فالإسلامُ هو دين العدل والإحسان؛ دينُ العدل الذي أَمرَ المسلمين أن يعدلوا مع إخوانهم وغير إخوانهم, أمرَهُم أن يلتزموا العدل في جميع حياتِهم وأن يُحسِنوا إلى الناس, فهذه الآية التي تُعتبَر من أجمَع ما نَزل في القرآن الكريم هيَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
وَقد قَرَن الله تعالى العدل فيها بالإحسان؛ لأنَّ العدلَ وحدَه قد يؤدي إلى الجَورِ, فمَن أرادَ أن يستَوفِي حقَّه كاملًا قد يقَعُ فيما لا يَحِل كله, لكنَّه إذا أخذَ العدل ومعه الإحسان تَركَ بعض ما يستحقه رغبةً فيمَا حثَّه الله تعالى عليه من الإحسان.
قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
وَهدَّدَ الله –جل وعلا- الظالمين فقال -عزَّ مِن قَائل-: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
وقال النبيُّ ﷺ: ((الظُّلمُ ظُلمَاتٌ يَومَ القِيامَة)) متفقٌ عليه.
وقال الله –جل وعلا- فيما رَواهُ عنهُ رسولُه ﷺ: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا)) متفقٌ عليه.
وشيءٌ حرَّمهُ الله تعالى على نَفسِه أفيَرضَاهُ مِن غيرِه؟!
والنبيُّ ﷺ عِندما أخبرَ أن دعوة المظلومِ ليس بينَها وبينَ اللهِ حجاب, وأنَّ الله يَستجِيبُ دعاءَ المظلوم, قال العلماءُ: ((ولو كان كافرًا)) وذلك لأنَّ الله حَكَمٌ عَدلٌ يحبُّ العدل ويُبغِضُ الظلمَ والجَور, والإسلامُ كرَّم الإنسانَ مُطلقا وفضَّله على غيرِه من المخلوقات.
ولتَفضِيلِ الله –جل وعلا- لبَنِي آدم أَرسَل إليهم الرُّسل, وأنزَل عليهم الكُتب؛ لهدايَتِهم إلى الصراطِ المستقيم, فمَن قَبِلَ الرِّسالة وحَمَل الأمَانة؛ نَال هذا الشَّرفَ في أَسْمَى معَانِيه, ومَن اتَّبع سَبيلَ الشيطان وَاعتَنق طَريقَ الغِوايَه خسِر هذه الكَرامة ونزَل بسببِ ذلك إلى درَجةِ الحَضيضِ في الذُّلِ والمهانَة, كما قال ربُّنا –جل وعلا-:
والإسلامُ حفِظ لغيرِ المسلمين حقوقَهم ما دَاموا لم يُناصِبوا المسلمين العِداء, ولم يَتسلَّطوا عليهم بشيءٍ من الأذَى؛ فَهُم على عَهدِهم وذِمَّتِهم, كمَا قال الله –جل وعلا- في كتابِه العزيز: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].
والحديثُ أخرجه أحمد والترمذي والدارمي وغيرهم بإسنادٍ صحيحٍ.
وأمَرنَا ربُّنا –جل وعلا- أن نُحسِنَ إلى مَن أحسَنَ إلينَا, وأبَاحَ لنَا أن نَبَرَّ ونَصِلَ مَن يَصِلُنَا من غيرِ المسلمين فقَال –جل وعلا-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فالإسلام ما جاءَ لِقَتلِ الناس وإنَّما جاءَ لدعوَةِ الناس إلى الخير, وأمَّا القِتَالُ فَهُوَ عِلاجٌ يُستعمَل عندَ الحاجَة, لكنَّ الأصلَ؛ الدعوةُ إلى اللهِ بالحِكمَةِ والمَوعِظةِ الحسَنةِ والجِدالِ بالَّتِي هي أَحسَن.
ثم إنَّ قِتالَ المسلمينَ لِلكُفَّارِ يشتمِلُ علَى أحكامٍ عَظيمةٍ تدُل على أنَّ الإسلامَ دِينُ العدل ودينُ الرحمَة حتَّى معَ الكُفَّار.
قال تعالى في حقِّ نَبِيِّه ﷺ نَبِيِّ الرحمَة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فالإسلامُ يُحرِّم قَتلَ النساءِ والأطفال, وقَتلَ الشيوخِ الكبار الذين ليس لَهُم رَأيٌ في القِتال, ويُحرِّم قَتلَ الرُّهبان الذين تفرَّغوا للعِبادة؛ لأنَّ هؤلاء شَرُّهم وكُفرُهم قاصِرٌ عليهم ولَا يتَعدَّى إلى غيرِهم, ولأنهُم لا يُقاتِلون ولَا يحمِلون السِّلاح, ولهَذا نَهَى الإسلامُ عن قَتلِهم, ثم إذا وَقعَ الأسيرُ مِن الكُفارِ في أيْدِي المسلمين فإنَّ على المسلمينَ أنْ يُحسِنوا إليه.
فإذا رَأى الأَسِيرُ هذا التَّعامُلَ الطَّيبَ من المسلمين ربَّما شَرحَ اللهُ –جل وعلا- صَدرَه للإيمان, وذَهبَت عَنه العُنجُهِية التي كانَت قد صدَّتهُ عن الدين؛ فيدخُل بسببِ ذلك ورَحمَةِ أَرحَمِ الراحمين في دِينِ اللهِ العظيم, وهَذا أحبُّ للمسلمينَ من كلِّ شيء, أَحبُّ إليهِم من الأموالِ ومن البلادِ, ولهذا جاءَ في الحديثِ ((عَجِبَ رَبُّنَا مِن أَقوَامٍ يُقَادُونَ إِلَى الجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ)) يَأسِرُهم المسلمونَ وهم كُفَّار, ولكنْ إذا وقَعوا في الأَسرِ, فأحسَنَ المسلمينَ إليهِم وأجَادوا التعامُل معهم, وأخذُوا يَرفُقون بهم؛ يكونُ ذلك سببًا لإسلامِهم وإدخَالهِم الجنَّة.
والإسلامُ يُجيزُ الصُّلحَ مع الكُفَّار إذا كانت المَصلحَةُ في ذلك للمُسلمين, قال –جل وعلا-:
إنَّ الجهادَ في سبيلِ اللهِ هوَ أعظمُ الأعمالِ وأزْكاهَا, وهوَ أيْسرُ الطُّرقِ إلى رِضوانِ اللهِ تعالى والجنة, ولذلك قالَ رسولُ الله ﷺ: ((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)).
أخرجه مُسلمٌ في ((صحيحِهِ)).
وَلمَّا كان الجهادُ بَذل أعظَم وانفَس ما عند المؤمنينَ وهي انفُسَهُم يَبذُلونهَا دون خَوفٍ ولا تَردُّدٍ, ولمَّا كان فيهِ بَذلُ الأموالِ وتركُ الزوجاتِ والذُّرِّيات وهَجرُ المساكِن والأوطَان والمَلذَّات, ولمَّا كان فيهِ قَتلُ الانفُس وإراقَةُ الدماء؛ كانَ حريًّا بالشَّرعِ أن يضعَ له أعظَم الضَّوابط وأقوَى الأحكَام حتَّى لا تُراقَ الدماءُ في كلِّ وَادٍ وبكلِّ سبيل, وحتَّى لا يختَلِط الحابِلُ بالنَّابِل, ولا يَدرِي القَاتلُ فِيمَ قَتَل ولَا المَقتُولُ فِيمَ قُتِل.
إنَّ دماءَ المسلمينَ وأرواحَهم هي أعظَمُ شيءٍ عند اللهَ –عز وجل- لذلكَ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ:
وقد بَيَّنَ الدينُ العظيم –كتابًا وسنَّةً- أنَّ الجهادَ ليس غَايةً في حدِّ ذاتِه وإنَّمَا هوَ وسِيلَةٌ.
وأَعنِي بالجهادِ هَاهُنَا مَا يتعلَّقُ بالقِتالِ, فإنَّ الجهادَ أَعَمُّ من القِتالِ؛ القِتالُ بالسيفِ والسِّنان نوعٌ من أنواعِ الجهاد, ويتقدمُ عليه الجهادُ بالحُجَّةِ والقرآنِ والبَيانِ, فهذا هوَ الأصلُ ويَتَفَرَّعُ عليه بعدَ ذلك مَا يكون مِن استعمَالِ السِّلاح, فالجهادُ –أعني: القِتالَ- ليس بغَايةٍ في ذَاتِه وإنَّما هوَ وَسيلَةٌ.
وطَائفةٌ من شبابِ هذه الأُمَّة عَلِمَ مَا في الجهادِ من أَجرٍ عظيمٍ وفضلٍ عميمٍ ورِضوانٍ مِن اللهِ أكبر؛ فقامُوا يبحثُون عن الجهادِ ويرغَبون في الثَّوابِ مُندَفِعِين بحُبِّ اللهِ تعالى وحُبِّ رسولِه ﷺ طَلبًا للجنَّة, فكان واجِبًا أن يَعلَمُوا أنَّ الجهادَ ليسَ هَدفًا في ذاتِه ولا غَاية إنَّما هوَ وَسيلَةٌ لرَفعِ رَايَة الدِّين, وهوَ وَسيلَةٌ لإعْلَاءِ كلِمَةِ اللهِ ربِّ العالمين.
فإذا لمْ يُحقِّق الجهادُ غايتَه كان مَمنوعًا؛ لما فيه مِن إراقَةِ الدِّماءِ وذهابِ الأرواحِ والأموالِ, والجهادُ مع عدمِ تحقيقِ الغايَة مِنهُ غلوٌّ وتشدُّدٌ مَذمومٌ في الشريعَةِ المُطهَّرةِ.
وَلقد نَشأَت طائفَةٌ مِن الناسِ تقول: ((إنَّه يجبُ على المسلمينَ الجهادَ دونَ النظَرِ إلى النتائجِ, حتى لو كانَ الإنسانُ بمُفرَدِه لوَجَبَ عليه الجهاد؛ لأنَّ الجهادَ فريضةٌ لا تَسقُط عن المسلِم بأيِّ حالٍ من الأحوالِ –كذا يَقُولون!!-, وأنَّه مَن أرادَ الجنةَ فَعَلَيهِ بالجهادِ, وكيفَ يَدخُلُ الجنَّة مَن لَم يُقاتِل أو يُجاهِد في سبيل الله)). –نَشأت طَائفةٌ مِن الناسِ تَقولُ هَذا!!-
فالأحكامُ الشرعية إنما شُرعت لمَصالح العباد وإسعَادِهم في الدُّنيا والآخرة, وإذا اتفَقَ الأمرُ الشرعي مع المَصلحةِ المَرجوَّة منه فإنَّه يجبُ العمَلُ بهذا الحُكم, وإذا لم يُحقِّق الحُكمُ الشرعيُّ المصلحةَ المَرجوَّةَ منه بل حقَّقَ المَفاسِد –أو رَجَحَت كِفَّةُ المَفاسِد على كِفَّةِ المَصالِح- كانَ العمَلُ غَيرُ شرعيٍّ وغيرُ صحيحٍ.
وعلَى ذلك إذَا لم يُحقِّق القِتالُ المَصالِح المَرجوَّة منهُ وحقَّقَ المَفاسِد أو رَجَحَت كِفَّة مَفاسِد القِتال علَى مَصالِحِه كانَ القِتالُ ممنوعًا مَحظورًا, وعلَى هَذا تَواتَرَت أقوالُ عُلَمَاءِ الأُمَّة.
قال شيخُ الإسلامِ -رحمه الله-:
((إذا تعارَضت المَصالِح والمَفاسِد والحسَناتُ والسيئاتُ وتزاحَمَت، فإنَّه يَجِبُ تَرجيحُ الراجِحِ مِنهُما، فإنَّ الأمرَ والنَّهيَ وإنْ كانَ مُتضَمِّنًا لتحصِيلِ مَصلَحةٍ ودَفعِ مَفسدَةٍ فيُنظَر في المُعارِضِ لَه، فإنْ كانَ الذي يَفوتُ مِن المَصالِح أو يحصُل مِن المَفاسِد أكثَر، لم يَكُن مَأمورًا به، بلْ يَكونُ مُحرَّمًا إذا كانَت مَفسدَتُه أكثَر مِن مَصلحَتِه)).
فتَبيَّنَ أنَّ السيئةَ تُحتمَلُ في مَعرِضَين همَا:
دَفعُ ما هو أَسوأُ منهَا إذا لم تُدفَع إلَّا بهَا, وَتحصِيلُ مَا هُو أنفعُ مِن تَركِها إذا لَم تُحصَّل إلَّا بهَا.
والحسنَةُ تُترَكُ في مَوضِعَين: إذا كانت مُفوِّتةً لمَا هو أحسَنُ مِنهَا, أو مُستلزِمَةً لِسيئةٍ تزيدُ مَضرَّتُها علَى مَنفعَةِ الحسَنة.
هَذا يتعلَّق بالنظَرِ في المصالِح والمَفاسد, أمَّا سقوطُ الواجِب لمصلحةٍ في الدنيا, وإباحةُ المُحرَّمِ لحاجةِ في الدنيا؛ كسُقوطِ الصيام لأَجْلِ السفَر, وسُقوطِ مَحظورات الإحرامِ وأركانِ الصلاةِ لأجلِ المَرض, فهذا بابٌ آخر يدخُل في سعَةِ الدِّين ورَفْعِ الحَرج.
إنَّ الجهاد في شريعةِ الإسلامِ شريف, فالعدو يَعلمُ أحوالَه مع المسلمين مِن الحرب والسِّلم بكلِّ وضوحٍ دون أدنَى لبسٍ أو إيهَامٍ، فلا غَدرَ ولا خِيانَة؛ لأنَّ المسلمين الأوائل كانوا متقِين، مَوْفُورِي الإيمان، عندَهم ثقةٌ بنصْرِ الله، لأنهم يَعلَمون أحوالَهم مع ربهم, وأنهم نَصروا الله وأن الله سينْصُرهم لأنَّ الله لا يُخلِف الميعاد.
ثم خَلَفت خلوف تَقتُل مَن لا يجوز قَتلَهُ من النساءِ والصبيانِ ومِن غيرِ المُقاتِلَةِ منَ الرجال، وتدخُلُ إلى بلادِ الكفارِ بأمَانِهم ثمَّ تَغدِر بهم وتُوقِعُ بهم التفجِيرَ والتدمير بدَعوَى أن الحربَّ خُدعَة -زَعَمُوا-.
ثم نَراهُم يركبُونَ أنواعًا مِن المُنكراتِ باختيَارِهِم ودونَ إكراه، بدَعوَى التمْويهِ على العدوِّ والتعْمِيةِ عليه، لإيهَامِه أنهم لَيسوا مِن أهل الدِّيانة، لئَلا يَكونوا تحتَ مُراقبتِهم الدقيقة، وليَأْنَسُوا منهم أمانًا.
فالمسلمُ يُقَاتل طاعةً لله، لَا لهوًى في نفسِه، والمسلمُ كمَا أنه مَأمورٌ بتقوَى الله في حالِ السِّلْم، فهو كذلك مأمورٌ بتقوَى الله حالِ الحرب، بل إنَّ الأمرَ بتقوَى اللهِ حالَ الحربِ أَوْكَد؛ لأنَّ النفوسَ لمَّا أُذِنَ لهَا في إزهَاقِ نفوسِ الأعدَاء -وهذا أقصَى ما يكون من إيصَالِ الأذَى للعدوِّ- ربما هَانَ عليهَا كلُّ مُحرَّمٍ بعد ذلك، فلذلك كانَ النبيُّ ﷺ إذا أرْسَل جيشًا أو سَرِيةً أمَرهُم بتقوَى الله حتى تنْضبِط نفوسُ المُقاتِلِين ولَا تركَبَ كلَّ محرَّم.
فعن سليمان بن بُرَيدَة عن أبيه -رضي الله عنه- قال: وكان رسولُ الله ﷺ إذا أمَّرَ أمِيرًا على جيشٍ أو سَرِيَّةٍ أوصَاهُ في خاصَتِهِ بتقوى الله، ومَن معه مِن المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغْزُوا بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ باللهِ، اغْزُوا ولَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)) رواهُ مُسلمٌ.
ومَن أذِنَ الله في قِتالِه من المُمَانعين مِن الكَافِرين فإنَّ الله قد حرَّم الاعتداءَ في قتلِهم، قال الله –جل وعلا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
قال شيخُ الإسلامِ -رحمه الله-:
((فإنَّ الجهادَ فيه البلاءُ للأعداءِ، والنِّفوسُ قد لا تَقِفُ عند حدودِ الله بَلْ تتَّبع أهواءَهَا في ذلك، فقال: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، فنَهَى عن العُدوان، لأنَّ ذلك أمْرٌ بالتقوَى، واللهُ مع المتقين، كمَا قال –جل وعلا-: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]، وإذا كانَ الله معَهُم أَيَّدَهُم على عَدوِّهم)).
فَلا يَجوزُ لنَا أن نَركَبَ كلَّ طريق ونَسلُك كلَّ سبيل وَلَوْ كانَ حرامًا، بِحُجَّةِ أنَّ مَن فعَلْنا ذلك بهِ عدوٌ لنَا ويُخالِفُنا في الدِّين، فهذا مِن أخلاقِ اليهودِ وليسَ من أخلاقِ المسلمين، فإنَّ اليهودَ كانوا يستَحلُّون أموالَ العربِ والمسلمين ولَا يتوَرَّعون عن شيءٍ مِن ذلك، كمَا قال اللهُ –جل وعلا- عنهم: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].
قال ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-:
((إنما حَمَلَهُم على جُحودِ الحقِّ أنهم يقولون ليسَ علينَا في دِينِنَا حَرَجٌ في أَكْلِّ أموالِ الأُمِّيين -وهم العرب- فإنَّ اللهَ قد أحلَّها لنَا، قالَ الله –جل وعلا- {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وَسَألَ رجلٌ ابنَ عباسٍ -رضي الله عنهما- فقال: ((إنَّا نُصيبُ في الغزوِ من أموالِ أهل الذِّمَّة الدَّجَاجَةَ والشَّاة
قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: فتقولون ماذا؟!
قال: نقولُ ليس علينَا بذلك بَأْس
قال: هذا كمَا قال أَهلُ الكِتاب {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إنهم إذا أَدَّوْا الجِزيَة لم تَحِلَّ لكم أموالُهم إلا بطِيبِ أنفسِهم)).
والصحابةُ –رضي الله عنهم- لم يكن يَنقُصُهُم ذَكاءٌ ولا حِيلةٌ ولا فِطنةٌ، ولكنَّ ديَانَتَهُم وتقواهُم وخَوفَهُم من اللهِ حَجزَهُم عنِ الغَدرِ بالأعدَاءِ.
قال قَيسُ بنُ سعد بنُ عُبَادة -رضي الله عنه-: لَولَا أني سَمِعتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: ((المَكرُ والخَديعَةُ في النَّارِ)) لكُنتُ مِن أَمْكَرِ الناس.
قال العلامةُ السعديُّ -رحمه الله-: ((أي لا يحملنَّكم بُغْضُ قومٍ وعداوتهم واعتداؤهم عليكم، حيث صدُّوكم عن المسجدِ الحرام؛ على الاعتداءِ عليهم، طلبًا للاشتفاءِ منهم، فإنَّ العبدَ عليه أنْ يلتزمَ أمرَ الله، ويَسلُكَ طريقَ العدل، ولو جُنِيَ عليه أو ظُلم أو اُعتدي عليه، فلا يحلُّ له أنْ يكذبَ على مَن كذبَ عليه، أو يخونَ مَن خانَه)).
((ومن أعظمِ خصالِ النِّفاقِ العمليِّ: أنْ يعملَ الإنسانُ عملًا ويُظهر أنه قصدَ به الخير، وإنما عَمِلَه ليتوصَّلَ به إلى غرضٍ له سيئ، فيتمُّ له ذلك، ويتوصَّلُ بهذه الخديعةِ إلى غرضهِ، ويفرحُ بمَكْرِه وخداعهِ وحمْدِ الناس له على ما أظهَره، وتوصَّلَ به إلى غرضهِ السيئِ الذي أبطَنَهُ، وهذا قد حكاهُ اللهُ تعالى في القرآنِ عن المنافقين أنهم: {ٱتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ} [التوبة:107].
وذكر الآية التي أُنزلت في اليهود، سألهم النبيُّ ﷺ عن شيءٍ فكتموه وأخبرُوه بغيرهِ، فخرجوا وقد أرَوْهُ أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفرِحوا بما أوتوا من كتمانِهم وما سُئلوا عنه، قال ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما-، وحديثه مخرَّجٌ في الصحيحين)).
فهذا كله –أعني ما يُتوصلُ بالغدرِ والخيانةِ إليه- ليس من دينِ اللهِ –جلَّ وعلا- ولا يُثابُ المرءُ عليه؛ بل يُذَمُّ عليه في الدنيا ويُعاقبُ عليه في الآخرة إلا إذا شاء ربي شيئًا.
فضلًا إلى ما يُضمُّ إلى ذلك من التغريرِ بالنَّفسِ وإلقائها في التهلُكة، وقد أجمع العلماءُ سلفًا وخلَفًا على أنَّ القدرةَ هي مناطُ التكليف، وأنَّ ما كان فوقَ الطاقة؛ فليس مما كلَّفنا اللهُ تعالى به، وأنَّ العاجزَ غيرُ مُكَلَّفٌ أصلًا.
ولقد غالى بعضُ الشباب وحمَّلُوا أنفسَهم ما لا طاقة لهم به، وخَرجُوا حامِلِين السلاحَ على دولٍ قويةٍ ذاتِ شوكةٍ ومَنَعَة؛ تَمْلِكُ من أسبابِ القوةِ البشريةِ والعسكريةِ والاقتصاديةِ والإعلاميةِ والسياسية؛ ما يجعلُ هؤلاء الشبابَ فريسةً سهلةَ الالتهام، ويَنتجُ عن قِتالِهم هذا من المفاسدِ والمصائبِ الكثيرة ما لا يُحصى، ويُقتَلُ العددُ الكبيرُ مِن الطرفين، ويُحبسُ الجَمُّ الغفيرُ منهم ويُشرَّدُ الباقي في جنباتِ الأرض، ويعودُ الضررُ الأعظمُ على أُسَرِهم وذَوِيهم، وتنطفئُ هذه الشُّعْلةُ سريعًا؛ مُخَلِّفةً ورائها كلَّ هذه المفاسِد دون تحقيقِ أيِّ نوعٍ من المصالح، ولو فَكَّرَ هؤلاءِ الشبابُ قليلًا لعَلِموا أنه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ولَعَلِموا أنَّ اللهَ لم يجعل عليهم في الدينِ من حَرَج، وأنَّ اللهَ يريدُ بهم اليُسرَ ولا يريدُ بهم العُسر.
وإذا كان الذِّميُّ الذي له أمان؛ إذا قُتِلَ خطأً؛ فيه الدِّيَةُ والكفَّارة، فكيف إذا قُتِلَ عمدًا؟!
إنَّ الجريمةَ تكونُ أعظَم، وإنَّ الإثمَ يكونُ أكبر، وقد صحَّ عن رسول الله ﷺ كما في حديثِ عبد الله بن عمرو الذي أخرجهُ البخاري في ((صحيحه)): ((مَن قَتَلَ مُعاهَدًا لم يَرَح رائحةَ الجنَّة)).
فلا يجوزُ التعرُّض لمُستأمنٍ بأذى؛ فضلًا عن قتلهِ.
في مِثلِ هذه الجريمةِ الكبيرةِ النَّكراء، فإنهم أمَّنُوهم، أعطَوْهم الأمان؛ وهو جوازُ دخولِ بلادِهم، فاستأمَنوهم؛ فخانوهم وغدروا بهم من غيرِ ما مُوجِب ومِن غيرِ ما نتيجةٍ ولا مصلحة، بل إنَّ الشرورَ التي تقعُ بسببِ أمثالِ هذه الأعمال لا يُحصيها إلا الله، وكم مِن بريءٍ يصيرُ مُذنبًا؟!
وكم من مؤمنٍ يتعرضُ للفتنة؟!
وكم من حُرَّةٍ يُهتكُ عِرضُها؟!
وكم من مُصحفٍ يُحرق ويُداسُ بالأقدام؟!
وكم من مسجدٍ يُهَدَّمُ ويُحَرَّق؟! إلى غيرِ ذلك مما هو معلوم من النتائج المترتبةِ على أمثالِ هذه الأعمالِ الطائشة التي إنما بُنيت على الغدرِ والخيانةِ والخدِيعة.
فلا يجوزُ التعرُّضُ لمُستَأمنٍ بأذى؛ فضلًا عن قتلهِ في مِثلِ هذه الجريمةِ الكبيرةِ النَّكراء، وهذا وَعيدٌ شديدٌ لمَنْ قَتَلَ مُعاهَدًا، وهو كبيرةٌ من الكبائرِ المُتوَعَّدِ عليها بعدمِ دخول القَاتلِ الجنة –نعوذ بالله من الخذلان-.
وهذا العملُ الإجراميُّ يتضمن أنواعًا من المُحرَّماتِ في الإسلامِ بالضرورة:
من غدرٍ وخيانةٍ وبَغيٍ وعدوانٍ وإجرامٍ آثمٍ وترويعٍ للمسلمين ولغيرِ المسلمين، وكلُّ هذه قبائحُ مُنكَرة؛ يَأْبَاهَا ويُبغضها الله، ويَأبَاهَا ويُبغضها رسول الله ﷺ، ويَأْبَاهَا ويُبغضُها المؤمنون.
فالإسلامُ بريءٌ من هذا العملِ ومِثْلِهِ، وهكذا كلُّ مسلمٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخر هو بريءٌ منه، وإنما هو تَصَرُّفٌ مِن أصحابِ فكرٍ منحرفٍ وعقيدةٍ ضالةٍ فاسدةٍ، ويَحملُ إثمَه، ويَحملُ جُرمَه، ولا يُحتسبُ عملُهُ على الإسلامِ ولا على المسلمين المُهتدين بهَدْي الإسلامِ العظيم؛ المُعتصمينَ بالكِتابِ والسُّنَّة؛ المتمسكينَ بحبلِ اللهِ المتين؛ يَحمِلُ إثمَهُ ويَحمِلُ جُرْمَهُ؛ مَن فعَلَه ومَن قامَ به.
إنما هو محضُ إفسادٍ وإجرامٍ تَأبَاهُ الشريعةُ والفطرة؛ لهذا جاءت نصوصُ الشريعةِ قاطعةً بتحريمِه؛ مُحذِّرَةً مِن مصاحبةِ أهلهِ.
فهذهِ الأمورُ مِن التخريبِ والتفجيرِ الذي نَهَى عنه دينُ الإسلامِ الحنيف؛ تجرُّ على المسلمينَ شرًّا كثيرًا، بحيثُ إنَّ الكُفارَ يأخذونَها حُجةً للانقضاضِ على المسلمين وتدميرِ بلادِهم.
وقد رَأى العالَمُ كلُّهُ؛ لم يَرَهُ المسلمون وحدَهم؛ كيف أنَّ هدمَ بنايتين أدى إلى تدميرِ دولتين، فإنه لمَّا قام مَن قام؛ بتدميرِ بنايتين في ((أمريكا))؛ قاموا بتدمير ((أفغانستان)) وبتدمير ((العراق))، فهدموا بِنايتين؛ فهَدموا للمسلمين وقوَّضُوا دعائمَ دولتين.
فما الذي أفادهُ المسلمون من مِثلِ هذا؟!
هذا يَجرُّ على المسلمين شرًّا كبيرًا كثيرًا، ويأخذهُ الكُفارُ للانقضاضِ على المسلمينَ وتدميرِ بلادِهم، وهذا الذي اتخذه الكُفارُ سببًا لهدمِ الإسلام؛ لأنهم يصفونَ الإسلامَ بأنه دِينُ إرهابٍ وقَتْلٍ، وقد أخذوا ذلك مِن مِثْلِ هذه التصرفات ومِن غيرِها ومِن لا شيء.
والله -جلَّ وعلا- أمر بجهادِ الكفَّار تحت ولايةٍ من ولايةِ المسلمين، أما التفجيرُ والتدميرُ والقتلُ والتخريب؛ فهذا مما يَنهى عنه الإسلام العظيم؛ لأنه يُسببُ شرًا على المسلمين قبل غيرِهم، ولأنه مَضرَّةٌ محضةٌ بدونِ فائدة، ولا شك أنَّ هذه الحوادث؛ حوادثُ فتنٍ مُنذِرَةٍ بشرٍّ كبير، وهي نوعٌ من الإجرامِ المَقيت الذي لا هدفَ له فيما يبدو؛ إلا أن تُوقِعَ تلك الدول الأذى بالمسلمين دون تفسيرٍ لمَن يقعُ عليه الأذى، وهو بهذا يُعدُّ من أعمالِ التخريب، ومِن الإفسادِ في الأرضِ والعدوان، واللهُ –جلَّ وعلا- حرَّمَ الاعتداء على الأنفُسِ المعصومةِ والأموالِ المُحرَّمةِ، وحرَّم الظُّلمَ على نفسهِ وجعله بين عبادهِ مُحَرَّمًا، ونهاهم –تعالى- أنْ يتظالموا.
فهذه الجرائمُ المتنوعة التي أصبحت لا هدفَ لفَاعِليها إلا أنْ يُوقِعوها، وإلا أنْ يُنزِلوا الرُّعبَ فيمن يكونون في مُحيطها، فهذا من الضلالِ المُبين والإثمِ العظيم.
والواجبُ على المسلمين أنْ يتعاونوا فيما بينهم؛ لأنَّ الأمنَ من أجَلِّ النِّعم، كما أنَّ فَقْدَهُ من أعظمِ أنواعِ العذاب، فإنَّ اللهَ –جلَّ وعلا- لمَّا ذكرَ أهلَ القريةِ التي كان يَأتِيها رِزقُها رغدًا من كلِّ مكان ولم تشكر اللهَ –جلَّ وعلا-؛ أذاقها اللهُ لِباسَ الجوعِ والخَوف.
والواجبُ على مَن يُفكِّرُ في هذا العمل؛ أنْ ينظرَ في العواقب، ولمصلحة مَن يعمل هذا العمل؟
ومَن الذي يستفيدُ من مِثلِ هذه الحوادث؟
فإنه لا يستفيدُ منها إلا أعداءُ الإسلام.
هل هذه الحوادثُ تُحقِّقُ أَمْنًا أو تزيدُ العَيْشَ رَغَدًا أو ترتفعُ بها كِفَّةُ الدين والتدين؟
أم أنَّ هذه الحوادثَ مَدعاةٌ لأن يُلصقَ بالمُتدينين وبالدِّين تُهَمٌ؛ هم منها براء، وكلُّ ذلك بسببِ رعُونةِ هؤلاء المُقْدِمينَ على هذه المُنكرات وحماقتِهم واستشراءِ شرِّهم!!
إنَّ احترامَ دماءِ الناس واحترامَ أموالِهم أمرٌ قرَّرتهُ شريعةُ الإسلام، وحُرْمةُ الدماء والأموال مما اتفقت عليه شرائعُ اللهِ كلُّها، وأكملُها شريعةُ نبينا مُحمد ﷺ.
فاحترامُ الأموالِ والدماءِ أمرٌ مطلوبٌ شرعًا، والسعيُ في جَلْبِ المصائبِ على الأمة؛ إنما يصدرُ من أناسٍ فَهِموا الإسلامَ على غيرِ فَهمِهِ الشرعي الصحيح، وجاءهم الشيطان وزيَّنَ لهم الباطلَ؛ فظنوه حقًا، وذلك مِن قصورِ الإيمانِ والعلم، قال –جلَّ وعلا-: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
وما أرادُوه إلا لكيدِ الأمة والنَّيْلِ منها، وزعزعةِ دولِ الإسلام، ومحبةِ إظهار الفوضَى حتى في بلادِ المسلمين، فهؤلاء جَهَلَةٌ خُدِعوا وغُرِّرَ بهم، وليس عندهم من العِلمِ ما يَحملُهم على اتِّقاءِ هذه المصائبِ العظيمة ولا من العقل، هذا إنْ كانوا من المسلمين.
وأما إن كانوا من أعداءِ الأمة، فأعداءُ الأمة ساعون في الإضرارِ بالأمةِ بكل ما أُتوا؛ بالمكائد من قِيلَ وقالَ وأراجِيفَ وإشَاعاتٍ باطلةٍ، ومن إيحاءٍ لضِعافِ البصائر؛ ليستغلوهم في باطلِهم وليجعلوهم سببًا لحصولِ ما يحصُلُ من النَّكْبَاتِ للأمة.
فاليقظةُ والانتباهُ واجبان لمعرفةِ مُخططاتِ أعداء الإسلام، وليكن المسلمون على حَذَرٍ من هذه الأمور، فإنَّ أعداءَ الله لا يريدون لنا نُصحًا، إنما يحبون أن يُوقعوا بيننا العداوةَ والبغضاءَ، فلْيَحْذَرِ المسلم أنْ يكونَ مَطِيَّةً لأعدائه؛ يوجههُ الأعداءُ كيف شاءوا، وليكن على ثقةٍ بدينهِ، وليستقم على الخير، وليتعاون المسلمون جميعًا على البرِّ والتقوى، وليَحْذَر المسلمُ من أن يكونَ عَوْنًا لكلِّ مجرمٍ ولكلِّ مُفسد، فإنها تُخِلُّ بالأمانةِ الشرعية التي حمَّلَها اللهُ –ربُّ العالمين- كلَّ مسلمٍ وكلَّ مؤمن.
ونسأل الله أن يهديَنا وأن يهديَ الشاردين، وأن يردَّ الجميعَ إلى الحق، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا مُحمدٍ وعلى آله وأصحابهِ أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ هو يتولى الصالحين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ﷺ صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يومِ الدين.
أما بعدُ:
فالشرعُ والعقلُ والفطرةُ؛ كلُّ ذلك رافضٌ للأعمالِ الإجراميةِ؛ رافضٌ للتدميرِ وللتفجيرِ وللتخريبِ ولإشاعةِ الفوضى في البلادِ وبين العباد.
*فالنصوصُ القرآنية والنصوصُ النَّبوِيَّة الدالةُ على وجوبِ احترامِ المسلمين في دمائِهم وأموالِهم، وكذلك الكُفَّارُ الذين لهم ذِمةٌ أو عَهدٌ أو أمانٌ، واحترامُ هؤلاء المُعاهَدين والمُستأمنين والذِّميين دلَّت عليه نصوصُ الكتاب والسُّنَّة، وهو من محاسنِ الدينِ الإسلامي العظيم، وهو مِن الوفاءِ بالعهد: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
*وأما العقل: فقد دلَّ على رفضِ ومَقْتِ الأعمال الإجرامية؛ لأنَّ الإنسانَ العاقل لن يتصرفَ أبدًا في شيءٍ محرَّم؛ لأنَّه يعلمُ سوءَ النتيجة والعاقبة، يَعلمُ الإنسان العاقل أنه لا يجوزُ له أنْ يتصرَّفَ في شيءٍ مباحٍ حتى يتبينَ له ما نتيجتُهُ، وماذا يترتب عليه، فكيف إذا كان مُحرَّمًا؟!
والنبي ﷺ قال؛ كما في ((الصحيحين)): ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُل خيرًا أو ليصمُت))، فجعل النبيُّ ﷺ من مقتضيات الإيمان وكمالهِ ألا يقولَ الإنسان إلا خيرًا أو يسكت.
فكذلك يُقال: إنَّ مِن مقتضياتِ الإيمانِ وكمَالهِ ألا يَفعَلَ الإنسانُ إلا خيرًا أو ليُمسك.
ولا شك أنَّ هذه الفَعْلَة الشنيعة يترتب عليها من المفاسدِ ما لا يَخفى.
*وأما مخالفة هذه الفَعلَة الشنيعة للفطرة: فإنَّ كلَّ ذي فطرةٍ سليمةٍ يَكرهُ العدوان على غيرِهِ، ويرَاهُ من المنكر.
فما ذنب المُصابين بهذا الحادثِ من المسلمين؟
وما ذنب الآمنين أن يُصابوا بهذا الحادثِ المؤلمِ العظيم؟!
وما ذنبُ المصابين من المُعاهدين والمُستأمنين وغيرِهم؟!
ما ذنبُ الأطفال؟ وما ذنبُ الشيوخ؟ وما ذنبُ العجائز؟!
حادثٌ مُنكرٌ لا مُبرر له؛ لا من شرعٍ ولا من عقلٍ ولا من فطرةٍ، ومفاسدهُ لا تُعدُّ ولا تُحصى.
فمن مفاسدِ هذا العملِ وأمثالِهِ من التفجيرِ والتدميرِ والتخريبِ:
إشاعةُ الفوضَى وترويعُ الآمنين وبثُّ الذُّعرِ بين الناس أجمعين في ديارِ المسلمين وفي ديارِ الكافرين، واستعداءُ بعضِهم على بعض.
من مفاسدِ هذا العمل الأرعن:
حرقُ المصاحف ودَوْسُها بالأقدام وإهانتُها، وسَبُّ رسولِ الله ﷺ، والاعتداءُ على الحُرُمَات، وملاحقةُ أصحابِ الهَدْيِ الظاهر في تلك البلاد التي وقعت فيها الحوادثُ وفي غيرِها، والتضييقُ على كلِّ داعٍ إلى اللهِ –ربِّ العالمين- على بصيرةٍ، إلى غيرِ ذلك من الاعتداءِ على المساجدِ، ونَزْعِ تراخيصِ عَملِها في غيرِ ديارِ المسلمين، مع النظرِ إلى كلِّ مسلمٍ بأنه إرهابيّ؛ يُهانُ في كلِّ مكانٍ دَخَلَهُ، وفي كلِّ محلٍّ حلَّ فيه؛ يُفتَّشُ على غيرِ ما يُفتَّشُ غيرُهُ ولو كان وثنيًا ولو كان مُلحدًا ولو كان فاجرًا كافرًا فاسقًا طاغيًا، ليس هنالك سوى المسلمين يُلاحقون في كلِّ مكان.
مع الدَّعوَى التي تَسمعُها في كلِّ حينٍ مِن أنَّ الإسلامَ هو دينُ إرهابٍ وعُنفٍ، دينُ إراقةٍ للدماء، ثم يَمدُّونَ الخطَّ على استقامتهِ خلفًا حتى يصلَ إلى رسول الله ﷺ؛ فيُهينونه –بأبي هو وأمي ونفسي ﷺ-.
وإذا كان رسول الله ﷺ نهى أنْ يَسُبَّ الرجلُ أباه وأمه.
نهى النبي ﷺ أنْ يَسُبَّ الرجلُ والديه.
فقالوا: يا رسول الله؛ وهل يَسُبُّ الرَّجلُ أباه؟
قال: ((يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل، فيَسُبُّ أباه ويَسُبُّ أمه)).
فيكون هذا السبُّ ذريعةً لجلبِ السبِّ إلى أبيه وإلى أمه، بل إنَّ اللهَ –جلَّ وعلا- نَهَى عن سبِّ آلهةِ المُشركين؛ لأنهم في المقابل يَسبُّون اللهَ عَدْوًا بغيرِ عِلمٍ، فإذا سببتَ إلههُ ووثنهُ وصنمهُ؛ سبَّ ربَّك، الذي هو –ربُّ العالمين-، والذي هو أكرمُ الأكرمين، فالذي يفعلُ ذلك؛ يتحملُ إثمَهُ، وعليه أن يبوءَ بنعلِ كُلَيب، وليس له من حظٍ لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه يَجلُبُ السبَّ لرسولِ الله ولدينِ الإسلامِ العظيم وللقرآنِ المجيدِ، بل ربما اعتدى السفهاءُ على ربِّ العزَّة؛ فسبُّوا إلهَ المسلمين؛ وهو الإلهُ الحقُّ، لا إله إلا هو وحدَه لا شريك له.
فما هي الفائدة؟ وما هي العائدة التي تعودُ على الإسلامِ وعلى المسلمين؟!
أبهذا تُنشرُ الدعوة؟!
أم بهذا يُمَكَّنُ للمسلمين في الأرض؟!
إنَّ الغدرَ سببٌ لظهورِ أعداءِ الإسلامِ على المسلمين، الغدرُ سببٌ لعلُّوِ وظهورِ الكافرين على المسلمين.
ما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعته.
من مفاسدِ هذا العمل: أنه معصيةٌ لله ولرسوله ﷺ، وانتهاكٌ لحرمات الله، وهو تعرُّضٌ للعنةِ اللهِ والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبَل مِن فاعِلهِ صَرْفٌ ولا عدلٌ.
ومن مفاسده: تشويه سمعة الإسلام والمسلمين؛ فإنَّ أعداء الإسلام سوف يستغلون مثل هذا الحدث لتشويهِ سُمعةِ الإسلام وتنفير الناس عنه، مع أنَّ الإسلام بريءٌ من ذلك، فأخلاقُ الإسلامِ صِدقٌ وبِرٌّ ووفاءٌ، والدينُ الإسلاميُّ يُحذر من هذا وأمثاله أشدَّ التحذير.
من مفاسده: أنَّ الأصابعَ في الداخلِ والخارج سوف تُشِيرُ إلى أنَّ هذا مِن صُنْعِ المتمسكين بالإسلام والدين، مع أننا نعلمُ عِلْمَ اليقين أنَّ المتمسكينَ بشريعةِ الله حقيقةً؛ لن يقبلوا مثل ذلك، ولن يرضَوا به أبدًا، بل إنهم يتبرءون منه، وينكرونَه أعظم إنكار؛ لأنَّ المتمسك بدين الله حقيقةً هو الذي يقوم بدين الله على ما يُريدُه الله، لا على ما تهواه نفسُهُ، ويُمْلِي عليه ذَوْقُهُ المَبنيُّ على العاطفة الهوجاءِ والمنهجِ المنحرف، والتمسُّك الموافق للشريعة كثيرٌ مُتفشٍ في شبابِ المسلمين والحمد لله رب العالمين.
من مفاسدِ هذا الحدثِ وأمثالهِ: أنَّ كثيرًا من العامةِ الجاهلين بحقيقةِ التمسُّك بالدين؛ سوف ينظرون إلى كثيرٍ من المتمسكين البرآء مِن هذا الصنيع نظرةَ عداوةٍ وتَخوُّفٍ وحَذرٍ وتحذيرٍ، كما هو معهود عن بعض جُهال العوام من تحذيرِ أبنائِهم من التمسُّك بالدين نظرًا لأمثالِ تلك الأمور.
من آثار ذلك: تَحجِيرُ الخير، وإضعافُ الأمة، وتبديدُ مكاسِبِها، وتسلُّطُ أعداء اللهِ وتَمَكُّنُهم من أمةِ الإسلام.
فمَن الذي يرضى لنفسهِ ولغيرهِ بتلك الأمور؟
إنَّ الله –جلَّ وعلا- رفعَ عن أمةِ الإسلام العَنتَ والحرج، وإنَّ نُصرةَ دينِ الله –عز وجل-، وإعزازَ شريعتهِ؛ لا تكونُ ببثِّ الخوفِ والرُّعب أو بالإفسادِ في الأرض، لا تكون بإلقاءِ النفسِ إلى التهلُكة، لا تكونُ بالتضحيةِ بالنفسِ انتحارًا على غيرِ بصيرةٍ، فكلُّ هذا مخالفٌ لِما جاء به دينُ الإسلامِ الحنيفِ، وإنما جاءَ الإسلام ليَحْمِيَ للناسِ ضروراتِهم، ويعملَ على حِفظِها، وينشرَ الأمنَ والعدل والسعادةَ والسلام في صفوفِ مجتمعاتهِ وفي العَالَمِ كلِّه.
إنَّ دينَ الإسلامِ العظيم يَجهلُهُ كثيرٌ من المُنتسبينَ إليه؛ بل وكثيرٌ من المُتكلمينَ باسمهِ، وكثيرٌ من المُحَجِّرينَ لفَهْمِهِ على أنفسِهم.
فتنةٌ عظيمةٌ هَوْجَاءٌ، وعاصفةٌ مِنْ بَلاء، ولكنَّ اللهَ الرحمن الرحيم قادرٌ على أنْ يرفعَ عنَّا الكَرْب وأنْ يُسَكِّنَ النفوس، ويُطمئنَ القلوب ويُهدِّأ الأرواح، وأنْ ينشُرَ دينَهُ الحق على يدِ مَن شاء وبلسانِ وبنانِ مَن شاء في الدنيا كلِّها؛ دعوةً إلى الخير وتحذيرًا من الشر، إنَّ ربِّي على كلِّ شيءٍ قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا مُحمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.