فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنّه عشيَّةَ بدايةِ العامِ الدِراسي لا نجدُ في النُّصْحِ أفضل من قولِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, عشّية الإقبالِ على الاختلاطِ المفتوح, والتسيُّبِ المفضوح, واللامبالاة التي لا حِسابَ لها, والرَّتعِ في شهواتٍ لا نهاية لحدِّها، عشيَّةَ ذلكَ كُلِّه لا يجدُ الإنسانُ خيراً من كلامِ نبيِّهِ صلى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم تذكيراً للشباب, وحضّاً لهم على الأخذِ بموفورِ الوقارِ, والبُعدِ عن مواطِنِ الزَلل؛ لأنَّ الأُمّة قد عقدت مناطَ رجائِها عليهم, وأسلَمَت زِمامَ قيِادِها إليهم؛ فأصبحوا مأمونينَ على أمانةٍ جليلةٍ مِن أجلِ إخراجِ الأُمَّةِ مما هي فيه من تخلُّفها, وبُعدِها عن الركبِ الذي أصبَحَ قائداً البشريّة إلى وهدةٍ في حضيضٍ هابطٍ إلى أسفلَ سافليِنَ؛ من لذّاتٍ, وشهواتٍ أُطلِقَت من عِقَالِها بحيثُ لا يحبسُها حابِس ولا يردُّها راد.
إنّ الأمة اليوم تعقدُ رجاءها بأمرِ ربِّها جلّت قدرته على شبابِها الذي يُؤمِنُ بربِّهِ جلّت قُدرَتُه؛ من أجلِ أن يعودَ الأمر مُصَحّحَا إلى سبيلِهِ السَوِيّ, وطرِيقِهِ المرضِّي بعيداً عن عسفِ الشهواتِ, وتخبُّطِ اللذات, وبعيداً عن الخبطِ في أوديةِ الضلالاتِ, ورجوعاً إلى النهجِ الأحمدِ والصِّراطِ المُستقيم.
لا يجدُ المرءُ في النصيحةِ خيراً من كلامِ ربِّهِ, ومن وحيه إلى نبيِّه صلى الله عليه وعلى آلِهِ وسلَّم {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور : 33], ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث المتفق على صِحَتِهِ من روايةِ عبد اللهِ بنَ مسعودٍ رضي الله عنه أنّه سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (يا معشرَ الشباب من استطاعَ منكمُ الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء), وذكرَ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك عِدلاً بعِدل ومثلاً بمِثْل, وأتى بفوائد مما يتحصَّلُ عليهِ المرءُ في حينِ زواجِهِ على منهجِ ربِّه وسنةِ نبيّه صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم (فإنّه أغَضُّ للبصرِ وأحصنُ للفرجِ), فإذا لم يستطع فإنه يأتي بالعِدْلِ والمِثْلِ كِفاءاً بكِفاء, وأخذاً بما جاءَ به خير الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فعليه بالصوم فإنه له وجاء), والوِجاءُ الذي كانوا يصنعونه في فحولِ إبِلِهم: أن يأتي الواحدُ منهم بحجرين يرضُّ الخُصيتين - خصيتي الفحلِ - بينهما رَضاً من أجلِ قطعِ مادةِ الشهوةِ وقتلِ نوازِعِ اللذات، فأخذَ الرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ذلك فجعله واقعاً, ثم جعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم السبيلَ إليه مسلوكاً, والنهجَ إليه محموداً وواضحاً, فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: (فعليه بالصوم).
إذًا؛ هُما أمرانِ في كِفتين إذا ما لم يستطع المرء أن يأتيَ بأحدِهما؛ فلديهِ الآخر (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة, فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر, وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم حضَّ الشبابَ على ما يُمكنُ أن يكونَ برحمةِ الله ربِّ العالمين عاصماً للشابِ من أن يتلوث شبابُهُ بما يشيِنهُ, وأن يتوَّرَط في معصيةٍ من معاصي اللهِ جلّ وعلا بإطلاقِ البصر, والبطشِ باليدِ, والسعيِ بالرجل اقترافاً للزِّنا وإن لم يستوجب حداً, فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: (كُتب على ابنِ آدم حظُّه من الزنا فهو مُدركٌ ذلك لا محالة، العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، واللسانُ يزني وزناهُ الكلامُ، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماعُ، والرِّجلان تزنيان وزناهما السعي، والفرج يُصَدِّقُ ذلك أو يكذِّبه).
فسمى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ذلكَ كُلَّهُ زِنا, وبيّنَ لنا نبيُّنا صلى الله عليه وعلى آله وسلّم أنه مكتوب حظاً على كُلِّ من كانَ من نسلِ آدم منسولاً إلا من اتقى الله ربَّ العالمين, وأخذَ بما أمرَ به النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلّم؛ فحبَسَ مادة الشهوة من أصلها, وجفف في منابِعها؛ حتى لا تسريَ الدماء, وحتى لا تشتعل الغرائزُ بثورةٍ عارِمةٍ قد لا تُكفُّ إلا بالوقوعِ في الحرامِ, والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم يتكلّم بالوحي, وينطقُ بالغيب, والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم كأنما ينظر إلى الآتي من خلالِ سترٍ شفيف يُبينُ عمّا وراءه؛ فيضعُ الحواجِزَ, ويضبطُ القيودَ, ويجعلُ للإنسانِ المُسلمِ ما يُمكنُ أن يكونَ حياطةً له بأمر الله جلّ وعلا عشيّةَ العامِ الدراسي, عشيّة الاختلاط المُبهم المُدمدمِ بثورةِ اللذات, والبعدِ عن الأخذِ بالذي ينبغي أن يكون حياطةً للنفس عن الوقوعِ في اللذاتِ, وإثارةِ الشهواتِ, والإقبالِ على الرسالة التي عقدت الأمة رجاءها في اللهِ ربِّ العالمينَ على تحقيقها من خلالِ شبابِها, بإقبالهم على العلم, وتوفرهم بجهدهم عليه في الأصباح والأمساء, وبذلِ المجهود, وإعانةِ المكدودِ, والأخذِ بما أمرَ به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم من تحصيلِ القوة إعداداً؛ لأن الله رب العالمين أمر الأمة في القرآن العظيم بإعداد ما استطاعوا من القوة, ومن رباطِ الخيلِ؛ لأن الله ربَّ العالمين لا يُحِبُّ التواني, ولا يُحبُّ الكَسَلَ, ولا يُحبُّ العجز, وإنما ملّك الله رب العالمين الإنسان الأسبابَ؛ من أجلِ أن يكونَ بها آخذاً, ولها آتياً, وبها في كونِ اللهِ عاملاً، فإذا ما وقع التفريطُ في الأخذِ بالأسبابِ؛ فلا يلومنّ امرءٌ إلا نفسَه, ولا تلَومَنَّ أمُّةَ إلا نفسها.
فعَشيَّةَ العامِ الدِّراسِيِّ لا نجدُ نُصحاً لشبابنا المُقْبِل على عاِمِه الدِّراسي الحميدِ - إنْ شاءَ اللهِ جلَّ وعلا - إقبالاً على العلمِ بنَهَمٍ لا يَكَادُ يشبَعُ منه المرء مهما أُوتِي من علمٍ, كما بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: (منهومانِ لا يشبعان: طالبُ علمٍ, وطالبُ مال).
إن الأمّة التي عقدت رجاءها على ربِّها بأخذِ شبابها بأسبابِ القوّة تحصيلاً وإعمالاً لها في كونِ الله رب العالمين؛ لتعودَ للأمَّةِ ريادتُها, وليعودَ للأمَّةِ سَبْقُها بفضلِ ربِّها, لأن الضعيف العاجِزَ يُؤَثَّرُ فيه ولا يُؤَثِّر, ويتأثَّرُ ولا يُؤثِّر, لأن الضعيف العاجزَ يكونُ الطمع فيه قائماً, ولأن الشرّ متى ما وَجَدَ الحَقَّ متهاوناً؛ عدا عليه بجُنْدِهِ ورَجْلِهِ وخَيْلِهِ, وحَاولَ أن يَئِدَهُ في مَهدهِ, ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم.
إنَّ الله ربَّ العالمينَ أمرَنا بإعدادِ ما نستطيعُ من قوةٍ ومن رِباطِ الخيلِ - أمرنا ربُّ العالمين -, والأمرُ في القرآنِ العظيم متى ما أتى من غير قرينةٍ صارفةٍ عن الوجوبِ فهو على أصلِهِ للوجوب؛ فهو إذاً أمرٌ واجبٌ حتمٌ إذا ما فرَّطَتْ فيهِ الأمَّةُ عاقبها الله رب العالمين في الدنيا بُذُلٍّ وخسفٍ ومهانةٍ وإحباطٍ, وعاقبَها اللهُ ربُّ العالمينَ في الآخرةِ جزاءً وفاقاً لما فرَّطَتْ فيهِ من حملِ الأمانةِ والأخذِ بتنفيِذِ الأمرِ الذي أمر به الله رب العالمين.
إنّ الله رب العالمين يعلمُ حالَ العالم من قبلِ أن يخلقه, ويعلمُ حالَ المسلمين في كُلِّ حالٍ وحين، والمسلمون ينادونَ في الصباح وفي المساء:
أينَ أنت يا صلاح الدين؟!!
وهذا وهمٌ كبيرٌ جداً؛ لأن لكُلٍّ عصرٍ دولةٌ ورجال؛ ولأنّه لو فُرِضَ أنَّ اللهَ ربَّ العالمين بعثَ الرجل المجاهد الصالح رحمه الله رب العالمين, فقامَ في الأمَةِ اليوم, فإنَّهُ لن يُجَيِّشَ الجيوش على سهمٍ وسيف, ولا على رمُحٍ وخيل, وإنّما سينظُرُ في أحوالِ العالَمِ مُتبصراً, وينظرُ في أحوال العالم مُعتبراً, ثم يحاول أن يتملّك أسبابَ القوّة التي عقدتَ الأمّة رجاءها في ربِّها على شبابها؛ من أجلِ أن يكونوا لها مُحصِّلين ولها مهتدين، من أجلِ أن يأخذوا بهذا الذي يبدؤونه من العام المُقبِلِ الذي يأخذون فيه بأسبابِ الله رب العالمين في الإقبالِ على الدرسِ, وبذلِ الجُهدِ والمجهودِ في التحصيل من غيرِ ما شقٍّ للحناجر في هُتافٍ وبهتافٍ لا يُسمنُ ولا يغني من جوع، وإنّما هو تبديدٌ للطاقاتِ, وتضييعٌ للأوقاتِ, ثمَّ يبقى العلمُ يتيماً ليسَ له من أبٍ يراعاه, ولا أمٍّ يُمْكِنَ أن تحُوطَهُ بعنايةٍ ولا رعايةٍ ولا كلاءة, ويبقى العلمُ مهجوراً لا يُقبلُ عليه أحد، وأعلم أن إشكالاً عظيماً يقعُ في أذهانِ وقلوبِ كثيرٍ من شبابنا الصالحين, أولئك الذين لم يقدِّر لهم الله رب العالمين أن يبدؤوا حياتهم بدراسة العلم الشرعي الصحيح, ومن غيرِ أن يُقدَّرَ لهم بمقاديرَ كانوا يرجونها أن يُقبلوا متوفرينَ على درسِ دينهم, ومعرفة سنّة نبيّهم صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، فساقتهم مقاديرهم إلى حيثُ يدرُسون من ذلك العلمِ المادي الذي هم له هاجرون, وعليه غيرُ مقبلينَ.
هذا الذي يقعُ من هذا الذي يؤدي إلى عدمِ الاتزانِ بالذبذبة ما تهواه الأنفسُ وتهفو إليه الأرواح، وما هو واقعٌ في دنيا اللهِ رب العالمين لا يستطيعون له دفعاً, ولا يملكونَ له تغييراً؛ فينصرفون عما هم بِهِ مُكَلَّفون، وعمَّا أرسله أهلوهم إليه راغبينَ طائعين؛ من أجلِ أن يكونوا فيه سابقين, يَدَعُون ذلك جانباً, يجعلونه دَبر الأذان, وتحتَ الأقدامِ, ووراء الأظهر - يتخذونه ظِهريِّاً -, ثم يُقبلون على العلم الشرعيِّ فيما هو معلومٌ عندهم أو غيرُ معلوم أنّه إنما يُطلبُ على سبيلِ الفرضِ الكفائي لا على سبيلِ الفرضِ العيني، وعندئذٍ يتورطون في كثيرٍ من الوقوعِ في متاهاتٍ لا مَخْلَصَ منها ولا منجى.
والأصلُ أن المُسلم ما دام قد حصّل العلم الفرضَ الذي يلزمُهُ في اعتقادِه وعبادته ومعاملته وأخلاقِهِ وسلوكِهِ؛ فينبغي أن يتوفَّرَ على ما هو مُقبِلٌ عليه, وعمّا أقامه الله رب العالمين فيه، ولأن الأمة لن تكون بجمعها وفي مجموعها من العلماء الذين يحذِقُونَ العلمَ الكِفائي, ويؤدونه إلى الأمّة، بل أمرَ اللهُ ربَّ العالمين الأمّة أمراً واضحاً {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة : 122], فأمر الله رب العالمين في العلمِ الكفائي بذلكَ.
وأمّا العلمُ الذي هو فرضُ عينٍ على كُلِّ مُسلِم؛ فلا يسعُ المُسلمَ أن يُفرَّطَ فيه لحظةَ عينٍ ولا أقلَّ منها، فينبغي إذا ما حصّلَه أن يلتفت إلى ما أقامه الله رب العالمين فيه, ولا يتورط في الوقوعِ بالذبذبةِ بين غايتين يظلُّ كبندُول الساعةِ رائحاً وغادياً بينهما إلى يومِ الدين من غير أن يصلَ إلى نهايةٍ محمودةٍ, ومن غيرِ أن يبقى على قرارٍ مكين, وإنما هو الخبطُ في أوديةِ الظنون، فلا يصلُ بعدَ أمدٍ متطاولٍ لا إلى علمٍ شرعي حصّله, ولا إلى علمٍ ماديٍّ نفعَ به الأمّة من بعدِ ما حصَّل اليقينَ بفضلِ ربِّهِ جلَّ وعلا، وبعدَ أن ضبط عبادتهُ على المنهجِ الأحمدِ الذي جاءَ به أحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلّم, ومن غيرِ أن يكونَ قد صنعَ شيئاً لنفسه ولا لأمته, وإنما هي الذبذبةُ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء, شيءٌ واحد في وقتٍ واحد وجميعُ الأشياءِ في جميعِ الأوقاتِ. وهذا دينٌ جاءَ به محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ليضبطَ به الحياة، يضبطُ الله رب العالمين بدينه الحياةَ ضبطاً متيناً, ويجعلُ لنا ربُّنا جلَّ وعلا كُلَّ شيءٍ في موضعِهِ.
وتعلمون حفظكم الله رب العالمين أن خالداً رضوانُ الله عليه - وهو الفارسُ الذي لم يُهزمُ قطُّ, والقائدُ الذي لم يُغْلَبْ أبداً، لا في جاهليّةٍ ولا إسلام - لم يكن أقرأ الأصحابِ, ولم يكن أعلمهم بالفرائض, ولم يكن أثبتَهم في دينِ اللهِ رب العالمين علماً ومعرفةً وإحاطةً بما أتى به الرسول صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ، وإنّما كانَ في مجالِهِ سابقاً, وكانَ حيثُ جعلهَ اللهُ ربُّ العالمينَ رائداً مُستفْرِغاً للجَهْدِ فيما أقامَه اللهُ ربُّ العالمينَ فيه.
وقديماً قال علماؤنا عليهم الرحمه: (إرادتُك التجريد مع إقامةِ اللهِ رب العالمين إيّاك في الأسباب من الشهوة الخفيِّة, وأخذُكُ بالأسبابِ مع إقامةِ الله رب العالمينَ إيّاكَ في التجريد انحطاطٌ عنِ الهِمَّةِ العَليِّة), إنها إشاراتٌ لا يفهمها إلا الحاذقون, ولا يتبَصَّرها إلا المستبصرون.
لا نرى عشيّة هذا الأمر - الذي جعله الله ربُّ العالمينَ مُقبلاً علينا بزمانِهِ - لا نرى إلا وصيةَ نبينا صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء).
وهذا موسمٌ من مواسِمِ الطاعات قد أذِنَ اللهُ ربُّ العالمينَ وقدَّرَ أن يكونَ ذلكَ بذلك, وأن يكونَ ذلك مع ذلك، فيبدأُ هذا العام الدراسي إن شاء الله رب العالمين في موسِمٍ من مواسِمِ الصيِّامِ الذي هو وِجاءٌ وقطعٌ للشهواتِ بمادتها, وحسمٌ لمادةِ الغريزةِ أن تكونَ مُشتعلةً بالغريزةِ هاهُنا وهُنالك بثورةِ جسدٍ مشبوبٍ بغرائزه لا يُكفُّ عِنانُهُ, ولا يُحكّمُ قيادهُ؛ لأنه قد صرنا في مجتمعٍ مفتوح, وأصبحت اللذاتُ على طرفِ أنامِلِ الأصابِعِ, متى ما أرادَ المرء أن يُحَصِّلَها حصَّلها, لا نرى إلا أنّ الله رب العالمين قد جعلَ لنا في هذا كُلِّه ومن هذا كُلِّهِ مخلصاً ومخرجاً؛ إذْ أذِنَ اللهُ ربُّ العالمين أن يبدأ هذا الموسم بموسِمِ طاعاتٍ, قدَّرَ اللهُ ربُّ العالمينَ فيه للأمّةِ هدايةً ورُشداً, وأخذَ فيه النبيُّ صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ بالصيام جُملةً وتفصيلاً, فقد صحّ عنه صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ: (أنه كانَ يصومُ شعبانً كُلّه), وفي روايةٍ: (يصومُ شعبانَ إلا قليلاً), يستعدُّ بذلك لما هو آت, ويبيّن أنُّهُ يُحبُّ أن يُرفعَ عملُهُ إلى الله ربِّ العالمين وهو صائم في حالةٍ من أشرفِ حالاتِ النَّفسِ, بحسمِ مادة الشهوات, وقطع مادة اللذات, والإقبالِ على الله ربِّ العالمينَ بجمعية الأنفس, وبالقلب كلِّه, وبالروحِ جميعها تهذيباً وتصفيةً؛ من أجلِ أن تعودَ النفس إلى الإنسانِ الحقِّ الذي خلقهُ اللهُ ربُّ العالمين لعبادته في أرضِهِ وإقامةِ دينِهِ وحياطةِ عرضِه، هذا الإنسانُ لا يصلُ إلى هذه الغايةُ إلا بالسيرِ على نهجِ مُحمَّدٍ صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ, وهو - بأبي هو وأمي ونفسي - كانَ يصومُ شعبانَ كُلَّهُ, وفي رواية: (كان يصومُ شعبانَ إلا قليلاً).
يرفعُ اللهُ ربُّ العالمين العمل في النهارِ كما هو معلومٌ عندَ صلاةِ الصُبحِ وعندَ صلاةِ العصر, إذ يتعاقبونَ فيكم ملائكة بالليل والنهار, ويرفعُ الله ربَّ العالمين وينظرُ في الأعمالِ في كُلِّ أسبوعٍ مرتين: في كُلِّ اثنينٍ وخميس, ثمَّ في العامِ مرة: في هذا الشهر - في شهر شعبان -، يقول النبي صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ وقد سُئل - سأله الحِبُّ بنُ الحِبِّ رضوانُ الله عليهما -: (ما لنا نراكَ تصومُ في هذا الشهر ما لا تصومُ مثلَهُ في غيرِهِ خلا رمضان؟), فقال صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ: (هذا شهرٌ يغفلُ النَّاس عنه بين رجبٍ ورمضان) يعني هذا الشهر - شهر شعبان - يقعُ بين شهر من الأشهرُ الحُرُمِ معلومةٌ قيمتهُ مفروضةٌ حُرمتُهُ, فهذا الشهر يقع بينَ رجب ورمضان الذي أنزل اللهُ ربُّ العالمينَ فيهِ القرآن، ومن أجلِ إنزالِ القرآنِ فيه فَرَضَ اللهُ صومَهُ على أمَةِ نبيِّه صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ, وجعلَ فيه ليلة هي خيرٌ من ألفِ شهر؛ وإذاً فالأمُّةُ والنَّاسُ يعلمونَ قيمتي الشهرين بداءً ومنتهى, وأمّا هذا الشهرُ فلربما ضاع بين هذين الشهرين العظيمين, يقول النبي صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ: (هذا شهرٌ يغفلُ عنه الناس بين رجب ورمضان تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى الله؛ فأنا أُحِبُّ أن يرفع فيه عملي وأنا صائم) صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ.
لا نجدُ لهذه الأمّة ممثلةً في جموعِ شبابها, وفي تلكَ القُطعان الشاردةِ من تلكَ الأجناسِ التي تتحفّزُ فيها الغريزةُ لكي تثورَ ثورانَها, لا نجدُ لهذه القطعان الشاردة عن منهجِ ربِّها خيرًا من كلامِ ربِّنا جلّ وعلا: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور : 33], والعفّة شيءٌ سوى الكبتِ, فإنَّ الإنسانَ إذا ما كبَتَ الغريزةَ؛ فإنّ هنالكَ مُدافعةً, كما تُريدُ أن تكبحَ جِماحَ سيارَتِكَ, وقد أقمتها على أقصى سرعاتها, ثم أنت تُعمل لها مع ذلك عظيمَ كابِحاتِها؛ فتظلُّ في صراعٍ دائمٍ ملتهب، وأمّا إذا ما كُفّت كفَّاً رفيقاً, وأمّا إذا ما أُخِذَ بيدها أخذاً شفيقاً؛ فهذه هي العِفَّةُ التي أمرَ بها ربُّنا جلت وقدرته, هي أمرٌ محمودٌ, وليست بثورانِ غريزةٌ مكبوتة متى ما رُفِعَ غِطَاؤها, ومتى ما أفلتت من عِقالِها؛ صارتْ إلى تدميرِ لا تُحمَدُ عُقْبَاهُ, بتلويثِ نفسٍ لا يُمكِنُ أن تعودَ يوماً من الأيّامِ إلى سالفِ عهدها.
لا نجدُ للأمَّةِ ممُثلةً في شبابها - أمامِ هذه الأحوالِ الزمانيَّةِ التي هي مقبلةً عليها بجموعِ قُطعانِ شبابِها - خيراً منَ التذكيرِ بقصَةٍّ يوسفَ عليهِ السلام؛ فإنّه قد ضُربَ مثالاً في القرآن العظيم, لا على العِفَّةِ وحدها, وإنّما على قدرةِ العبدِ المُسلمِ أن يحيا نظيفاً وسَطَ الوحلِ, وأن يظلَّ محتفظاً بنظافةِ وطهارةِ قلبِهِ وجسدِهِ وثيابِهِ وهو مُخالطٌ لوحولٍ متراكِمات، وهو سائرٌ في طُرُقٍ مدلهمات بظلماتها, فإنّه في وسطِ مجتمعٍ كافرٍ بربِّهِ جلّ وعلا - عارِمٍ بغريزته، منفلتٍ بزمامِ شهوتِهِ - يظلًّ على حفاظِهِ بعهدِ ربِّه جلَّ وعلا قائماً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى نَبيِّنَا وسَلَّم.
يضربه الله ربُّ العالمين مثالا لا للشاب المسلم وأنموذجَا, وإنّما يضربهُ الله ربِّ العالمين مثالاً لجموعِ الأمّة في كُلِّ حينٍ وحال: أنّه لا عُذْرَ لأحد, وأنَّهُ مهما كانت الأحوالُ سيئةً, ومهما كانت اللذات ممتلكةً؛ فإنّ المرء قادرٌ بإيمانِهِ بربِّهِ, واعتِصَامِهِ بدينِهِ, وحياطَتِهِ لقلبِهِ وعَقْلِهِ ورُوحِهِ, قادرٌ بأمرِ اللهِ ربِّ العالمينَ على أن يظلَّ نظيفاً غير ملَوَّثٍ, وأن يظلَّ عفيفاً غيرَ متلوِّثٍ.
لأن اللهَ رب العالمينَ لمّا بيّن لنا المِحنات محنةٍ تلوَ مِحنةٍ تُحيطُ بيوسفٍ عليه السلام؛ إذ يُحيطُ به كيدُ الإخوةِ؛ إذ يُحيطُ بهِ مجموعٌ ملاصِقٌ له من أقارِبِه؛ إذ يُحيطُ به ما يُحيطُ به من الكيدِ الكائدِ والحقدِ الحاقدِ والحسَدِ الحاسِدِ لا لشيء إلا لأنَّ أباهُ قد تَوَسَّمَ فيه خيراً, يعلمُ أنه امتدادٌ للنبوة في آلِ يعقوبَ من بعدِهِ, يعلمُ أنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ سيؤتيه من الفضلِ ما لا يُقَادَرُ قَدْرُهُ ولا يعلمُ مقدارُهُ إلا الله الذي يعطيه، يعلمُ ذلك؛ فيُقرِّبهُ ويُحبُّهُ, وقد ماتت أمُّه صغيراً - يتعرَّضُ للعسفِ والكيدِ منذَ نعومةِ الأظفار -، ثمّ يُتَهمُ بالسرقةِ.
والشريعةُ التي كانَ عليها يعقوبُ عليه السلام: هو أنّه من سرقَ فثبتت سرقتُهُ صار عبداً لمن سُرقَ منهُ المسروق، فلمّا أرادت عمته - وكانت له راعيةً من بعد وفاة أمّه راحيل بنتُ لابان, وهو خالُ يعقوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاةِ وأزكى التسليم - لمّا كانت تحُوطُه, وأرادَ يعقوبُ أن يسترِدَّهُ صغيراً - لمّا يكتملِ نمُّوهُ بعدُ صَلى اللهُ عليِهِ وسَلَّمَ - لما أراد أن يسترِدَّهُ, وأرادت هي أن تحُوزَهُ؛ جاءت بِمِنْطَقَةٍ كانت لإبراهيمَ يتوارثُهُا آلُ إسحاق؛ فكانت عندها؛ فشدتِ المنطقةَ على وسَطِهِ, ثم ردَّتُهُ برداءه, وألبسته ثيابَه, ثم اعتمل الأمر في نفسِها لا على سبيلِ الشكِّ, وإنّما على سبيلِ اليقين - تعلمُ السارقَ المزعومَ حقَّاً ويقيناً -, ثمَّ أشاعت أنّها فقدت شيئاً, ثم أخذت تبحثُ هاهُنا وهُنالكَ حتى وقعت على المسروقِ قد لُفَّ على وسطِ يوسُفَ صغيراً عليه السلام؛ وعندئذٍ لم يجد يعقوبُ بُدّاً من أن يدعهُ عندها حتى تقضي منه لُبَانَاتِها, ثم استرده بعد, فكان عنده يشب شيئاً فشيئاً يُقَرِّبَهُ ويحُوطُه, وأمّا إخوتُهُ الكِبار - الذين كانوا مفتولي السواعد قد طرت شواربهم, واستقامت على الأرض قاماتُهم - فإنّهم لم يُعجِبُهم هذا الأمر؛ فكادوا له كيداً حتى ألقوه في غيابة الجُبِّ يراودون عنه أباه بالحيلة والخطفِ والمكرِ والخداع, فكانت أول محنة في حياةِ يوسف عليه السلام.
ولك أن تتصور إذ يجردونه من ثوبِهِ بغيرِ ما رحمةٍ هُنالكَ, ثمّ يأخذونه لكي يلقوهُ في غيابة الجُبِّ - جُبُّ هنالكَ عندَ بيتِ المقدسِ ينزلُ المطرُ ما ينزلُ, فيبقى فيه من الماء ما يبقى, ورُبما ظلّ جافةً شهوراً متتابعات, والسيّارةُ الذين يروحونَ ويغدون, يسيرون قافلين وذاهبين يمرُّون على الجُبِّ, فرُبما أراد ماتِحُهُم الذي يُلقِي الدلوَ في البئر من أجلِ أن يُخرجَ الماء, لربما جسُّوا نبضَ البئر بماءِهِ؛ من أجلِ أن يُخرجُوا منه ماءً به يتزودون, وعليه يتبلَّغون في صحراء قاحلة هي أجدبُ من كفِّ اللئيم -, جعلوا يوسف عليه السلام في غيابة الجُبِّ, لكَ أن تتخيَّلَ يوسفَ عليه السلام وهو يُلقى في الجُبِّ يُحاولُ أن يتعلَّقَ بطيّته، يُحاوُلُ أن يتمسَّكَ بالحجارةِ المطويةِ بُعمقِ هذا البئر في رأسِ هامَتِهِ, وهم يأبونَ إلا أن يُحرِّكوا يدهُ شيئاً فشيئاً حتى يُلقى هُنالك في غيابةِ البئرِ, ثم تأتي السيارة بعدَ حينٍ يتعلُّقُ في الدلوِ؛ فيخرُجُ؛ فيقعُ في المحنةِ الثانية: في محنة الرِّق تتداوَلُهُ الأيدي بيعاً وشراءً عبداً رقيقاً, وهو الحُرُّ الكريم كما أخبرَ النبيُّ الأمين صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه وَسَلَّمَ, ثم يُباعُ بيعَ الرقيق حتى يصيرَ عند عزيزِ مِصر.
وهَاهُنا أمرٌ ينبغي أن يُتفَطَّنَ إليه: فإنّ كثيراً من أهلِ الأهواءِ والباطل يضعونَ للمرأةِ المصريّة بسِماتها وشِياتها ونفسيَّاتِها, يجعلونَ للمرأة المصريّة مثالاً ونموذجاً في امرأة العزيز, ويجعلون في خيالاتِهم المريضة هذا النموذَجَ مضروباً لكلِّ امرأةٍ مِصْرِيّة، وهذا وهمٌ عجيب؛ لأن المرأة المصريّة متى ما كانت في بيئةِ عفّافٍ عفّتْ, ومتى ما كانت في بيئةٍ غيرِ عفيفةٍ استعفّت على قدرِ المُستطاعِ وعلى حسبِ الطاقة, والموفِّقُ هو اللهُّ ربُّ العالمينَ.
فعندما يأتي أهلُ الأهواء لكي يضربوا المثالَ للمرأة المصريّة بامرأة العزيز يُغالطونَ التاريخ؛ لأن التاريخ قد أثبتَ, والقرآنُ العظيم قد أشار أنّ هذه الفترة في حياةِ المصريين لم تكن خالصةً للمصريين, وإنما كانوا منحازين إلى الجنوب فيما بين الأسرةِ الثالثةَ عشرةَ والأسرة السابعةَ عشرةَ من الأُسرِ الحاكمةِ في مِصْرَ في ذلكَ الزمان، ولذلك لا تجدُ القرآنَ يُشيرُ إلى حاكمِ مِصْرِ في ذلك الزمان بلقبِ فرعون وإنَّمَا يقول: {الْمَلِكُ}, يقول: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف : 43], {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف : 54], فلما أطلق القرآنُ ذلك دلّنا ذلك على حسبِ الواقع التاريخي أن الأُسرَ التي كانت تحكُمُ مِصْرَ لم تكن قائمةً في ذلكَ الزمان بحيثُ تتعامَلُ في الحُكمِ مع يوسفَ ولا مع غيرِ يوسف، وإنّما كان الرعاة الذين نبزهم المصريون بلقبِ (الهكسوس) - وهو لفظٌ مصريٌّ قديمٌ يعني الخنازير أو رعاةَ الخنازير - سَمَّوا أولئك الرُعاة العمالقة العماليق الذين احتلوا مِصْرَ في ذلك الزمان مدة قرنٍ ونصفٍ لم يكن الذي يتربُّع على دَسْت المُلكِ في مِصْر, ولم يكن العزيزُ ولا امرأتهُ من المصريين, وإنما كان المصرييون والمصرييات بمبعدةٍ عن هذا كُلِّه.
فمن أراد أن يجعل أنموذجَ امرأةِ العزيز أنموذجاً للمرأة المِصريّة يظنُّ بوهمِهِ أنّها كذلك, وأنها سهلةً المُتناولَ, وأنّها ثائرةٌ بشهواتها عارمِةٌ بغريزتهِا؛ فقد أبعدَ النجعةَ, وافترى على القرآن العظيم.
نسأل اللهُ جلّت وقدرته وتقدست أسمائه أن يرزقنا العفّة, وأن يجمُّلنا بالعفاف, وأن يحسم عنّا غِواية الشيطانِ الرجيم, إنّه على كُلِّ شيءٍ قدير.
وصلى الله وسلّم على نبينا محمّد صلى الله عليه وعلى آلِهِ وسَلَّم.
الخطبةُ الثانية:
الحمد لله رب العالمين, وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ لهُ هو يتولَّى الصالحين، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُهُ ورسولُهُ صلى الله عليه وعلى آلِهِ وسلَّم صلاةً وسلاماً دائمين متلازِمينِ إلى يوم الدين أما بعد:
فإنّ المحنة التي تلت محنة الرِّقِ من بعدِ محنةِ كيدِ الإخوةِ والإلقاءِ في غيابةِ الجُبِّ هي: مِحْنَةُ الغِوايَة وثورةِ الشهوة بالغريزة المشبوبة بمتُابعة المرأة - امرأةِ العزيز - ليوسُفَ يَشُبُّ بين عينها, وكان ما كانَ مما قصَّهُ القرآنُ العظيم.
يوسف في شبابه وقوّته, وامرأةٌ كانت أجملَ أهلَ عصرها, ثم يتأتى من يوسفَ إباءٌ مُطلق, ولا همّ هنَالِكَ؛ لأنّ الله ربّ العالمين وحِزبهُ؛ ولأن الشيطان الرجيم وحِزبَهُ, كلاهُما شهِدَ ليوسُفَ بأنّه ما همَّ.
اللهُ ربُّ العالمين يقول: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف : 24], اللهُ ربُّ العالمين يشهدُ أنه صرف عنه السوء والفحشاء، ويشهدُ أنه من المُخلَصين، والشيطانُ الرجيمُ يقول لربِّ العالمين: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [صـ 82: 83], وهو من المُخلَصين كما قال اللهُ ربُّ العالمين؛ فشهدَ له الشيطانُ الرجيم, وشهدَ أنّه لا سبيلَ له عليه, ولا طريق لهُ إليه, وإنما هو خالصٌ مُخلصٌ للهِ ربِّ العالمين.
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف 26 : 29], وسواءٌ كان القائل العزيز أم كان شاهداً من أهلها؛ لا ضيرَ أن المؤدّى واحد بفضلِ الله جلّت قدرته, ويبقى اللفظُ يرنُّ رنينهُ في الآذان آذانِ القلوب التي تلقي بآذانِها إلى ربِّها مصغيةً ومستمعة, {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف : 29], فهذا اعتراف على حسبِ دليلٍ مُحَقِّقٍ في المسألةِ تحقيقاً مادياً دقيقاً بأمرٍ منطقيٍّ لا يقبلُ الرد، {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ} [يوسف : 28], والقَدُّ: هو الشقُّ والقطعُ طولاً، فلما كانت متتبعة لأثرِهِ, وكان مندفعاً كجلمودِ صخرٍ حطّهُ السيلُ من علٍ، وهي تتعلّق به تعلّقها, وتجذبُهُ إليها قدّت قميصَهُ من دُبُر كما قال الله ربُّ العالمين: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف : 28], وشهد النسوةُ اللائي حرضنه وراودنه عن نفسه وحرضنه على المرأةِ لكي يؤدي لها لُبَانَاتِها، شهدنَ عندما أبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن بعد ما أوّل الرؤيا - رؤيا الملك -, وأراد الملكُ أن يأخذه من السجن, فأبى أن يخرج إلا بعدِ فتحِ ملفّ القضيّة والتحقيقِ فيها من جديد؛ حتى يخرُجَ لا بأمرِ ملكي يصير عفواً مع بقاءِ الجُرمِ مُعلًّقاً والقضيّة تظل متذبذبة من غيرِ حسم, أبى أن يخرجَ إلا أن يتأتى بُرهانٌ قاطعٌ {مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف : 50], واستدعى الملكُ النسوة, وفتحَ ملف القضية فيها يُحققُ من جديد {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} [يوسف : 51], وأنت تعلمُ أن النكرةَ في سياقِ النفي تُفيدُ العموم {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} مُطلق سوءٍ لم نعلمه عنه لا في ذاته بمشاهدةٍ ورؤية, ولا بسماعٍ تتناقله الأسماع وتلوكهُ الألسن، حتى إنّ المرأة شهدت ببراءته في مجلس الملك, ثم اعتذرت بعد ذلك تقول {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيََ} [يوسف 51 : 53], الظاهرُ والراجحُ أن السياق هاهُنا لكلامِ المرأة, وإنّها لمحبّة تُريدُ أن تستنفرَ نخوةَ الرجلِ الذي أحبّته, وألقت بجسدها وفتنته معترضةً بين يديه إلى الرجل الذي استعلى عن شهواتها, والذي لم يعبأ بفتنتها وغريزتها المشبوبة بثورةِ جسدها, فهي تقولُ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ}, أي: يوسف عليه السلام {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ} فكأنّها آمنت بما كان يدعو إليه.
إذ ما جريمته التي ألقت به في غيابةِ السجن؟
ما هي إلا العفاف, وما هي إلا البُعدُ عن الوقوعِ في الحرام, وما هي إلا الاستعلاءُ فوقَ شهوةِ الجسدِ وثورتهِ, هذا الذي أدى به في المنتهى إلى ذلك السجن بكل ما فيه.
{وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف : 100], انظر إلى قوله عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}؛ ليدُلُّ دلالةً رفيقةً بلمسةٍ عابرة لا شكوى فيها, ولا أنّك تسمعُ من وراءها أنُّهُ كان يُعاني في السجنِ ما يُعاني، والسجنُ شديدٌ لا محالةَ وإن كانَ في قصر مُنيف، وإن كانَ في قصرٍ مشيد {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف : 100].
فهي تستثيرُ فيه مكامِنَ النخوة من نفسه {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف : 52], وأن الفترة التي كان فيها عني بعيداً ما زلتُ فيها مقيمةٌ على محبّتهِ, مازلتُ فيها عاقدةً لأواصِلِ مودته, ثم إنها تأتي من المكمنِ الذي لا يستطيعُ يوسُفُ دفْعَهُ عليه السلام: وهي أنّها ألقت بزمامِ قلبها لله جلَّ وعلا {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف : 52], فذكرُها لله جلّ وعلا في هذا المقام له من الدلالة والوشْيِ ما له من هذه الدلالة التي تكادُ تكونُ ظاهرة, ومن هذا الوَشْيِ المُعجبِ النظير الذي يرتاحُ إليه قلبُ يوسف من بعد أن يُلقى في مسامِعِهِ، حتى المرأة شهدت غير متحرّزةً أنّها راودته عن نفسِهِ قالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} [يوسف : 51], هكذا يأتي الحَقُّ بغيرٍ تحرّزٍ, ومن غير ما تجميل - لا تتجملُ مُطلقاً -, وإنما تقولُ غير هيّابة ولا وجلة ولا خجلةٍ ولا مستحيية: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}
[يوسف : 51], فشهدت المرأةُ وشهدتِ النسوة, وشهدَ الشيطانُ الرجيم من بعدِ ما شهدَ اللهُ ربُّ العالمين.
فليسَ لمن أرادَ أن يَسِمَ يوسف بالهمِّ إلا أن يكون إما من حزبِ الله جلّ وعلا, وإمّا أن يكونَ من حزبِ الشيطان الرجيم, وكلا الحزبين قد صرحا بأن يوسف ما همّ, وأنّه ما أتى منه شيء.
النعمة قد تكونُ فتنة وتكون امتحاناً وابتلاءً؛ لأن يوسُفُ عندما صارت مقاليدِ الأمورِ بيدهِ, وعندما أصبحَ مُتصرِّفاً بأمرِ اللهِ ربِّ العالمين في لقمةِ العيشِ في مِصْرَ بطُولها وعرضِها وفي الدول المحيطةِ بها؛ صرّف الأمر تصريفاً حسناً حتى إنّه من بعد ما لُمَّ الشمل, وأنت لمَّةُ الإخوة مع أبيهِ وخالته, وسمّاها القرآنُ أُمّاً؛ لأن الخالة أمُّ {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف : 100].
عندما أتى الأمرُ مستقراً على هذه النهايةُ في مجتمعٍ مضطربٍ قد انفلتت شهواته, وانطلقت من العقال غرائزه, يدلُّك على ذلك أن الزوجَ كان من دم باردٍ لا نخوةَ عنده ولا غَيرةَ مُطلقاً, حتى إنّه عندما رأى ما رأى من البُرهانِ القاطعِ والدليلِ الساطعِ على أنّ امرأته كانت تراودُ فتاهُ عن نفسِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُحرِّك ساكناً, وإنما أقبَلَ بدمٍ باردٍ يقول: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا}
[يوسف : 29], وأما أنت أيتها الخاطئة فاستغفري لذنبك ولا يزيد!
ويجعلُ هذا الدَّرِيس هنالكَ عند النار المشبوبة, ولا يحترزُ ولا يضعُ حجاباً ولا حَاجزاً, ثمَّ عندما سارت القالةُ, وتناقلت الألسن ما كانَ من المرأة, لم يكن هنالك من شيء عندها يَتَفَتَّقُ به ذهنُها إلا أن تعتدَّ لهنّ متكئاً وتُهيئ لهنّ موطناً, ثم تؤتي كل واحدة منهن سكيناً, وتضعُ بين أيديهن فاكهة تُقطّعُ أو تُقشَّرُ, ثم فليخرج يوسف وهو كارهِ لكي يمضيَ بينَ صفوفِ النسوة {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف : 31]، وانظر إلى لفظ القرآن الكريم لم يقل وقَطَعْنَ أيديهنُ, وإنما قال: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}, وتضعيفُ المبنى يدلُّ على زيادةِ المعنى، (فقطَّعن) سوى (قطَعن)، (وغلّقت الأبواب) سوى (أغلقتِ الأبواب)، فهو مبالغةُ وحياطةٌ في الأخذِ بالأمر.
{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف : 31], وانقلبتِ الصورةُ هاهُنا إلى مُراودة جماعيّة كُلّ واحدةٍ منهنّ تُريدُ أن تستحوذَ على إعجابِ يوسف عليه السلام, تُريدُ أن تستميلَهُ إليها, ثمَّ هُنَّ رعايةٌ للموضعِ الذي كُنَّ فيه, وأخذاً بما هو واجبٌ عليهنّ من رعايةِ حقِّ الضيافةِ عليهنّ, أخذن يدفعنه دفعاً؛ ليُقمنَه على مراودةِ المرأةِ استجابةً لها, وأخذاً بتلبيةِ رغباتها, وعندئذٍ يضيقُ الخناقُ عليه جداً, ويقول: إن هذا المجتمع المتعفِّنَ لا يُمكنُ أن يحيا فيه المرء على هذه الصورة؛ فيدعو ربَّهُ جل وعلا أن ينتشله من هذه الوهدة يقول: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف : 33].
وإذًا؛ أمامَ توعُّدِ المرأة {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف : 32], أعتدت لهنّ متكئاً, وأعدت لهنّ فخاً فوقعنَ فيه, واصطدنه جميعاً حتى إن المرأةَ لتتشفى فيهنّ تقول: (هذا الذي لم تحتملنَ منه بصةً واحدة - وهي فصيحةٌ فلا تجزع - هذا الذي لم تحتملنَ منه بصَّةً واحدة في مجلسٍ واحدٍ يتيم أحيا معه في الصباحِ وفي المساءِ, ويخلو معه الجو مُقفِراً, فلا يكونُ هنالك حتى في المَخْدَعِ إلا أنا وهو؛ فكيفَ الصبر على مثلِ هذا الذي لم تصبرن منه على نظرةٍ واحدة حتى أقبلتُنَّ متدلهات في حبّه, واقعاتٍ في شَرَكِ مودَتِهِ وهواه؟!).
هذا الذي لمتنني فيه {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف 32: 33], يدلُّك هذا في هذه المحن المتتاليات, ثمّ ما كان من محنة الرخاء المُطلق, والسُلطان الكامل, وتصريفِ الأمورِ بزمامِها قد أُلقِيَ بين يديه وحده, ثم يُلمُّ الشملُ بعد محنةٍ عنيفةٍ جداً تتصارعُ فيها النفسُ برغباتها بين الإقامة على دينِ ربِّها والتشفي وإنفاذِ الانتقامِ على من يستحقُّهُ وفيه, إذ جاء إخوتُهُ إليه, وصاروا في قبضتهِ وبين يديه، فأخذَ يُذهبهم ويُجيئهم, ويروحُ بهم ويغدو بهم, ويجعلهم بينه وبينَ أبيه غادينَ رائحين، والرجلُ الشيخُ النبي الكريمُ يعقوب صابرٌ محتسب قد ابيضت عيناه من الحزن؛ فهو كظيم, ثم يتأتى الفرجُ من اللهِ ربِّ العالمين عندما يذهبُ الإخوةُ بقميصِ يوسف, يذهبونَ به إليه, ويقولُ الشيخُ النبيُّ الكريم: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف : 94], والفَنَدُ: هو الخَرَفُ من شيخوخةٍ أو من مرض, وهو لفظُ موحٍ بما كانَ يلقاهُ ممن هو حوله، إذ إنهم يجترئون على رميه بالفَنَدِ بالخَرَفِ من شيخوخة أو من مرض {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً} [يوسف 94: 96].
اللهُ ربُّ العالمينَ يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ بما يريد، ما كانَ من يوسف بعد أن انتهى الأمرُ - واجتمع الشمل, وجاءت لمّة الأخوة وسجدوا له, ورفع أبويه على العرش, وتحققت الرؤيا - إلا أن يُلقيَ بزمامِ القلبِ بين يدي الرب {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف : 101], يتبدد كل شيء, ويذهب كل مُلك, ويعود الأمر إلى لله رب العالمين {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}, هي ترنيمةُ العبدِ الصالحِ المُخبِتْ بين يدي سيِّدهِ ومولاه.
وتلمحُ في القصَّةِ طمأنينةَ القلبِ المؤمن, فلا تجدُ من يوسف عليه السلام انفعالاً, ولا تجدُ منه شهوةً في انتقام لمَّا جعل الله إخوته الذين كانوا سبب البلاء كلّه لم يجعل الله ربّ العالمين في قلبه شهوةً لانتقام, وإنّما هي الطمأنينة الراضية وهو في غيابة الجُبِّ, وهو في قيدِ الرِّق, وهو في ثورةِ غريزةِ المرأةِ تلاحقُهُ بالشهوةِ, وهو بعد ذلك في تلك المراودة من النسوة, ثم بعد ذلك في غيابة السجن, ثم وهو على دستِ الحُكمِ وفي سدة المُلك, في كُلِّ ذلك لا تجدُ منه إلا الطمأنينةَ - طمأنينة المؤمن الراضي بقضاءِ اللهِ ربِّ العالمين -.
هذه القِصَةُ كما ترى تدل المسلم في هذا الزمان وفي كُلِّ زَمان على أنّهُ يُمكِنُ أن يعيشَ عفيفاً في وسطَ لا عفةَِ فيه، ويمكنُ أن يحيا بفضلِ الله رب العالمين نظيفاً في وسطِ قد تجمعت الأوساخُ فيه, ولكن فليعلّق المرء قلبَهُ بالله ربِّ العالمين.
لا نجدُ عشيّةَ العام الدراسي الجديد إلا أن نُذَكِّر شبابَنا برجاءِ أمته فيه أن يكونوا مقبلين على تحصيلِ العلم تحصيلاً دائباً لا هوادةَ فيهِ ولا توان, وإنما بإقبالٍ واستفراغٍ للُجُهْدِ والطاقة؛ من أجلِ أن يرفع الله ربّ العالمين الأمّة رفعاً حسيّاً مادياً؛ إذ هي مرفوعةً دنيا وآخرة في ميزانِ اللهِ ربِّ العالمين.
فاللهمَّ يا ربّ العالمين ويا أكرمَ الأكرمين اهد الشباب الحائر المسكين، اللهم اهدِ الشبابَ الحائرَ المسكين، اللهم اهدِ الشبابَ الحائرَ المسكين، اللهم خذ بنواصيِهِم إلى صراطك المستقيم، اللهمّ خذ بنواصيهم إلى صراطك المستقيم، اللهم ثبّت أقدامنا, واهد قلوبنا, وبيض وجوهنا, وثَقِّل موازيننا, واشرح صدورنا, وأصلح بالنا, اللهم اسلُل سخيمةَ صدورنا, اللهم احرسنا من بينِ أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا, ونعوذ بعظمتك أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم يا رب العالمين هيأ للأمّةِ أمرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فيهِ أهل الطاعة ويُذلُّ فيه أهل المعصية ويُقضى فيه بكتابِكِ وسُنَّةِ نبيِّك صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، اللهم استر عورات المسلمين, وآمن روعات المسلمين, واحقن دماء المسلمين, اللهم سلِّم وطننا وجميعَ أوطان المسلمين ظاهراً وباطناً .. ظاهراً وباطناً .. ظاهراً وباطناً .. اللهم سلِّم وطننا وجميعَ أوطان المسلمين, واحرس أرضنا وجميع أرضِ المسلمين يا رب العالمين, ويا أكرم الأكرمين، اللهم احرس أرضنا وجميع أرضِ المسلمين من كل سوءٍ يا ربَّ العالمين, وطَهِّر هذه الأرضَ المُباركة يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين من كُلِّ غازٍ معتدٍ أثيِم يا ذا الجلالِ والإكرام يا عزيز يا عزيز يا عزيز، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا.
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم.