّ القريةَ التي كان فيها خمسُ مِئة نَفْسٍ لم يبقى بها سوى اثنين أو ثلاثة.
فهذا مما وقعَ قديمًا في مصر وحرَّره المقريزيُّ في «تاريخه».
وقال:
*ثم وقع الغلاءُ في «الدولة الأيوبية»، وسلطنة «العادل أبى أيوب»: ثم استمر أكلُ لحومِ الأطفال، وعُدِمَ الدجاج جملةً، وكانت النارُ تُوقَدُ بأخشابِ البيوت، وجماعةٌ من أهلِ السِّترِ يخرجونَ في الليل، ويتحطبونَ من المساكنِ الخالية، فإذا أصبحوا؛ باعوا الأخشابَ في الأزقَّةِ كلِّها بالقاهرةِ ومصر، وكان ما يُري في مصر من الدُّورِ المسكونةِ إلا النَّدْر - النَّادِر-.
وكان الرجلُ بالريفِ في أسفلِ مصر وأعلاها؛ يموتُ وبيدهِ المِحراث، فيخرجُ آخرُ للحَرْثِ؛ فيُصيبُهُ ما أصاب الأوَّلَ مِن المَوَتَان من شدةِ الجوع.
أراد العادلُ أنْ يوزِّعَ الفقراء على الواجدين، فَفَعَلَ ذلك بجميعِ الأمراء وأربابِ السَّعَةِ والثَّراء، كان الواحدُ من أهلِ الفَاقةِ، مِن أهلِ الجوعِ والمَسْغَبَةِ والفقرِ، إذا امتلأ بطنُهُ بالطعامِ بعد طولِ الجوعِ والطَّوى؛ يسقطَ ميتًّا، فيُدفنُ منهم كلَّ يومٍ العددُ الوفير، حتى إنَّ العادلَ قام في مُدةٍ يسيرةٍ بمُواراةِ ودفنِ نحو «مائتي ألفٍ وعشرين ألفِ ميت».
إنَّ الناس كانوا يتساقطونَ في الطُّرقاتِ من الجوعِ، ولا يمضي يوم حتى يُؤكلَ عِدةٌ من بني آدم، وتعطلت الصنائعُ، وتلاشت الأحوالُ، وَفَنِيَت الأقواتُ والنُّفوسُ، حتى قيلَ: سنةُ سبع افترست أسبابَ الحياة، فلمَّا أغاثَ اللهُ الخَلْقَ بالنَّيْلِ؛ لم يُوجَد أحدٌ يَحْرُث أو يزرع، فخرجَ الأجنادُ بغِلمَانِهم وتَوَلَّوا الحَرْثَ والزَّرْعَ بأنفُسِهم، ولم تُزرع أكثرُ الأرضِ لعَدم الفلاحين، وعُدِمَت الحيوانات جُملةً، فبِيع فَرُّوجٌ بدينارين ونصف ذهبًا.
*ووقع الغلاء ب «الدولة التركية» أيضًا في مصر: وبَلَغَ كلُّ إرْدب من القمحِ إلى مِئة درهم، ومِن الشعير ستين درهمًا، ومِن الفول إلى خمسين، واللحم بلغَ إلى ثلاثةِ دراهم للرِّطْلِ، وكانت سَنَةً شديدة.
*ودخلت سنةُ «خمسٍ وتسعين»: وبالناسِ شِدَّةٌ مِن الغلاءِ وقِلَّةِ الواصل، إلا أنهم يُمَنُّونَ أَنْفُسَهم بمجيء الغِلالِ الجديدةِ، وقد كان قَرُبَ أوانُها، فعند إدراكِ الغِلالِ؛ هَبَّت رِيحٌ سوداءُ مُظلِمَة من نحوِ بلادِ «بَرْقة» هُبوبًا عاصفًا، وَحَمَلَت تُرابًا أصفر؛ كَسَا زروعَ تلك البلاد، فهافت كلُّها ولم يقُم بها إذ ذاك إلا زرعٌ قليل، ففسدت بأجمعِها؛ ابتلاءً من اللهِ –تبارك وتعالى- بما قَدَّمت الأيادي.
وأعقبت تلك الرِّيحَ أمراضٌ وحُمِّيات عمَّت سائرَ الناسِ؛ فَنَزَعَ سِعرُ السُّكَّرِ والعَسَلِ، وما يحتاج إليه المَرضى، وعُدِمَت الفواكهُ، وبِيعَ الفروجُ بثلاثين درهمًا، والبِطيخةُ بأربعين، والرِّطْلُ من البطيخِ بدرهم، والسَّفرجَل ثلاثُ حبَّاتٍ بدرهم، والبَيض كلُّ ثلاثِ حَبَّات بدَرهم، وتزايدَ القمحُ إلى مئةٍ وتسعين للإرْدب، والشعيرُ إلى مئةٍ وعشرين.
وأَقْحَطَت مَكَّةُ -زادها اللهُ شرفًا-، فَبَلَغَ إرْدب القمح بها إلى تِسْعِ مئة درهم، والشعير إلى سبعِ مئة، فَرَحَلَ أهلُها حتى لم يبقَ بها إلا اليسيرُ مِن الناسِ، وَنَزَحَت سُكَّانُ قُرَى الحِجاز، وعُدِمَ القُوتُ ببلاد اليمن واشتدَّ الوباء، فباعوا أولادَهم في شراءِ القُوت، وفَرُّوا؛ فالتقَوا بآلِ مَكَّة وضاقت بهم البلاد، فَفَنوا كلُّهم بالجوعِ إلا طائفةٌ قليلة.
وَأَصَابَ القَحْطُ بلادَ الشَّرْقِ، وعُدَمَت دَوابُّهم، وهَلَكَت مَراعيهم، وأُمسِكَ القَطْرُ عنهم، واشتدَّ الأمرُ بمصر، وَكَثُرَ الناسُ بها مِن أهلِ الآفاق، فَعَظُمَ الجوعُ، وانتُهِبَ الخبزُ مِن الأفرانِ والحوانيت، حتى كان العجينُ إذا خرجَ من الفُرنِ؛ انتهَبَهُ الناسُ، فلا يُحملُ إلى الفرن، ولا يخرجُ الخبزُ منه إلا ومعه عِدةٌ يَحمُونَهُ بالعِصِّي من النهاية، فكان مِن الناسِ من يُلقِي نفسُهُ على الخبز ليَخْطَفَ منه، ولا يُبالي بما ينالُ رأسَهُ وبَدَنَهُ مِن الضربِ؛ لِشِدَّةِ ما نزلَ به من الجوع.
طُلِبَ الأطباءُ وبُذِلَت لهم الأموال، وكَثُر تحصيلُهم، وَكان كَسْبُ الواحدِ منهم في اليومِ مئة درهم، ثم أعيا الناسَ كثرةُ الموتى؛ فَبَلَغَت عِدَّةُ مَن يَرِدَ اسمُهُ في «الديوان السلطانيِّ» في اليوم ما يزيدُ على ثلاثةِ آلاف نَفْسٍ.
وأما الطُّرحَاء الذين مازالَ بهم رَمَقٌ من حياةٍ فلم يُحْصَر عددُهم، بحيثُ ضاقت الأرضُ بهم، وحُفِرت لهم الآبارُ والحفائرُ وأُلقوا فيها؛ وجافت –أي: أَنتَنَت- الطُّرق والنواحي والأسواق من كثرةِ الموتى ومن نتن الأجساد التي تجيفت، وَكَثُرَ أكلُ لحومِ بني آدم خصوصًا الأطفال، فكان يوجد الميتُ وعند رأسِهِ لحمُ الآدميِّ، ويُمْسِكُ بعضُهم بِمَن يَجِدَهُ مِن أجلِ أنْ يأكلَهُ، وإذا أُمسكَ واحدٌ؛ وُجِدَ معه فَخِذُ صغيرٍ أو شيءٌ من لحمهِ، وَخَلَت الضِّيَاعُ من أهلِها، حتى إنَّ القريةَ التي كان بها مئةُ نَفْسٍ لم يبقَ بها إلا نحو العشرين!! كان أكثرُهم يوجد ميتًا في مزارعِ الفولِ، لا يزالُ يأكلُ منه إذا وجدَهُ حتى يموت، ولا يستطيعُ الحُرَّاسُ رَدَّهُم لكثرتِهم.
*وفي «أول شهر رجب سنة ستٍ وثلاثين وسبع مئة»: وقع الغلاءُ بالديارِ المصرية، في أيام «الملك الناصر محمد بن قلاوون»، وعَزَّ القمحُ، ووصلَ كلُّ إرْدب إلى سبعينَ درهمًا، ووصل الفولُ إلى خمسين، والخبزُ كلُّ خمسةِ أرطالٍ بدرهم ولا يكادُ يُوجد، وعُدِمَ القمحُ من الأسواق، وصارَ على كلِّ دُكَّانٍ مِن دكاكينِ الخبازين عِدَّةٌ من الناس، وصارَ الخبزُ كالكُسْبِ من السَّواد -وهو عصارةُ الدُّهن-، وما يتبقى بعد عصرِ ذلك، فرَتَّب الوالي على كلِّ حانوتٍ أربعةً من أعوانِهِ معهم المطارقُ لدَفْعِ الناسِ عن حوانيتِ الخُبْزِ لِئَلَّا يُنْهَب.
بلاءٌ يقع، وغلاءٌ يُقّدِّرُهُ اللهُ تعالى على خَلْقِهِ في أرضهِ، يَفْعَلُ ما يشاء، ولو أنَّ الناسَ فَزِعُوا إلى رَبِّهِم–جلَّ وعلا- واستغاثوه لأغاثَهم.
*ووقع الغلاءُ في أيامِ «الأشرفِ شعبان»: وسببُهُ قصورُ النِّيلِ في «سنة ست وسبعين وسبع مئة»، فلم يبلغ ستةَ عشر ذراعًا، فانحطَّ الماءُ وارتفعَ السِّعْرُ، فَبَلَغَ القمحُ كلُّ إرْدب إلى مئةٍ وخمسين دِرهمًا، وأما الشعيرُ فقد بلغ مئة درهم، والخبزُ إلى رِطْلٍ ونِصْفٍ بدرهم، وعَزَّت الأقواتُ وقَلَّ وجودُها، فماتَ الكثيرُ من الجوعِ حتى امتلأت الطُّرقات؛ وأَعْقَبَ ذلك وباءٌ ماتَ فيه كثيرٌ من الناس، وكان السائلُ يطلب شيئًا من الطعامِ ليَشُمَّهُ، فما يزالُ يَصيحُ حتى يموت.
فهذا الموهومُ الذي يُخدعُ به الناس لا وجودَ له، بَلْ هُم الآن في رَغَدٍ ونِعْمَةٍ, في عافيةٍ وسَتْرٍ، لكنَّ الكراهية التي ما يزالُ القومُ يَبَثُّونَها في الناسِ في هذا الشعبِ الطيب النبيل؛ لكي يُحَقِّقُوا النُّبوءَةَ والوعدَ لبني إسرائيل.
لكل شيءٍ إذا ما تَمَّ نقصانُ ... فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتَها دُولٌ ... مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
تبكي الحنيفيةُ البيضاءُ من أسفٍ ... كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ
على ديارٍ من الإسلامِ خاليةٍ ... قد أقفرَت ولها بالكفر عُمرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما ... فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ ... حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلًا وله في الدهرِ موعظةٌ ... إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ
يا من لذلةِ قومٍ بعـدَ عزِّهمُ ... أحالَ حالهمُ كــفر وطُغيانُ
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم ... واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ
فلو تراهُم حيارَى لا دليلَ لهم ... عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ
ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعِهمُ ... لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ
يا رُبَّ أمٍّ وطفلٍ حيلَ بينهُمَا ... كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ
وطَفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ إذ برزت ... كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودُها العِلجُ للمكروه مكرهةً ... والعينُ باكيةٌ والقلبُ حيرانُ
لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ ... إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ