ففي معرض الرد على الملحدين مر ذكر بعض المقدمات، وهي مقدمات ونتائج في الوقت عينه، ولا بد من التعريض مع التعريج على صنم العصر الحديث، الذي يعبده الماديون الملحدون، وهو «الطبيعة»، ولَكِن هذه المدنية الْحَدِيثة التي غرت كثيرًا من الناس حتى جعلتهم يتشككون فِي الأديان؛ بل ويشكون فِي وُجُود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ بل وصل الأمر بهم إِلَى حد إنكار وُجُوده جَلَّ وَعَلَا؛ هذه المدنية الْحَدِيثة؛ يظن كثير من الخلق أَنَّهُا غاية عليا ونظام كامل، وليس كذَلِكَ.
قال الغبراوي رحمه الله:
قد يسبق إِلَى النفس أن المدنية الْحَدِيثة غاية عليا ونظام كامل نشأ من عدة عوامل، أحدها: الدين.
قال: ونحن نحاول أن نحدد الصلة بين المدنية القائمة وبين الإسلام، أو بالأحرى تحديد ما هُنَالِكَ من توافق وتفاوت بين المدنية الواقعة، كما نراها اليوم، ويبصرها الناس ويعرفونها، والمدنية الغائبة كما جاء بها الإسلام، وفي الْحَقّ أن هذه المدنية الْحَدِيثة بعيدة جدًا عَنْ أن تكون مثلًا أعلى للمدنيات التي تحقق وُجُودها على مر الزمان؛ فإن المدنية الكاملة يجب أن يكون بينها وبين الفطرة من الاتفاق ما يجعلها فِي الواقع جزءًا من الفطرة التي فطر الله عليها الكون.
وآية ذَلِكَ: أن يكون فِيها ما فِي سائر النظم الكونية من الاتساق والانسجام والتوافق والتماسك والاتزان والهدوء، وهذا لا يتحقق لأي مدنية من المدنيات؛ إلا إِذَا قامت على الْحَقّ فِي جميع نواحيها، وكانت نظمها النافذة منطبقة على قوانين الفطرة التي فطر الله عليها الناس؛ أفرادًا وجماعات.
وشيوع الخلل والاضطراب فِي النواحي الاجتماعية من هذه المدنية هو دليل شيوع الباطل فِي هذه النواحي، ودليل بعد هذه النواحي عَن الفطرة.
وحسن جدًا أَنَّهُ يتكلم عَن المدنية، ولا يتكلم عَنْ الحضارة؛ لأن كثيرًا من الناس يخلط بين الأمرين، مع أن الغرب فرق بينهما، كما فعل «شْبِنْجِلَرْ»، الَّذِي يقال له: فيلسوف الحضارة، فإنه فرق بين المدنية والحضارة.
الحضارة: مجموعة القيم والمثل التي ترقي الروح، وتأخذ بها إِلَى مدارج الكمال.
وأما المدنية؛ فما يتعلق بالتقدم المادي فِي جوانب الحياة بلون من ألوان التبسيط؛ لَكِن إِذَا كَانَ الباطل قد شاع فِي أكثر نواحي هذه المدنية؛ فإن هُنَاكَ ناحية واحدة قد عَزَّتْ على الباطل أن يكون له فِيها مقام، -يعني فِي هذه المدنية الحاضرة الْحَدِيثة -، ودانت للحق، فهو فِيها الحاكم المطاع، تلك هي الناحية الْعِلْمية التي أثمرت للمدنية هذه القوى المادية التي فتن بها الناس، فظنوا هذه المدنية المعاصرة أفضل المدنيات حين قدرت على ما لم يقدر عليه المدنيات قبلها؛ من طيران فِي الهواء، وغوص فِي الماء، وتسخير للبخار والكهرباء، وغفلوا عَنْ أن تفاضل المدنيات ليس أساسه القوة، ولَكِن إحسانَ استعمال القوة فِي سبيل الْحَقّ.
فهذا ما تتفاضل به المدنيات؛ إحسانَ استعمال القوة فِي سبيل الْحَقّ، في سبيل الله؛ وإلا انقلبت تلك القوى على المدنية المغترة، فزلزلتها وصيرتها إِلَى ما يصير إِلَيْهِ الباطل من الزوال.
هذه الناحية الْعِلْمية التي عز على الباطل أن يخترقها فِي هذه المدنية المعاصرة؛ هذه الناحية الْعِلْمية هي فخر هذه المدنية الْحَدِيثة، بها ستذكر فِي المدنيات إِذَا ذكرت المدنيات بأنبل ما فِيها، وأفضله وأصدقه، بعد أن تصبح كما أصبحت المدنيات قبلها أحاديث، ثم هي الناحية الوحيدة التي اتحدت فِيها هذه المدنية الْحَدِيثة بالفطرة، وإذ كَانَ الإسلام دين الفطرة؛ فهي الناحية الوحيدة التي تم فِيها الاتصال بين المدنية الْحَدِيثة وبين الإسلام.
أما أن الإسلام يؤيد الْعِلْم، ويحرص عليه، ويكبر منه؛ فأمر يعرفه كل من له إلمام؛ ولو ببعض الآيات والأحاديث الواردة فِي الْعِلْم، فالذي يقرأ في الحديث الصحيح الذي أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني، يقرأ مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم.
ويقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع.
أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والترمذي، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي».
والذي يعرف ما فعله الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – بعد غزوة بدر، من جعله فداء بعض فقراء الأسرى من المشركين تعليم عشرة من أولاد المسلمين الكتابة؛ الذي يعرف ذلك؛ يعرف من غير شك أن الإسلام هو دين العلم والتعلم، فإذا تلا من كتاب الله مع ذلك مثل قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»، ومثل قوله تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18»)، والآياتِ الكثيرةَ التي جعل الله سبحانه الْعِلْم فِيها حكمًا بين النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ومجادليه؛ كقوله تعالى على لسان نبيه: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4»).
إن تدبر الإنسان هذه الآيات الكريمة وأمثالها بعد تلك الأحاديث؛ أدرك أن الْعِلْم على إطلاقه لم يُكْبَرْ فِي دين من الأديان كما أكبر فِي الإسلام، وأن دينًا لم يلزم أهله بالْعِلْم والتعلم كما ألزم الإسلام المسلمين.
هذا التأييد التام للعلم على إطلاقه يشمل - طبعًا - التأييدَ التام للْعِلْم بمعناه الخاص، معناه الطبيعي المستعملِ فِيه اللفظ اليوم؛ لَكِن ليس هُنَاكَ من حاجة إِلَى مثل هذه الحجة على قوتها فِي إثبات أن الْعِلْم بمعناه الْحَدِيث مطلوب، ومأمور به فِي الإسلام؛ فإن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة فِي الحض على تطلب آيات الله فِي الكون، وتعرف أسرار الخلق؛ هي فِي الواقع توجيه للعقل إِلَى مجالات الْعِلْم الَّذِي يسميه الناس اليوم: «الْعِلْم الطبيعي»؛ بل هي أوامر من الله بطلبه؛ لأن آيات الله فِي الكون التي ندبت تلك الآياتُ القرآنيةُ الكريمة إِلَى طلبها ليست بأكثر ولا أقل من أسرار الفطرة التي هي مطمع الْعِلْم ومرماه.
فأنت إِذَا قرأت مثل قوله جَلَّ وَعَلَا: «وهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْض قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4»)، وقوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12»)، وقرأتَ قوله تعالى : «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ»، وقوله تعالى: «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، إِذَا قرأت هذا وأمثاله فِي القرآن؛ لم تشك فِي أن الْعِلْم الْحَدِيث قرآني فِي موضوعه، يعني: هو يسير على القواعد القرآنية، أراد أم أبى؛ لأن القرآن الْعَظِيم وضع أسس المنهج الْعِلْمي الَّذِي يسير عليه أُولَئِكَ القوم، صادفوه بقدر الله رب العالمين من غير أن يعرفوه، أو عرفوه.
فهذه العلوم الطبيعية إنما تبحث عَنْ أسرار هذه الظواهر الكونية التي نبه إِلَيْهِا، وأمر بالبحث فِيها القرآنُ الكريم، فإذا أنت استقريت الآيات القرآنية الكونية لترى؛ هل ورد فِي بعضها مادة «العين، واللام، والميم» اللغويةُ؛ وجدت أن هُنَاكَ أكثر من آية وردت فِيها هذه الآية إن لم تكن فِي صيغة المصدر «عِلْم»، ففي صيغة مشتقاته؛ كقوله تعالى فِي سورة الأنعام: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُوم لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97»)، تعالى فِي سورة الروم: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22»)، وكذَلِكَ من سورة فاطر: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعِلْماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28»).
فواضح من السياق أن المراد بالْعِلْماء هنا: هم العالمون بالآيات وأسرار الخلق التي أودعها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيما أشارت إِلَيْهِ هذه الآيات الكونية، هَؤُلَاءِ الْعِلْماء إِذَا كَانَوا مؤمنين؛ حملهم علمهم بأسرار الفطرة على خشية الله فاطر الفطرة؛ لِأَنَّهُم يكونون بعلمهم أبصر بعظمة الله سبحانه، وجلالِه وقدرتِه المتجلية فِي آيات صنعه.
وهذا فِي الواقع هو الحكمة الكبرى التي من أجلها أمر الله الإنسان فِي كثير من آيات القرآن بالنظر فِيما خلق الله فِي السماوات والأرض من خلق، وهُنَاكَ طبعًا إِلَى هذه الحكمة الكبرى حكم أخرى، هي: ما يتبع طلب هذه العلوم الكونية من منافع مادية، آتية من استخدام حقائق الْعِلْم فِي شؤون الإنسان؛ كالانتفاع – مثلًا – بخواص الكهرباء والبخار والحديد فِي هذه القطارات والسفن التجارية البخارية، وهذه المركبات والمصابيح الكهربائية، والحكم كلها مرادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حين أمر الإنسان بالنظر فِي ملكوت السماوات والأرض، إلا أن الحكمة الأولى – وهي حكمة خشية الله التي أشار إِلَيْهِا فِي قوله: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعِلْماءُ» – هذه الحكمة هي الحكمة الكبرى؛ إذ عبادة الله وخشيته هي الغاية الأولى والأخيرة من وُجُود الإنسان.
وفي الْحَقّ أن الإنسان ليأخذه العجب من كثرة ما لقيت هذه الناحية من التوكيد فِي القرآن، ثم من تراخي المسلمين فِي الوقت عينه برغم ذَلِكَ فِي طلب هذا الْعِلْم، ولو للانتفاع به فِي تفسير ذَلِكَ الجزء من القرآن.
إن الآياتِ الواردةَ لِتَلْفِتَ الإنسانَ إِلَى أسرار الفطرة، وتَحُثَّهُ على تفقهها، لا تكاد تقل عَنْ سُبُعِ آيات القرآن، فسبع آيات القرآن فِيما يتعلق بالآيات التي وردت لتلفت الإنسان إِلَى أسرار الفطرة، ولتحث الناس على تفقهها، هذه لا تكاد تقل عَنْ سبع آيات القرآن، ولم تلق ناحية من نواحي المدنية مثل هذا التوكيد فِي الإسلام؛ إلا ناحية الأخذ بالعدل والإحسان فِي المعاملة.
فكأن المدنية فِي الإسلام شطران: شطر يقوم على الْعِلْم، وشطر يقوم على العدل، ومن وراء ذَلِكَ كله مخافة الله ومحبته.
لا غنى لأهل المدنية عَنْ هذين إن أرادوا لها البقاء.
وعلى كل حال؛ فإن حث الإنسان فِي نحو سبع القرآن على دراسة الفطرة أريد به على الأخص: حثه على عبادة الله عَنْ طريق تلك الدراسة، وعن طريق شكره سبحانه على ما ستثمر تلك الدراسات عَنْه من ثمرات، وهذا لا يقلل شيئًا من شأن الْعِلْم فِي الإسلام؛ بل يزيده، ثم هو أبلغ فِي الدلالة على أن الْعِلْم فِي الإسلام جزء من الدين، على أن أمر التوافق بين الْعِلْم والإسلام قد جاوز الإجمال إِلَى التفصيل، جاوز قرآنية الموضوع والاسم إِلَى قرآنية الروح والطريقة، فروح الْعِلْم وطريقته منطبقة تمامًا على ما جاء به القرآن؛ فإن روح الْعِلْم التي هي فِي صميمها: التجرد للحق، والصدق فِيه، والاستمساك به، والتعاون عليه؛ هي من روح الإسلام من غير شيء؛ إذ الإسلام كله ليس إلا أمرًا بالحق، وتجردًا له، وجهادًا من أجله.
وما لقيه الْحَقّ من الإكبار فِي الْعِلْم لا يزيد شيئًا عما لقيه الْحَقّ من الإكبار فِي القرآن، وإذا كَانَ هُنَاكَ فرق بين الاثنين؛ فهو لا يتعلق بذاتهما؛ ولَكِن بامتداد سلطانهما، فروح الْعِلْم مقصورة طبعًا على الميادين التجريبية التي قصر الْعِلْم عليها نفسه؛ لَكِن روح الإسلام تشمل بسلطانها كل ميادين حياة الإنسان، الْعِلْميَّ منها والاجتماعي، ما يمكن إخضاعه للتجارب الْعِلْمية منها، وما لا يمكن.
إذًا؛ الْعِلْم قرآني بطريقته.
العلم قرآني بطبعه.
أما أن طريقة الْعِلْم فِي طلب أسرار الفطرة هي نفس الطريقة التي أمر بها القرآن؛ فيتبين من الآتي:
أن الْعِلْم لا يَقُول عَنْ شيء أَنَّهُ حق؛ إلا إِذَا قام عليه البرهان اليقيني القاطع.
فهذا من قوانين الْعِلْم المادي؛ أنه لا يَقُول عَنْ شيء أَنَّهُ حق؛ إلا إِذَا قام عليه البرهان اليقيني القاطع.
القرآن الكريم يأمر كذَلِكَ بألا يقبل الإنسان شيئًا على أَنَّهُ حق إلا إِذَا قام عليه البرهان.
فكما ترى؛ هذا القانون، هذه الركيزة، هذا الأساس من قوانين، من ركائز، من أسس الْعِلْم الَّذِي يبحث فِي الفطرة، يبحث في أسرار المادة هو قرآني بطبعه؛ أَنَّهُ لا يقبل شيئًا على أَنَّهُ حق إلا إِذَا قام عليه البرهان اليقيني القاطع، فهذا دل عليه القرآن؛ بل أمر به، وهو بعينه ما يرتكز عليه الْعِلْم أول ما يرتكز عَنْد بحثه عَنْ أسرار الفطرة.
ومما يتبين به أن طريقة الْعِلْم فِي طلب أسرار الفطرة هي طريقة القرآن المجيد:
أن الْعِلْم يحاذر كل المحاذرة أن يجعل يقينًا ما ليس بيقيني، وأن ينزل الظن منزلة اليقين، أو أن ينزل الفرض والتخمين منزلة الظن والترجيح، فهو يقيس مقدار اقتراب القضية من الْحَقّ بمقدار مكانة الحجة التي تشهد له، فإذا كَانَت الحجة قاطعة؛ فالقضية حق، وإذا كَانَت غير قاطعة؛ فالقضية ظن، ويسميها الْعِلْم فِي هذه الحال «نظريةً» إِذَا كَانَت أرجحيتها كبيرة؛ إذ الواضح أن هُنَاكَ فِي الرجحان مراتب، بعضها أرقى من بعض.
أما إِذَا تساوى ما يشهد للقضية وما يشهد عليها؛ فتلك هي القضية المجهولة التي وقعت موقعًا وسطًا بين الْحَقّ والباطل؛ لا يدرى إِلَى أيهما هي أقرب؟
وأمثال هذه القضية وما قبلها من القضايا الواقعة فِي منطقة الرجحان؛ قل حظها منه أو كثر، هي موضع النظر الْعِلْمي والبحث، لا يزال الْعِلْم يبحث عَنْها، ويمحصها، حتى ينتهي فِيها إِلَى حكم بادية، وحكم قاض قاطع، فيلحقها؛ إما بالحق اليقيني، وإما بالباطل اليقيني.
هذا التفريق من الْعِلْم فِي المنزلة بين ما هو حق وما هو دون الراجح؛ يتفق تمامًا مع روح القرآن الكريم فِي النظر، ومع طريقته المتجلية فِي آياته كلها؛ خصوصًا تلك الآيات التي من قبيل ما ذكر قبل، وكقوله تعالى فِي سورة النجم: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذَا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23»)، وكقوله تعالى فِي سورة الجاثية: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلَكِنا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24»)، وكقوله تعالى: «وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36»).
فهذا التفريق القرآني هو ما وصل إِلَيْهِ الباحثون فِي أسرار المادة، الَّذِينَ يتعاملون مع الفطرة.
الفطرة هاهنا يراد بها: ما خلقه الله رب العالمين فِي هذا الكون من المادة بأسرارها وذخائرها.
فكما ترى؛ الأدلة قاطعة على أن الْعِلْم قرآني بطبيعته، على أن البحث العلمي، وأن المنهج العلمي المنضبط هو قرآني بطبيعته، قرآني بطريقته.
ومما يتبين به أن طريقة الْعِلْم فِي طلب أسرار الفطرة هي طريقة القرآن – وهو ملتحق بالأصلين السابقين -:
أن الْعِلْم يمنع التقليد فِي النظر من غير وقوف على الدليل واقتناع به. والْعِلْم الْحَدِيث يخالف الْعِلْم القديم فِي هذا؛ لأن الْعِلْماء قديمًا – خصوصًا فِي القرون الوسطى – كَانَوا كثيرًا ما يقنعون فِي الاستدلال على الصحة أو البطلان بإثبات أن القضية توافق أو تخالف رأي فلان أو رأي علان من المشاهير، فكان ما يثبت عَنْ أَرِسْطُو – مثلًا - يتخذ حجة قاطعة فِي موضعه من غير أن ينظر فِي رأي أَرِسْطُو هذا فِي ذاته، ومن غير أن يسأل: ما هو دليله؟!
هذا كَانَ عليه الْعِلْم القديم، وكان هذا منبع شر كبير، ولعله كَانَ سَبَبًَا كثير من الشبه الكلامية التي قامت بين علماء المسلمين بعد أن ترجمت كتب اليونان فِي العصر العباسي، فِيما يتعلق بالعلاقة بين الشريعة، وبين ما كَانَوا يسمونه: «الحكمة»، يريدون بالحكمة غالبًا: ما أخذوه عَنْ حكماء اليونان؛ مثلَ أَفْلَاطُونْ وَأَرِسْطُو وأَضْرَابِهِمَا، حتى جاء أمثال الغزالي من المسلمين عَنْد البحث فِي أمثال هذه الأمور، فأرجعوا الأمر إِلَى نصابه، وحملوا على الفلسفة، وسفهوا كثيرًا من الْفَلَاسِفَة فِي أقوالهم ومذاهبهم.
الْعِلْم فِي منعه التقليدَ الأعمى يتفق تمام الاتفاق مع القرآن الكريم الَّذِي شدد النكير على أناس كَانوا يستمسكون بالرأي، لا لِأَنَّهُم عقلوه وفهموه؛ ولَكِن لأن آباءهم فعلوه!!
«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قَالَوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104»)، إِلَى غير ذَلِكَ من الآيات التي سفهت أحلام هَؤُلَاءِ وطريقتَهم؛ لِأَنَّهُم كَانوا فِيها مقلدين هذا التقليد الأعمى، من غير ما نظر فِي دليل قَالَه قائل، أو رأيٍ ارْتَآَهُ إنسان.
فالتقليد الأعمى، أي: الأخذ بالرأي من غير دليل أو رغم الدليل، فيأخذ بالرأي؛ ولو قام الدليل على ضده.
هذا كله هو التقليد الأعمى.
يتابع زيدًا أو بكرًا من الناس؛ هذا محرم على أهل النظر فِي حكم الْعِلْم وفي حكم القرآن.
فالمنهج العلمي يرد هذا التقليد.
وهذا هو المنهج القرآني الَّذِي أسسته الآيات، وعمل عليه الْعلماء رحمهم الله تعالى فِي صدر هذه الأمة.
أيضًا مما يتبين به أن طريقة الْعِلْم فِي طلب أسرار الفطرة هي طريقة القرآن :
أن الْعِلْم فِي تطبيقه قوانين التفكير المجموعةَ فِي علم المنطق القياسي يتخذ أصلين اثنين يبني عليهما:
الأول: أَنَّهُ لا تناقض مطلقًا بين الْحَقائق، فليس من الممكن أن ينقض حق حقًا، فما ينقض حقًا إِذًَا فهو باطل، وهذا يصح أن يسمى ب «أصل توافق الْحَقائق».
فالْعِلْم يرسي هذا الأساس؛ بل يصدر عَنْه؛ بل ما تقدم الْعِلْم إلا لما أخذ بهذه القاعدة وأمثالها، وهي «أصل توافق الْحَقائق»؛ أَنَّهُ لا تناقض مطلقًا بين الْحَقائق.
الأصل الثاني: هو أصل اضطراد الفطرة واستقلالها، فما ثبت أَنَّهُ حق فِي وقت؛ سيكون دائمًا حقًا، أو بعبارة أخرى: أن الْحَقّ مستقل عَنْ الزمان والمكان.
وهذا أصل عظيم.
وليس عَنْد الْعِلْم برهان على هذين الأصلين إلا تجاربه الماضية، فإنه لم يشاهد مطلقًا أن قضية حقيقية نقضت أخرى حقيقية، أي لم يشاهد مطلقًا تناقضًا بين حقائق الْعِلْم؛ سواء اكتشفت تلك الْحَقائق فِي الماضي أم فِي الحاضر، فِي الْأَرْض أم فِي كوكب آخر؛ بل كثير من حقائق إنما استنتج بناء على هذين الأصلين: أصل توافق الْحَقائق، أو امتناع التناقض بين الْحَقائق، وأصل اضطراد الفطرة، وكانت التجربة دائمًا تؤيد الاستنتاج؛ بل من الواضح أن الْعِلْم يصبح مستحيل الوجود ومستحيل النمو لو انهار أحد هذين الأصلين أو كلاهما، وهذا سبب آخر يجعل الْعِلْم يستمسك بهذين الأصلين محافظة على وُجُوده نفسه؛ وإن عجز الْعِلْم عَنْ إقامة الدليل على صحة هذين الأصلين فِيما يتعلق بالمستقبل.
هذان الأصلان اللذان يستمسك الْعِلْم بهما هذا الاستمساك هما أصلان قرآنيان، أكدهما الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي تكلم بهذا القرآن المجيد سبحانه، أكدهما كل التأكيد، وهو أعلم بما خلق.
فهذه آيات صريحة فِي اضطراد الفطرة، وبقاء سنن الله فِيها على الزمان كله، من غير تحويل ولا تبديل.
والفطرة وسننها هنا تشمل كل ما وجد فِي ملكوت الله؛ سواء فِي ذَلِكَ ما يتعلق بغير الإنسان من جماد ونبات وحيوان، أو ما تعلق بالإنسان من ناحية النفس والروح فِي الفرد والجماعة، مما لم يرتق الْعِلْم إِلَيْهِ إِلَى الآن.
فهذا أصل قرآني، وهو «أصل اضطراد الفطرة»؛ فإن الْحَقيقة ثابتة على الزمان والمكان؛ ما كَانَ حقًا فهو حق دائمًا فِي الحاضر والمستقبل، ولا يمكن أن يصير الْحَق باطلًا.
فهذا أصل اضطراد الفطرة.
وأما أصل توافق الْحَقائق، أو استحالة تناقض الْحَقائق؛ فهذا أَيْضًا ثابت قرآنيًا، كما فِي الآيات السابقة؛ لأن تناقض الْحَقائق يستلزم تناقض الفطرة، ويزداد ثبوتًا بقوله تعالى فِي سورة الملك: «مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ»، فإن التناقض هو أكبر من التفاوت، فإذا انتفى التفاوت فِي خلق الله؛ لزم أن ينتفي التناقض فِي خلق الله أَيْضًا من باب أولى.
وكذَلِكَ أعلن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ استقلال الفطرة عَن الإنسان، وذَلِكَ يوم وفاة ابنه إبراهيم، وحدوث كسوف الشَّمْس، فتحدث الناس أَنَّهُا كسفت لموت إبراهيم، فخاطبهم النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كما فِي الصحيحين بألفاظ متفاوتة: «إِنَّ الشَّمْس وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَنخسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ؛ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا».
فبين أن الفطرة - يعني ما أودعه الله رب العالمين من هذه السنن الإلهية فِي الكون -؛ هذا مستقل عَن الإنسان.
الشمس والقمر آيتان من آيات الله جل وعلا، لاَ يَنخسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ.
فكما ترى؛ هذا الَّذِي وصل إِلَيْهِ الْعِلْم فِي هاتين القضيتين الْعَظِيمتين، وبهما بقاء الْعِلْم وثباته، هو يستمسك بهما فِي الحاضر كما استمسك بهما فِي الماضي؛ مع أَنَّهُ لا يدري ما يكون فِيما يأتي به المستقبل؛ هذان الأصلان؛ هاتان القضيتان وردتا فِي كتاب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كما مر فِي آيات ربنا جَلَّ وَعَلَا.
ومما يتبين به أن طريقة الْعِلْم فِي طلب أسرار الفطرة هي طريقة القرآن المجيد:
«أصل المشاهدة»؛ فقد عرفنا أن الْعِلْم فِي بحثه عَن الْحَقيقة يسلك سبيل العقل، فلا يعتبر حقًا إلا ما قام البرهان على أَنَّهُ حق، كذَلِكَ الْعِلْم الَّذِي يبحث فِي الفطرة - أي فِي أسرار المادة – لا يعتبر حقًا إلا ما قام البرهان على أَنَّهُ حق، فالْعِلْم دائم البحث إِذَا عَنْ البراهين التي تثبت حقائق الأشياء.
هذه البراهين؛ عرفنا من أنواعها: النوع القياسي، أي الَّذِي يتوصل إِلَيْهِ بالقياس الصحيح، وإنما يؤدي إِلَى نتيجة صحيحة إِذَا صحت المقدمتان كلتاهما.
وأما إِذَا كَانَت إحدى المقدمتين باطلة أو مشكوكًا فِيها؛ فإن النتيجة يصيبها من البطلان أو من الشك على قدر ذَلِكَ؛ وإن صحت طريقة الاستنتاج.
وبعبارة أخرى: يلزم لصحة النتائج شرطان: صحة المقدمات كلها، وصحة طريقة الاستنتاج التي هي نفس القياس.
أما صحة الاستنتاج؛ فقد تكفل بها المنطق القياسي؛ لَكِنَّ المقدمات ما شأنها؟ وما طريق التثبت من صحتها؟
كثير من المقدمات ناتج عَنْ طريق القياس من مقدمات أولية بديهية الصحة، لا يختلف فِي صحتها العقلاء، ويصلون إِلَيْهِا مستقلًا بعضهم عَنْ بعض.
علم الهندسة النظرية - على تعقد نظرياته – مستنتج كله من أمثال هذه البديهيات؛ لَكِنْ ليس كل المقدمات يمكن رده إِلَى بديهيات كهذه عَنْد إثبات صحته؛ ولا بد إِذًَا فِي إثبات هذا النوع الثاني عَنْ طريق آخر غير طريق الاستنتاج من البديهيات.
هذا الطريق الآخر هو طريق المشاهدة الصحيحة، وهو الطريق الَّذِي سلكه – إِلَى حدٍّ مَّا – الْعِلْمُ قديمًا، ويسلكه دائمًا الْعِلْمُ حديثًا؛ حتى صار طابعه الَّذِي طبع عليه، وميزته التي امتاز بها: «طريق المشاهدة الصحيحة».
هذه المشاهدة الْعِلْمية تستعمل فِيها الحواس، خصوصًا السمع والبصر؛ ولَكِن بشرط ترتيبها وتدريبها وتربيتها من ناحية، وبشرط إعانتها على دقة الملاحظة بالآلات الدقيقة من ناحية أخرى.
هذه الآلات هي فِي الواقع وسائل هدى الله إِلَيْهِا الإنسان؛ ليزيد فِي مدى حسه، فيزيد فِي مدى إبصاره مثلًا بالمجاهر - أي: الْمَيِكْرُسْكُوبَات – التي يستطيع أن يرى الإنسان بها من الأجسام ما صغر حتى دق عَنْ أن تبصره العين المجردة؛ كالجراثيم وكرات الدم وخلايا الأجسام الحية، أو يزيد فِي مدى إبصاره بالْمَرَاقِبِ – وهي: التِّلِسْكُوبَات، فالمجاهر هي الْمَيِكْرُسْكُوبَات، وأما المراقب؛ فهي التِّلِسْكُوبَات –، وهذه تقرب للإنسان الأجسام البعيدة، يستعملها الَّذِينَ ينظرون فِي الْأَجْرَام السَّمَاوِيَّة، فيرى منها ما لم يكن يراه من قبل.
فأما المجاهر؛ فتستعمل كثيرًا فِي المعامل.
وأما المراقب؛ فتستعمل غالبًا فِي المراصد.
هذا الأصل - أصل المشاهدة الصحيحة – هو إِذًَا الطريق الثاني الَّذِي يسلكه الْعِلْم الطبيعي للوصول إِلَى مقدمات صحيحة، ولولاه ما اتسعت العلوم الطبيعية هذا الاتساع، ولا نمت هذا النمو، ولا كشفت ما كشفت من أسرار الخلق؛ فالمشاهدة أصل علمي عظيم.
وهي أَيْضًا أصل قرآني عظيم؛ فالآيات التي تأمر بالمشاهدة واستعمال السمع والبصر والعقل كثيرة جدًا فِي القرآن المجيد، منها:
استعمال البصر مع العقل؛ «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ».
وكذَلِكَ ورد استعمال جميع وسائل المشاهدة مع العقل؛ «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ».
فهذه الآيات القرآنية الكريمة تحض الإنسان على استعمال العقل والسمع والبصر وما إِلَيْهِا من طرق المشاهدة الصحيحة بجميع أساليب الحض، ثم هي مع ذَلِكَ تأدبه من حيث استعمال هذه المواهب على وجهها الصحيح؛ ففي آية الإسراء: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ». تنهاه الآية من ناحية أن يجري مع الوَهَم والظن، وتدله من ناحية أخرى على طريق الوصول إِلَى ما ليس بوَهَم ولا ظن، أي إِلَى اليقين والحق عَنْ طريق إحسان استعمال السمع والبصر والعقل؛ «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36»).
وفي قوله تعالى: «كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36»): ليس فقط أمر شديد بإحسان استعمال البصر والسمع والعقل، وعدم إهمالها؛ بل فِيه أَيْضًا أمر بالاستمساك بما يهتدي إِلَيْهِ الإنسان من الْحَقّ عَنْ طريقها. ففي الآية وحدها ثلاثة أصول، هي جماع أصول النظر الْعِلْمي المادي فِي منهج البحث الْعِلْمي:
الأصل الأول: ألا يتبع الإنسان إلا الْحَقّ المعلوم يقينًا: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ».
الأصل الثاني: أن طرق الوصول إِلَى الْحَقّ هو المشاهدة الصحيحة والتفكير الصحيح.
الأصل الثالث: أن على الإنسان أن يستمسك بما يصل إِلَيْهِ من الْحَقّ عَنْ طريق المشاهدة والتفكير: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36»).
على أن علم الإنسان كله مصدره: العقل والمشاهدة الصحيحة؛ بل إن العقل لا يقوى ولا ينمو إلا عَنْ طريق التجارب والمشاهدات، فلو أخذ طفل، وحبس عَنْ الْعِلْم إلا فِيما يكفي لحياته من طعام أو شراب؛ فإنه وإن نما جسمه حتى يبلغ جسم الرجال؛ لا ينمو عقله عَنْ عقل الطفولة، بهذا يَقُول علماء التربية، و إِلَى هذا تشير آية النحل: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78»)، فهذه الآيات الكريمة تكاد تكون صريحة فِي أن ما يحصله الإنسان من علم بعد أن يولد؛ إنما يكسبه عَنْ طريق السمع والبصر وبقية الحواس، بدليل جمع الأبصار، وكذَلِكَ عَنْ طريق العقل.
فكما ترى؛ الْعِلْم قرآني بطريقته، لا جديد !!
لو أن المسلمين التفتوا إِلَى ذَلِكَ؛ لسبقوا أُولَئِكَ الَّذِينَ سبقوهم فِي مجالات الْعِلْم المادي، وسبقوهم أَيْضًا فِي مجالات الروح التي تسيطر على مقاليد القوى من معرفة أسرار ذَلِكَ الْعِلْم المادي؛ ولَكِن أين النظر فِي القرآن على الوجه الصحيح؟!
لذلك تجد سبع القرآن بآياته فيما يتعلق بالآيات الكونية، فتعجب من كون الآيات على هذا النحو من الكثرة، مع الدعوة والحث على النظر في آفاق السماوات والأرض، وفي الأنفس، وفي المادة؛ لاستنباط أسرارها، والاطلاع على حكم الله فيها؛ تعجب من هذا في الوقت الذي ترى فيه المسلمين في غاية التقصير في الأخذ بهذا الأمر الكريم!!
فلنعقد مقارنة بين الْعِلْم القديم والْعِلْم الْحَدِيث:
قال رحمه الله:
أصل المشاهدة الصحيحة هذا هو من أهم الفروض بين الْعِلْم الْحَدِيث والْعِلْم القديم؛ فإن القدماء كَانوا فِي جملتهم يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ من الممكن أن يصل الإنسان إِلَى ما يشاء عَنْ طريق العقل وحده، أيْ لم يكونوا يَقُولون بضرورة المشاهدة لتحصيل الْعِلْم؛ بل منهم من كَانَ يرى أن المشاهدة تضلل العقل؛ لأن الحواس غير مأمونة، ففي أثنائها يرى الشيء صغيرًا كالنجم مثلًا وهو كبير.
قَالَوا: إِذًا الحواس تضلل العقل؛ فالعقل يقضي بأن الَّذِي نراه من هذه النُّجُوم هو كبير جدًا، ومع ذَلِكَ العين تراه بهذه الدقة والصغر؛ لِذَلِكَ كَانوا كثيرًا ما يكتفون فِي طلب الْعِلْم وأسرار الفطرة بالجلوس والتفكير، فكَانُوا يصلون إِلَى قضايا كلية يزعمون أَنَّهُا حقائق ولم يقم عليها دليل، وإنما كَانَ دليلهم فروضًا افترضوها، يرونها حقًا، ويركنون إِلَيْهِا فِي الإثبات، فَفِيثَاغُورْثْ مثلًا يَقُول عَنْ الكون: إنَّهُ منفرد كامل كروي؛ لأن الكرة أكمل الأشياء.
ويقول: إن الكون حي عاقل؛ لأن ما هو حي وعاقل خير مما ليس بحي ولا عاقل!!
هذه قضية كلية؛ ولَكِن ما الدليل على صدقها هاهنا فِيما نزاوله، أو فِيما ينزلها عليه؟!!
فمثل هذا النوع من الاستنتاج الخيالي غير المرتكز على حقائق يقينية ينكره الْعِلْم الْحَدِيث كما ينكره القرآن، ومن هنا وقع قدماء الْفَلَاسِفَة من اليونان فِي أغلاط كثيرة من حيث لا يشعرون؛ كقولهم: إن للأجرام السَّمَاوِيَّة فِي أفلاكها نغماتٍ يطرب لها من يسمعها، وأن لهذه الْأَجْرَام أثرًا كبيرًا فِيما يصيب الإنسان من نحس وسُعُود!!
فربطوا مصير الإنسان بتلك الْأَجْرَام.
وقد سقط كثير من المسلمين فِي هذه الأغلاط نفسها حين أخذوا علم اليونان كله على أَنَّهُ حق من غير أن يطيعوا الله فِيه ليمحصوه، ومن غير أن يردوه إِلَى القرآن المجيد؛ بل بلغ بهم الأمر أَنَّهُم كَانوا يردون القرآن إِلَيْهِ؛ كقول إخوان الصفا: إن إدريس عليه السلام هو هُرْمُز الثالثُ أو الْمُثَلَّثُ بالحكمة، صفت نفسه بالرياضة والعبادة، فصعدت نفسه إِلَى السماء، وطافت مع بعض الْأَجْرَام ثلاثين عامًا، وشاهدت من العجائب ما لا يشاهده إلا من يطوف ذَلِكَ الطواف!!
قال إخوان الصفا: هذا – كما زعموا – ما يشير إِلَيْهِ القرآن فِي قوله: «ورفعناه مكانًا عليًا»!!
هذا نوع من فهم القرآن لا يجيزه القرآن كما مر، ولا يجيزه العقل، ولعلنا لو بحثنا فِي تاريخ الفلسفة الإسلامية، وما كَانَ بين علماء المسلمين من خلافات كلامية؛ لوجدناه راجعًا إِلَى قضايا فلسفية أخذها المسلمون عَنْ أكثر هذه الخلافات إن لم يكن كلِّها، عَنْ اليونان أخذوها من غير تمحيص، فنقلوا إلينا خلافاتهم على النحو الَّذِي وقع من أُولَئِكَ الضُّلَّال فِيما يتعلق بالعقيدة؛ بل بصفات الرب؛ بل بذاته جَلَّ وَعَلَا.
أما الْحَقائق نفسها عَنْد الْعِلْم الْحَدِيث؛ فهي فِي الكون خارجَ النفس وخارجَ العقل.
كان القدماء لا يرون امتحان الأشياء نفسها ضروريًا، لا يرون امتحان الأشياء ضروريًا لطلب الْحَقيقة.
أما الْمُحْدَثُون؛ فلا يرون سبيلًا للوصول إِلَى الْحَقيقة إلا امتحان الأشياء تحت إشراف العقل.
الْعِلْم الْحَدِيث باختراعاته واكتشافاته قد ولد حين ترك الإنسان مذهب الأقدمين فِي طلب الْعِلْم عَنْ طريق التفكير البحت، وبدأ هو يطلب الْعِلْم عَنْ طريق المشاهدة مع التفكير، وهذا منهج قرآني؛ بل الَّذِي دل عليه هو علماء المسلمين، ومما وضع أسسه: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لِذَلِكَ كَانَ الدور الأول من أدوار نشوء الْعِلْم الْحَدِيث هو دور مشاهدة تكاد تكون بحته، ليس للتفكير فِيها إلا بقدر ما يضمن صحتها.
فهذه مقارنة بين الْعِلْم القديم والْعِلْم الْحَدِيث.
وأما أدوار النظر الْعِلْمي:
فالدور الأول: هو دور جمع الْحَقائق، دور التجربة والمشاهدة.
ولا بد فِيه من الاستيثاق من صحة الوقائع؛ لأن هذه الوقائع سينبني عليها الْعِلْم بناءه، وسيبني بناءه عليها؛ فلا بد من التأكد من متانة الأساس قبل إقامة البناء.
وصحة الوقائع يستوثق منها عَنْ طريق تكرار المشاهدة فِي الظروف نفسها، فيثبت الظروف التي تحيط وتشمل التجربة، ثم يكررها مرة ومرة ومرة، فإذا حصل على النتائج نفسها؛ فحينئذ يعتمدها، وإذا اختلفت مع تثبيت الظروف المحيطة بالتجربة؛ فهُنَالِكَ خللٌ مَّا.
هذا التكرار؛ إما أن يكون على يد المشاهد الأول الَّذِي شهد الواقعة لأول مرة، يكرر التجربة والمشاهدة ليتأكد هو من صحة الواقعة قبل أن يذيعها على الناس، وإما أن يكون التكرار على يد غير المشاهد الأول من الْعلماء؛ للتثبت من صحة الواقعة إِذَا خامرهم ما يدعو إِلَى الشك فِيها، أو للبناء عليها فِي أبحاثهم، فكل واقعة من الوقائع الْعِلْمية لا بد أن تثبت من تجارب متعددة فِي ظروف محدودة واضحة.
هذا الدور فِي الْعِلْم يشبه فِي علوم الدين دور جمع الأحاديث من طرق متعددة؛ للاستيثاق من صحتها، ولترتيبها فِي مراتبها.
فالْمُحَدِّثُ يريد أن يستوثق من صحة الْحَدِيث إِلَى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ سيبني على الأحاديث فِي دينه.
العالم الطبيعي يريد أن يستوثق من صحة الواقعة المنسوبة إِلَى الفطرة؛ لِأَنَّهُ سيبني عليها فِي علمه، فهذا أَيْضًا عَنْدنا.
لا جديد!!
اتفاق الروح والطريقة عَنْد علماء الدين الأولين، والْعلماء الطَّبِيعِيِّينَ الْمُحْدَثِينَ مع اختلاف الزمن واستقلال كلٍّ عَنْ كلِّ؛ دليلٌ عملي على أن الطريقة الْعِلْمية هي طريقة قرآنية، ينبغي أن يأنس إِلَيْهِا ويقبل نتائجها رجلُ الدين، وأن الطريقة القرآنية فِي النظر هي الطريقة الْعِلْمية، وينبغي أن يأنس إِلَيْهِا ويقبل نتائجها رجل الْعِلْم.
فهذا هو الدور الأول من أدوار النظر الْعِلْمي، هو: دور جمع الْحَقائق، دور التجربة والمشاهدة.
الدور الثاني: هو فِي دور المشاهدة –كما مر – تجمع الوقائع؛ لَكِن هذه الوقائع إن كَانَت من باب واحد؛ لا بد أن تكون ناشئة عَنْ قانون طبيعي واحد، أو إِذَا شئت: عَنْ سنة من سنن الله واحدة، كما ينبغي أن يَقُول المسلمون.
الْعِلْم يرمي من وراء مشاهداته إِلَى الوصول إِلَى تلك القوانين، كما يسميها الْعِلْم المادي، أو إِلَى السنن التي جعلها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كونه، كما يَقُول المسلمون، فالوقائع المجموعة وإن كَانَت مهمة فِي ذاتها؛ لِأَنَّهُا حقائق جزئية تزداد أهميتها كثيرًا؛ لِأَنَّهُا السُّلَّم الَّذِي يوصل إِلَى القوانين الفطرية، أو الْحَقائق الكلية التي كَانَ من آثارها: تلك الوقائع الفردية، أو إِذَا شئت: التي من صورها: تلك الْحَقائق الجزئية.
فهذه أدوار النظر الْعِلْمي، وهي قرآنية كما تري؛ بل مارسها علماؤنا على نحوٍ من أنحاء الممارسة.
وأما طريق اكتشاف قوانين الفطرة – كما يَقُول الْعلماء الطَّبِيعِيُّونَ -، أو طريق اكتشاف سنن الله فِي الكون – كما ينبغي أن تسمى -؛ فالطريق الوحيد المفتوح أمام الْعلماء لاكتشاف قوانين الفطرة أو سنن الله فِي الكون – كما ينبغي أن نسميها – هو الاجتهاد فِي انتزاع كل قانون من مجموعة الوقائع الصادرة عَنْه.
بعبارة أخرى: من الوقائع التي هي من باب واحد، وذَلِكَ بالاستقراء
إذا كَانَ عدد الوقائع كبيرًا، وكان القانون فِي ذاته بسيطًا، وإما بالتلمس إِذَا كَانَ عدد الوقائع قليلًا، أو كَانَ القانون خفيًا، أو كَانَ أكثر تعقيدًا.
وأمثلة اكتشاف قوانين الفطرة عَنْ طريق الاستقراء هي فِي الْعِلْم كثيرة جدًا؛ خذ منها مثالًا واحدًا:
أن الكِيماوِيِّين حَضَّرُوا مركبات نقية كثيرة، فوجدوا فِي كل حالة أن المركب - مثل ملح الطعام – مهما اختلف مصدره، أو اختلفت طريقة تحضيره؛ فإنه يتركب من نفس العناصر متحدة مع بعضها بنفس النسب فِي الوزن، فاستنتجوا أن هذا قانون طبيعي للمركبات، وسموه: «قانون التركيب الثابت».
ونصه: كل مركب كيماوي يحتوي دائمًا على نفس العناصر بنفس النسب وزنًا.
فهذه الطريقة – وهي طريقة الاستقراء – فِي أمثال هذه المركبات أدت إِلَى وضع هذا القانون.
كل مركب كيماوي يحتوي دائمًا على نفس العناصر بنفس النسب وزنًا.
وصلوا إلى هذا القانون بالاستقراء، أي بالتتبع في النظائر والحالات.
أما طريق التلمس؛ فهو أصعب من هذا كثيرًا، ويراد بهذا الاصطلاح: الاجتهاد فِي الإتيان بتفسير لوقائع القبيل الواحد، بحيث لا تَجِدُّ فِي بابه واقعةٌ، فإذا وفق الْعلماء فِي اجتهادهم هذا، ووصلوا إِلَى تعليل أو تفسير واحد لتلك الوقائع يثبت على الزمن رغم تكاثرها بالبحث والتنقيب؛ حكموا أن ذَلِكَ التعليل أو التفسير قريب من الْحَقيقة الكلية، أو القانون الكلي المنشود؛ إلا أَنَّهُم لا يسمون ذَلِكَ التعليل أو التفسير «قانونًا فطريًا»، إلا إِذَا بلغت الوقائع المفسرة به من الكثرة الكاثرة مبلغًا لا يدع مجالًا للشك فِي عمومية ذَلِكَ التفسير، فينتقل من هذا الاجتهاد إِلَى الاستقرار الَّذِي دل عليه الاستقراء كما فِي الطريقة الأولى؛ لِأَنَّهُ إِذَا انطبق هذا التعليل، إذا انطبق هذا الاجتهاد على كثير من الوقائع؛ فهذا هو الاستقراء، فإنك بتتبع ذَلِكَ فِي جميع نظائره أو فِي أكثرها تصل حينئذ إِلَى القطع بأنه قانون فطري.
الطريقة العملية التي يسلكها الْعِلْم فِي تلمس قوانين الفطرة من الوقائع المشاهدة تتلخص فِيما يلي:
أولًا: يؤتى بفرض مفصل مقدر على وقائع القبيل الواحد، بحيث يفسرها جميعًا.
ثانيًا: يختبر هذا الفرض عمليًا؛ لينظر: أصحيح هو أم غير صحيح؟
هذا الاختبار ضروري؛ لأن الوقائع تكون فِي الأول قليلة، يجوز تفسيرها بأكثر من فرض واحد، كما يجوز – بل يغلب – ألا يقع الإنسان فِي أولى محاولاته على التفسير الصحيح، والاختبار يكون بجعل هذا الفرض الجديد مقدمة تضم إِلَى حقيقة أخرى معروفة مناسبة، ويركب منهما قياس يؤدي إِلَى نتيجة جديدة بالطبع، فتختبر هذه النتيجة بإجراء تجارب عملية يعرف بها ما إِذَا كَانَت تلك النتيجة منطبقة على الواقع أو غير منطبقة؟
فإذا وجد أَنَّهُا منطبقة؛ ازداد عدد الوقائع المفسرة بالفرض واقعة، وازداد الفرض بذَلِكَ رجحانًا، ولا يزال الفرض يختبر عَنْ هذا الطريق؛ حتى تبلغ الوقائع المفسرة به من الكثرة مبلغًا يجعلنا نرجح كثيرًا صحة هذا الفرض، فنسميه «نظرية».
فتبدأ النظرية بالفرض، ثم يمر بهذه المراحل، فإذا ما رجح ترجيحًا كثيرًا، ورجح رجحانًا كثيرًا؛ سمي «نظرية»، ونستمر فِي امتحان النظرية بنفس الطريقة؛ حتى تبلغ الوقائعُ المفسرة بالنظرية من كثرةٍ مبلغًا يجعلنا نوقن بأنها قانون عام.
فيبدأ بفرض، ثم يصل إِلَى النظرية، ثم يصل بعد ذَلِكَ إِلَى القانون العام.
أما إِذَا لم تؤيد التجربة النتيجة المستنتجة من ذَلِكَ القياس الجديد؛ فإن ذَلِكَ يكون دليلًا على أن الفرض الجديد ليس صحيحًا فِي صورته التي هو عليها.
وعندئذ يحاول الْعِلْم أن يوفق بين النتيجة الجديدة التجريبية وبين الفرض؛ لإدخال تعديل على الفرض، بجعل هذا الفرض يشمل هذه النتيجة الجديدة، فَيُحَوَّرُ ويُعَدَّلُ، فإذا لم يمكن هذا؛ نبذ الفرض، أو نبذت النظرية، وجيء بفرض آخر أو بنظرية أخرى، تختبر بالطريقة نفسها.
واضحٌ أن أي فرض يؤتى به يجب أن يكون قابلًا لهذا التمحيص الْعِلْمي؛ إذ هو الطريق الوحيد للتأكد من صحة الفرض، كما أن من الواضح أن الفرض إِذَا كَانَ قابلًا للتمحيص العملي؛ سينفع نفعه؛ ولو بتأديته إِلَى اكتشاف الْحَقيقة الجديدة التي تكون سَبَبًَا فِي نبذه.
فمع أننا سنطرحه؛ إلا أَنَّهُ قد أفادنا فِي الوصول إِلَى حقيقة جديدة.
أما الفرض الَّذِي لا يقبل أن يمحص عمليًا عَنْ هذا الطريق؛ فإن الْعِلْم لا يأبه به، ولا ينظر فِيه، وخذ مثالًا توضيحيًا:
«نظريةُ الْفُلُوجِسْتُونْ للاحتراق».
جاء على الْعلماء وقت أساؤوا فِيه تعليل ظاهرة الاحتراق، فظنوها راجعة إِلَى خروج جوهر من الأجسام المحترقة سموه بالْفُلُوجِسْتُونْ، أو بِرُوحِ النار، قَالَوا: إن الجسم المحترق يخرج منه رُوحُ النار، أو الْفُلُوجِسْتُونْ، فكان كل جسم قابل للاحتراق عَنْدهم عبارة عَنْ ناتج الاحتراق، زائدًا روح النار تلك أو الْفُلُوجِسْتُونْ، حتى العناصر - كالرصاص والحديد - كَانَت فِي رأيهم مركبة من رمادها عَنْد الاحتراق والْفُلُوجِسْتُونْ الَّذِي هو روح النار، فإن لم يكن للاحتراق فِي رأي أعينهم ناتج؛ فالجسم فُلُوجِسْتُونْ صرف؛ كالغازات مثلًا التي لا يتخلف عَنْها رماد ولا هشيم، فيقولون: هذا الجسم فُلُوجِسْتُونْ صرف، روح النار صرفًا.
ورأيهم ذَلِكَ معروف فِي تاريخ الكيمياء بنظرية الْفُلُوجِسْتُونْ.
سادت هذه النظرية عالم الكيمياء حقبة طويلة، وتغلبت فِي الأول على كل صعوبة، أي أمكن الْعلماء فِي الأول أن يفسروا كل ظاهرة طبقًا لهذه النظرية، ففسروا – مثلًا – عدم احتراق الأجسام المعزولة عَن الهواء فِي أوان مغلقة؛ بأن حبسها فِي تلك الأواني حبس للفلوجستون، فلا يجد إِلَى الهواء مخرجًا، فيظل روحًا حائرةً لا تجد للهواء مخرجًا، ولا بد فِي رأيهم للفلوجستون من مخرج إِلَى الهواء قبل أن تتكون بمخرجه النار.
خدمت هذه النظرية الْعِلْم بربطها بين كثير من الْحَقائق المتفرقة، وتنبئها بحقائق لم تكن معروفة من قبل؛ كتنبئها مثلًا بأن رماد بعض المعادن – الَّذِي كَانوا يسمونه فِي ذَلِكَ الوقت «كَلْسًَا» –، إِذَا سُخِّنَ مع الفحم أو الخشب؛ عاد معدنًا كما كَانَ؛ «رماد الرصاص»، أو كما قَالوا عَنْه: «كَلْسُ الرصاص»، يعود إِلَى رصاص، ورماد النحاس يعود إِلَى نحاس، وهلم جرا.
نحن نعرف الآن أن هذا راجع إِلَى انتزاع الفحم أو الخشب الأكسجين من أكسيد المعدن، فيتحول الأكسيد إِلَى المعدن، ويتحول بعض الفحم أو الخشب إِلَى أكسيد الكربون؛ لَكِنهم كَانوا يفسرون ذَلِكَ بأن الكَلْسَ يسترد من الفحم أو الخشب ما فقده من الْفُلُوجِسْتُونْ أثناء احتراق المعدن، أو بالأحرى: بأن الكلس يسترد من الفحم أو الخشب ما فقده من الْفُلُوجِسْتُونْ أثناء احتراق المعدن، أي أثناء تَكْلِيسِهِ، فيعود رصاصًا أو نحاسًا... إِلَى آخره كما كَانَ.
ظلت هذه النظرية سائدة حتى انتبه الْعلماء إِلَى وجوب استعمال الميزان فِي دراسة الظواهر الكيماوية، وحتى اكتشف الأكسجين فِي عصرِ «لَافْوَازْيَي»، وأثبت لَافْوَازْيَي أن نواتج الاحتراق أثقل دائمًا منها قبل الاحتراق، فِي حينَ أن نظرية الفلوجستون تقضي بأن تكون النواتج أخف من الجسم ما دام الجسم يفقد جوهر الفلوجستون أثناء الاحتراق، فكانت على الضد من النظرية التي كَانَت سائدة.
إِلَى هذا الرجل ترجع تجربة الشمعة الشهيرة، التي أثبت بها أن الشمعة ونواتج احتراق ما احترق منها أثقل من الشمعة كلها قبل أن يحترق منها شيء، وذَلِكَ بأن عادَلَ بين كفتي ميزان، فِي إحدى الكفتين الشمعة، معلقًا فوقها شبكة معدنية تحتوي على قطع من الصودا الكاوية التي من خواصها: أن تمسك ما يمر عليها من بخار الماء وثاني أكسيد الكربون الناتجين من احتراق الشمعة، فلما أشعل الشمعة؛ رجحت كفتها بعد فترة، وشَالَتْ كِفَّةُ الصِّنْجَات، وكان مقتضى فناء الشمعة كلها أو أكثرها - كما يبدو للعين – أن يحدث العكس، أي أن يشيل كفة الشمعة لفقدها روح النار، أو لفقدها الفلوجستون، وترجح كفة الصِّنَجِ بعد الاشتعال.
فلما أثبت هذا، وأثبت بتجارب أخرى أن الزيادة فِي وزن الجسم أثناء الاحتراق يقابلها نقص فِي وزن أكسجين الهواء، يساوي تلك الزيادة بالضبط، فلما أثبت ذَلِكَ؛ عرف يقينًا أن الاحتراق ليس راجعًا إِلَى فقدان الفلوجستون، ولَكِن إِلَى الاتحاد بالأكسجين، فسقطت نظرية الفلوجستون، رحلت، وحلت محلها الْحَقيقة؛ ولَكِنها ككل نظرية مهمة لم تسقط حتى خدمت الْعِلْم، ومكنته من التقدم فِي طريقه خطوات.
وبعد؛ فإن طريقة الْعِلْم فِي تعرف أسرار الفطرة، والاهتداء إِلَى سنن الله فِي الكون تضمن الوصول إِلَى الْحَقّ فِي القريب أو البعيد، وإن استعانت على ذَلِكَ بفرض الفروض؛ لَكِن لا خوف قط على الْحَقيقة من هذه الفروض ما دام الْعِلْم يطبق فروضه على الواقع، ويمحصها بالتجربة والاختبار، فهذه الطريقة فِي الواقع هي طريقة الْعِلْم فِي الاجتهاد، وبينها وبين طريقة اجتهاد المجتهدين فِي الدين يَسْتَوْحُون الْحَقيقة من كلام الله وحديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
فبين عمل المجتهدين بالنظر فِي الآيات والأحاديث، وطرق الاستنباط، وما وصل إِلَيْهِ الْعِلْم الْحَدِيث؛ بينهما صلة واضحة، فكل فِي الْحَقيقة مرجعه إِلَى الله، وإن لم يصل رجال الْعِلْم بعد إِلَى الله؛ ولَكِن رجال الدين – أعني العلماء – هؤلاء هم الَّذِينَ يعرفون الله، وأما علماء الطبيعة الَّذِينَ يبحثون فِي أسرار المادة؛ فأكثرهم لا يعرف الله عز وجل.
كل فِي حكم الدين نفسه مرجعه إِلَى الله؛ إذ إن هذه الْحَقائق الطبيعية التي يكشف عَنْها الْعِلْم ببحوثه، إن هي إلا نوع من كلمات الله، هي أسرار المادة التي أودعها الله فِيها، التي أودعها الله رب العالمين فِي المادة، فالْعلماء يتعاملون مع ذَلِكَ، هي الكلمات النافذة الواقعة كما أن آيات القرآن هي كلمات الله الصادقة المنزلة.
فمن هذا كله ترى أن الَّذِي وصل إِلَيْهِ الناس فِي الْعِلْم المادي هو قرآني بطبيعته، هو مما أسسه القرآن ووضع أصوله؛ بل وسار عليه كثير من علماءنا الَّذِينَ بحثوا فِي مسائل المادة، وتعاملوا مع قوانينها حتى اختُطِفوا من الطريق من أوله، لا من منتصفه، بكيد الكائدين ومكر الماكرين، وما وقع بين الأمة من الخلاف العقدي والخلاف المذهبي حتى صارت شيعًا، يقتل بعضها بعضًا، ويسبي بعضها بعضًا، كما أخبر عَنْ ذَلِكَ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا؛ حتى يكون بعضها يقتل بعضًا، وحتى يسبي بعضها بعضًا "، فصُرِفوا عن هذا، وتقدم الآخرون، وحازوا ما حازوه تأسيسًا على وضعنا أصوله وأسسه، ثم فِي المنتهى أوصلهم هذا الَّذِي وصلوا إِلَيْهِ، لا لِأَنَّهُ يوصل إِلَى ذَلِكَ، ولَكِن لِأَنَّهُم أساؤوا استعماله، ولم يتعاملوا معه كما ينبغي أن يتعامل معه، فأوصلهم إِلَى إنكار وُجُود الخَالِق الْعَظِيم!!
وأما الْعلماء من المسلمين؛ فإنهم مهما وصلوا إِلَى شيء من أسرار المادة؛ فإن ذَلِكَ يزيدهم خشية لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «إنما يخشى اللهَ من عباده الْعلماءُ».
«العقيدة فِي الله» فيها مبحث عَنْ أن المخلوق لا بد له من خالق:
يحتجّ القرآن على المكذّبين المنكرين بحجة لا بدّ للعقول من الإقرار بها، ولا يجوز فِي منطق العقل السليم رفضها؛ قال تعالى: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36») [الطور: 35-36].
يقول لهم: أنتم موجودون، هذه حقيقة لا تنكرونها، وكذَلِكَ السماوات والأرض موجودتان بلا شك.
تقرر فِي العقول أنّ الموجود لا بدّ من سبب لوجوده، فهذا يدركه راعي الإبل فِي الصحراء، يقول: " البعرة تَدُلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا يدُلّ ذلك كله على العليم الخبير؟!! ".
فهذا يعرفه راعي الإبل، من أكلة الشيح والقيصوم، من الذين يبولون على أعقابهم!!
ويدركه كبار الْعلماء الباحثين فِي الحياة والأحياء.
وهذا الَّذِي أشارت إِلَيْهِ الآية هو الَّذِي يعرف عَنْد الْعلماء باسم: (قانون السببية).
هذا القانون يَقُول: إن شيئًا من الممكنات لا يحدث بنفسه من غير شيء؛ لِأَنَّهُ لا يحمل فِي طبيعته السبب الكافي لوجوده، ولا يستقل بإحداث شيء، فلا يحدث هو بنفسه من غير شيء، ولا يستقل هو بإحداث شيء؛ لِأَنَّهُ لا يستطيع أن يمنح غيره شيئًا لا يملكه هو.
وخذ هذا المثال لتوضيح ذلك القانون:
منذ سنوات تكشفت الرّمال فِي صحراء الربع الخالي إثر عواصف هبت على المنطقة عَنْ بقايا مدينة كَانَت مطموسة تحت الرمال، فأخذ الْعلماء يبحثون عَنْ محتوياتها، ويحاولون أن يحققوا العصر الَّذِي بنيت فِيه تلك المدينة، ولم يتبادر إِلَى ذهن شخص واحد من العلماء أو من غيرهم أن هذه المدينة وجدت بفعل العوامل الطبيعية التي أحاطت بها من الرياح والأمطار والحرارة والبرودة، لا بفعل الإنسان.
لو قَالَ بذَلِكَ واحد، وقال: إنما وجدت بفعل العوامل الطبيعية من الرياح والأمطار والحرارة والبرودة، لا بفعل الإنسان؛ لعده الناس مخرّفًا يستحقّ الشفقة والرحمة؛ فكيف لو قَالَ شخص ما: إنّ هذه المدينة تكونت فِي الهواء من لا شيء فِي الأزمنة البعيدة، ثم رست على الْأَرْض؟
هذا القول لا يقلّ غرابة عَنْ سابقه؛ بل يفوقه.
لماذا؟
لأنّ العدم لا يوجد شيئًا.
هذا أمر مقرر فِي بدائه العقول، ولأن الشيء لا يستطيع أن يوجد نفسه.
المدينة على النحو الَّذِي نعرفه لا بد لها من موجد، والفعل يَشِي ويعرف بصانعه، يشي بصاحبه ويُعَرِّفُ به؛ فلا بدّ أن تكون المدينة صناعة قوم عقلاء، يحسنون البناء ويجيدون التنسيق.
ولو رأينا إنسانًا انتقل من أسفل بناية إِلَى أعلاها؛ فإننا لا نستنكر ذَلِكَ.
لو وجدنا إنسانًا في ساحة المسجد، ثم بعد ذلك رأيناه فوق سطح المسجد؛ فإننا لا نستنكر ذَلِكَ؛ لأنّ الإنسان لديه القدرة على ذَلِكَ، لأن الإنسان له القدرة على أن يصعد إلى أعلى المسجد، فهذا مما يستطيعه.
لكن لو رأينا حجرًا كَانَ فِي ساحة المسجد، ثم رأيناه قد انتقل أو نقل إِلَى أعلاه؛ فإنّنا نجزم بأنّ هذا الحجر لم ينتقل بنفسه، لا بدّ من شخص رفعه ونقله؛ لأنّ الحجر ليس لديه خاصة الحركة والصعود، فلا يمكن أن يصعد بنفسه، فلا بد من أن أحدًا رفعه وصعد به.
والغريب أنّ الناس يجزمون بأنّ المدينة لا يمكن أن توجَد من غير موجد، ولا يمكن أن تبني نفسها، الغريب أن الناس يجزمون بأنّه لا بدّ للحجر من شخص صعد به إِلَى أعلى البناية؛ ولَكِن يوجد فِيهم مع ذلك من يجيز أن يصنع الكون كله من غير صانع، وأن يوجد الكون كله من غير موجد!! مع أنّ بناء الكون أشدّ تعقيدًا وأعظم خلقة؛ «لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» [غافر: 57].
لَكِن المنكرين عَنْدما يواجهون بذَلِكَ المنطق العلمي الذي يخاطب العقل، ويستحوذ على طاقاته، حتى ينفذ إلى القلب؛ فإنهم لا يستطيعون إلا أن يقروا إلا إذا كابروا.
لا يملكون إلا الإقرار، إلا مع المكابرة؛ فإنه ينكر ويَلِجُّ في إنكاره!!
هذا الدليل الذي مر – وهو مما سماه الْعلماء بقانون السببية - كَانَ علماء الإسلام وما يزالون يواجهون به – أي بهذا القانون - الجاحدين؛ فهذا أحد الْعلماء - قَالَ العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: أَظنَُهُ أبا حنيفة، وكان من أذكى الْعِلْماء (كذا قَالَ)، وهو أبو حنيفة رحمه الله -، قال له بعض الزنادقة المنكرين للخالق: إنه لا يؤمن بوجود خالق للكون – وكان قد وعده موعدًا ليلقاه فِيه مع مجموع من أُولَئِكَ المنكرين من السُّمَّنِيَّةِ، وهم قوم ينكرون وُجُود الخَالِق الْعَظِيم على نحلة من نحل الهنود، فاتعدوا على اللقاء فِي موضع فِي وقت عينوه، فتأخر أبو حنيفة، فلما جاء قَالوا: أهكذا يفعل علماء المسلمين؟! أبهذا يأمرهم الدين؟! يعني: لقد أخلفت الموعد وتأخرتَ؛ قليلًا أو كثيرًا، فقال: وما أصنع؟! إني عندما أردت أن آتيَ رأيتُ سفينةً مشحونةً بالأحمال، مملوءة من الأنفال، قد احتوشتها فِي لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي بين تلك الرياح والأمواج تجري مستوية، ليس لها ملاح يُجريها، ولا متعهد يدفعها، فتأخرتُ لذلك.
قالوا: هذا شيء لا يقبله العقل!
مجنون أنت؟!!
سفينة تجري في البحر بغير ملاح ولا رُبَّان؟!
فقال: سبحان الله، إِذَا لم يجز فِي العقل سفينة تجري فِي البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر؛ فكيف يجوز قيام هذه الدّنيا على اختلاف أحوالها، وتغيّر أعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ؟!
فأقروا وسلَّموا.
هذا القانون – وهو قانون السببية - سلمت به العقول وانقادت له، وهو الَّذِي أشارت إِلَيْهِ الآية الكريمة: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36»)[الطور: 35]، وهو دليل يُرغم العلماء على التسليم بأنّ هُنَاكَ خالقًا معبودًا، إلا أن الآية صاغته صياغة بليغة مؤثرة، فلا تكاد الآية تلامس السمع حتى تزلزل النفس وتهز القلب.
روى البخاري فِي صحيحه بسنده عَنْ جبير بن مطعم قَالَ: " سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فِي المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37»)[الطور: 35-37] كاد قلبي أن يطير ".
قال البيهقي:
قَالَ أبو سليمان الخطابي: " إنما كَانَ انزعاجه عَنْد سماع هذه الآية لحسن تلقيه معنى الآية، ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة، فاستدركها بلطيف طبعه، واستشف معناها بزكي فهمه... ".
لأنه لم يكن قد أسلم بعد، فهذا هو ما سمعه أول ما دخل المدينة؛ لكي يكلم النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر، وكانت قريش قد أرسلته رسولًا يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم.
" وجدوا من غير خالق، وذَلِكَ ما لا يجوز أن يكون؛ لأنّ تعلق الخلق بالخَالِق من ضرورة الأمر، فلا بدّ له من خالق، فإذا أنكروا الإله الخَالِق؛ لم يجز أن يوجدوا بلا خالق خلقهم، أفهم الخَالِقون لأنفسهم؟!! وذَلِكَ فِي الفساد أكثر، وفي الباطل أشد؛ لأنّ ما لا وُجُود له؛ كيف يجوز أن يكون موصوفًا بالقدرة؟!
وكيف يخلق؟!
وكيف يتأتى منه الفعل؟!
وإذا بطل الوجهان معًا؛ قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقًا؛ فليؤمنوا به.
ثم قَالَ: «أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36»)، وذَلِكَ شيء لا يمكنهم أن يدّعوه بوجه، فهم منقطعون، والحجة قائمة عليهم".
وهذا الَّذِي قرر الخطابي رحمه الله أن الكفار لا يمكن أن يدعوه؛ فائدة ذكره والسؤال عَنْه: قطع اللَّجاج والخصام؛ إذ قد يوجد جاحد معاند مكابر يَقُول: "أنا خلقت نفسي"، كما زعم مثيلٌ له من قبل بأنه يحي ويميت؛ «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ». [البقرة: 258].
هَبْ شخصًا قَالَ: " أنا خلقت نفسي "؛ كمثل هذا الذي قال: «أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ»!!
فيأتي بذلك مكابرة وعنادًا.
فيقال له حينئذ: أخلقتَ السماوات والأرض؟!
فهل يستطيع أن يزعم أنه خلق السماوات والأرض؟!
فإذا كَانَ العدم لا يُوجِد سماءً ولا أرضًا، وإذا كَانَت السماء والأرض لم تُوجِدَا نَفْسَيْهِمَا، وإذا كَانَ هَؤُلَاءِ لا يستطيعون الادِّعَاءَ بأنّهم أوجدوا ذَلِكَ كله؛ فإنّه لا بدّ له من موجد، وهذا الموجد هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
طاقة البشر وطبيعة المخلوق أعجز من أن تحصي مراحل الأَسْبَاب مرحلةً مرحلةً، وأن تتابع سلسلتها حلقةً حلقةً، حتى تشهد بداية العالم، لِذَلِكَ يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء، وأعلنت عدولها عَن هذه المحاولة، وكان قُصَارَاها أن تخطو خطواتٍ معدودةً إِلَى الوراء، تاركةً ما بعد ذَلِكَ إِلَى ساحة الغيب التي يستوي فِي الوقوف دونها الْعلماءُ والجهلاءُ.
فلا بدّ للعقل من الاعتراف؛ لَكِنَّ هذا اليأسَ الإنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلًا فِي ماضيها ومستقبلها، يقابله يقين إجمالي ينطوي كلُّ عقل على الاعتراف به؛ طوعًا أو كرهًا، وهو أَنَّهُ مهما طالت الأَسْبَاب الممكنة التي قَالَ عَنْها الْفَلَاسِفَة المتقدمون: «العلل»، يَقُولون: حتى نصل إِلَى علة العلل، أو سبب الأَسْبَاب!!
فمهما طالت الأَسْبَاب الممكنة، وسواء أَفُرِضَت متناهية أو غير متناهية؛ فلا بدّ لتفسيرها وفهمها ومعقولية وُجُودها من إثبات شيء آخر يحمل فِي نفسه سبب وُجُوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الْحَقيقي الَّذِي ليس قبله شيء، وإلا لبقيت كلّ هذه الممكنات فِي طيّ الكتمان إن لم يكن لها مبدأ ذو وُجُود مستقل، كما مر عَنْد ذكر أحكام الممكن؛ لأنه يستوي فِي حقه الوجود والعدم، فمن قَالَ: إنَّهُ وجد بغير موجد؛ فقد رجح أحد المتساويين بلا مرجح، وهذا غير مقبول.
إذًا؛ فإذا وجد هذا الممكن الَّذِي يستوي فِي حقه الوجود والعدم؛ فمن الَّذِي أعطاه الوجود؟
من الذي أوجده؟
لا بد أن وُجُوده من غيره.
يستحيل عقلًا أن يكون غيره مثله؛ لِأَنَّهُ يكون حينئذ محتاجًا لمن يعطيه وُجُوده أَيْضًا، وهو فاقد للوجود الْحَقيقي؛ فكيف يعطيه غيره؟!
فلا بد أن نصل فِي النهاية إِلَى موجِد؛ وُجُوده لذاته من حيث هي، والعدم مستحيل عليه، فذاته يستحيل عليها العدم، فوجوده لذاته من حيث هي.
الله عز وجل هو الَّذِي أوجد الموجودات، خلق المخلوقات؛ «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35»).
خُلِقُوا مصادفةً؟!!
وقد مر أن المصادفة لها قانون، والمصادفة بقانونها بالنسبة للخلق مستحيلة الوقوع، كما مر ذكر ذَلِكَ بالدليل الرياضي.
إذًا؛ خلقوا أنفسهم؟!!
هذا لا يقبله العقل.
فبقي الفرض الثالث، هو: أَنَّهُ خلقهم غيرهم؛ ممن وُجُوده لذاته من حيث هي.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا يقيننا، وأن يزيدنا يقينًا وعلمًا، إنه تعالى على كل شيء قدير.
وننظر بعد ذَلِكَ إن شاء الله جَلَّ وَعَلَا في أدلة وُجُود الله تعالى، وقد مر أن وجود الله تبارك وتعالى أظهر من أن يحتاج إلى دليل؛ ولكنْ هذه المجالس إنما هي لقطع شبهات الملحدين الذين ينكرون وجود رب العالمين، فلذلك يسوغ أن نأتي بتلك الأدلة؛ من أجل التعامل مع أمثال هؤلاء.
نسأل الله تبارك وتعالى ألا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يثبتنا على الحق الذي هدانا إليه.