فإنه ما دام الوطنُ إسلاميًا فيجبُ الدفاعُ عنه, ويَحْرُمُ الإضرارُ بهِ والتفريطُ فيه, وقد عَرَّفَ الشيخُ الصالح محمد بن صالحٍ رحمه الله دَارَ الإسلامِ في مَعْرِضِ تَعرِيفه لِدَارِ الشِّركِ فقال:
" بلدُ الشِرك هو: الذي تُقام فيه شعائِرُ الكُفر ولا تُقام فيه شعائر الإسلام كالأذان والصلاة جماعةً والأعياد والجُمُعة على وجهٍ عامٍ شاملٍ", وإنما قلنا على وجهٍ عامٍ شاملٍ ليخرج ما تُقام فيه هذه الشعائر – يعني الأذان والصلاة جماعةً والأعياد والجُمعة - على وجهٍ محصور ؛كبلاد الكفار التي فيها أقليات مسلمة فإنها لا تكون بلاد إسلام بما تقيمه الأقليات المسلمة فيها من شعائر الإسلام، أما بلاد الإسلام فهي البلاد التي تُقام فيها هذه الشعائر على وجهٍ عامٍ شاملٍ .
فبلادنا بلادٌ إسلاميةٌ والحمد لله رب العالمين...
قال الشيخُ الألبانيُّ رحمه الله: "الأمر كما ذكره شيخ الإسلام في بعض فصولِ فتاويه: أنَّ الأرض ليست بالجدران، وإنما هي بالسُكان، فإذا كان الغالب على سكان البلد ونظامهم الإسلام فهي دارُ إسلام، وإن كانوا قد يُحكُمُون بنظامٍ ليس إسلاميًا صِرفًا أو محضًا".
والذي أشار إليه بقوله في بعض فصول فتاويه هو ما ذكره شيخ الإسلام من قوله " وكَون الأرض دار كفر أو دار إسلام أو دار الفاسقين ليس صفةً لازمةً لها, بل هي صفةٌ عارضةٌ بحسب سكانها" .
وقال في موضع أخر " والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها, فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفَّارًا ثم تصير بلاد إسلامٍ إذا أسلم أهلها" كما كانت مكة شرفها الله في أول الأمر دار كفر وحرب, فالشيخ يريد لا مجرد السُّكْنَى ولكن يقصد الغلبة على الدار والاستحواذ عليها .
قال الألباني رحمه الله "إن بلاد الإسلام اليوم ليست كما كانت من قبل، ولكنها على كل حال هي ليست بلاد كفر بل هي بلاد إسلام".
في هذه المسألة كثيرُ كلام وشبهاتٌ وحجج داحضة, ووقع فيها كثير من الخطأ ترتب عليه كثيرٌ من الشرور وسببُ ذلك اختلافهم في تحديد المناط الذي تتحول به دار الإسلام إلى دار كفر, واختلافهم في تكفير من حكم بغير ما أنزل الله وعدمه, وعدم فهم بعضهم كلام أهل العلم في هذه المسألة, وتنزيل كلامهم على غير ما يتنزل عليه, فبلادنا بلاد إسلامية, ولا عبرة بما يقوله التكفيريون ومَن لفَّ لفَّهم وحذى حذوهم؛ فإنما هم جاهلون بمقاصد الأدلة الشرعية ولا يرجعون إلى أهل العلم المعتبرين وإنما يتبعون أهواءهم .
وما دامت بلادنا إسلامية فيجب علينا أن نسعى لإستقرارها, وإكتمال أمنها, ويجب حياطتها بالرعاية والحفاظ والبذل .
قال الشيخُ ابن عثيمين كما في شرحه على رياض الصالحين "حبُّ الوطن إنْ كان إسلاميًا فهذا تحبه لأنه إسلاميً ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقطُ رأسك والوطن البعيد عن بلاد المسلمين, كلها أوطانٌ إسلامية يجب علينا أن نحميها"
حب الوطن إذا لم يتعارض مع الدين هو أمرٌ طبعيٌ فطريٌ لا لوم فيه, بل إن الدفاع عن أوطان المسلمين إذا داهمها الأعداء فرضٌ على كل من يستطيع ذلك, بل إنَّ حب الوطن إذا كانت له قدسيةٌ شرعيةٌ فهو عبادة كمحبة مكةَ والمدينة شرَّفهما الله تعالى .
لكن إذا تعارض حب الوطن مع أمر من أمور الدين كالهجرة والجهاد في سبيل الله فإن تقديم حب الوطن على الجهاد والهجرة أمرٌ محرمٌ شديد التحريم قال الله جل وعلا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)﴾ {النساء: 97-99}
لذلك خرج النبيٌّ صلى الله عليه وسلم مِن مكةَ مهاجرًا إلى المدينة, ومكةُ أحبُّ البقاع إليه, وهاجر إبراهيم عليه السلام من أرضِ العراق التي هي موطنه الأصلي إلى أرضِ الشام ومكة وقال إني مهاجرٌ إلى ربي .
وحب الوطن لكونه إسلاميًا من الإيمان, أحيانًا يشتهر على ألسن الناس أحاديث ليس لها إسناد، وليس لها صحة كقول بعضهم " حبُّ الوطن من الإيمان " وهو موضوعٌ كما في السلسلة الضعيفة, هذا غير صحيح بل حبُّ الديار الإسلامية من الإيمان, أما الوطن فقد يَرتحل الإنسان ويهاجر من بلد الكُفر إلى بلد الإسلام ولا يكون حبُّها من الإيمان بل دار الكفر مبغوضةٌ هي وأهلها, وأما الديار الإسلامية فحبها من الإيمان .
فمما يتوجب أن يدافع المسلم عن دار الإسلام العدو الذي يحاول اغتصابها واحتلالها, وأن يجاهد دونها بالأموال والأنفس احتفاظًا بما لأهلها في وطنهم من إقامةِ شعائر دينهم وعبادة ربهم وتقلُّبِهم في أملاكهم, وصَوْنِ حريمهم, وتصرفهم في معائشهم, والقيام على تربية أولادهم وذرياتهم على دين ربهم وسُنَّة نبيهم, وكلُّ ذلك يحاول العدو أن يَحول بينه وبين أولئك, فيقضي على شرفِ دينهم, ويمنع عباداتهم, وينهب أموالَهم ومقتنياتهم, ويهتك حريمهم, ويمحوَ تاريخ مجدهم, ويُفني لغتهم وعلومهم في رطانته وعوائده, فكل ذلك وأكثرُ منه مما ينويه العدو الغاصب للوطنِ تلقاء أهله, ولذا وجب الجهاد دونه لوجه الله وفي سبيله, والواجب الولاء لله ولرسوله، بمعنى أن يوالي العبد في الله ويعادي في الله, وقد يكون وطنه ليس بإسلامي, فكيف يوالي وطنه؟!
أما إن كان وطنهُ إسلاميًا فعليه أن يُحب له الخير ويسعى إليه, والولاءُ لله جلَّ وعلا؛ لأن مَن كان من المسلمين مطيعًا لله فهو وَلِيُّهُ, ومَن كان مخالفًا لدين الله فهو عدوه, وإن كان من أهل وطنه، وإن كان أخاه وعمه وأباه أو نحو ذلك, فالموالاة في الله والمعادة في الله, أما الوطن فيجب إن كان إسلاميُا أن يحب وعلى الإسلام أن يشجع على الخير في وطنه وعلى بقائه إسلاميًا, وأن يسعى لاستقرار أوضاعه وأهله, وهذا هو الواجب على كل المسلمين .
فيجب على المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى, وأن يتحابوا لا يتعادوا, وأن يتناصروا ولا يتخاذلوا, وأن يأتلفوا ولا يختلفوا حتى يستطيعوا إقامة دينهم وحفظ أعراضهم وديارهم وأموالهم, ولابد من نفي العصبية والأغراض المذمومة من الاستعلاء بالجنس أو الأرض أو غيرها فإن الأرض لا تقدس أحدًا, إنما يقدس الإنسان عمله, وميزان التفضيل عند الله تعالى هو التقوى قال تعالى ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ {الحجرات: 13}
وما أشدَّ جُرْمَ مَن يسعى لإحداث الفوضى وإطلاقِ الغرائز من قيودها وما أكبرَ إثمَ مَن سعيه لإضاعة مكاسب الإسلام في بلد يُنعم بنعمة الله عليه بهذا الدين منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان .
مَن قاتل لوطنية أو قومية أو عصبية فليس بشهيدٍ إن قُتِل, ولكن مَن قاتل لحماية وطنه الإسلامي من أجل أنه وطنٌ إسلامي فقد قاتل لحماية الدين فيكون من هذا الوجه في سبيل الله لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُقاتلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ, أَيُّ ذلِكَ في سبيلِ الله ؟ فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا، فَهوَ في سبيلِ اللهِ » والحديث متفقٌ عليه واللفظ لمسلمٍ عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه .
«مَنْ قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا، فَهوَ في سبيلِ اللهِ » فالذي قاتل حميةً نقول له لماذا تقاتلُ حميةً؟ هل هو حدب على قومك أو رغبة في بقاء الإسلام في بلادك؟ إن قال بالأول فليس بشهيد، وإن قال بالثاني فهو شهيد, وهذا كله على سبيل الإطلاق لا على التعيين .
الوطنيةُ من حيث هي عاطفةٌ تعبر عن انتماء المرء لبلده, بمعنى أن يكون انتماء المسلم لبلده ووطنه من أجل كلمة التوحيد الظاهرة وشرائع الإسلام المعلنة, ومن حيث هي قيام المسلم بحقوق وطنه المشروعة في الإسلام, الوطنية بهذا المعنى مطلبٌ شرعي, وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس السوية .
أخرج الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب والمقدسي في المختارة بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق مكة عند هجرته منها « مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ، مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يرزقه حب المدينة لمَّا انتقل إليها, فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ»
ومن لوازم الحب الشرعي للأوطان المسلمة, أن يُحافظ علي أمنها واستقرارها، وأن تُجنب الأسباب المُفضية إلي الفوضى والاضطراب والفساد، فالأمنُ في الأوطان من أعظمِ مِننِ الرحيم الرحمن علي الإنسان.
وقد قرن الله جلَّ وعلا الأمنَ بالعبادة وذلك لعِظيمِ قيمته؛ فقال جلَّ وعلا " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ "، والابتداءُ بطلبِ نِعمةِ الأمن في هذا الدعاء يدلُّ علي أنه أعظم النِعم والخيرات، وأنه لا يتم شيءٌ من مصالح الدين والدنيا إلا به.
فعلي المسلم أن يعرفَ قَدْرَ بلده الإسلامي وأن يدافع عنه، وأن يجتهد في تحصيل استقراره وأمنه، وبُعْدِه وإبعادهِ عن الفوضى، وعن الاضطراب، وعن وقوع المشاغبات، علي المسلم أن يحبَّ بلده الإسلامي، وأن يدافع عنه، وأن يموت دونه، فإنه "مَن مات دون مالهِ فهو شهيد"، والأرض مال، فمَن مات دون ماله فهو شهيد.
ومِصر التي لا يعرف أبنائُها قيمتها؛ ينبغي أن يُحافظ عليها، وأن يُحافظ علي وَحدتِها، وأن تُجنَّبَ الفوضى والاضطراب، وأن تُنعمَ بالأمن والأمان والاستقرار.
فضَّل اللهُ مِصر علي سائر البلدان، كما فضَّل بعض الناس علي بعض، والأيام والليالي بعضها علي بعض.
والفضلُ علي ضربين ؛ في دينٍ أو دنيا أو فيهما جميعًا، وقد فضَّل الله مِصر وشهِد لها في كتابه بالكَرم وعِظَم المنزلة وذكرها باسمها وخصَّها دون غيرها، وكرر ذِكرها، وأبان فضلها بآياتٍ من القرآن العظيم تُنبئُ عن مصر وأحوالها، وأحوال الأنبياء بها، والأمم الخالية والملوك الماضية، والآيات البينات.
يشهد لها بذلك القرآن وكفى به شهيدًا، ومع ذلك ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم في مصر، وفي عَجمها خاصة، وذِكره لقرابتهم ورَحمِهم، ومباركته عليهم وعلي بلدهم، وحثهِ علي برهم، ورد عنه ما لم يُروى في قومٍ من العجم غيرهم، مع ما خصها الله به من الخِصبِ والفضل، وما أنزل فيها من البركات، وأخرج منها من الأنبياء والعلماء والحكماء والخواص والملوك والعجائب، بما لم يَخْصُص الله به بلدًا غيرها ولا أرضًا سواها.
فإن ثَرَّب علينا مُثربٌ بذِكرِ الحرمين أو شنَّع مُشنعٌ، فللحرمين فضلُهما الذي لا يُدفع، وما خصهما الله به مما لا يُنكر من موضع بيته الحرام وقبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس ما فضلهما الله تعالى به بباخسٍ فضلَ مصر، ولا بناقصٍ منزلتها، فأما ما ذكره الله عز وجل في كتابه من ذِكر مصر؛ فقوله تعالي " وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً".
وما ذكره الله عز وجل حكايةً عن قول يوسف " ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ".
وقال عز وجل " اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ "،
علي أحد القولين.
وقال تعالي " وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ "، قال بعض المفسرين هي مصر، وقال بعض علماء مصر هي البهنسا، وقبط مصر مجمعون علي أن المسيح عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام كانا بالبهنسا، وانتقلا عنها إلي القدس، وقال بعض المفسرين الربوةُ: دمشق.
وقال تعالي " وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا "، وهي مَنْف مدينةُ فرعون.
وقال تعالي " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى "، هي مَنفٌ أيضا.
وقال تعالي حكايةً عن إخوة يوسف " يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ "
وقال تعالي حكايةً عن يوسف عليه السلام " وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ "، فجعل الشام بدوا.
وقال تعالي حكايةً عن فرعون وافتخارهِ بمصر " أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ".
وقال تعالي حين وصف مصر وما كان فيه آل فرعون من النعمة والمُلْك بما لم يصف به مَشرقًا ولا مَغربًا، ولا سَهلًا ولا جَبلًا، ولا برًّا ولا بحرًا " كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ", والمقامُ الكريم مصر فقد كرَّمها الله تبارك وتعالى ووصفها بالكرم في كتابه العزيز. فهل يُعلم أن بلدًا من البُلدان في جميع أقطار الأرض أثنى عليه الكتاب العزيز بمِثل هذا الثناء، أو وصفه بمِثل هذا الوصف، أو شهد له بالكرم غير مصر؟
وعند مسلمٍ في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ستُفتح عليكم بعدي مِصر فاستوصوا بقِبْطِها خيرا، فإن لكم منهم صِهرًا وذِمة." وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ستفتحون أرضا يُذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمةً ورَحما ".أخرجه الطبراني والحاكم عن كعب ابن مالك يرفعه "إذا فُتحت مصر فاستوصوا بالقِبط خيرا، فإن لهم ذمةً ورحما". صححه في السلسلة الصحيحة، فأما الرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام من القِبط من قريةٍ نحو الفَرما يقال لها أي لهاجر: أم العرب.
وأما الذِمَّة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم، تسرَّى من القِبط ماريةَ أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من قريةٍ نحو الصعيد، يقال لها حَفْن من كورةِ أنصنا، والكورة تشمل عدد من القرى ويقابلها المركز في النظام الإداري المصري الحاضر، وأنصنا مدينةٌ أزليةٌ من نواحي الصعيد شرقي النيل، وفي أوائل القرن الثالث العشر للهجرة قُيد زمامها باسم الشيخ عبادة، ومكانها اليوم الأطلالُ الواقعة شرقي النيل بمركز ملوي بمحافظة المنيا، فهي من قرية نحو الصعيد يُقال لها حفن من كورة أنصنا، فالعرب والمسلمون كافة لهم نسبٌ بمصر من جهة أمهم مارية أم إبراهيم ابنِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، والقِبط أخوالهم.
وصارت العرب كافة من مصر، بأمهم هاجر؛ لأنها أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وإسماعيل هو أبو العرب وجدُّ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعةٍ من الملوك منهم هرقل، فما أجابه أحدٌ منهم، وكتب إلى المقوقس صاحب مصر فأجابه عن كتابه جوابًا جميلا، وأهدى إليه ثيابًا وكراعًا وجارتين من القبط؛ مارية وأختها وأهدى إليه عسلًا فقبل هديته، وتسرَّى مارية، فأولدها ابنه إبراهيم، وأهدى أختها لحسان ابن ثابت فأولدها عبد الرحمن بن حسان.
وذكر المقريزيُّ في "الخطب" وابن ظهيرة في "محاسن مصر والقاهرة" والقلقشندي في "صُبح الأعشى" والنويري في "نهاية الأرب" عن عبدالله ابن عباس أنه قال: دعا نوحٌ عليه السلام ربه، لولده ولولدِ ولده: مصر بن بيصر بن حام بن نوح، وبه سُميت مصر، وهو أبو القبط، قال: اللهم بارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض المباركة التي هي أمُّ البلاد وغَوث العباد، ونهرها أفضل أنهار الدنيا واجعل فيها أفضل البركات، وسخِّر له ولولده الأرض، وذللها لهم، وقوهم عليها.
والكعبة: البيت الحرام، وهو بيت هاجر وابنِها إسماعيل عليهما السلام اللذين كانا يسكنانه، ورُوى أن البيت هدم في الجاهلية فولَّت قريش بناءه رجلا من القبط يقال له: بقوم، فأدركه الاسلام أي أدرك الإسلام البيت الحرام وهو على ذلك.
وصاهر القبط من الأنبياء إبراهيمُ الخليل عليه السلام، بتسريه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام. ويوسف بتزوجه بنت صاحب عين شمس التي ذكرها الله في كتابه، فقال: (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ)، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أصهرَ إلى المصريين بتسريه مارية أم ابراهيم عليهما السلام.
وممن ذكرهم الله تعالى في كتابه من أهل مصر، رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)، ومنهم: وزراء فرعون وجلساؤه، ذكر الله تعالى عنهم في كتابه حُسن المحضر ورجاحة العقل، قال تعالى حكاية عن فرعون: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) فهل في الدنيا جلساء مَلكٍ أرجح عقلًا وأحسن محضرًا منهم؟ حيث أنصفوا، وأمروا أن يُمتحن بمثل ما وقع لهم أنه يشبه ما جاء به، ولم يكونوا في المنزلة وقبح المحضر كوزراء نمرود، حين شاورهم في إبراهيم عليه السلام، قال تعالى حكاية عنهم: (قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) ذكر الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه العزيز.
ومنهم السحرة الذين تجمعوا لموسى حين رأوا آيات موسى ولم يُصروا على الكُفر، ولم يلبثوا أن آمنوا وسجدوا لله رب العالمين، قال جلَّ وعلا: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) وفي آيات كثيرة كرَّر ذِكرهم وأثنى عليهم، (فَاقْض مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضي هَذه الْحَيَاة الدُّنْيَا).
روى ابنُ لهيعة عن عبد الله بن هُبيرة السبئي، وبكر بن عمرو الخولاني، ويزيد بن أبي حبيب، قالوا: كان عدد السحرة اثنى عشر ساحرًا تحت يدي كل ساحر منهم عشرون عَريفا، تحت يدي كل عَريف منهم ألف من السحرة، فكان جميع السحرة يصلُ مائتي ألف وأربعين ألفا ومائتين واثنين وخمسين إنسانا بالرؤساء والعرفاء.
وأجمعت الرواة على أنه لا يُعلَم جماعة أسلمت في ساعةٍ واحدة أكثر من جماعة القبط، وروى أنه لم يفتتن رجلٌ واحد منهم كما افتتن بنو إسرائيل بعبادة العجل.
ورويَ أن عبد الله بن عمرو قال: القبط أكرم الأعاجم محتدًا، وأسمحهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب كافة، وبقريش خاصة.
وأما مَن كان بمصر مِن الأنبياء عليهم الصلاة السلام، كإبراهيم الخليل، وإسماعيل ويعقوب، ويوسف. واثنا عشر نبيًا من ولد يعقوب, وهم الأسباط وموسى وهارون ويوشع بن نون، وعيسى بن مريم، ودانيال، عليهم الصلاة والسلام. فهذا ما ذكر: مَن كان بها قبل الإسلام.
وأما مَن كان بها في الإسلام مِن الصحابة والفقهاء والعلماء والأحبار والزهاد, ومَن دخلها مِن الملوك والخلفاء وأهل العلم والشعر والنحو والخطابة، وكل مَن برع على أهل زمانه، أو نجم على أهل عصره، فيتسعُ علي الحاصر حصره, ذكر أهل العلم والمعرفة والرواية أنه دخل مصر في فتحها ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل ونيف. وقال يزيد بن أبي حبيب: وقف على إقامة قبلة المسجد الجامع ثمانون رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وفضالة بن عبيد، وعقبة بن عامر وأبو ذر, ومحمية بن جزء ونبيه بن صؤاب، ورافع بن مالك، وربيعة بن شرحبيل بن حسنة، وسعد بن أبي وقاص وعمرو ابن علقمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب وخارجة بن حذافة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وأبو رافعٍ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد بن مسلمة، ومسلمة بن مخلد، وأبو أيوب ورويفع بن ثابت، وهُبيب، ومعاوية بن حديج، وعمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة وغيرهم مِن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وقفوا علي قبلة المسجد الجامع مسجد عمرو بن العاص وهو أول مسجدٍ بأفريقيا.
وأما مَن كان بها من الفقهاء والعلماء، فمنهم: يزيد بن أبي حبيب، والليث بن سعد، وله مذهبٌ انفرد به. وهو الذي أخرج الرشيد مِن يمينه التي عجز عنها فقهاء الدنيا، ومنهم عبد الله بن وهب يفوق بتصنيفه جماعة من الفقهاء المصنفين، وله من تصنيفه نحو مائة جزء، ومنهم عبد الله بن لهيعة، له منزلةٌ في الفقه والحديث والأخبار، ومنهم أشهب، وابن القاسم وعبد الله بن عبد الحكم، وأسد بن موسى، ومحمد بن عبد الحكم، والمُزنى، والربيع المؤذن، وأحمد بن سلامة الطحاوي، وكل واحد منهم قد برع في مذهبه، ونجمَ على أهل عصره، ولكل واحد منهم من الكتب المصنفة ما يعجز عن نظيرها سائرُ أهل الدنيا. ومنهم سعيد بن عفير، ويحيى بن عثمان، وابن قديد، ومحمد بن يوسف الكِندي، وابن أبي خيثمة، وكل واحد منهم قد فاق أهل عصره وارتفع عليهم في الفقه والعلم والأخبار وأيام الناس والتفنن في سائر العلوم.
وولد بمصر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وناصر السُّنَّة الخليفة المتوكل على الله.
وأما مَن دخل مصر من الفقهاء وغيرهم، فالشعبي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومحمد بن إسماعيل بن عُلية، والشافعي الإمام، وحفصٌ الفرد وإبراهيم بن أدهم.
ودخل مصر من الخلفاء معاوية، ومروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ومروان بن محمد، والسفاح، والمنصور، والمأمون، والمعتصم، والواثق.
وأما ذِكر مصر وفضلها على غيرها من الأمصار وما خصت به وأوثرت به على غيرها، فروى أبو بصرة الغفاري قال: مصر خزانة الأرض كلها، وسلطانها سلطان الأرض كلها، قال الله جل وعلا على لسان يوسف عليه السلام.
ولم تكن تلك الخزائن بغير مصر، فأغاث الله بمصر وخزائنها كل حاضر وباد من جميع الأرض.
وجعلها الله تعالى متوسطة الدنيا، وهي في الإقليم الثالث والرابع، فسَلمت من حر الإقليم الأول والثاني، ومن برد الإقليم الخامس والسادس والسابع، فطاب هواؤها، ونُقي جوها وضعف حرها، وخف بردها، وسلم أهلها من مشاتي الجبال، ومصائف عُمان، وصواعق تهامة، ودماميل الجزيرة، وجرب اليمن، وطواعين الشام، وغيلان العراق، وعقارب عسكر مُكرم، وطلب البحرين، وحمى خيبر، وأمنوا من غارات الترك، وجيوش الروم وطوائف العرب، ومكائد الديلم، وسرايا القرامطة، وبثوق الأنهار، وقحط الأمطار، وقد اكتنفها معادن رزقها؛ وقرب تصرفها، فكثر خصبها، ورغد عيشها، ورخص سعرها. كما ذكر ذلك السيوطي في "حسن المحاضرة".
وذكر أن مصر مصورة في كتب الأوائل، وسائر المدن مادة أيديها إليها تستطعمها.
قال عمرو بن العاص: "ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة".
وأجمع أهل المعرفة: أن أهل الدنيا مضطرون إلى مصر يسافرون إليها، ويطلبون الرزق بها، وأهلها لا يطلبون الرزق في غيرها، ولا يسافرون إلى بلد سواها، حتى لو ضرب بينها وبين بلاد الدنيا لغني أهلها بما فيها عن سائر بلاد الدنيا.
كانت كذلك وستكون كذلك إن شاء الله جل وعلا، وأما فترة ضعف وانحطاط جعلت المصريين يضيقون ببلدهم ويلتمسون الرزق في أقطار الأرض فهذا أمر عارض سيزول إن شاء الله جل وعلا.
قال يحيى بن سعيد: جُلت البلاد فما رأيت الورع ببلد من البلدان أعرفه إلا بمدينة النبي صلي الله عليه وسلم وبمصر.
وقال خالد بن يزيد: كان كعب الأحبار يقول: لولا رغبتي في الشام لسكنت مصر؛ فقيل: ولم ذلك يا أبا إسحاق؟ قال: إني لأحب مصر وأهلها؛ لأنها بلدة معافاة من الفتن، وأهلها أهل عافية، فهم بذلك يعافون، ومن أرادها بسوء كبه الله على وجهه، وهو بلد مبارك لأهله فيه.
وروى عن شفي بن عبيد الأصبحي، أنه قال: مصر بلدة معافاة من الفتن لا يريدهم أحد بسوء إلا صرعه الله، ولا يريد أحد هلكهم إلا أهلكه الله.
وذكر أهل العلم أنه مكتوب في التوراة: بلد مصر خزانة الله، فمن أرادها بسوء قصمه الله.
وقال أبو الربيع السائح: نعم البلد مصر، يُحج منها بدينارين، ويُغزى منها بدرهمين. يريد الحج في بحر القلزم وهو البحر الأحمر، والغزو إلى الإسكندرية وسائر سواحل مصر.
وذكر يحيى بن عثمان، عن أحمد بن عبد الكريم، قال: جُلت الدنيا، ورأيت أهلها، ورأيت آثار الأنبياء والملوك والحكماء، ورأيت بناء كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك الأرض، ورأيت آثار سليمان بن داود عليهما السلام ببيت المقدس وتدمر، والأردن، وما بنته الشياطين بتدبير النبوة، فلم أر مثل برابي مصر على حكمتها، ولا مثل الآثار التي بها، والأبنية التي لملوكها وحكمائها.
قال الله جل وعلا (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) والمراد منبتهما وأرضهما، وهي الأرض المقدسة التي هي مظهر المسيح، (وَطُورِ سِينِينَ) المراد الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) هي مكة حرم الله وأمنه التي هي مظهر نبوة محمد صلي الله عليه وسلم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله "ذكر الله هذه الأماكن الثلاثة في سورة التين فــ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح وأنزل عليه فيها الانجيل (وَطُورِ سِينِينَ) هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليما وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة التي فيه، وأقسم بـ البلد الأمين وهو مكة، التي أسكن إبراهيم إسماعيل وأُمَه فيه وهو فاران، ولما كان ما في التوراة خبرًا عن ذلك أخبر به على الترتيب الزماني، فقدم الأسبق، ثم الذي يليه، وأما القرآن فإنه أقسم به تعظيمًا لشأنها، وإظهارًا لقدرته وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فبدأ بالعالي، ثم انتقل إلى أعلى منه، ثم إلي أعلى منهما، فإن أشرف الكتب القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل، وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قال ابن جرير رحمه الله: يقول تعالى ذكره : فلما أتى النار موسى ، ناداه ربه يا موسي (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) فخلعاه فألقاها.
واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله أمر الله موسى بخلع نعليه، وأولي القولين في ذلك بالصواب قول مَن قال: أمره الله تعالي ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي إذا كان واديًا مقدسًا .
قال الحسن: إنما أراد الله أن يباشر بقدميه بركة الأرض، وكان قد قدس مرتين، وكذا قال مجاهد، ورجح الطبري أن طوى اسمٌ للوادي.
قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم (أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِن أَنْهَارِ الجَنَّة سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ) رواه الشيرازي في "الألقاب" وصححه الألباني في "السلسة الصحيحة" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنْ الْجَنَّةِ الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ " رواه أحمد، وحسنه الألباني وغيره.
وقال المناوي:
(من أنهار الجنة) أي هي لعذوبةِ مائها وكثرة منافعها، وهضمها وتضمنها لمزيد البركة، وتشرفها بورود الأنبياء وشربهم منها ، كأنها من أنهار الجنة, أو أنه سمى الأنهار التي هي أصول أنهار الجنة بتلك الأسامي, ليعلم أنها في الجنة بمثابة الأنهار الأربعة في الدنيا ، أو أنها مسميات بتلك الأسماء فوقع الاشتراك فيها ، أو- وخرج من التأويل إلى الأخذ بالظاهر على الأصل- أو هو على ظاهره ولها مادةٌ من الجنة.
وهذا هو الصواب؛ ولا يُعدل عن الظاهر بحال.
فنيلها يقول النبي صلى الله عليه وسلم إن النيل من أنهار الجنة.
فهذه مصر التي يفرط فيها أهلها يريدون أن يسلموها لأعدائها، وأن يثخنوا بالقتل والنكاية في أبنائها.
فيقول قائلهم: ينبغي علينا أن نتعلم أن لا نرهب الدم، وأن نثخن في القوم نكاية فيهم تقتيلًا وتذبيحًا وتحريقًا!!!
هذه مصر، وهي أرض إسلامية والحمد لله رب العالمين؛ فلن يدافع عنها عصبية، وإنما يدافع عنها بالحمية الإسلامية، ولأجل دين الله جل وعلا، وليظل الأذان فيها مرفوعًا، ولتظل الجمع والجماعات والأعياد، ولتظل شعائر الإسلام فيها قائمة رغم أمف الخوارج والتكفريين عليهم مِن الله جل وعلا ما يستحقون.
مِن أَيِّ عَهدٍ في القُرى تَتَدَفَّقُ
وَبِأَيِّ كَفٍّ في المَدائِنِ تُغدِقُ
وَمِنَ السَماءِ نَزَلتَ أَم فُجِّرتَ مِن
عَليا الجِنانِ جَداوِلاً تَتَرَقرَقُ
وَبِأَيِّ عَينٍ أَم بِأَيَّةِ مُزنَةٍ
أَم أَيِّ طوفانٍ تَفيضُ وَتَفهَقُ
وَبِأَيِّ نَولٍ أَنتَ ناسِجُ بُردَةٍ
لِلضِفَّتَينِ جَديدُها لا يُخلَقُ
تَسوَدُّ ديباجاً إِذا فارَقتَها
فَإِذا حَضَرتَ اِخضَوضَرَ الإِستَبرَقُ
فهذا نيلها الذي شرفه الله رب العالمين
تابوتُ موسى لا تَزالُ جَلالَةٌ
تَبدو عَلَيكَ لَهُ وَرَيّا تُنشَقُ
وَجَمالُ يوسُفَ لا يَزالُ لِواؤُهُ
حَولَيكَ في أُفُقِ الجَلالِ يُرَنِّقُ
وَدُموعُ إِخوَتِهِ رَسائِلُ تَوبَةٍ
مَسطورُهُنَّ بِشاطِئَيكَ مُنَمَّقُ
وَصَلاةُ مَريَمَ فَوقَ زَرعِكَ لَم يَزَل
يَزكو لِذِكراها النَباتَ وَيَسمُقُ
وَخُطى المَسيحِ عَلَيكَ روحًا طاهِرًا
بَرَكاتُ رَبِّكَ وَالنَعيمُ الغَيدَقُ
وَوَدائِعُ الفاروقِ عِندَكَ دينُهُ
وَلِواؤُهُ وَبَيانُهُ وَالمَنطِقُ
بَعَثَ الصَحابَةَ يَحمِلونَ مِنَ الهُدى
وَالحَقِّ ما يُحيي العُقولَ وَيَفتُقُ
فَتحُ الفُتوحِ مِنَ المَلائِكِ رَزدَقٌ
فيهِ وَمِن أَصحابِ بَدرٍ رَزدَقُ - أي صف - .
يَبنونَ لِلَّهِ الكِنانَةَ بِالقَنا
وَاللَهُ مِن حَولِ البِناءِ مُوَفِّقُ
أَحلاسُ خَيلٍ بَيْدَ أَنَّ حُسامَهُم
في السِلمِ مِن حِذرِ الحَوادِثِ مُقلَقُ
تُطوى البِلادُ لَهُم وَيُنجِدُ جَيشُهُم
جَيشٌ مِنَ الأَخلاقِ غازٍ مورِقُ
في الحَقِّ سُلَّ وَفيهِ أُغمِدَ سَيفُهُم
سَيفُ الكَريمِ مِنَ الجَهالَةِ يَفرَقُ
ما كانَتِ الفُسطاطُ إِلّا حائِطًا
يَأوي الضَعيفُ لِرُكنِهِ وَالمُرهَقُ
وَبِهِ تَلوذُ الطَيرُ في طَلَبِ الكَرى
وَيَبيتُ قَيصَرُ وَهوَ مِنهُ مُؤَرَّقُ
عَمرٌو عَلى شَطبِ الحَصيرِ مُعَصَّبٌ
بِقِلادَةِ اللَهِ العَلِيِّ مُطَوَّقُ
إنها مصر التي لا يعرف قدرها أبناؤها، ويدَّعون أنهم يريدون الخير لها؛ وإنما يريدون بيعها بيعًا رخيصًافي مزادات أولاد الخنا.
إنها مصر التي يفرِّطُ فيها أبناؤها ممن يدعون أنهم ينتمون إلى الدين الحنيف، وبسم الدين الحنيف وهو منهم برئ.
يريدون الفوضى فيها، يريدون هتك الأعراض، وسبي النساء، واستلال الثروات، وإزهاق الأرواح، وسفك الدماء. فنسأل الله تعالى أن يعاملهم بعدله وهو على كل شئ قدير.
فهذه الأيام العظيمة، وهذه الساعات القليلة قد أظلتنا ببركات من ربنا ونصر قريب، إنها أيام العشر الأواخر من رمضان، وهي بداية نهاية الشهر العظيم، ولها مزية على باقي أيام الشهر؛ فمن مزاياها وخصائصها:
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيها فوق ما كان يجتهد في غيرها من أيام الشهر، كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يجتهد في غيرِه".
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُحيي الليل فيها، كما قالت عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»، والحديث في الصحيحين.
ومن مبالغته صلى الله عليه وسلم فيها أنه كان يشد مأزره يعتزل النساء اشتغالا بالعبادة وتفرغا لها، وكان يعتكف في العشر الأواخر صلى الله عليه وسلم.
فعلينا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونتفرغ للعبادة.
وعلينا ألا يفوتنا شئ من هذه الأيام والليالي القلائل؛ فإن فيها أجرا عظيما.
وعلينا أن نتحرى ليلة القدر ونجتهد في الطاعة والعبادة، وأن نتعرض لنفحات الرب الكريم الجواد المتفضل، وأن نكثر من الدعاء والتضرع.
في حياة الأمم والشعوب أحداث خالدة، وأيام مجيدة تحمل قي طياتها ما يفرح القلوب، ويبهج النفوس؛ ولقد شرفت هذه الأمة بأعظم الأحداث وأكمل الأيام وأتم الليالي.
فمما أنعم الله به على هذه الأمة ليلة وصفها الله عز وجل بأنها مباركة؛ لكثرة خيرها ولبركتها وفضلها، فمن بركتها:
أن هذا القرآن الكريم أنزل فيها، ووصفها الله عز وجل بأنها يُفْرَقُ فيها كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ؛ أي تقدر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام.
فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والحاج والداج، والعزيز والذليل، والجدب والقحط، والغني والفقير، وكل ما أراده الله عز وجل في تلك السنة، فيكتب هذا كنسخة سنوية منسوخة من اللوح المحفوظ .
فهذه كتابة سنوية في ليلة القدر من كل عام، يستنسخ من اللوح المحفوظ نسخة بما يكون في هذا العام من ليلة القدر إلى ليلة القدر من العام المقبل:( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)
أنزل الله فيها القرآن وبه هداية البشر وسعادتهم في الدارين وعظَّم الله رب العالمين ليلة القدر فقال " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ "، وهذا الاستفهام للتفخيم، وذَكَر الله جل وعلا أن هذه الليلة خيرٌ من ألف شهر أي خيرٌ مما يزيد علي ثلاثٍ وثمانين سنة، تتنزل الملائكة فيها، والملائكة لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة، وهي سلام لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب لما يقوم به العباد من الطاعة لرب الأرباب، وقد أنزل الله فيها سورة كاملة تُتلي إلي أن يرفع الله القرآن من الصدور والسطور بين يدي القيامة.
ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالي عنه أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم قال " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ".
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم " الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِى الْوَتْرِ"، وقال " الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ "، ليلة القدر في تاسعةٍ تبقي، في سابعةٍ تبقي، في خامسةٍ تبقي، فهي في الأوتار من العَشر الأواخر؛ أي ليالي إحدى وعشرين، وثلاثٍ وعشرين، وخمسٍ وعشرين، وتسعٍ وعشرين كما ثبت عن النبي الأمين صلي الله عليه وسلم " الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ".
ليلةُ القدر ليلةٌ من ليالي شهر رمضان في العَشر الأواخر وفي الأوتار من العشر الأواخر، وهي تدور كل عام في رمضان في العَشر الأواخر في الأوتار منها، ولم تُرفع وإنما رُفع عِلْمُ تعيينها لمَّا خرج النبي صلي الله عليه وسلم ليخبرهم بتعيين ليلة القدر علي سبيل التحديد في ليلة كذا؛ فتلاحى رجلان، فاحتقا، فاستبا، تخاصما وتنازعا، فقال النبي صلي الله عليه وسلم " خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فاحتق فُلَانٌ وَفُلَانٌ ، فاختصم فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ ".
فهذه عاقبة الخصام، فينبغي علينا أن نُطهر قلوبنا للمسلمين، أن نطهر قلوبنا لأهل القِبلة، ينبغي علينا أن نحبَّ المسلمين، وأن نحرص علي مزيد هدايتهم، وأن نحرص علي الخير لهم دنيا وآخرة، لا أن نُهرق دمائهم، وأن نزهق أرواحهم، وأن نقتلهم غيلةً وغدرًا صائمين لله رب العالمين، وربما كانوا تالين لآيات القرآن الكريم أو مُسبحين أو مصلين، ثم يزعم الزاعمون أنهم يقتلون المرتدين، ألا شاهت الوجوه!!
اسألُ اللهَ جلَّ وعلا أن يُسلِم بلدنا وجميع بلدان المسلمين من كل سوء.
اللهم طَهِّر بلادنا من الخوارج يا رب العالمين.
اللهم طَهِّر بلادنا من الخوارج يا رب العالمين.
اللهم طَهِّر بلادنا من الخوارج يا رب العالمين.
وطَهِّر سائر بلاد المسلمين من هؤلاء الخوارج الملاعين يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نَبِيِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَأصْحَابِهِ ومن تَبعهم بإحسانٍ إلي يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.