تحذير الشباب من مشابهة الخوارج

للاستماع للمحاضرة

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:

فقد قالَ اللهُ جلَّ وعلا (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) يقول تعالى لنبيهِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) بأنْ يُلهمَهم الإيمان, ويُوزِعَ قلوبَهم التقوى، فقدرتُه صالحةٌ لذلك, ولكنها اقتضت حكمتُه أنْ كان بعضُهم مؤمنينَ وبعضهم كافرين. (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي لا تقدرُ على ذلك, وليس في إمكانك ولا قدرةَ لغير اللهِ على شيءٍ مِنْ ذلك. (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) بإرادتهِ ومشيئتهِ وإذنهِ القدري الشرعي, فمَنْ كان مِنْ الخلقِ قابلًا لذلك يزكو عنده الإيمان ووفَّقه الله تبارك وتعالى وهداه. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ- أى الشرَّ والضلال - عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) الَّذين لا يعقلون عن الله أوامرَه ونواهيَه, ولا يلقون بالًا لنصائحه ومواعِظه، وفي الآية الكريمة تفريقٌ ظاهرٌ بين الإرادةِ الكونية والإرادةِ الشرعية, فالإرادةُ الكونية لابد فيها مِنْ وقوعِ المراد, وقد يكونُ المرادُ فيها محبوبًا إلى الله تعالى وقد يكونُ غير محبوب, وأرادَ في الإرادةِ الكونيةِ القدريةِ بمعنى شاءَ، وأمَّا الإرادةُ الشرعية فلا يَلزمُ فيها وقوعُ المراد, ولا يكونُ المرادُ فيها إلَّا محبوبًا لله جلَّ وعلا, وأراد فيها بمعنى أحبَّ, وهكذا الفرقُ بين الحُكمِ الكوني والحُكمِ الشرعي, فالحُكمُ الكوني هو ما خَلَق الله تعالى ويخلقُ, كخلْق السماوات والأرض, وتسيير السحاب, وإنزال المطر وخلْقِ الخلق، وأما الحُكمُ الشرعي فهو ما أمر الله تعالى به عبادَه مِنْ التوحيد والصلاةِ والصوم والزكاةِ وغيرها, وما نهاهم عنه كالشركِ والزِنا وشُربِ الخمر وغيرها. أهل السُنَّةِ والجماعة يؤمنون بأنَّ الله تعالى فعَّالٌ لِما يريد, فيؤمنون بأنَّ إرادتَه تعالى نوعان: كونيةٌ يقع بها مراده وهي مقصودةٌ لغيرها, ولا يَلزمُ أنْ يكون المرادُ محبوبًا لله, وهي التي بمعنى المشيئة, قال اللهُ جلَّ وعلا (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) والفِعلُ باعتبارِ ما يفعَله الله تعالى بنفسه فعلٌ مباشر, وباعتبارِ ما يُقدِّره على العباد فِعلٌ غير مباشر, ولا يَصحُ أنْ يُنسبَ فِعلُ العبدِ إلى الله على سبيل المباشرة, لأنَّ المُباشِر للفِعلِ هو الإنسان, ولكن يَصحُ أنْ يُنسبَ إلى الله على سبيل التقديرِ والخَلق، أما ما يفعله الله تعالى بنفسه, كاستوائه على عرشهِ, وكلامِه ونزولِه إلى السماء الدنيا, وضَحِكهِ ومَا أشبهَ ذلك, فهذا يُنسب إلى الله تعالى فِعلًا مباشرا. الله جلَّ وعلا فعَّالٌ لِما يريد وإرادتُه جلَّ وعلا على نوعين إرادةٌ كونيةٌ قدرية وإرادةٌ دينيةٌ شرعية, وقد مرَّ بعضُ ما يتعلقُ بالإرادة الكونية, وأما الإرادة الشرعية فلا يَلزمُ بها وقوعُ المراد, وهي مقصودةٌ لذاتها ولا يكون المرادُ فيها إلَّا محبوبًا لله جلَّ وعلا, قال اللهُ تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) الله عزَّ وجل فعَّالٌ لِما يريد, كلُّ ما أراده الله تبارك وتعالى فَعَلَه, لا يمتنعُ على الله تبارك وتعالى شيء, والمخلوق ليس فعالًا لِما يريد, قد يريدُ الشيءَ ويَعجِزُ عنه, وقد يريده مع القدرةِ ثم يُحال بينه وبينه, والله تعالى لا يُسألُ عما يَفعل, قال الله جلَّ وعلا (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ومعنى ذلك أنَّ كلَّ ما فَعله فهو لحكمة, ولا يحتاجُ أنْ يقول عِلَّتَه فهو ربُّ ليس عبدًا, أما غيره مِنْ الفاعلين فإنه يُسألُ لِما فعلت هذا؟ فيقول فعلته لكذا وكذا وقد تكون هذه الغاية مذمومةً, إذا قال قائلٌ هذا بالنسبة لِما لم يكن فيريدُ أنْ يكون, أما إذا أرادَ أنْ يُعدِمَ شيءً, فهل يَصح أنْ نقول إنه فعالٌ لما يريد؟ والجوابُ نعم لأنَّ الإعدامَ فِعل.

 الإرادة نوعان, النوع الأول إرادةٌ كونية وهذه الإرادةُ مرادفةٌ تمامًا للمشيئة, وأرادَ فيها بمعنى شاء, وهذه الإرادة

 أولًا: تتعلقُ بما يُحبه الله وبما لا يُحبه, وعلى هذا فلو قال قائلٌ, هل أراد الله تعالى الكُفر؟ فقل بالإرادةِ الكونيةِ نعم أرادَه, ولو لم يُرِدْه الله جلَّ وعلا لم يقع في مُلكِه.

ثانيًا: يَلزمُ فيها وقوعَ المراد, يعنى أنَّ ما أراده الله تبارك وتعالى فلابد أنْ يقع ولا يُمكن أنْ يتخلف.

وأما القسمُ الثاني فهو الإرادة الشرعية, وهي مرادفةٌ للمحبة, وأراد فيها بمعنى أحبَّ وهي

 أولًا: تختصُ بما يُحبه الله ويرضاه, فلا يريدُ اللهُ الكفرَ بالإرادةِ الشرعيةِ ولا الفِسقَ ولا العِصيان.

ثانيًا:  يَلزم فيها وقوع المرادِ ولا يلزم - في الارادة الشرعية لا يلزم وقوع المراد - بمعنى أنَّ الله يريد شيئًا شرعًا ولا يقع, فهو سبحانه يريد من الخَلق أن يعبدوه ولا يلزم وقوع هذا المراد, قد يعبدونه وقد يكفرون به ولا يعبدونه بخلافِ الإرادةِ الكونية.

والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية, أنَّ الكونية قد يُحبها الله ويرضاها, وقد لا يُحبها ولا يرضاها. وأما الإرادةُ الشرعية فإنَّ الله تعالى يُحبها ويرضاها, فالله أرادَ المعصية كونًا ولم يرِدها ولم يرضَها شرعا. والإرادة الكونيةُ لابد مِنْ وقوعها, وأما الشرعية فقد تقع وقد لا تقع. الكونية مقصودةٌ لغيرها, كخَلْقِ إبليس وسائرِ الشرور, لتحصُل بسببِ ذلك المجاهدة والتوبةُ والاستغفار وغير ذلك من المَحَاب, ومَنْ لم يفهم الفرق بين الإرادتين فإنه لا يستطيع فَهْمَ بابِ القدَر, ولا يستطيع فهمَ هذه الأسئلة, حتى يصل إلى الإجابةِ عنها, لأنه قد يقول قائلٌ لِما خلقَ الله إبليس؟ لِما خلق الله تبارك وتعالى الشرور؟ إلى غير ذلك من هذه الأسئلة التي تبدو للوهلةُ الأولى ولا إجابةَ لها, مع أنَّ الإجابةَ عنها من أيسرِ اليُسر ومن أسهلِ ما يكون, ولكن إذا فهِمَ المسلمُ الفرق بين الإرادتين: الإرادةِ الكونية والإرادةِ الشرعية. الإرادةُ الكونية غير مقصودة لذاتها، الإرادةُ الشرعية مقصودةٌ لذاتِها. الله تعالى أراد الطاعة كونًا وشرعًا, يعني إذا وقعت فلابد أنْ يكون قد أرادها كونًا حتى تقع في كونه, وأرادها شرعًا لأنه أمر بها وهو يُحبها ويرضَاها. وتجتمع الإرادتان الكونية والشرعية في حقِ المُخلصِ المطيع، وتنفردُ الإرادة الكونية في حق العاصي, العاصي الَّذي يريدُ العصيان بإرادتهِ, بمشيئتهِ التي هي تحت مشيئة الله جلَّ وعلا, يأذنُ الله تبارك وتعالى لعصيانه أنْ يقع في مُلكه, يأذنُ الله تبارك وتعالى لكُفرِ الكَافِرِ أنْ يقع في مُلكه جلَّ وعلا, ولكنه لا يحبُه ولا يرضَاه, فتنفرد ها هنا الإرادةُ الكونية القدرية، وأما الطائعُ الَّذي يُقبِلُ على الطاعة, يأذن الله رب العالمين بوقوعها في مُلكه فهذه إرادةٌ كونيةٌ قدرية, وهو يُحب ما وقع من هذه الطاعة, فهذه إرادةٌ شرعيةٌ دينية فتجتمع الإرادتان الكونية والشرعية في حقِّ المُخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية في حق العاصي، ومَنْ لم يُثبِت الإرادتين ويُفرِّق بينهما، فقد ضلَّ كالجبريةِ والقدرية، فالجبريةُ أثبتوا الإرادةَ الكونية فقط، والقدرية أثبتوا الإرادةَ الشرعية فقط, وأهلُ السُّنة أثبتوا الإرادتيْن جميعًا، وفرقوا بينهما.

 وقد دخل القاضي عبد الجبار الهمَداني المعتزلي على الصاحبِ ابن عَبَّاد وكان معتزليًا أيضًا - والمعتزلة قدرية غالَوا في إثباتِ المشيئةِ للعبد, حتى إنَّ الغُلاةَ منهم يقولون إنَّ الله تبارك وتعالى لا يعلمُ ما يقع مِنْ الإنسانِ إلَّا بعد وقوعه, فنفوا عن الله تبارك وتعالى العِلمَ السابق -  فدخل القاضي عبد الجبار وهو مِنْ أئمة الإعتزال على الصاحب ابن عَبَّاد وكان مُعتزليًا أيضًا, وكان عند الصاحب أبو القاسم الإسفراييني, فقال عبد الجبار على الفور لمَّا وجدَ أبا إسحاق الإسفراييني عنده, لأنه كان في الجُملةِ مِنْ أهلِ السُنَّة, ولم يكن على منهجِ السلف ولكنَّه لم يكن قدريًا معتزليًا, فهو يخالِفُه في هذا الأمر :

 فقال عبد الجبار على الفور: سبحان مَنْ تنزَّه عن الفحشاء!

فقال الإسفرايينى فورًا: سبحان مَنْ لا يقعُ في مُلكِه إلَّا ما يشاء! - لأن القدرية المعتزلية يقولون إنَّ ما يقعُ في كون الله من المعاصي لا يمكن أنْ يشاءه الله, لا يمكن أنْ يشاءهُ الله جلَّ وعلا, ويقولون مُلبِّسين على الخلقِ لعدم التفريق بين الإرادتين: الكونية والشرعية, يقولون هل يشاء الله الكفر؟ وهل يشاء الفسوق؟ وهل يشاء العصيان؟  فلمَّا دخل قال سبحان مَنْ تنزَّه عن الفحشاء! ففهِم أبو إسحاق الإسفراييني غرضه

فقال: سبحان مَنْ لا يقعُ في مُلكِه إلَّا ما يشاء!

فقال عبد الجبار وقد فهِم أنه عرف مراده: أيريد ربنا أنْ يُعصى؟

فقال الإسفراييني: أيُعصى ربُّنا قهرًا؟

فقال عبد الجبار: أرأيت إنْ مَنَعَنِي الهُدى وقضى عليَّ بالرَدَى; أحسن أم أساء؟

فقال الإسفراييني: إنْ كان منعك ما هو لك; فقد أساء، وإنْ كان منعك ما هو له; فيختصُ برحمته مَنْ يشاء. فانصرف الحاضرون وهم يقولون: والله ليس عنْ هذا جواب .

ينبغي على المسلمِ أنْ يتعلم التوحيد, وأنْ يعرف مرادَ الله رب العالمين من خلْقهِ, حتى يستطيعَ أنْ يٌحقق الوظيفة التي لأجلِها خُلق, وحتى يخرج مِنْ حدِ الجهل إلى حيز العلم, وإلا فإنَّ الجهل مُضِرٌ بأقوام, وما أكثر الضلال والفتنة, وما أكثر الهوى والزيغ, الذي هو عند أهلِ الجهل فأضلهم الله تبارك وتعالى بجهلهم, وأراد اللهُ رب العالمين بإرادته الكونية لمَّا اختاروا الضلال على الهدى أن يكونوا ضالين .

أهلُ السُنَّة يؤمنون بأنَّ مرادَ الله تبارك وتعالى الكوني والشرعي تابعٌ لحكمته, فكلُّ ما أراده كونًا أو تعبدَّ به خلْقهُ شرعًا, فإنه لحكمةٍ وعلى وَفْقِ الحكمة سواءٌ عَلِمنا منها ما نَعلَم, أو تقاصرت عقولنا عن ذلك, ما أراده الله كونًا أو شرعًا فإنَّ الحِكمةَ تقتضيه, لأنَّ مرادهُ تابعٌ لحِكمته ودليل ذلك قول الله جلَّ وعلا (وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)

ففي هذا إشارةٌ إلى أنَّ مشيئةَ الله تعالى تابعةٌ لحِكمته, قد نعلم تلك الحِكمة وقد لا نعلمُها, ولكن ينبغي أن نُسلِّم لله جلَّ وعلا فيما قضاه وقدَّره, لأنَّ الله تعالى يفعل ما يشاء, وهو سبحانه فعَّالٌ لما يريد, لا يُسئل عما يفعل لأنه لا يفعل شيئًا إلَّا لحِكمة, وهذا الذي هو في ظاهر الحال مضرةٌ علينا ومكروهٌ لنا, نجدُ عاقبته حميدة فهذه حِكمة, أما ما ينفعنا فالحِكمة فيه ظاهرة أنه إحسانٌ مِنْ الربِّ جلَّ وعلا, يُعيننا إذا كنا صادقين على البِرِّ والتقوى, وخير الناس منْ استعان بنِعم الله على طاعتهِ, والحِكمة قد تظهر لنا سريعًا أو لا تظهر .

فيجب أنْ نعلم عِلم اليقين, أنَّ كل شيءٍ قضاه الله تعالى وقدَّره أو شرعَه الله رب العالمين لخلقِه فهو لحِكمة, ولا يمكن أن يقع سفهًا إطلاقًا ولا لغوًا ولا لَعِبًا، فكلُّ شيءٍ خلَقه الله من دقيقٍ وجليل, من العَالَم العلوي أو السفلي, من الناطق وغير الناطق, من المتحرك وغير المتحرك, من النامي وغير النامي فإنه لحِكمة, لكن لا يلزم أنْ نعلمَ نحن تلك الحكمة, لأنَّ عقولَنا أقصرُ من أنْ تُدرك حكمة الله جلَّ وعلا, فكل ما قضاه كونًا أو تَعبَّد به خلقه شرعًا, فإنه لحِكمة, هذه الحِكمة الغائية, والغايةُ منها حميدة, وعلى وَفْقِ هذه الحِكمة, وهذه الحِكمة الصورية- يعني الصورةَ التي هو عليها- تكون موافقةً للحِكمة تمامًا, سواءٌ عَلِمنا منها ما نعلم أو تقاصرت عقولنا عن ذلك, فإنه لحِكمة

قال الله جلَّ وعلا (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)  والجواب.. بلى.

وقد قال الله جلَّ وعلا " وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" الجواب.. لا أحدَ أحسنُ مِنْ الله حُكمًا لا الكوني ولا الشرعي .

وقال الله جلَّ وعلا (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) فإذا عرفت أنَّ الله أحكمُ الحاكمين علمت أنَّ ما قدَّره فهو لحكمةٍ عظيمة, إنْ أدركتها فذاك, وإنْ لم تُدركها فسلِّم الأمرَ إلى مَنْ يعلمها وهو الله جلَّ وعلا .

إذا أردنا السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة, فلابد مِنْ العلم النافع والعمل الصالح, لابد مِنْ معرفة التوحيد واتّباع النبي الرشيد صلى الله وآله وسلم, لأنَّ الجهل بالدين سبب الضلال والإضلال كما بيَّن ذلك نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الصحيحين منْ روايةِ عبدالله ابن عمرو (إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه مِنْ الناس, ولكن يقبض العلم بقبضِ العلماء, حتى إذا لم يُبق عالِما, اتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا, فسُئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلُّوا وأضلُّوا).

الضلالُ والإضلالُ سببُهما أنْ يُستفتى مَنْ لا عِلم عنده, وأنْ يجيب على مقتضى جهلهِ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (حتى إذا لم يبقي عالِما اتخذ الناسُ رؤوسًا جُهالًا, فسُئلوا فأفتوا بغيرِ علم فضلُّوا وأضلُّوا).

ومفهوم هذا المنطوق أنَّ العلمَ والعلماء هما سببُ الهداية والاهتداء, كما أنَّ الجهلَ والفتوى بغير علمٍ, هما سببُ الضلالِ والإضلال, فبيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ سببَ الضلال, وأنَّ سببَ الإضلال إنما هو الجهلُ والفتوى بغيرِ علم.

ف,ينبغي على المُتَّبعِ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعلمَ العلم الشرعي حتى لا يكون مِنْ أهلِ الأهواء والبدع, ولا مِنْ أهلِ الزيغِ والضلال وحتى لا يُشبه هؤلاء، حتى لا يُشبه الخوارج على سبيل المثال, فهؤلاء أبرز سِماتِهم الجهلُ بالدين والفتوى بغير علم .

وقد قال الله جلَّ وعلا (فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) .

واللهُ عزَّ وجل جعل نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم مُبلِّغًا للهُدى ودينِ الحق, فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (العلماءُ ورثةُ الأنبياء, والأنبياءُ لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا, وإنما ورَّثوا العلم, فمنْ أخذهُ أخذ بحظٍ وافر).

وفي الصحيحين عن عليٍ رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (سيخرجُ في آخرِ الزمان, قومٌ حُدثاءُ الأسنان, سفهاءُ الأحلام, يقولون مِنْ خيرِ قولِ البرية, يقرءون القرآنَ لا يجاوز حناجرهم) ولا يصل إلى قلوبهم, فلا يفقهونه, ولا يعونه, ولا يفهمونه, وإنما هو الجهلُ والضلال والإضلال .

يقول رسول الله (يحسبون أنَّه لهم - يعني القرآنَ المجيد- وهو عليهم, يمرقون مِنْ الدين كما يمرق السهمُ مِنْ الرميَّة, فإذا لقيتموهم فاقتلوهم, فإنَّ في قَتلِهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة) الحديث في الصحيحين كما مَرَّ واللفظُ لمسلم. فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعض صفاتِ الخوارج, وجاء ذِكْرُ صفاتٍ أُخر للخوارج في أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما, وفِرقةُ الخوارج هذه ظهرت في أواخر عهد الخلفاء الراشدين في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فخرجوا عليه فحارَبهم فهزمهم اللهُ على يديه في وقعةِ النهروان, ثم كان مِنْ آخر أمرِهم معه أنْ قتله رضي الله عنه واحدٌ منهم, وهو عبد الرحمن ابن مُلجَم لا رحم الله فيه مغرز إبره, وقد قتله غِيلة وما كان يمكن أنْ يَبرز له في مجال ولا أنْ يظهر له في ميدان .

مِنْ أبرز عقائد فرقةِ الخوارج وأعمالها الغلو في التكفير .

قال شيخُ الإسلام رحمه الله تعالى "إنَّ تسليطَ الجُهال على تكفيرِ علماء المسلمين مِنْ أعظم المنكرات, وإنما أصل هذا مِنْ الخوارج والروافض, الذين يُكفِّرون أئمة المسلمين لِما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه مِنْ الدين".

ومِنْ سِماتهم وأفعالهم تخطئةُ مَنْ خالفهم مهما كانت منزلته مِنْ العلم, مع أنه يَغلب عليهم قِلَّة العلم، يغلب عليهم الجهل, حتى إنهم خَطَّئوا جميعَ الصحابة, وجميعَ علماء التابعين, ومَنْ بعدَهم مِنْ أهل العِلم، لأنَّ جميعَ الصحابةِ وجميع العلماءِ مِنْ بعدِهم قد خالفوهم وحكموا بضلالِهم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله عند ذِكره لصفات الخوارج "فهؤلاء أصلُ ضلالتهم اعتقادهم في أئمةِ الهدى وجماعةِ المسلمين, أنهم خارجون عن العدل, وأنهم ضالون, ثم يَعُدُّون ما يرون أنه ظلمٌ عندهم يَعُدَّونه كفرًا, ثم يرتبون على الكُفر أحكامًا ابتدعوها".

وقال أيضًا عند كلامه عن الخوارج ومقالاتهم "قالوا عثمان وعلي ومَنْ والاهما ليسوا بمؤمنين, لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله".

فما تقولُ في قومٍ حَكموا على خليفتين مِنْ الخلفاءِ الراشدين, بأنهم قد كَفروا بالله ربِّ العالمين, وخرجوا مِنْ الإسلامِ دينِ الله جلَّ وعلا وليسوا بمؤمنين؟

في رسالةِ "الخوارج" عند ذِكر صفاتِ الخوارج الأولين أنَّ "مِنْ صفاتهم الغرور والتعالم والتعالي على العلماء" حتى قال "زعموا أنهم أعلمُ مِنْ عليٍ وابنُ عباسٍ وسائرِ الصحابةِ, والتَّفوا على الأحداثِ الصغارِ الجهلة قليلي العلم مِنْ رؤوسهم".

مِنْ صفاتهم الخروج على ولاةِ أمور المسلمين, فقد خرج أوائلهم على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ثم خرج مَنْ جاء بعدهم على خلفاءِ بني أمية, مما ترتب عليه قتلٌ لكثيرٍ مِنْ المسلمين, وحصل منهم مفاسدُ كثيرة, مِنْ اختلال الأمن, وحصول الفوضى في كثيرٍ مِنْ بلادِ المسلمين, ومِنْ أجل هذا الأمر ومِنْ أجل أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفهم بأنهم يخرجون على حين فُرقة من المسلمين سُمُّوا الخوارج .

وفي هذه العصور المتأخرة ظهر أقوامٌ جُلُّهم مِنْ الشباب قليلي العلم, كثيري الجهل, شابهوا الخوارج المتقدمين في كثيرٍ مِنْ آرائهم, ومِنْ هذه الآراء والمعتقدات التي شابهوا فيها الخوارجَ الأولين, وهم سلفُهم الطالحون, التسرُّعُ في التكفير, والحرص عليه, والغلو فيه بالتكفير باللوازمِ الباطلة, وبالتضييق في موانعِ التكفير, مع أنَّ الحُكمَ على المسلمِ بالكُفر خطيرٌ جدًا, ولا يجوز أنْ يخوضَ فيه إلَّا العلماء الراسخون في العلم, الَّذين توفرت لديهم آلة الاجتهاد.

وفى الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(لا يرمِي رجلٌ رجلًا بالفسوق, ولا يرمِيه بالكُفر ,إلَّا ارتدت عليه إنْ لم يكن صاحِبُه كذلك) .

ومما شابه فيه خوارجُ العصر أسلافَهم المتقدمين: ازدراءُ علماءُ المسلمين, والدعوة إلى عدم الأخذِ بآرائهم, وربما تجدُ أحدَهم يتهمُ العلماء بأنواع مِنْ التُهم, لأنهم لمْ يوافِقوه في آرائه, ولمْ يتبعوا قوله, ولهذا يرى أنهم على باطل, وأما هو فعلى الحقِ المبين, مع أنه ليس مِنْ أهلِ العلمِ أصلا, وليس بمسلوكٍ في عِدادِهم، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّ مِنْ أسبابِ ضلال الناس موتَ العلماء, كما في حديث الصحيحين عن عبد الله بن عمرو كما قال فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إنَّ الله لا يقبض العلمَ انتزاعًا ينتزعه مِنْ الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يُبقى عالِما, اتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا, فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلُّوا وأضلُّوا) .

فكيف بمَنْ يُعرِضُ عن العلماء؟ ويرى أنَّ الحقَّ مع غيرِ أهل العلم؟ مع أنه لم تتوفر لديه آلة الاجتهاد الشرعي, بل هؤلاء مِمَنْ قلَّ عِلمهم وفِقههم، بل إنَّ أحدَهم لا يستطيع أنْ يقرأ في كتابٍ من كتبِ السُنَّة قراءةً صحيحة, فضلًا عن شروح السُنَّة التي كتبها علمائنا المتقدمون, والأمر قائمٌ بالتحدى!! فليقرأ أعلمُهُم في نظرِ أولئك الصغارِ السِفلة، فليقرأ في كتابٍ من كتبِ السُنَّة وفى شرحٍ مِنْ شروحها قراءةً صحيحة, وإنَّا لمنتظرون...!

إنَّ كثيرًا مِنْ الشباب المعاصرين تشابهوا تمامًا بل تطابقوا تمامًا, حذو النعلِ بالنعل مع الخوارج المتقدمين، فسماتُهم سماتُهم وشياتُهم شياتُهم وكلامُهم كلامُهم ومعتقداتُهم معتقداتُهم.

والمتأمل في واقع أكثرِ أصحاب التوجهات التي يميلُ أصحابها إلى سمات الخوارج, يجد أنهم يتميزون بالجهل, وضعفِ الفقه في الدين, وضحالةِ الحصيلة في العلوم الشرعية، وحين يتصدون للأمورِ الكبار, والمصالحِ العظمى للأُمة, يكثُرُ منهم التخبطُ والخلط, والأحكامُ المتسرعة والمواقفُ المتشنجة، ويتصدرُ حُدثاءُ الأسنان, سفهاءُ الأحلام كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشباهُهم للدعوة بلا علمٍ ولا فقه، وقد اتخذ بعضُ الشباب منهم رؤوسًا جُهالًا, فأفتوا بغيرِ علم, وحكموا في الأمور بلا فقه, وواجهوا الأحداثَ الجِسَامَ بلا تجربة, وبلا رأىٍ ولا رجوعٍ إلى أهلِ العلمِ والفقهِ والتجربة والرأي، بل كثيرٌ منهم يتنقصُ العلماء والمشايخ ولا يعرف لهم قَدْرَهم, وإذا أفتى بعض المشايخ على غير هواه و بسوى مذهبِه أو بخلافِ موقفِه، أخذ يلمزهم إما بالقصور أو التقصير أو بالجُبن أو المداهنة أو بالسذاجةِ وقلة الوعي والإدراك, ونحوِ ذلك مما يحصُل بإشاعته الفُرقة والفساد العظيم وغرس الغلِّ على العلماء والحطُّ من قَدْرِهم ومن اعتبارهم وغير ذلك مما يعود على المسلمين بالضرر البالغ في دينهم ودنياهم.

إذا خالف أحدٌ أهلِ العلم واحدًا من أولئك الخوارجِ الطالحين، نبذه بأنه مِنْ علماءِ السُلطة وقال هذا عميلٌ منْ العملاء, وقال لا يفقه الواقع، وهذا من علماءِ دورةِ المياه, وقال هذا مِنْ علماءِ الحيضِ والنفاس إلى غير ذلك مما يتفوهون به..فضَّ اللهُ أفواههم.

ومنْ سماتِهم قديمًا وحديثًا: التعالمُ والغرور وأعنى ذلك أنه من أسباب ظهور سمات الخوارج في بعض فئاتِ الأمةِ اليوم، من سماتِهم ادّعاء العلم في حينَ أنك تجد أحدَهم لا يعرف بَدهيات العلم الشرعي والأحكامِ وقواعدِ الدين، أو قد لديه علمٌ قليلٌ بلا أصولٍ ولا ضوابط ولا فِقه ولا رأىٍ سديد، فيظن أنه بعلمهِ القليل و فَهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين فيستقلُّ بغرورهِ عن العلماء عن مواصلةِ طلب العلم فيَهلكُ بغروره ويُهلِك، وهكذا كان الخوارج الأولون يدَّعون العلمَ والاجتهاد ويتطاولون على العلماء وهم منْ أجهل الناس، وعندهم شدةُ غَيرةٍ وعندهم قلةُ عاطفة، فهم من أقسى الناس قلوبًا ومن أغلظِ الناس أكبادا، لدى فئاتٍ من الشباب والمثقفين وغيرِهم تجدُ مثل هؤلاء ينتصب داعيًا بلا علم ولا فقه ولا حكمة مع العلم بأنَّ الغَيرة على محارمِ الله وعلى دين الله جلَّ وعلا أمرٌ محمودٌ شرعا، لكنَّ ذلك مشروط بالحكمةِ والفقه والبصيرة ومراعاة المصالح و درء المفاسد، فإن تزاحمت المصالحُ أُخذ بكُبرى المصلحتين، وإذا ما تزاحمت المفاسد أَخذ بصُغرى المفسدتين وأما هؤلاء فإنهم يتنطعون فيشتدون و يعْنُفون، يعْنُفون في معالجة الأمور كما هو الشأن في الخوارج المتقدمين والمعاصرين، وهذا مما لا يستقيمُ به للمسلمين أمر لا في دينهم ولا في دنياهم.

رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أنْ- يكون ـ حتى نكون مؤمنين ـ أحبَّ إلينا من أنفسِنا ، من أرواحنا ، من ذواتنا فضلًا عن آبائنا وأمهاتنا وأبنائِنا ونسائِنا وأموالِنا وتجاراتِنا وأوطاننا وديارنا.

ينبغي أنْ يكون أحبَّ إلينا من أنفسنا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".

فذكر الأصول وذكر الفروع وذكر الحواشي

وكانت يدُ عمر في يد النبي صلى الله عليه وسلم يُسايره ، فقال له عمر رضوان الله عليه لأنت أحب إلى يا رسول الله من كل شيء إلَّا من نفسي.

قال : ولا هذه يا عمر

قال : الآن يا رسول الله

قال : الآن يا عمر

فلا تكون مؤمنًا حتى تحب رسول الله أكثر من حبك لنفسك

ومع ذلك يقول شيخ الاسلام رحمه الله " إن تُنٌوِل النبي صلى الله عليه وسلم بالسبِّ أو بالشتمِ أو بالمذمة ـ بأبي هو وأمي ونفسي صلى الله عليه وآله وسلم ـ في ديارٍ ليس للمسلمين فيها شوكة ولا لهم عليها سلطان ،،، فعلى المسلم إذا سمع ذلك ووجده أن يفزع إلى آيات الصفح والغفران ، وأما إذا وقع شيءٌ من ذلك في ديار للمسلمين فيها شوكة ولهم عليها سلطان ،،، فالحكمُ فيها حكمُ الله وحكمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سبَّ الرسول قُتل ، بهذا النظام وعلى هذا النحو حتى ولو تاب . فإنه يُقتل حدًا، وإنْ لم يتب قُتل ردة ، ولكن متى ؟ إذا كان للمسلمين شوكة وكان للمسلمين على الديار التي وقع فيها ذلك سلطان.

كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معهم ممن تبعهم بإحسان في الجهاد في سبيل الله إذا حاصروا حصنا فسب أصحاب الحصن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشروا ، وقالوا قد قرُب الفتح . إذا سبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرُب الفتح ، هذا فقههم رضوان الله عليهم.

أما الحماسةُ الطائشة فإنها لا تزيد السبَّ إلَّا سبَّا ، ولا تزيد السوء إلَّا انتشارا ، والمسلمون في حال ضعفهم وفي حالِ تخلفهم لا يملكون شيئا لأنفسهم فضلًا عن أنْ يأخذوا على أيدي غيرهم ، ودَعْك من هذه الأمور الفردية فإنها لن تأتي إلَّا بما يسوء الاسلام ويضرُّ المسلمين.

اسأل الله ربَّ العالمين أن يُعلمنا العلمَ الشرعي الصحيح وأن يرزقنا العمل به والدعوة إليه مع الإقامة عليه حتى نلقى وجهَ الله الكريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد:

فسبيلُ النجاة العِلمُ والعملُ به.

لأنَّ الله تبارك وتعالى له في هذا الكون سُننًا ثوابتَ لا تتخلف، وتتدافعُ أمواجُ البشر والأحياء يطويها الموج وتبتعلها الأرض، وهذه السُننُ شاخصةٌ إليهم لا تريم عنهم ولا تنفكُّ عن عملها فيهم بإذن ربها أبدًا.

فنُصرةُ الله عزوجل ورحمته التي هي قريبٌ منْ المحسنين ليست قريبًا إلَّا من المحسنين ورحمته وسعِت كلَّ شىء، ولكنها ليست قريبًا منْ كل شىء، فمن أراد رحمة ونُصرته قريبا منه فعليه أن يكون منْ المحسنين سُنةٌ ربانيةٌ إلهيةٌ لا تتخلف.

ونحن إذ ننظر في ماضى هذه الأمة وحاضرِها لا نملك إلَّا العجب العجيب والدَهَش الغريب؛ سلفٌ عمالقة و خَلَفٌ كالأقزام و ماضٍ أشدُّ إضاءةٍ من الشمس في رائعةِ الضُحي وحاضرٌ يَنْدَي له الجبين وتستحي الأقلامُ.

وهذا التناقضُ العجيب بين ماضي الأمةِ وحاضرِها سببه إهمالُ سُنةٍ من سُنن الله في الكون، وهي فصْلُ ما بين الأسباب ومُسبباتِها في الوقت الذي ربط الله عزوجل فيه بين النتائج ومُقدَّماتِها، فنتج عن هذا الفصلِ الباطلِ نتائجُ عجيبة: منها أن تري البطالة الفارغة مع التواكل الكاذب سببًا لاستمطارِ الرزقِ من السماء، ومنها أن تري الشِرك الأحمق مع النظر إلي سَعة الرحمة سببًا لدخولِ جنَّةِ الرضوان، ومنها أن ترى العلم الدنيوى من غير يقينٍ صادق سببًا للنصرِ على الأعداء.

وما هكذا كان مَنْ سَلف من أصحاب الجدِّ والعزم والتصميم والإباء، لابد إذًا من النظرِ في أسبابِ تَخلُّفِ الأمة، لا...بل لابد من النظرِ في الشرائطِ التي تكونُ بها الأمةُ أمةً، فإذا توفرت هذه الشرائطُ أصبحت الأمةُ أمة بحق، نُظر بعد ذلك في أسباب تخلُّفِها أو دوافعُ رُقيِّها وتَرَقِّيها، وقد قرَّر العلماءُ أنَّ أي أمةٍ ينبغي أنْ يتوفر فيها شرطان:

الأول: فكرةٌ تقوم عليها الأمة ومحورٌ تدورُ حولَه وقطبٌ تسبحُ في فلكهِ بقطعِ النظرِ عن كَونِ هذه الفكرة صحيحة أو خاطئة، قد تكونُ فكرةً وثنية، فكرةً إلحادية كالشيوعية مثلًا عندما قرر ماركس و أنجلز ما قرراه، كانت هنالك فكرة، فهذا هو الشرط الأول لنشوء تلك الأمة الشيوعية بكلِّ ما حملَته للعالَم من الشرورِ وما وقع على العالم منها من ظلمٍ وغرور، فهذا هو الشرط الأول: فكرةٌ تقومُ عليها الأمة سواءٌ كانت هذه الفكرة صحيحة أو خاطئة.

والثاني من الشرطين: رجالٌ يحملون الفكرة وتختلطُ بلحومهم وتجري بها دمائُهم كأنها جزءٌ من القلب وتنطقُ بها ألسنتهم وجوارحُهم كأنها بعضٌ من العقل، وقد قام لينين ومَن معه؛ فهؤلاء قاموا بحمل الفكرة فصنعوا ما صنعوا منْ الشرور وأتَوا ما أتَوا به من الآثام وتسلطوا علي الجمهوريات أو الدول الإسلامية فحرَفوهم عن الحقِّ إلي الشيوعية، ثبتَ من ثبت وانحرف منْ انحرف وتوفر الشرطان فقامت أمةٌ تحمِلُ في باطنها عواملُ هدمِها لأنها أمة ظالمةٌ وثنيةٌ مُلحِدةٌ كافرة.

فإذا نظرنا إلي الأمةِ المسلمة وجدنا أنَّ المحورَ الذي تدور حولَهُ والقطبَ الذي تسبحُ في فلكه هو التوحيد.

التوحيدُ الذي هو دينُ الأنبياء ومنهج الرُسل منذ أنْ أرسل اللهُ الرسل ومنذ كَون الأنبياء وما أشرق علي العالم منذ خلق اللهُ العالَم شمسُ توحيدٍ أجلي مما تجلي في صدرِ هذه الأمة.

إذًا قيَّدَ اللهُ لهذا التوحيد رجالا يحملونه علي أعناقهم بعد أن اختلط بقلوبهم إلي مشارقِ الأرضِ ومغارِبها ينشرون نورَه في الآفاقِ ليُخرِجوا العبادَ من عبادة العبادِ إلي عبادةِ الله ربِّ العباد، ومِنْ جَور الأديان إلي سماحةِ الإسلام ومن ضِيق الدنيا إلي سعةِ الدنيا والآخرة.

إنْ كانت الأمةُ المسلمة اليوم موحدةً حقا وكان رجالُها يحملون هذا التوحيد يقينًا وصِدقا فهي أمةٌ حقيقيةٌ لا أمةٌ من قوارير وعند ذلك يحقُّ لنا أن نتكلم عن أسبابِ تخلُّفِها وضَعْفِها.

أعظمُ أسباب تأخر المسلمين الجهل الذي يجعل فهْمُ منْ لا يُميِّزُ بين الخمر والخلِّ فيتقبلُ السفسطة قضية مُسلَّمة ولا يعرف أن يرُدَّ عليها.

ومن أعظمِ أسبابِ تأخر المسلمين العلمُ الناقص الذي هو أشدُّ خطرًا من الجهل البسيط لأن الجاهل إذا قيَّدَ اللهُ له مُرشدًا عالِما أطاعه ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل "ابتلائُكم بمجنون خيرٌ من ابتلائِكم بشِبْهِ عالِم"..."ابتلائُكم بمجنون خيرٌ من ابتلائِكم بشِبْهِ عالِم".

فانظر هداني اللهُ وإياك سبيل الرشاد كيف كان الجهل أولُّ ما يُعقد عليه الخِنصرُ في أسبابِ تأخرِ المسلمين ثم لا تكتفي بذلك وإنما عليك أنْ تُثَنِّي بما هو متصلٌ بالجهلِ بسببٍ وثيق وهو العلم الناقص.

فتدورُ المسألةُ على نفي الجهل وتعلُّمِ العلمِ النافع، والعِلم النافع ما عرَّف العبدَ بربه و دلَّهُ عليه حتي عرَفَهُ و وحدَه و أَنِسَ به واستحيا مِنْ قُربهِ و عَبَدَهُ كأنه يراه، ولهذا قالت طائفةٌ من الصحابةِ إنَّ أولَّ عِلم يُرفع من الناس الخشوع، وقال ابن مسعود رضي الله عنه " إنَّ أقوامًا يقرءون القرآن لا يجاوزُ تراقيهم ولكن إذا وقع في القلبِ فرسخ فيه نفع".

وقال الحسن "العِلمُ عِلمان؛ فعِلمٌ علي اللسان فذاك حجةُ الله علي ابن آدم و عِلمٌ في القلب فذاك العلمُ النافع".

وكان سلفُنا يقولون إنَّ العلماءَ ثلاثة "عالِمٌ بالله عالِمٌ بأمرِ الله، وعالِمٌ بالله ليس بعالِمٍ بأمر الله، وعالِمٌ بأمرِ الله ليس بعالِمٍ بالله؛ وأكملُهم الأول وهو الذي يخشي الله ويعرف أحكامه".

فالشأنُ كلُّه في أنَّ العبد يستدل بالعلم علي ربهِ فيعرفُه بأسمائه وصفاتهِ، فإذا عرَفَه، إذا عرَف ربَّهُ فقد وجده منه قريبًا، ومتي وجده منه قريبًا قرَّبَهُ إليه وأجاب دعائهُ.

كان الإمامُ أحمد رحمه الله تعالي يقول "عن معروف الكرخي معه أصل العِلم خشية الله".

فأصلُ العِلمِ العِلمُ بالله الذي يُوجبُ خشيةَ الله ومحبة الله والقُرْب منه والأُنسُ به والشوق إليه ثم يتلوه العِلمُ بأحكامِ الله وما يُحبه اللهُ ويرضاه من العبدِ مِن قولٍ أو عملٍ أو حالٍ أو اعتقاد.

فمَنْ تحقق بهذين العِلمين كان عِلمُه عِلمًا نافعًا وحصل له العِلمُ النافع والقلب الخاشع والنفسُ القانعة والدعاءُ المسموع، ومَن فاته هذا العِلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلي الله عليه وسلم وصار عِلمُه وبَالًا وحجةً عليه فلم ينتفع به لأنَّه لم يخشع قلبُهُ لربه ولم تشبع نفسُه من الدنيا بل ازداد عليها حرصًا ولها طلبًا ولم يُسمع دعائُه لعدم امتثاله لأوامرِ ربِّهِ وعدم اجتنابهِ لِما يُسخِطُه ويكرهه.

هذا إنْ كان عِلْمُهُ عِلمًا يُمكن الانتفاعُ به وهو المتلَّقى من الكتابِ والسُنَّة، فإنْ كان متلقً من غير ذلك فهو غيرُ نافع في نفسهِ ولا يمكن الانتفاع به، بل ضررهُ أكثرُ منْ نفعهِ، وعلامة هذا العِلمُ الذي لا ينفع أنْ يُكسِبَ صاحبَهُ الزهو والفخر والخيلاء وطلبَ العلو والرِفعة في الدنيا والمنافسة عليها وطلبَ مباهاة العلماء ومماراة السفهاء و صَرْف وجوه الناس إليه وربما ادَّعي بعضُ أصحابِ هذه العلوم معرفةَ الله وطلبهِ والإعراضَ عما سواه وليس غرضُهم بذلك إلَّا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوكِ وغيرهم وإحسان ظنهم بهم وكثرة أتباعهم والتعاظم بذلك علي ذلك.

وعلامةُ ذلك إظهارُ دعوي الولاية كما كان يَّدعيها أهلُ الكتاب وكما ادَّعاه القرامطة والباطنية ونحوُهم، هذا بخلافِ ما كان عليه السلف من احتقارِ نفوسِهم وازدرِائها باطنًا وظاهرًا.

قال عمر رضي الله عنه "من قال إنه عالِمٌ فهو جاهل".

قال الفاروقُ رضي الله عنه " من قال إنه عالِمٌ فهو جاهل".

مِن علاماتِ ذلك عدم قَبول الحق والانقياد إليه والتكبُّر علي من يقول الحق خصوصًا إذا كان دونَهم في أعينِ الناس والإصرارُ علي الباطلِ خشية تفرَّق قلوب الناس عنهم بإظهارِ الرجوعِ إلي الحق.

إنَّ العلمَ الصحيح هو الَّذي يُورِث الخشية ، ولا يورِث الخشية سوى العلم الصحيح

والعلم الصحيح : قال اللهُ قال رسولهُ قال الصحابة.

العلم الصحيح : الكتاب والسُنَّة بفهمِ الصحابة ومن تبعهم بإحسان

وأما ما يُراد بثُّه بين المسلمين بحجة أنه هو العلم الصحيح فهو محضُ الزيغ، دعوةٌ إلى الإرجاء، فإنه ليًقرَّرُ على أبناءِ المسلمين أنَّ منْ اعتقد في قلبه لا إله إلَّا الله وإنْ لم ينطق بها بلسانه فهو مؤمنٌ عند الله ولا يضرُّه نَطَق بلا إله إلَّا الله أم لم ينطق بها فضلًا عن العمل الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة.

 

عقيدة الأشاعرة : بأنَّ القرآنَ مخلوق وليس هو في الحقيقةِ بكلام الله تبارك وتعالى ، لأنهم ينفون صفةَ الكلام عن الله ويُثبتون الكلام النفسي ، فيكون هذا عبارةً عن كلام الله جلَّ وعلا.

كما قال آخرون إنما هو حكايةٌ لكلامِ اللهِ ربِّ العالمين، كالأبكم، كالأخرس الذي تعرف مراده فتترجم عنه ،، أهذا كلامُ الله ؟

أهلُ السُنَّة يقولون : هذا كلامه حقيقةً تكلم به حقيقةً وأوحاه إلى رُسلهِ ونزل به جبريل إلى الأنبياء والمرسلين حقيقةً، ويتكلم بما شاء كالكلام الذي يقضي به في كونهِ بما يشاء ، وهو بصوتٍ مسموعٍ وبحَرف، ومنه القرآن المجيد كلام الله ... ليس عبارةً عن كلام الله ، وليس هو بحكايةِ لكلامِ الله كما يَحكي عن الأخرس أو يُعبِّر عنه منْ يُعبِّر عنه بكلامٍ يقول إنه هو عبارة عن كلام هذا الأخرس، عن كلام الأبكم أو هو حكايةٌ عنه أو عبارةٌ عما يريد ، فيُثبتون الكلام النفسي،،،

ويقولون إنَّ العملَ ليس بداخلٍ في الايمان أصلًا، فيجتمعُ عندهم عقيدةُ الارجاءِ منْ أولها إلى آخرها ويُنَّشأ عليها أبناء المسلمين فيتطرف في المقابل من يأتي بعقيدة الخوارج ، وأهل السُنَّة بين هؤلاء وهؤلاء.

وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آلهِ وأصحابه أجمعين.