ويُقالُ: هو سيِّءٌ إذا قُبُحَ، والأُنْثَى سَوْآءُ: أي قبيحةٌ، والسَّوْآءُ: المرأةُ المُخَالِفَةُ، والسَّوْأَةُ السَّوْآءُ: الخَلَّةُ القبيحةُ، وكلُّ كلمةٍ قبيحةٍ و فَعْلَةٍ قبيحةٍ فهي سَوْآءُ.
وأساءَ الرَّجُلُ إساءةً خلافُ أَحْسَنَ، وأساءَ الشيءَ: أفْسَدَهُ ولم يُحْسِن عَمَلَهُ، وفي المَثَلِ: أسَاءَ كَارِهٌ ما عَمِلَ، والسَّيِّئةُ: الخطيئةُ.
ويُعرَّفُ الظَّنُّ في اللغةِ: بأنه الاعتقادُ الرَّاجِحُ مع احتمالِ النقيضِ.
والظِّنَّةُ: التُّهَمَةُ، والظَّنِينُ: الرَّجُلُ الذي تظُنُّ به التُّهَمَةَ، والظَّنُونَ: الرَّجُلُ السَّيِّئُ الظنِّ، وقيل: السَّيِّئُ الظنِّ بكلِّ أحدٍ، وقيلَ: قليلُ الخيرِ.
والمَظَانُّ: جمعُ مَظِنَّةٍ، وهي مَوطِنُ الشيء ومَعدِنُهُ، مِثْل: طلبتُ الدنيا مِن مَظانِّ حلالِهَا.
وأمَّا في الاصطلاحِ: فسوءُ الظنِّ: امتلاءُ القلبِ بالظنونِ السيئةِ بالناسِ حتى يطفحَ على اللسانِ وعلى الجوارحِ.
وعرَّفَهُ الماروديُّ: ((بأنه عدمُ الثقةِ بِمَن هو لها أَهْلٌ)).
والتعريفُ المُختارُ: أنَّ سوءَ الظنِّ اعتقادُ جانبِ الشرِّ وترجيحُهُ على جانبِ الخيرِ فيما يحتملُ الأمرين معًا.
وهو من الصفاتِ الذميمةِ التي تجلبُ الضغائنَ والكَدَرَ والهمَّ للفردِ، وتُفسِدُ المودةَ بين الناسِ، فتَجِدُ بعضَ الناسِ يسيءُ الظنَّ في الآخرينَ، ويَحْسِبُ كلَّ صَيحةٍ وكلَّ مكروهٍ يُقصَدُ به، ومنهم مَن يُسيءُ الظنَّ بالعلماءِ والصُّلَحَاءِ وأصحابِ الفضلِ لأغراضٍ شخصيةٍ وأمراضٍ داخليةٍ.
ومنهم مَن يُصَنِّفُ العلماءَ على هذا فيقول: هذا عالِمُ سُلطَةٍ! وهذا عالِمٌ يُفتي بكذا ليحصلَ على كذا! ومنهم مَن يقولُ: هذا عالِمٌ بالطلاقِ وبالحَيْضِ والنِّفَاسِ! وهذا عالِمٌ بدَوْرَاتِ المياهِ! إلى غيرِ ذلك مما يزعمُونَ ويفترُونَ.
وقد نهَى اللهُ -عزَّ وجلَّ- عن ذلك، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
وقال (ص): ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)).
3*وسوءُ الظنِّ بالمؤمنين: مثالُ ذلك: إذا رأى اثنين يَتَنَاجيَان، ظنَّ أنه المقصودُ بالنَّجْوى، وأنَّ امرأً قد يحيكُ ضدَّهُ ما يحيكُ مِنَ المؤامراتِ، وقد نهَى الرسولُ (ص) عن نَجوى الاثنين دونَ الثالثِ إذا كانوا ثلاثة، فقالَ (ص): ((إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ)).
4*ومنه: إذا نصحَهُ أَحَدٌ، ظنَّ أنَّ الناصحَ مُتَتَبِّعٌ لهَفَوَاتِهِ وعَثَرَاتِهِ ومُتعرِّضٌ له، وهو ينظرُ إلى الناسِ نظرَ المُرتابِ، وفي الحديثِ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ))، أرادَ الشكَّ يعرِضُ لك في الشيءِ فتُحَقِّقُهُ وتحكمُ به، وقيل: أراد إياكُم وسوءَ الظنِّ.
فسُوءُ الظنِّ اعتقادُ جانبِ الشرِّ وترجيحهُ على جانبِ الخير فيما يحتملُ الأمرين معًا.
وقد قُسِّمَ سوءُ الظنِّ إلى قِسمين، كلاهُمَا مِن الكبائرِ:
*الأول: سوءُ الظنِّ باللهِ –جلَّ وعلا-: ويدخل فيه سوءُ الظنِّ بشرعِهِ وسُنَنِهِ –سبحانه وتعالى-، وهو أبلغُ في الذنبِ مِنَ اليأسِ والقنوطِ، وكلاهُمَا كبيرةٌ، وذلك لأنه يأسٌ وقنوطٌ وزيادةٌ؛ لتجويزِهِ على اللهِ تعالى أشياءَ لا تليقُ بكَرَمِهِ وجُودِهِ.
*والثاني: سوءُ الظنِّ بالمسلمين: وهو أيضًا مِنَ الكبائرِ، وذلك أنَّ مَن حكمَ بشرٍّ على غيرِهِ بمجردِ الظنِّ حملَهُ الشيطانُ على احتقارِهِ، وعدمِ القيامِ بحقوقِهِ، والتواني في إكرامِهِ، وإطالةِ اللسانِ في عِرضِهِ، وكلُّ هذه مُهلِكاتٌ.
وقد ذكر أهلَ التفسير أنَّ الظنَّ في القرآنِ على أوجهٍ منها:
*التُّهَمَةُ: ومنها قولُهُ تعالى في التكوير: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي: بمُتَّهَمٍ. [التكوير: 24].
*ومنها الكذب: ومنه قولُهُ تعالى في النجمِ: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
وأمَّا أنواعُ الظنِّ:
فقَدْ قالَ سفيانُ الثوريُّ –رحمهُ اللهُ-: ((الظنُّ ظنَّان، ظنٌّ إثمٌ،وظنٌّ ليس بإثمٍ، فأمَّا الذي هو إثمٌ فالذي يظُنُّ ظنًّا ويتكلمُ به، والذي ليس بإثمٍ فالذي يظُنُّ ولا يتكلم به)).
والظنُّ في كثيرٍ مِن الأمور مذمومٌ، ولهذا قال –جلَّ وعلا-: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وقالَ تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
قال ابنُ قُدامةَ المقدسيُّ –رحمهُ اللهُ تعالى-: ((فليس لك أنْ تظُنَّ بالمسلمِ شرًّا إلَّا إذا انكشف أمرٌ لا يحتملُ التأويلَ، فإنْ أخبركَ بذلك عدلٌ فمالَ قلبُكَ إلى تصديقِهِ كُنتَ معذورًا؛ لأنك لو كَذَّبْتَهُ كنتَ قد أسأتَ الظنَّ بالمُخبِرِ، فلا ينبغي أنْ تُحسِنَ الظنَّ بواحدٍ وتُسيئَهُ بآخر، بل ينبغي أنْ تبحثَ هل بينهما عداوةٌ وَحَسَدٌ، فَتَتَطَرَّقُ التُّهَمَةُ حينئذٍ بسببِ ذلك.
وَمَتَى خَطَرَ لَكَ خَاطِرُ سُوءٍ على مُسْلِمٍ، فَيَنْبَغِي أنْ تَزِيدَ في مُرَاعَاتِهِ وتَدْعُوَ له بالخيرِ، فَإِنَّ ذلك يَغِيظُ الشيطانَ ويَدْفَعُهُ عَنْكَ، فلا يُلْقِي إليك خَاطِرَ السُّوءِ خِيفَةً مِنَ اشتغالِكِ بالدُّعَاءِ والمُرَاعَاةِ، وَإِذَا تَحَقَّقْتَ هَفْوَةَ مُسْلِمٍ، فَانْصَحْهُ في السِّرِّ.
واعْلَم أنَّ مِن ثَمَرَاتِ سُوءِ الظَّنِّ التَّجَسُّسَ، فَإِنَّ القلبَ لا يَقْنَعُ بِالظَّنِّ، بَل يطلبُ التحقيق، فَيَشْتَغِلُ بالتَّجَسُّسِ، وذلك مَنْهِيٌّ عنه؛ لأنه يُوصِلُ إلى هَتْكِ سِتْرِ المُسْلِمِ، ولو لم يَنْكَشِفْ لك؛ كان قَلْبُكَ أَسْلَمَ للمُسْلِمِ)).
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُضِيعُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ الصالحَ الذي عَمِلَهُ خالصًا لوجهِهِ علَى امتثالِ أمْرِهِ، ويُبْطِلُهُ عليهِ بلا سَبَبٍ مِنَ العَبْدِ، أوْ أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ بِمَا لا صُنْعَ لَهُ فِيهِ ولا اختيَارَ لَهُ ولا قُدْرَةَ لَهُ ولا إِرادَةَ في حصولِهِ، بل يُعاقِبُهُ علَى فِعْلِهِ سبحانَهُ بهِ، أوْ ظَنَّ بهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عليهِ أَنْ يُؤَيِّدَ أَعْدَاءَهُ الكاذبينَ عليهِ بالمعجزاتِ التي يُؤَيِّدُ بها أنبياءَهُ ورُسُلَهُ، وأَنَّهُ يَحْسُنُ منهُ كلُّ شَيءٍ حَتَّى يُعَذِّبَ مَنْ أفنَى عُمُرَهُ في طاعتِهِ -أيْ: كمُحَمَّدٍ (ص)- فَيُخَلِّدَهُ في الجحيمِ، أوْ في أسفلِ سافلينَ، ومَن اسْتَنْفَذَ عُمُرَهُ في عداوتِهِ وعداوةِ رسُلِهِ ودينِهِ –أي: كأبي جهلٍ-، فيَرْفَعُهُ إلَى أعلَى عِلِّيِّينَ، وكلاَ الأمرَيْنِ في الحُسْنِ سواءٌ عندَهُ، ولا يُعْرَفُ امْتِنَاعُ أَحَدِهِمَا، ووقوعُ الآخرِ إلاَّ بخبرٍ صادقٍ، وإلاَّ فالعقلُ لا يَقْضِي بِقُبْحِ أحَدِهِما وحُسْنِ الآخَرِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أخْبَرَ عنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ بَاطِلٌ وَتَشْبِيهٌ وتمثيلٌ، وتركَ الحقَّ فلمْ يُخْبِرْ بهِ، وإنَّما رَمَزَ إليهِ رموزًا بعيدةً، وَصَرَّحَ دائمًا بالتَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ والباطلِ، وأرادَ مِنْ خلقِهِ أَنْ يبعثوا أذهانَهُم وقُوَاهُم وأفكارَهُم في تحريفِ كلامِهِ عنْ مواضعِهِ، وتأويلِهِ علَى غيرِ تأويلِهِ، وأحَالَهُم في مَعْرِفَةِ أسمائِهِ وصفاتِهِ علَى عقولِهِم وآرائِهم لا علَى كتابِهِ، مَعَ قدرتِهِ علَى أَنْ يُصَرِّحَ لهم بالحقِّ الذي يَنْبغِي التصريحُ بهِ، ويُرِيحَهُم مِنَ الألفاظِ التي تُوقِعُهم في اعتقادِ الباطلِ، مَن ظنَّ به ذلك فَقَدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أَنْ يَكُونَ لهُ في مُلْكِهِ ما لا يشاءُ ولا يَقْدِرُ علَى إيجادِهِ وَتَكْوِينِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ، ولا يَعْلَمُ الموجودات، فقدْ ظَنَّ بهِ ظنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لا سَمْعَ لهُ، ولا بَصَرَ، ولا عِلْمَ، ولا إرادةَ، ولا كلامَ يقومُ بهِ، وأَنَّهُ لمْ يُكَلِّمْ أحدًا منَ الخلقِ، ولا يتَكَلَّمُ أبدًا، فقدْ ظَنَّ بهِ ظنَّ السَّوْءِ.
قالَ: ورَأَيْتُ آخرَ يَتَزَيَّ بالعلمِ، إذا ضاقَ عليهِ رِزْقُهُ يقولُ: إيشْ هذا التدبيرُ؟
وعلَى هذا كثيرٌ منَ العوامِّ إِذَا ضَاقَتْ أرزاقُهم اعتَرَضُوا، ورُبَّمَا قالُوا: ما يُرِيدُ نُصَلِّي، وإذا رأَوْا رجلاً صالحًا مُؤْذَى؛ قالُوا ما يَسْتَحِقُّ –أي ما يستحقُّ ما وقعَ عليه مِن الأذَى- قَدْحًا في القَدَرِ، وكانَ قدْ جرَى في زمانِنَا تَسَلُّطٌ مِن الظَّلَمَةِ، فقالَ بَعْضُ مَنْ تزَيَّ بالدِّينِ: هذا حُكْمٌ بَارِدٌ.
وما فَهِمَ ذاكَ الأحمقُ؛ فَإِنَّ الله يملي للظالم، وفي الْحَمْقَى مَنْ يقولُ: أَيُّ فائدةٍ في خَلْقِ الحَيَّاتِ وَالعَقَارِبِ، وَمَا عَلِمَ أَنَّ ذلكَ أُنْمُوذَجٌ لعقوبةِ المُخَالِفِ، وهذا أمرٌ قدْ شاعَ، ولهذا مَدَدْتُ النَّفَسَ فيهِ)). انتهى كلامُ ابنُ الجوزيِّ –رحمهُ اللهُ تعالى-، وقال ذلك في زمانِهِ، فما نقولُ نحن؟!!
ولــيـْسَ لـــهـا ولا مِنْهَا ولـــَكِنْ = مــن الـرحمــنِ فاشْكُرْ لـلـدليلِ
وأمَّا سوءُ الظنِّ بالمؤمنين فما أفظعَ أثرَهُ وما أشدَّ خطَرَهُ، وربما قضى المرءُ عُمُرَهُ كلَّهُ في صحراءَ مُوحِشةٍ وبيداءَ قاحِلَةٍ بلا أنيسٍ ولا جليسٍ، ولا مُناجٍ ولا خليلٍ ولا حبيبٍ، حتى إذا أخذَ الإياسُ من قلبِهِ كلَّ مأخذٍ، وعَدَت عليه عوادي الظنونِ والقنوتِ؛ أبصرَ مَن عاشَ ما سلفَ مِن عُمُرِهِ يهفو إليه، ومضَت روحُهُ إليه تحنُو عليه، ووَدَّ لو كان منه مكانَ السويداءِ مِن قلبِهِ، فأتْرَعَهُ مِن صفوِ ودادِهِ وموفورِ حُبِّهِ، ثمَّ عَدَت عليه خواطرُ سوءِ الظنِّ، تسوقها شياطينُ الإنسِ والجِنِّ، وهي خصومٌ لمَن أحبَّ، وأعداءٌ لمَن يَوَدُّ، فمَكَّن لها بسُوءِ ظنِّهِ في فؤادِهِ، فصارَ بها خَصْمًا لحِبِّهِ وعدُوًّا لخِلِّهِ، ولكنْ لا يستبين.
فالبارحةُ بعد درسِ العِشَاءِ، سارَ معي بعضُ إخواني مِنَ الطُّلابِ، ثمَّ ذكرَ أحدُهُم، وهو عندي مِن أقومِهِم سلوكًا وأكثرِهِم أَدَبًا، ذكرَ أنه يُريدُ أنْ يسألَ سؤالًا خاصًّا، فَانْتَحَيْتُ به ناحيةً، فأخرجَ جَوَّالَهُ وعالَجَهُ ليستحضرَ شيئًا، ثم قال: أرسلَ لي أحدُ الطلابِ هذه الرسالةَ، وهي كلامٌ للعلَّامةِ ابن عثيمين في تخطئةِ عبارةِ: ((شاءت الأقدار))، فبَادَرْتُهُ بأنها خطأٌ بلا شَكٍّ، وفَهِمْتُ مِن عَرْضِ هذا عليَّ أنها رُبَّمَا تكونُ قد جرَت على لساني أو خطَّهَا في قِرطاسٍ بَنَانِي، وهو يُريدُ أنْ يُنَبِّهَني برِفقٍ.
فأقولُ: إنَّ هذا وأمثالَهُ إنْ كان جَرَى على لساني سَهوًا أو غفلةً أو خطأً أو جهلًا، فأنا راجعٌ عنه حيًّا وميِّتًا، وما ادَّعَيْتُ يومًا ولا رَضيتُ أنْ يُدَّعَى أني عالِمٌ، بل ولا طالبُ عِلمٍ، وإنما أنا طويلبُ علمٍ مهمومٌ بأمرِ المسلمينَ وأحوالِ الأُمَّةِ، وأَتَلَمَّسُ طريقي في الدعوةِ إلى منهاجِ النبوةِ قابضًا على الجمرِ، سائرًا على الشَّوكِ، وأعاني في الدعوةِ إلى ذلك، وكذلك إخواني مِن أهلِ السُّنَّةِ في مصر ما نُعاني؛ مِن حربِ المُحرِّفين، والقبريينَ، والعلمانيين، والإخوانيينَ، والقطبيينَ، والتكفيريين، والحاقدين، والحاسدين، والحدَّاديين، كأنما نشُقُّ طريقَنَا بأنيابِنَا وأظافرِنَا.
يا هؤلاء، كَفَى المرءَ نُبْلًا أنْ تُعَدَّ معايبُهُ، أخطأَ رجُلٌ في قولٍ، في عشرٍ، في مائة، وهو راجعٌ عن خطئِهِ حيًّا وميِّتًا، ومُتبَرِّئٌ مِن كلِّ مخالفةٍ ظاهرًا وباطنًا، فهل عليه مِن سبيل؟!!
أمْ تُريدونَ أنْ يتوبَ على أيدي الصِّبيةِ والطَّغَامِ بين الرُّكنِ والمَقَامِ، وهُم أنجسُ مِن أنْ يقومَ قائمُهُم في ذلك المَقَامِ، ما لكم كيف تحكمون؟!!
أتريدونَ عالِمًا معصومًا، فضلًا عن طالبِ علمٍ، فضلًا عن طويلبِ علمٍ، أين يُذهبُ بكم؟!!
لو تَتَّبَعْنَا على طريقتِكُم ما سَلِمَ أحدٌ، فليس أحدٌ بمعصومٍ بعد رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وما مِن أهلِ العلمِ أحدٌ إلَّا وهو رادٌّ ومردودٌ عليه، وكلٌّ يُؤخذُ مِن قولِهِ ويُتركُ إلَّا رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، والعِبرةُ باستقامةِ المنهجِ وسلامةِ التوجهِ وحُسنِ الاتباعِ.
ومِن آفاتِ هذا العصرِ: تسجيلُ ما يُقالُ مع عدمِ مراعاةِ الوقتِ الذي فيه يُقالُ، فقَد يَتَقَلَّدُ الرجلُ مِن أهلِ العلمِ قولًا ثم يرجعُ عنه ويُفَنِّدُهُ، ويُعلنُ رجوعَهُ وبراءتَهُ مما قالَ قديمًا، ويأتي الصِّبيةُ الأغرارُ باستخراجِ ما صارَ رَميمًا لإذاعتِهِ وبثِّهِ على أنه قيل اليوم أو بالأمسِ القريبِ، فيُظلمُ الأبرياءُ، ويُهضمُ حقُّ الأنقياءِ، ومِثلُ هذا حدثَ ويحدثُ مع العلماء الكبار.
فهذا فقيهُ الأنامِ وحسنةُ الزمانِ العلَّامةُ ابنُ عثيمين –رحمهُ اللهُ العالمين- شرحَ ((السَّفارينيةَ)) قديمًا، وفُرِّغَ شرحُهُ وطُبِعَ، وكان قد قرَّرَ فيه أنَّ اللهَ تعالى تكلمَ بالقرآنِ المجيدِ عند نزولِهِ، ولم يكن مكتوبًا قبلُ في اللوحِ المحفوظِ، ودلَّلَ على ذلك –رحمهُ اللهُ- بما رآهُ، وقبل موتِهِ –رحمهُ اللهُ- بمدةٍ يسيرةٍ رجعَ عن هذا القول، وقرَّر أنه قرأ لشيخِ الإسلامِ كلامًا شرحَ اللهُ له صدرَهُ، فصارَ إليه، وعليه فهذا آخرُ قوليْهِ.
فهل يحِلُّ لأحدٍ أنْ يذهبَ إلى القولِ القديمِ وهو مطبوعٌ ذائعٌ، وكثيرٌ مِن طبعاتِهِ لم يُشر فيها إلى تراجعِهِ، وينُصُّ على أنه قولُ هذا الإمامِ الكبيرِ؟!
وكذلك ما عدَّهُ بعضُ الناسِ مخالِفًا في صفةِ المعيةِ للهِ –جلَّ وعلا-، وتمسَّكُوا بقولٍ مُوهِمٍ قالَهُ الشيخُ –رحمهُ اللهُ- طاروا به تشنيعًا في كلِّ سبيلٍ، والشيخُ –رحمهُ اللهُ- هو مَن هو في بابِ الأسماءِ والصفاتِ وغيرِهِ مِن أبوابِ العلمِ رسوخًا وثباتًا وإحاطةً وفهمًا، وإزاءَ التشنيعِ واللغَطِ اضُطرَ –رحمهُ اللهُ- لإعلانِ التراجعِ عنِ القولِ المُوهِمِ، واضطرُ شيخُهُ العلامةُ ابن باز إلى مناصرتِهِ والشهادةِ له بسلامةِ المُعتقدِ ورسوخِ العلم، وإذا كان هذا مع هذا الجبل، فكيف بالفِهْرِ كيف بالحجرِ؟!
وإلى اللهِ تعالى المشتكى.
وما أسبابُ هذا الخللِ الكبير والخَطْبِ الجليلِ؟
أسبابُهُ كثيرةٌ، ومِن أكبرِهَا سببانِ مُتراكبان:
*الأول: توفُّرُ وسائلِ الاتصالِ الحديثةِ.
*والثاني: إكبابُ أقوامٍ ممن لا دينَ لهم ولا أخلاقَ على تلك الوَسَائلِ الحديثةِ، فَقَد صَارَت وَسَائِلُ التَّوَاصِلِ ونَقْلِ المعلوماتِ على طَرَفِ كلِّ بَنَانٍ، فَهُم يُفسفسونَ ويتوترون، وقلَّ في هذا الزمانِ مَن لا يلعبُ بأصابعِهِ، حتى وهو يُكَلِّمُكَ كفاحًا وتشخصُ له الأبصار، وقد أَكَبَّ على ذلك أقوامٌ حشروا أنفسَهُم فيما لم يُخلقُوا له، وتسنَّمُوا ذُرًى بجهلِهِم وحماقتِهِم تَتَقَطَّعُ دون التطلُّعِ لها الأعناق، وأكثرُ هؤلاء مكانُهُم الحقُّ في إشاراتِ المرورِ يحملونَ الخِرَقَ البالياتِ ليمسحُوا زجاجَ السياراتِ لقاءَ دُريهماتٍ معدوداتٍ، وواللهِ إنه لعملٌ شريفٌ ومَقامٌ مُنيفٌ بالنسبةِ إلى ما يُمارسونَهُ مِنَ الصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ وتَمْزيقِ صفوفِ المسلمين، واعتداءٍ على الحُرُمَاتِ، وخَوْضٍ في الأعراضِ، وتحريشٍ بين أهلِ العلمِ.
ومِن قُطَّاعِ الطريقِ هؤلاء مَن تَرَكَ ما أُهِّلَ له إلى ما لم يتأهل له، فصارَ كالشاةِ العَائِرَةِ بين الصَّفَيْن، منهم مَن خُلِقَ وأُهِّلَ لتوليدِ كلبةٍ أو تطبيبِ مِعزة أو رعايةِ حِمارة، وهو مُحسنٌ لهذا كلِّهِ، بارعٌ فيه، فتركَهُ واحترفَ الصَّدَّ عن سبيلِ اللهِ والتوفُّرَ على الاعتداءِ على حُرُمَاتِ عبادِ اللهِ بلا وَرَعٍ ولا خوفٍ مِنَ اللهِ، أيُّ بلاءٍ تعاني منه الأُمَّةُ في هذا العصرِ؟!
يا مَن شيَّخَتْكُم مواقعُ التواصلِ ومَبَاءَاتِ الإثمِ؛ تُوبُوا إلى اللهِ وارجِعُوا إلى كُتُبِكُم وأكِبُّوا على عِلمِكُم، ولا تُضيِّعُوا أَعْمَارَكُم، وانْظُروا في أَخْلَاقِكُم، كيف كنتُم قبل أنْ تنغمِسُوا في وَحْلِ صفحاتِكُم ورِجسِ مُنتدياتِكُم، وكيف أنتم الآن؟! أقلوبُكُم قلوبُكُم؟! أعبادتُكُم عبادتُكُم؟! أفهمُكُم فَهمُكُم؟! أهمومُكُ همومُكُم؟! لا تُمَارُوا وارْجِعُوا إلى اللهِ مَوْلَاكُم الحقِّ، واعْلَمُوا أنَّ المنهجَ الحقَّ مِنْكُم بريءٌ.
أيُّها الأغمارُ الأغرارُ مِنَ الحداديةِ الأشرارِ، يا مجهولي العَيْنِ والحالِ، لستم -وإنْ زعتم- مِن أهلِ المنهجِ، أنتم أهلُ المَنهشِ! أيها الحداديةُ الأَنْجَاس؛ لم يسْلَم منكم عِرضٌ، ولا نَجَى منكم فردٌ، عاملَكُم اللهُ بعدلِهِ وهو القويُّ العزيزُ.
ومِن أسبابِ الخللِ الكبيرِ والخَطْبِ الجليلِ أنَّ قومًا غَرَّتْهُم على ضعفِ عِلمِهِم وحقارةِ شأنِهِم أمورٌ بُعِثَت مِن رِمَمِهَا، وأُخرِجَت مِن أجداثِهَا، فصارَت مُنَزَّلَةً في غيرِ منزلتِهَا، حتى ظُنَّ الشَّحمُ فيمَن شحمُهُ وَرَمُ، وتشَيَّخَ بعضُ مَن لا يستحقُّ أنْ يجلسَ لحِفظِ النِّعالِ في حلْقَاتِ العلمِ، وبعضُ هؤلاء الجهلة ممن أكلَ الحقدُ قلبَهُ كانت أُمُّهُ في منتصفِ السبعينياتِ مِن القرنِ الميلاديِّ السابقِ تُعاقبُهُ على إحداثِهِ على نفسِهِ لتُعَلِّمَهُ كيف يقضي حاجتَهُ، ونحن إذَّاكَ –بفضلِ اللهِ وحولِهِ وقوتِهِ- قد أقامَنَا اللهُ تعالى في الجامعةِ في نشرِ كُتُبِ شيخِ الإسلامِ وتلامذتِهِ، وكذا في نشرِ وتعليمِ كُتُبِ الإمامِ المُجَدِّدِ وعلماءِ الدعوةِ، حتى دخلت كلَّ بيوتِ طُلَّابِ الجامعاتِ في ربوعِ مصرَ كُلِّهَا.
ولمَّا ظهرَ التقسيمُ وتمزيقُ الصَّفِّ بالإخوانِ والجماعةِ الإسلاميةِ والجهادِ والتبليغِ وغيرِهَا، بَقِينَا –بحولِ اللهِ وقوتِهِ وفضلِهِ تعالى ونعمتِهِ- على ما كُنا عليه وهو الدعوةُ إلى الكتابِ والسُّنةِ بفهمِ الصحابةِ، قبلَ أنْ يتعلمَ مِثْلُ هذا حروفَ الهجاء، واليوم هو كهفٌ للمطاريد، بل هو شيطانٌ مَريدٌ، وأُفوِّضُ أمري إلى اللهِ إنَّ اللهَ بصيرٌ بالعبادِ ، وحسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيل.
إني أقولُ اليوم للمؤالِفِ والمخالفِ: نريدُ أنْ ننظرَ إلى أحوالِ المسلمين في كلِّ مكانٍ، فكم مِن شركٍ يتطلبُ الدعوةَ إلى التوحيد، وكم مِن بدعةٍ تحتاجُ الدعوةَ إلى السُّنَّةِ، وكم مِن فِسقٍ يفتقرُ إلى الدعوةِ إلى محاسنِ الأخلاقِ واستقامةِ السلوكِ.
إني أقولُ اليوم للمؤالفِ والمُخالفِ: اتقوا اللهَ في هذه الأُمةِ، فإنها لم تكُن بكم تكُن بغيرِكُم، وأمَّا أنتم فإنْ لم تكونوا بها فلم تكونوا بغيرِهَا، علِّمُوا الناسَ الأخلاقَ الحسنةَ والخصالَ الكريمةَ، علِّمُوا الناسَ التوحيد، ورَهِّبُوهُم مِن الشركِ، ادْعُوا الناسَ إلى السُّنةِ وحذِّرُوهم مِن البدعةِ، فإنْ لم تفعلوا فكُفُّوا عنِ الناسِ شرَّكُم، فكَفى ما الناسُ فيه مِن عناءٍ وبلاءٍ وهمومٍ وشقاءٍ، فإنْ أبَيْتُم إلَّا الشَّغْبَ والتهارُجَ فاللهُ الموعد وهو حسبنا ونعمَ الوكيل.
وأمَّا المطاريدُ الذين أقصاهُم عنِ المكانِ انحرافُ منهجِهِم أو سوءُ خُلُقِهِم، فأكبرُ دليلٍ على انحرافِهِم وفسادِهِم ذَهابُهُم إلى كهفِ المطاريد، يأمرُهُم بأنْ يشهدوا بالكذبِ والزورِ، ولا بأس ستُكتبُ شَهادتُهُم ويُسألون، وهؤلاء مَثَلُهُم كما قال بعضُ الحكماءِ: المعروفُ إلى الكرامِ يُعقِبُ خيرًا، والمعروفُ إلى اللئامِ يُعقِبُ شَرًّا، ومَثَلُ ذلك مَثَلُ المطرِ، يشربُ منه الصَّدَفُ فيُعقِبُ لؤلؤًا، وتشربُ منه الأفاعي فتُعْقِبُ سَمًّا.
قال سفيان: ((وجدنا أصلَ عداوةٍ اصطناعَ المعروفِ إلى اللئام)).
قيل: وأثارَ جماعةٌ مِنَ الأعرابِ ضَبْعًا، فدخلَ خِباءَ شيخٍ منهم، فقالوا: أخرِجْهَا، فقال: ما كنتُ لأفعلَ وقد استجارَت بي، فانصرفوا.
وكانت هزيلةً فأحضرَ لها لِقَاحًا، فجعلَ يسقيهَا حتى عاشت، فنامَ الشيخَ ذاتَ يوم، فوثبَت عليه فقَتَلَتْهُ.
فقالَ شاعرُهُم في ذلك، يذكرُ صنيعَ أُمِّ عامر–وهي كنيةُ الضَّبع-:
وأسمَنَها حتَىَّ إذا ما تَمَلَّئَت ... فَرَتْهُ بأنيابٍ لَها وأظافِرِ
فَقُلْ لِذَوي المَعروفِ هذا جَزاءُ مَنْ ... يَجودُ بِمَعروفٍ إلى غَيرِ شاكِرِ
قيل: وأصابَ أعرابيٌّ جَرْوَ ذِئبٍ، فاحتملَهُ إلى خِبائِهِ، وقرَّبَ له شاةً، فلم يزَل يمتصُّ مِن لَبَنِهَا حتى سَمِنَ وكبُرَ، ثم شدَّ على الشاةِ فقتلَهَا، فقال الأعرابيُّ:
إني لَكُم نَاصِحٌ وعلَيْكُم مُشْفِقٌ، فَاتَّقُوا اللهَ في أَنْفُسِكُم، واتَّقُوا اللهَ في دينِكُم، اتَّقُوا اللهَ في أوطانِكُم، إيَّاكُم والفِتَن، والفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللهُ مَن أَيْقَظَهَا.
وإيَّاكُم وتَبْدِيدَ أَعْمَارِكُم فيمَا يَضُرُّكُم، وإنْفَاقَ أوقاتِكُم فيمَا لا يَنْفَعُكُم، لا تَتَكَلَّمُوا فِيمَا لَا تُحْسِنُونَ، تَكَلَّمُوا بِعِلْمٍ تَغْنَمُوا أو اسْكُتُوا بِحِلْمٍ تَسْلَمُوا، ورُدُّوا الأُمُورَ إِلى أَهْلِهَا، وَكِلُوا مَا اخْتلَفْتُم فيه إلى عَالِمِهِ.
أَقُولُ لَكُم هذا، مَعَ أنَّ طَعْنَكُم فِيَّ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتَكُم لي بالبَاطِلِ يَنْفَعُنِي اللهُ به ولا يَضُرُّنِي، ويُؤتيني اللهُ به مِن حَسَنَاتِكُم، أو يَحْمِلُ علَيْكُم مِن ذُنُوبي مَا تَقَرُّ به عَيني ويُسْخِنُ اللهُ به عيونَكُم.
أقولُ لَكُم هَذَا مع أَنِّي أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي، وَأَنْتُم في سَهَرِكُم وَنَصَبِكُم، وحِقْدِكُم وبَهْتِكُم وكَذِبِكُم، فَأَحْصِّلُ مع نَوْمِي مِن حَسَنَاتِكُم، وتَتَحَصَّلُونَ مَعَ سَهَرِكُم وَنَصَبِكُم عَلَى عَظِيمِ ذُنُوبِكُم ومَوفُورِ سَيِّئَاتِكُم.
يَا قَوْم؛ ارْبَعُوا على أَنْفُسِكُم، وأَيْقِظُوا ضَمَائِرَكُم، وتوبوا إلى بارئكم، واتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم.