فإنَّ الدرسَ الوحيدَ الذي نتعلمهُ مِن التاريخ, هو أننا لا نتعلمُ من التاريخ.
فمَروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أُمية أبو عبد الملك, آخرُ خلفاءِ بني أُمية وبه انقضت دولتُهم, قُتل سَنَةَ ثنتين وثلاثين ومائة، وكان يُلَقَّب بالحمار لجسارته في الحروب ولِصِدامه.
قال ابن كثيرٍ رحمه الله:
كان شجاعًا, بطلًا مِقدامًا, حازمَ الرأي لا يُفارقُ الغزو, ولكن مَنْ يَخذُلِ اللهُ يُخْذَل.
قال ابن كثير رحمه الله:
جلس مروان يومًا وقد أُحيط به, وعلى رأسه خادمٌ له قائم، فقال مروان لبعض مَنْ يُخاطبه: ألَا ترى ما نحن فيه ؟ لَهْفِي على أيدٍ ما ذُكِرَت، ونِعَمٍ ما شُكِرَت، ودولةٍ ما نُصِرَت.
فقال له الخادم: يا أميرَ المؤمنين مَنْ تركَ القليلَ حتى يَكثُر، والصغيرَ حتى يكبُر، والخفيَّ حتى يظهر، وأخَّرَ فِعْلَ اليومِ لغد، حلَّ به أكثرُ مِن هذا.
فقال مروان: هذا القول أشدُّ عليَّ مِن فَقْدِ الخلافة.
فهذا درسٌ مِن دروسِ التاريخ.
نتعلم مِن التاريخ درسًا واحدًا وهو أننا لا نتعلمُ مِن التاريخ.
مَنْ ترك القليلَ حتى يكثُر، والصغيرَ حتى يكبُر، والخفيَّ حتى يظهر، وأخَّرَ فِعْلَ اليومِ لغد، حلَّ به أكثرُ مِن هذا.
في أواخرِ سَنَة سبع وثمانين وثمانمائة تولى عرشَ غِرناطة أبو عبد الله الصغير محمد بن أبي الحسن عليّ، وكان والدهُ أبو الحسنِ عليٌّ قد تزوج على زوجته الحُرِّةِ عائشةَ زوجةً نصرانيةً سُميت الثُّريا، وأبو عبد الله الصغير هو وَلدُها.
كانت غِرناطةُ آخرَ مَعَاقلِ الإسلام في الأندلس، وبتسليمها ولَّت دولةُ المسلمين في الأندلس، وقد وقَّع السلطانُ أبو عبد الله الصغير معاهدةَ التسليم للمَلِكَين الكاثوليكيين: فرناندو وإيزابيلا في المُحرم سَنَةَ سبعٍ وتسعين وثمانمائة.
وفي ربيعٍ الأول مِن السَّنَةِ نفسها, دخلَ المَلِكَان الكاثوليكيان مدينةَ غرناطة وقصورَ الحمراء، وكان أبو عبد الله الصغير قد تقدَّم فسلَّم مفاتيحَ المدينة ووقف بعيدًا يبكي.
فقالت له عائشةُ الحُرَّة:
ابكِ مِثل النساء مُلْكًا لم تحافظ عليه مِثل الرجال.
ثم هاجر هو وأبناؤه إلى المغرب فنزل بِفَاس، وكان يعيش هو وأبناؤهُ على هِبات المحسنين.
فهذا درسٌ آخر مِن دروسِ التاريخ.
والدرسُ الوحيد الذي تعلمناه مِن التاريخ هو أننا لا نتعلمُ مِن التاريخ.
إنَّ الضمير هو ما تُضمِرُه في نفسك، ويصعُب الوقوف عليه، وهو استعدادٌ نفسيٌ لإدراك الخبيث والطيب مِن الأعمالِ والأقوالِ والأفكار, والتفرقةِ بينها, واستحسانِ الحَسن, واستقباحِ القبيح منها.
والضميرُ على هذا يتعلق بظاهر الإنسان, بحركاتهِ وسكناتهِ، بنطقهِ وصمتهِ، بإقبالِه وإدبارِه، ببَسْطه وقبضه، كما يتعلق بباطنهِ مِن حُبه وبغضِه، وخوفهِ ورجائهِ، وأَمَلِه ويأسِه، وأمانتهِ وخيانته.
والخيانةُ خاصة أشدُ الأمور تعلقًا بالضمير؛ لأن الخيانة متعلقةٌ بحركة الحياة كُلِّها، فالقلوبُ تَخُون، والأعينُ تَخُون، والجوارحُ تَخُون، والخواطرُ تَخُون.
وقديمًا كانت العربُ تَتَمَدَّحُ بالأمانة ومجانبة الخيانة.
وضربَت العربُ المَثلَ بوفاءِ السَّمَوأَلِ بن عَادِيا، وقد ذَبحَ بَنُو أسدٍ ابنَ السَّمَوْأَلِ تحت ناظريه، وهو يتطلع إلى ولده يُذبَحُ تحت عينيه مِن حِصنٍ كان فيه.
وَأَبَى أنْ يخُونَ امرأ القيس في أَدْرَاعِه حتى سلَّمهَا له؛ فقالت العربُ: أَوْفَى من السَّمَوْأَلِ
إسنادُ الأمرِ إلى غير أهله إنما يكون عند غَلبةِ الجهل ورفعِ العلم, وذلك مِن جُملة الإفراط, ومقتضاه أنَّ العلمَ ما دام قائما ففي الأمر فُسحة.
والمرادُ أيضًا مِن الأمر: جِنس الأمُور التي تتعلق بالدين، كالخِلافةِ، والإمارةِ، والقضاءِ، والإفتاءِ وغير ذلك, فإذا وُسِّدت هذه الأمورُ إلى غيرِ أهلها, فإنَّ في ذلك ضياعَ الأمة, وذَهاب مصالحِ المسلمين.
عن زيد بن ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمِ: «أولُ ما يُرفعُ مِن الناسِ الأمانةُ - أولُ ما يُرفعُ مِن الناسِ الأمانةُ -، وآخرُ ما يبقى مِن دينهم الصلاةُ، ورُبَّ مُصَلٍّ لا خَلاقَ له عند الله» . حسَّنه في صحيح الجامع.
الخيانةُ تُشَّمُ رائحتُها في كل مكان، وما يُخافُ على مِصرَ اليوم مِن شيءٍ هو أكبرُ مِن الخيانة.
الخيانة تُشَمُّ في كل مكان؛ فنسأل اللهَ العافيةَ والسلامة.
في الموسوعة:
الخيانةُ لغةً: مصدرُ قولهِم: خان يخون، وهو مأخوذ مِن مادة (خ و ن) الَّتي تدلُّ على التَّنقُّص، يقال: خانَهُ يخونُه خونًا، وذلك نُقصانُ الوفاء، وتخوَّنَنِي فلانٌ: أي تَنقَّصَني، ونقيض الخيانة الأمانة، يقال: خُنتَ فلانًا، وخُنتَ أمانةَ فلان، وعلى ذلك
فخيانتُهم للهِ ورسولِه كانت بإظهارِ مَن أظهر مِنهم للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ والمؤمنين الإيمانَ في الظّاهر, وهو يَسْتَسِرُّ الكُفر والغشَّ لهم في الباطن, ويدلُّون المشركين على عورَاتهم, ويخبرونهم بما خفي عنهم مِن خبرهم، قيل:
نزلت في منافقٍ كتب إلى أبي سفيان يُطْلِعُهُ على سِرِّ المسلمين.
وقوله: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } هي ما يَخفى عن أعين النَّاس مِن فرائضِ الله، وقيل: هي الدِّين.
والاخْتِيَان: مراودة الخيانة، أي تَحرُّك شهوة الإنسان لتحرِّي الخيانة.
قيل في تفسير هذه الآية: معناه أنْ يستأمر بعضُكم بعضًا في موافقةِ المحظور مِن الجماع، والأكلِ بعد النَّوم في ليالي الصَّوم، وقيل: إنَّ المُراد، أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يريدُ خيانة نفسه، وسُمِّي خائنًا لأنَّ الضَّرر عائدٌ عليه.
ويقال: خَانَهُ في كذا، يَخُونُهُ خَوْنًا وخِيَانَةً وخَانَةً ومَخَانَة: ائتُمِنَ فلم ينصح.
وخان العهد نقضه، ويقال: خان العهد والأمانة أي في العهدِ والأمانة. ويقال أيضًا: خان عهدَه وأمانته.
وخان الرَّجُلُ خَوْنًا كان به خَونٌ أي ضعف وفَتْرَةٌ في نظره، وخوَّنَهُ تَخْوِينًا نسبه إلى الخيانة.
وتَخَوَّنَهُ أيضًا: تعَهَّده.
واخْتَانَهُ اخْتِيَانًا بمعنى خَانَه، والاخْتِيَانُ أبلغ مِن الخيانة. كما أنَّ الاكتساب أبلغ مِن الكسب، واسْتَخَانَهُ استِخَانَةً حاول خِيانَتَهُ.
والخائن اسم فاعل، جمعُه خَانَةٌ وخَوَنَةٌ وخُوَّان.
والخائنة: مؤنَّث الخائن، وقد يستعمل للخائن أيضًا بزيادة التَّاء المربوطة للمبالغة, كـ رَاوِيَة للكثِير الرِّوَايَةِ .
وخائنة الأعين ما يُسارَقُ من النَّظرِ إلى مَا لَا يَحل. وقيل: هي أن ينظر نظرةً بِرِيبَة.
ومنه الحديث: «وما كان لنبيٍّ أنْ تكون له خائنةُ الأعين» أي يُضْمِرُ في نفسه غير ما يُظهِرهُ فإذا كفَّ لسانه وأَوْمَأ بعينه فقد خان .
الخيانة: هي الاستبدادُ بما يُؤتمن الإنسان عليه, - بما يُؤتمن الإنسان عليه- من الأموال والأعراض والحُرَم، وتملُّك ما يُستودع، ومجاحدةُ مُودِعِه، وفيها أيضًا طيُّ الأخبارِ إذا نُدِبَ لتأديتها، وتحريف الرَّسائل إذا تحمَّلها فصرفها عن وجوهها.
طيُّ الأخبارِ إذا نُدِبَ لتأديتها, في القانون العسكري: مَنْ عَلِم ولم يُبلِّغ فهو كالمباشر المتسبب، يعني في العقوبة وفي الإثم، وهو كذلك؛ لأنه إذا عَلِم ولم يبلغ فقد رضي.
والرِّضا بالكُفر كُفر، والرِّضا بالمعصية معصية، والرِّضا بالكبيرة كبيرة، والرِّضا بالصغيرة صغيرة فهو مشاركٌ في الإثم وما ينتجُ بعدُ مِن الضرر.
مَنْ عَلِمَ ولم يبلغ فهو خائن كالخائن المباشر حذوَ النعلِ بالنعل.
قال المُنَاويُّ: الخيانة: هي التَّفريط في الأمانة، وقيل: هي مخالفة الحقِّ بنقض العهد في السِّرِّ.
وقال الكَفَوِيُّ: إنَّ الخيانة تقال اعتبارًا بالعهد والأمانة، وخيانة الأعين: ما تَسَارَقَ مِن النَّظر إلى ما لا يحل .
وقالَ ابن الجوزيُّ: الخيانة: التَّفريط فيما يؤتمن الإنسان عليه. ونقيضُها: الأمانة.
نزلت في طُعْمَةَ بنِ أُبَيرِقٍ المنافق كان عنده دِرعٌ فخانها ـ قيل نزلت فيه ـ .
ومن معاني كلمة الخيانة في القرآن:
المخالفةُ في الدِّين، ومنه قوله تعالى في التّحريم: ﴿ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ (التحريم: ١٠)
وزاد ابنُ سلَّام وجهًا خامسًا فقال:
والخيانة تعني الزِّنا في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ (يوسف: ٥٢) .
وقد عدَّ الإمام الذَّهبيُّ الخيانة مِن الكبائر، بدليل قولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمِ: «آيةُ المنافق ثلاث، إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان»
ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمِ أيضًا «أدِّ الأمانة لمِنْ ائتمنك، ولا تخُن مَن خانك».
قال: الخيانةُ قبيحةٌ في كلِّ شيء، وبعضها شرٌّ مِن بعض، وليس مَن خانَك في فَلْسٍ كمَنْ خانك في أهلك, كمَن خانك في أهلك ومالِك وارتكب العظائم.
وأمَّا ابنُ حجرٍ فقد ذكر: أنَّ الخيانة في الأمانات والوديعة والعين المرهونة والمستأجرة أو غير ذلك مِن الكبائر، وقال: عَدُّ ذلك كبيرةً هو ما صرَّح به غيرُ واحد، وهو ظاهرٌ مِمَّا ذُكر في الآيات والأحاديث.
فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمْرين، وأداء الأمانتين ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾ (النساء: ٥٨)
وكذلك العهد، يشمل العهد الذي بينهم وبين ربِّهم, والذي بينهم وبين العباد، وهي الالتزامات والعقود، التي يَعقِدُها العبد، فعليه مراعاتها والوفاء بها، ويَحْرُم عليه التفريطُ فيها وإهمالُها.
الأمانات كل ما ائتُمن عليه الإنسان وأُمِرَ بالقيام به، فأَمَر الله عباده بأدائها أي: كاملةً مُوفَّرةً، لا منقوصةً ولا مبخوسةً، ولا مَمْطُولًا بها، ويدخل في ذلك أماناتُ الولاياتِ والأموالِ والأسرار؛ والمأموراتِ التي لا يطَّلِع عليها إلَّا الله، وقد ذكر الفقهاء على أن مَن اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرزِ مثلها، قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلَّا بحفظها؛ فوجب ذلك.
وفي قوله: {إِلَىٰ أَهْلِهَا} دلالة على أنها لا تُدفع وتؤدى لغير المؤتمِن، ووكيلُه بمنزلته؛ فلو دفعها لغيرِ صاحبها لم يكن مؤديًا لها.
{وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وهذا يشمل الحكمَ بينهم في الدماء, والأموال والأعراض، القليلِ مِن ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبَرِّ والفاجر، والوَلِيِّ والعدو.
والمراد بالعدل الذي أمر الله عز وجل بالحكم به, هو ما شرعه الله على لسانِ رسولهِ مِن الحدود والأحكام، وهذا يستلزمُ معرفة العدل ليحَكم به، ولمَّا كانت هذه أوامرَ حسنةً عادلة قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وهذا مَدحٌ مِن الله لأوامِره ونواهِيه، لاشتمالِها على مصالحِ الدارين ودَفعِ مضارِّهما، لأنَّ شارِعها السميعُ البصير الذي لا تخفى عليه خافية، يعلم مِن مصالح العباد ما لا يعلمون.
ثم أمر بطاعتهِ وطاعةِ رسوله وذلك بامتثالِ أمرِهما، الواجب والمُستحب، واجتناب نهيِهما، وأمر بطاعة أُولي الأمر، وهم: الولاة على الناس، مِن الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلَّا بطاعتهم والانقيادِ لهم، طاعةً لله ورغبةً فيما عِنده، لكن بشرطِ ألَّا يأمروا بمعصيةِ الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق، وَلَعَلَّ هذا هو السرُّ في حذف الفعل عند الأمرِ بطاعتهم وذكرهِ مع طاعةِ الرسول، فإن الرسولَ لَا يأمرُ إلَّا بطاعة الله، ومَنْ يُطعه فقد أطاع الله، وأما أُولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لَا يكون معصية.
ثم أمر بردِّ ما تنازعَ الناس فيه مِن أصولِ الدين وفروعه إلى الله, وإلى الرسول أي: إلى كتاب الله وسُنَّةِ رسولِه؛ فإن فيهما الفصلَ في جميعِ المسائل الخلافية، إما بتصريحِهما أو عمومِهما؛ أو إيماءٍ، أو تنبيهٍ، أو مفهومٍ، أو عموم معنىً يُقاس عليه ما أَشْبَهَه، لأنَّ كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رسولِه عليهما بناء الدِّين، ولا يستقيم الإيمان إلَّا بهما.
فالردُّ إليهما شرطٌ في الإيمان؛ لهذا قال: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فدلَّ ذلك على أن مَنْ لم يَرُدَّ إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمنٍ حقيقةً، بل مؤمنٌ بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها.
{ذَٰلِكَ} أي: الردُّ إلى الله ورسوله {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فإنَّ حكم الله ورسولِه أحسنُ الأحكامِ, وأعدلُها وأصْلحُها للناس في أمرِ دينِهم ودُنيَاهم وعاقبتهم.
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتَمَنَهُم الله عليه مِن أوامرهِ ونواهيه، فإنَّ الأمانة قد عرضها الله على السماواتِ والأرضِ والجبال، فَأَبَيْنَ أنْ يَحمِلنَها وأشفَقنَ مِنها وحمَلهَا الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا، فمن أدى الأمانة استحق مِن الله الثواب الجزيل، ومَن لم يؤدها, بل خانها استحق العقابَ الوبيل، وصار خائنًا لله وللرسول ولأمانتِه، مُنقصًا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخسِّ الصفات، وأقبحِ الشِّيات، وهي الخيانة مُفوِّتًا لها أكمل الصفات وأتمَّها، وهي الأمانة.
ولمَّا كان العبد ممتحنًا بأمواله وأولاده، فرُبما حملَهُ محبتُهُ ذلك على تقديمِ هَوَى نفسهِ على أداءِ أمانته، أخبر الله تعالى أنَّ الأموال والأولاد فتنة يَبْتَلِي الله بهما عباده، وأنها عاريةٌ سُتؤَدى لمَن أعطاها، وتُردُّ لمَن استودعها {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
فإنْ كان لكم عقلٌ ورَأْيٌ، فآثروا فضلَهُ العظيم على لذةٍ صغيرةٍ فانيةٍ مُضمَحِلَّة، فالعقل يوازن بين الأشياء، ويُؤْثِرُ أُوْلَاهَا بالإيثار، وأحقها بالتقديم.
هؤلاء الذين جمعوا هذهِ الخصالَ الثلاث: الكُفر، وعدمَ الإيمان، والخيانة، بحيث لا يثبتون على عهدٍ عاهدوه, ولا قولٍ قالوه، هم شرُّ الدواب عند الله, فهم شرٌّ مِن الحمير, شرٌّ مِن الكلاب وغيرها، لأن الخيرَ معدومٌ منهم، ولأنَّ الشرَّ متوقعٌ فيهم ، فإذهاب هؤلاء ومَحْقُهُم هو المُتعَين، لئَلا يسري داؤهم لغيرهم، ولهذا قال: {إِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} أي: تجدنَّهم في حال المحاربة، بحيث لا يكون لهم عهد وميثاق،
{فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} نَكِّل بهم غيرهم، أوقِع بهم مِن العقوبة ما يصيرون به عبرةً لمن بعدَهم {لَعَلَّهُمْ} أي مَن خلفهم يتقون صنيعهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم، وهذه مِن فوائدِ العقوباتِ والحدودِ المرتبةِ على المعاصي، أنَّها سببٌ لازدجار مَن لم يعمل المعاصي، بل وزجرًا لمَن عَمِلَها أن لا يعاودها، ودلَّ تقييد هذه العقوبة في الحرب أن الكافر - ولو كان كثيرَ الخيانة سريعَ الغدر - أنه إذا أُعْطِيَ عهدًا لا يجوز خيانته وعقوبته.
هذا دينُ الله، دينُ الإسلام الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ لا غدرَ فيه ولا خيانةَ فيه، وإنما هو عدلٌ مُطلق, وحقٌ كامل, وأمانةٌ شاملة.
وإذا كان بينك وبين قومٍ عهدٌ وميثاقٌ على تركِ القتال, فَخِفت منهم خيانة، بأن ظهر مِن قرائن أحوالِهم ما يدل على خيانتهم مِن غير تصريح منهم بالخيانة، {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} عهدهم، ارمِهِ عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم؛ {عَلَىٰ سَوَاءٍ} حتى يستوي عِلمُك وعِلمُهم بذلك، ولا يحل لك أنْ تغدرهم، أو تسعى في شيءٍ مما منعه موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك،
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} بل يُبغضهم أشدَ البغض، يمقتهم أعظمَ المقت، فلا بُدَّ مِن أمر بيِّنٍ يبرئكم مِن الخيانة.
ودلت الآية على أنه إذا وُجدت الخيانة المحققة منهم, لم يحتج أنْ ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف منهم، بل عَلِمَ ذلك، ولعدم الفائدة، ولقوله: {عَلَىٰ سَوَاءٍ} وهنا قد كان معلومًا عند الجميع غدرهم، ودلَّ مفهومها أيضًا أنه إذا لم يَخَفْ منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء به إلى أن تتم مدته.
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند، وصححه الشيخُ شاكرٌ وغيره.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ: « لَا تَلَقَّوْا الْبَيْعَ- يعني بظاهر القُرى والمدن قبل أن يُعرف السِعر في الأسواق - وَلَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ وَالْإِبِلَ لِلْبَيْعِ - يعني يحبسونها على ألبانها في ضُروعها حتى إذا جاء بائع لمشترٍ ظنَّ المشتري أن ذلك لها عادة - فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا بِصَاعِ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ » أخرجه أحمد وهو حديث صحيح، وأصله في الصحيحين.
في سورةِ الشعراء يخبرنا الله عز وجل أنَّ كلَّ رسولٍ مِن هؤلاء قد قال لقومه: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾
ورسولُنا مُحمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ كان في قومهِ قبل الرسالة, قبل أن يُنَبَّأ قبل أن يَنْزِلَ عليه الوحي, وبعد ذلك كان مشهورًا بينهم بأنَّهُ الأمين، كان الناس يختارونه لحِفظِ ودائعهم عنده، ولما هاجر وَكَّلَ علي بن أبي طالب بردِّ الودائع إلى أصحابها.
يسعون إلى قتله وإيصال الأذى إليه بكل سبيل، ويَكْفرون بما جاء به، ويُكَذِّبون ما دعاهم إليه، ويأتمنونه؛ لأنه الأمين صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ.
جبريل عليه السلام أمينُ الوحي وصَفَهُ الله بذلك ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194)﴾ (الشعراء: ١٩٢ – ١٩٤)
إنَّ الله رب العالمين عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال, أَبَيْنَ أنْ يحملنها, أَشْفَقْنَ مِن حملها, تصَدَّى لحملها الإنسان, إنه كان ظلومًا جهولًا.
قال عبد الله بن مسعود :رَضِيَ اللهُ عَنهُ «إِنَّهَا سَتَكُونُ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَعَلَيْكُمْ بِالتُؤَدَةِ، فَإِنَّكَ أَنْ تَكُونَ تَابِعًا فِي الْخَيْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ رَأْسًا فِي الشَّرِّ»
قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله ـ في الخوارج ـ:
وهذا الضَرْبُ – أي هذا النوعُ - مِنَ النَّاس مِنْ أغربِ أشكالِ بني آدم، فسبحان من نَوَّعَ خلقَه كما أراد.
قال العلامةُ الألبانيُّ رحمه الله:
واليوم- والتاريخ يُعيد نفسه كما يقولون-، نَبَتَت نَابِتَةٌ مِن الشبابِ المسلم، لم يتفقهوا في الدين إلَّا قليلًا، ورأوا أنَّ الحكام لا يحكمون بما أنزل الله إلَّا قليلًا، فرأوا الخروجَ عليهم دون أنْ يستشيروا أهلَ العلمِ والفقهِ والحكمةِ منهم، بل ركبوا رؤوسهم، وأَثَارُوا فتنًا عمياء، وسفكوا الدماء، في مصر، وسوريا، والجزائر.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في "السيل الجرَّار":
وها هنا تُسكَبُ العَبَرَات, ويُناحُ على الإسلامِ وأهلِه, بمَا جَنَاهُ التعصّبُ في الدِّينِ على غالبِ المسلمين, مِن التَّرَامِي بالكُفر لَا لِسُنَّةٍ ولَا لقُرآن، ولَا لبيانٍ مِن الله ولَا لبُرهان، بل لمَّا غَلَت بهم مَرَاجِلُ العصبيَّة في الدِّين, وتمكَّن الشيطانُ الرجيمُ مِن تفريقِ كَلِمَة المسلمين, لقَّنَهم إلزاماتِ بعضِهم لبعض بما هو شبيهُ الهباء في الهواء, والسَّراب بقيعةٍ، فَيَاللهِ وللمسلمين مِن هذه الفاقِرة, التي هي مِن أعظمُ فواقرِ الدين, والرَّزيةِ التي ما رُزِئ بمثلِها سبيلُ المؤمنين. والأدلَّة الدالَّة على وجوب صيانةِ عِرض المسلم واحترامِه, يدلُّ بِفَحْوَى الخطاب على تجنُّبِ القَدْحِ في دِينهِ بأيِّ قادِح، فكيف بإخراجه عن المِلَّةِ الإسلاميَّة إلى المِلَّةِ الكفريّة؟!
فإنَّ هذه جنايةٌ لا تعْدلُها جناية, وَجَرْأَةٌ لا تماثِلها جَرْأَة، وأين هذا المجترِئ على تكفيرِ أخيهِ مِن قولِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ: « المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمه ولا يُسلمُه »، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ : « سِبابُ المسلم فسوقٌ وقِتالُه كُفر »، أين هو مِن قولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ: « إنَّ دِمَاءَكُم وَأَمْوَالَكُم وَأَعْرَاضَكُم عَلَيْكُم حَرَام » ؟!
تأمَّل في الواقعِ الذي تعيش, لتعلم إلى أين نسير؛ الخوَنة في الداخلِ والخارجِ يَنْخَرُونَ في صُلْبِ الأُمَّةِ, مِن أجلِ أنْ يَتَهَاوَى بُنْيَانُهَا، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تُهْدَمَ أَرْكَانُهَا، وَمِنْ أَجْلِ أنْ تَصِيرَ إِلَى فَوْضَى بِلَا زِمَامٍ وَلَا خِطَام.
قال أيوب: وطعنت رجلًا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار، فقال: ستعلم أينا أولى بها صِليا.
أورد ابن سعدٍ في الطبقات الكبرى قصة عبد الرحمن بن مُلجَمٍ الخارجي - وهو الذي قتل عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنهُ - وذكر أن: عبد الله بن جعفر قطع يديه ورجليه فلم يجزع, ولم يتلكم, لم يَنْبِسْ بِبِنْتِ شَفَه, وإنما كان آخذًا في الذكرِ بلسانه، فكحَّل عينيه بمِسمَارٍ مَحميٍّ فلم يجزع، وجعل يقول: إنكَ لتَكحُل عيني عمك بمُلْمُولٍ مَضْ، وجعل يقول:
قاتلُ عَلِي, الخليفة الراشد الرابع, ابن عم رسولِ الله, وصِهرُ رسولِ الله, وَمَنْ بشرَّه النبيُّ بالجنة، ومع ذلك يقرأ السورة إلى آخرها، وإنَّ عينيه لتسيلان, ثم أَمَرَ به فعُولج عن لسانه ليقطعه فجزع، لم يجزع قبل, وإنما كان آخذًا في الذِكرِ تالِيًا للقرآن، فلما أَمَرَ به فعُولج عن لسانه ليقطعَه جزع، فقيل له: قطعنا يديك ورجليك وسَمَلْنَا عينيك يا عدو الله فلم تجزع, فلمَّا صرنا إلى لسانك جزعت؟! فقال: وَمَا ذاك مِني جَزَع، إلا أني أكره أن أكون في الدنيا فُوَاقًا لَا أذكر الله.
الفُواق: بمعنى الزمن الذي بين فَتْحِ يدك وقبضِها على الضرْعِ عند الحَلْب.
هذه المدة القصيرة، هذا المجرم الذي قتل عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عنه جزِعَ مِن أنْ تمرَّ عليه هذه اللحظة القصيرة ولا يذكرُ فيها اللهَ عز وجل.
وصف الإمام ابن كثير رحمه الله هؤلاء الخوارج بقوله:
وهذا الضربُ مِنَ الناسِ مِن أغربِ أشكال بني آدم، فسبحان من نَوَّعَ خلقَهُ كما أراد، وَسَبَقَ في قدَرِهِ ذلك.
وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج:
إنهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾ (الكهف: ١٠٣ - ١٠٥ ( هؤلاء الجهلة الضلال، الأشقياء في الأقوال والأعمال، اجتمع رأيهم على الخروج مِن بين أظهرِ المسلمين .
أيها المسلمون إنَّ الخوارج بينكم, بَيْنَ ظَهْرَانِيكُم.
فهذا الذي تراهُ في المجتمعاتِ الإسلامية مِنْ اختلافِ الرأي, وتَفَكُكِ الأواصر, ولعْنِ بعضِهم بعضًا, هو نتيجةٌ حتميةٌ لبُعْدِ الناسِ عن العملِ بالكِتابِ والسُّنَّة.
أخرج أحمد في الزهد، وأبو نُعيم في الحلية بسند صحيحٍ عن جُبير بن نُفير قال « لمَّا فُتحت قُبْرُص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضُهم إلى بعض، فرأيت أبا الدَّردَاء جالسًا وحده يبكي؛ فقلت: يا أبا الدَّردَاء ما يبكيك في يومٍ أعزَّ الله فيه الإسلامَ وأهلَه؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أَهْوَنَ الخَلْقَ على اللهِ عزَّ وجلَّ إذا أضَاعُوا أَمْرَهُ, بينما هي أُمَّةٌ قاهرةٌ ظاهرةٌ لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى »
مِن الخيانة أن يُدعَى إلى الإضرابِ العام؛ إلى التظاهرِ؛ إلى استعمالِ العنف في اليوم الثامن مِن هذا الشهر خاصة، وَقد تحالف الإخوان المجرمون, خوان المسلمين مع الاشتراكيين الثوريين، والبلاك بوك، وحركة السادس مِن أبريل ـ وهؤلاء جميعا معلومٌ حقيقةُ أمرِهم ـ تحالفوا معهم ـ كيف يضع هؤلاء أيديهم في أيدي الشياطين؟! سلُوهم ـ تحالفوا معهم ومع شبابِ الثورة ـ كما يزعمون ـ على إعادةِ الأمرِ جذعًا كما كان, والإتيان بالثورة الثالثة؛ تخريبِ البلاد؛ تمزيقِ أوصالها؛ إلى تقسيمها كما هي المؤامرة، يَأْبَون إلا أن يسيروا على الخَارِطةِ, التى وضعتها القوى الاستعمارية، تدعو إلى إنفاذِها وتنفيذها بصناعةٍ مسلمة، هكذا في ظاهرِ الأمر.
أليست هذه مِن الخيانة؟! أهذهِ مِن الأمانة؟
الخروج على الحاكم المسلم خيانة, خروج مِن منهج الخوارج, مَن خرج فهو خارجي، والخروج يكون بالكلمة .
الإضراب عن العمل خيانةٌ وخروجٌ على وليِّ الأمر.
المبالغةُ في ردِّ الفعل خيانة؛ لأن الأمرَ إذا وقع فَردِيًا، فيجب أنْ يُعامَل فَردِيًا، وأمَّا بمجموعٍ كامل, بتخريبٍ شامل، بتعطيلٍ عام، بإضرابٍ علي المستوى كُلِّه، فليس هذا مِن الأمانة في شيء.
أيها المصريون لن يُحافظ على مِصرَ أحدٌ سواكم.
اتقوا الله، إن لم تكن أيديكم في أيدي جيشكم البَاسِل، وشُرطتكم الساهرة, فستسقط بلدكم، وإن سقطت فلن تقوم، ستتوزعُها الأهواء وتُمَزَّقُ أشلاء، ولن يأمن فيها بعد اليوم أحد، وتضيع منها مكاسب الإسلام على مدى أربعة عشرة قرنًا من الزمان، وأنتم تنظرون.
في جريدة الأخبار في عدد يوم الخميس بالأمس - وجريدةُ الأخبار جريدةٌ قومية, المفروض فيها أنها لسانٌ ناطقٌ مُعْرِبٌ عن الدولة, وهي مُنافِحةٌ عنها, عن سياساتها, مُوضِّحةٌ لِمَقَاصِدِ أعمَالِهَا, ويُنفَقُ عليها مِن الخِزانَةِ العامة؛ لتَنويرِ العُقُول, وَتَفْهِيمِ النَّاس, وَإِضَاءَةِ الطريق، في الوقت الذي يحتاج فيه المصريون إلى كل قرشٍ مِن الخِزانَة العامة؛ لينهضوا مِن كبوتهم؛ لينطلقوا مِن عَثْرَتِهم، ومع ذلك فَلَا تَبخَلُ الدولة على مثل هذه الصحف القومية, لتنويرِ العقول, وتفهيمِ الناس, وتوضيحِ السياسات، لَا تبخلُ عليهم بشيء.
دَلَّنِي صَاحِبٌ لي على الجريدة, على الصفحة الثانية والعشرين منها:
النصف الأسفل مِن صَفحةٍ بكاملها فيه: "يوميات الأخبار – يكتبها اليوم: سيد حجاب"
هذهِ مساحةٌ لا يُستهان بها في جريدةٍ كالأخبار, يكتب فيها الأفذاذ, أصحاب الأفكارِ النيرةِ, والعقولِ الواعية.
أما الرَّجُل فلا أعرفه، لي نصف قرن مِن الزمان بحولِ الله وقوته مشغولٌ بالأدب, الذي انصرف عنه أكثرُ الناس إلى قلةِ الأدب, أتوفرُ عليه شعرًا ونثرًا ومقالةً وروايةً وقصة وما شئت، لم أسمع عنه, ولم أقرأ له حرفًا, ولم أَدْرِ بوجوده في الدنيا أصلًا؛ ولكن يكتبها اليوم سيد حجاب!! نصف صفحة!! في الأخبار!!
قلت: لا شك أنه مفكرٌ كبير وعالمٌ خطير، فإذا هو يكتب بالعامية! التي لا يستطيع أنْ يستمر فيها!! فيأتي بعامية مُتَكَلَّفَة, وفيها مِن الفصحى ما فيها، فتبدو الفصحي في وسْط عاميته, كالرُّقعة الجديدة في الثوب المتهرئ الأجرب، لا اتساق.
يقول ـ في بعض ما قال؛ لتعلم كيف يُصنع الإرهاب؟ كيف يُصنع التكفير؟ ـ :
باريس والشعر العربي تاني ـ الكتابة بالعامية في الصحف القومية مُخَالَفَةٌ للدستور، الدستورُ يَنُص على أن: اللغة العربية هي اللغة الرسمية لجمهورية مصر العربية، والعامية ليست مِن العربية في شيء, هذه لغةٌ أخرى, لَهجَةٌ ولكنها ليست بالعربية، والكتابة بالعامية جريمة إذا وقعت في الصحفِ القومية ـ
يقول: وعدتكم في العددِ الماضي بنشر قصائد للفائزين في مسابقة الشِعر العربي, التي أقامها المكتب الثقافي المصري, وقلت لكم إنَّ الفائزة بجائزة أحسنِ قصيدة, هي شابةٌ مصرية عمرها 19 سنة ـ أنا أقرأُ ما كتب ـ اسمها: ألاء على حسنين مِن مواليد الزقازيق, وبتقيم حاليًا بالسعودية بالقصيم البُريدة, وأسعدني أني طالعت في العدد الماضي مِن أخبار الأدب, أُختنا العزيزة عبلة الرويني وهي بتأدمها بقصيدتها المهداة إلى رِيتا جِرَهَام, وبتقول إنها سبق وقدمتها لقُرَّاء أخبار اليوم مِن مُدة, وده أكد لي صواب اختيارنا لِأَلَاء في مسابقة باريس, وأنا النهارده بقدمها في قصيدة تانية, وهقدمها لكو دلوقتي بقصيدة تانية مِن قصايدها اللي اتقدمت بها للمسابقة " مَرْثِيَةٌ إلى نَفْسِي "
عندما تُكتبُ الهَرْطَقَة, وَالتَّجْدِيف في الصحفِ القوميةِ تُعْطَى الحُجَّة للتكفريين على اصطيادِ الشبابِ المسلمِ المُتحمسِ لكي يكون تكفيريًا مثله، هذه مِن أعظمِ الوسائلِ التي يستخدمونها, ثُم يتسلسلونِ في التكفير.
يقول: هذا الكلام كُفْر، فيقول له: نعم هو كُفْر.
فيقول: ومَنْ نشره؟ فيقول أخذ حُكْمَه.
يقول: والقائمون على الجريدة، ما حُكمُهم؟ يقول: حُكمهم كالذي سبق.
يقول: والحكومة التي تَمَوِّل الجريدة وتأذن بها وتقوم على شأنها؟ فيقول: حُكمُهم جميعًا واحد، حتى يذهب إلى قمةِ الهرم، فيتسلسل التكفيرُ عِندَه.
فيقول: هل ترضى أنْ تُسبَّ الذاتُ الإلهية؟ أنْ يُعتدى على الله؟
أبو إسلام أحمد عبد الله حُكِمَ عليه بالسجن؛ لأنه اتُّهِم بتهمةِ ازْدِرَاءِ الأديان.
إسلام بحيري حُكم عليه بالحبس خمسةَ أعوام بتُهمَةِ ازْدِرَاءِ الأديان.
إنه زمنٌ يرى الناسُ اللهَ واقفًا في طريق ويعبرون مِن طريق آخر
إنه زمنٌ يرتدي فيه الله زي قَتَلةٍ وسفاحين
إنه زمنٌ يرتدي فيه اللهُ أشكالًا كثيرةً جدًا
ويرتدي فيه الموتُ أشكالًا أكثر
إنني كلما وليت وجهي رأيت اللهَ والموت يسيران في طريقٍ واحد متشابكي الأيدي كأنهما شخصٌ واحد
هل يقبلُ أحد، أحدٌ متدين مِن أصحابِ الأديانِ أن يقالَ هذا التَّجْدِيفُ عَنْ الله؟؟
إِنَّهُ الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء.
تقول - تقول مستدركةً على الله - :
لقد كان على الله أنْ يَخلُقَنِي كما كان مُقَرَّرًا لي أنْ أكون - مُقَرَّرًا لها أن تكون؟! مخلوقة؟! مَن الذي قَرَّر؟! الله؟! ثم خالف ما قَرَّر؟!! وهي تراجعه لأنه خالف ما قَرَّرَه؟!!-
لقد كان على الله أنْ يَخلُقَنِي كمَا كان مُقَرَّرًا لي أن أكون: صخرةً صمَّاء أو مَنجِم فحم, أو بقعة داكنة في سماء بعيدة, بدلًا مِن أنْ يفعلها ويختار أن يعذبني ببشريتي.
قالت:
وسيفعلها اللهُ مجددًا, ويختار أنْ يعذبني ببشريتي الطويلة الطويلة - أي أنه سيمدُّ في عُمرها، ولا تعلم هي ولا أحد, إذا كان سيمد في عمرها أم سيقصف عمرها؟ لا يعلمُ إلَّا الله -
بدلا مِن أن يفعلها ويختار أنْ يعذبني ببشريتي, وسيفعلها الله مجددًا, ويختار أنْ يعذبني ببشريتي الطويلة الطويلة.
هَذَا هُو الذي يَدفَعُ إلى الإِرهَابِ وَالتَّكفِيرِ, بِالتَّسَلْسُلِ الذي قُلْتُ لك.
الرَّجُلُ غير معروف، أنا لا أعرفه، فمن يكون هذا؟! سلوا عنه.
نسأل الله العافية, ونسأل الله أن يُحسِنَ خِتَامَنَا أجمعين.
احذروا أيها المصريون مما هو آت.
يَتَوعَّدُونَكُم في يومِ التَّنْصِيب - تَنْصِيبِ وَلِيِّ الأمرِ- بالوَيْلِ وَالثِّبُورِ وَعَظَائِمِ الأُمُورِ, بتحويل مِصرَ إلى خَرابةٍ تَنعَقُ فيها الغِربَان, وَتَمْرَحُ فيها الجِرذَان، وَلكن أنتم أيها المصريون خَلفَ جَيشِكم العظيم, وشرطتكم الباسلة, ستكونون حائطَ الصدِّ لهذه الأمة؛ لأنَّ مِصرَ إذا سقطت ـ أقامها الله وأدامها ـ فلن يَبقى على ظهرِ الأرض دولةٌ إسلاميةٌ مِن غيرِ فوضى، مِن غير تقتيل، مِن غير تخريبٍ وتمزيقٍ وتدمير، مِن غير نهبٍ للثرْوات، والله المستعان وعليه التكلان.
اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين، ولا خزايا ولا محزونين يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نَبِيِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجمَعِين.